قلت: أعرف؛ ولهذا أترك الأمر لك، أنت حرة وفي استطاعتك ألا تخبريني.
واتسعت ابتسامتها دون أن تبهت معانيها وقالت: هناك حل وسط.
قلت مبتسما أنا الآخر: وما هو يا سيدتي؟ - لا أخبرك أنا به، تخبرني أنت. - كيف؟ - ألا تستطيع أن تخمنه؟
قلت بفرحة: جدا، لا بد أنه ... انتظري، لا بد أنه لورا.
وبوجه مبتسم وملامح هادئة تحاول إخفاء سرورها حركت رأسها يمينا ويسارا في بطء علامة أني فشلت، وخمنت مرة أخرى وظللت أخمن، كل الأسماء الأجنبية التي أعرفها قلتها، وكلما رأتني أكدح ذهني وأبالغ في تمثيل أني أكدح تزداد ابتسامتها اتساعا وتزداد المعاني التي تحملها وضوحا.
وطال تخميني وأدركت هي أني حائر فعلا وسعيد بحيرتي؛ إذ كنت قد وثقت أنها نجحت في الاختبار، وأن شعوري الداخلي لم يخطئ، وأنها تريدني فعلا أن أعرف اسمها الحقيقي وأن ألقاها، واعترتني قشعريرة فرحة لذيذة، فرحة يقيننا من ثقتنا وفراستنا، خاصة إذا صدقنا في أحب وأهم موضوع يشغلنا. ومضيت أجهد نفسي أكثر وأستعذب ذلك الإجهاد الذي كنت متأكدا أنه لن يطول، وأنها إن عاجلا أم آجلا ستخف لمساعدتي ؛ فالمرأة حين تريدك وتشير إليك من طرف خفي أن تتبعها، وتتوانى أنت وتحتار وترتبك، لا تستطيع أن تصبر طويلا، ولا بد بطريقة أو بأخرى أن تريك الطريق، ولكنها تفعل هذا من طرف خفي أيضا.
وقالت ردا على عديد الأسماء التي ذكرتها: لا لا، إنه مكون من مقطعين مثل اسمك.
ورنت إجابتها في نفسي رنينا حلوا، هي إذن مهتمة باسمي وتعرف أنه من مقطعين، بل حتى لم أقف مرة لأتأمل اسمي، والمرات القليلة التي فعلت فيها هذا كنت أضيق به وأتمنى لو كان لي غيره، ما أكثر ما تمنيت لو كنت قد سميت باسم جميل جذاب مثل أسماء أبناء كبار الموظفين الذين كانوا معنا في ابتدائي وثانوي، الأسماء الجميلة التي كانت شائعة في ذلك الوقت: مجدي وعفت وفاخر وماجد، بل جاء علي وقت كانت منتهى أحلامي في السعادة فيه أن أملك اسما كاملا موسيقيا مثل «رائف شيرين» مثلا أو «جمال كامل». وكم يضايقني من أبي أنه سماني يحيى على اسم ذلك المرشح الوفدي في الانتخابات التي ولدت أيامها، وكانوا يهتفون له ويقولون: «عاش الدكتور يحيى»، وكان حكيمباشي سابقا في عاصمة المديرية، وسماني أبي باسمه عساي أن أصبح مثله. ولم تنسجم يحيى أبدا مع بقية اسمي، وظللت كلما نودي علي وقال أحدهم «يحيى مصطفى طه» أحس بالخجل وكأن ثلاث طوبات قد خرجت من فم الناطق وجرحت آذان المستمعين.
وربما كانت تلك أول مرة أحس بالسعادة لأن اسمي يحيى، ولأنه مكون من مقطعين: «يح ... يى»، ومن قائلة هذا؟ هي. واسمها هو الآخر مكون من مقطعين. يا لها من قرابة! على الأقل خمسمائة مليون من سكان العالم أسماؤهم مكونة من مقطعين، ومع هذا فلمجرد إحساسي أن اسمينا ينتميان إلى هذا الرقم الهائل جعلني أحس بنشوة، وخيط يصلني بها، أي خيط ولو اشترك معنا في القربى خمسمائة مليون، ولم أكن أنا وحدي المنتشي، كنت أنا وهي في لحظة من تلك اللحظات التي يفنى فيها الإنسان في الآخر، وفي تقاطيعه وفي حديثه وابتساماته ودلاله، في لحظة من اللحظات التي تنسى الدنيا كلها وما فيها، وتنسى من أنت وابن من أنت، وماذا كنت في الماضي وماذا ستصنع للمستقبل، في لحظة من تلك اللحظات التي تخدر فيها جسدك كله بالنشوة ولا يبقى واعيا فيها إلا حواسك التي تستقبل وذلك الجزء الصغير من عقلك الذي يعمل، ونشوان وهو يعمل، يرتب إجابات جميلة وأسئلة أجمل، في اللحظة التي لا يمكنك أن تكذب فيها أو تمكر، والتي لا تفعل فيها إلا أن تتجاوب، تحس ما يريده الطرف الآخر ويحس الطرف الآخر بما تريد، وتجيبه إلى طلبه ويجيبك إلى طلبك، وكل همك أن تطيل ما أمكنك، وأن تجمل كل شيء حولك، وأن تمتص حواسك كل ما يقع أمامها ولها وتختزنه كالكنز النادر في أعماقها، وكأنك تعلم سلفا أن تلك اللحظات لا تدوم، ولا بد أن يأتي وقت يصبح كل ما في استطاعتك أن تفعله فيه أن تقلب أعماق نفسك بين الحين والحين، وتدفئ وحدتك وسنينك والعالم الذي تغير من حولك على لحظات مثلها عشتها يوما ما.
ولم نحس إلا بالكمساري وهو يزاحم الوافدين ويدق على الأرائك ويقول: حلوان.
Неизвестная страница