وجلست صامتا، صمت من يتحين الفرصة ويعد العدة للانقضاض. وجلست على طرف الكرسي ذي المساند ووجهها قد استرد حمرته، وملامحها قد استردت نشاطها وحيويتها.
وقدمت لها سيجارة، وجلسنا ندخن في صمت، وأمامنا جهاز أوتوماتيكي لصنع القهوة كان أول وآخر هدية أتلقاها من أخي الأكبر، وكان ثالثنا كلما جلست مع سانتي: ندخن، بخار القهوة يتصاعد في أزيز رقيق، وسحب الدخان تتكاثف ثم تنقشع، والضوء في الحجرة قليل، والزمالك من حولنا واحة سكون مستتب، وعلى وجهي ابتسامة معوجة لا تطاوعني كلما حاولت أن أجعلها ابتسامة حبيب اختلت وكادت تصبح ابتسامة أبله.
وبدأت حديثا متعمدا عن الشقة الجديدة، وقالت إنني بانتقالي قد وفرت عليها المسافة والزمن. ولم أحاول أن أسألها لماذا، وكأني كنت قد عاهدت نفسي على ألا أسألها عن شيء لم تتطوع هي بقوله، فلم أحاول أبدا أن أعرف كنه عملها هي الغنية التي كان واضحا أنها ليست في حاجة للعمل ولا أين تسكن ومع من وكيف تحيا؟
وقامت من تلقاء نفسها تتفرج على الشقة، وقمت مضطرا وراءها. كنت طوال الوقت أفكر في الخطوة التالية والطريق إلى الخطوة التالية، وكل ذرة في كياني تتأهب للحظة التي ظللت أتحفز لها طيلة الأيام الماضية.
وعدنا إلى جلستنا، وبدأنا حديثا ما في السياسة، ولاحظت أنها تسرح قليلا، ربما كانت متعبة، ولكني كنت أفسر سرحانها لمصلحتي. قلت لها وأنا أريد فقط أن أواصل الحديث كي لا يحل الصمت، وعدوي المرعب من ذلك اليوم كان هو الصمت، أي صمت. - يحيرني شيء فيك.
فقالت وهي تحاول أن تخمن ما يحيرني: ماذا؟
قلت: فتاة حلوة مثلك، ماذا يدفعها لعمل شاق معنا؟
قالت وهي تضحك: تقصد أن تؤنبني لأني أحشر نفسي في قضيتكم؟
وحاولت أن أحتج، ولكنها مضت تقول: اسمع! إنه شيء من الصعب تفسيره، وأنا شخصيا كثيرا ما أسأل نفسي هذا السؤال ولم أجد له أية إجابة محددة. أنا أجنبية حقيقة، وحتى الفترة التي عشتها هنا كنت فيها أجنبية، أحيا في مجتمع أجنبي كامل. ولكن العطف أبدا لم يكن هو الذي دفعني للاهتمام بشعبكم وقضيته، وربما هي أنانية مني. ولكني أسعد بهذا العمل جدا، ولو حرمت منه أعتقد أني سأحزن كثيرا، بل ربما لا أستطيع البقاء هنا. هنالك أناس هكذا لا يستريحون إلا إذا أتعبوا أنفسهم، يبدو أنني من هذا الصنف.
وشاركتها ضحكتها القصيرة المنخفضة، وفعلت هذا استعدادا لسؤالها ذلك السؤال الذي أردت دائما أن أعرف إجابتها الحقيقية عليه: هل تحبين بلادنا وشعبنا حقيقة يا سانتي كحبك مثلا لليونانيين؟
Неизвестная страница