ولم أجد في نفسي أية رغبة لمواصلة الحديث، ولكني خفت أن يحل الصمت بعد كلامها السابق مباشرة؛ فتخجل ويصيبها الحرج، فمضيت أسألها بلا اهتمام كبير عن زوجها وعمله. وقالت لي أشياء كالتي نقرأ عنها في القصص. قالت إن عائلتيهما موزعتان على مصر وقبرص واليونان، وإنها هي شخصيا ولدت وعاشت في مصر ولم تذهب إلى الوطن الأم إلا مرات قليلة ولفترات لم تتعد الشهور، وإن أباها كان متجنسا بالجنسية المصرية، ولكنه فضل أن تنشأ هي على الجنسية اليونانية، وإنه كان يملك أطيانا كثيرة في الفيوم باعوا معظمها بعد وفاته واشتروا بها مكتبة كبيرة وسط البلد، وزوجها كان معها في المدرسة، وتزوجته رغم معارضة أمها، وإنه تخصص في الهندسة البحرية وقضيا عاما متزوجين، ثم في أثناء احتفالهما بعيد الزواج الأول صارحها بأنه يريد الانضمام إلى حركة التحرير القبرصية، ولكن مشاكل حزبية وتنظيمية حالت بينه وبين الانضمام، وهكذا قنع بالبقاء في مصر على أن يقوم بجمع أكبر كمية من التبرعات ويرسل بها إلى «أيوكا»، ولكنها تخالفه بشدة في الرأي، وترى أن اليونانيين المقيمين في مصر عليهم إذا أرادوا الكفاح أن يساعدوا المصريين؛ فهم الأولى بالمساعدة والأجدر.
قصة غريبة بدأت أسمعها وأنا غير مصدق، وحين انتهت منها كنت لا أزال غير مصدق أيضا. أكثر من هذا كنت لا أريد أن أشغل نفسي بفحصها وتمحيصها والتأكد منها، ومن يدري قد أصدقها حينئذ، ومن يدري أيضا أي موقف حرج أجد نفسي فيه بعد تصديقها؟
أخذتها إذن مأخذ الحديث العابر الذي لا يحتاج لأي تعليق، الحديث الذي يقال بغير اهتمام ونسمعه بلا اهتمام أيضا. وحاولت جادا أن أغير من نظرتي لسانتي بعد سماعي ما قالته، حاولت أن أنظر إليها من خلال تلك المعلومات الجديدة منها ففشلت. ظلت في نظري هي هي لم تتغير، الفتاة النحيلة الجميلة التي أجد نفسي منجذبا إليها بقوى أكبر مني ولا أملك إلا طاعتها.
وأحببت أن أغير حينئذ مجرى الحديث، فبدأنا نتكلم عن الأفلام المعروضة، وقالت سانتي إن في سينما ميامي فيلما فرنسيا رائعا.
وكنت أغير مجرى الحديث وكلي خوف أن يكون ما قالته - وإن لم يؤثر في أنا - قد أثر فيها هي وغير من نظرتها لي ومن انجذابها نحوي، فقلت وأنا أضع الخاطر موضع الاختبار وأضع يدي على قلبي مخافة النتيجة: هل تقبلين دعوتي لرؤيته؟
وفي الحال وبلا أي تردد وجدتها تهز رأسها علامة القبول، وشككت في تلك الموافقة السريعة وعدت أكرر الدعوة وعادت تقبل. واتفقنا، واعتذرت عن عدم إمكانها أن تذهب في حفلات الليل، ولم أسألها لم، واتفقنا على أن يكون الموعد يوم الأحد في الساعة الثالثة أمام سينما ميامي.
وكان بيننا وبين الأحد عدد من الأيام.
وكان ثمة عيد قد أقبل، وكان علي أن أسافر إلى بلدتنا. شيء مقدس أن يعود أبناء القرى الذين استوطنوا المدن إلى قراهم في الأعياد. إنه الشيء التقليدي الخافت الذي ترعرعوا ونشئوا في كنفه.
والواقع أني قد بدأت أشتاق للبلدة ولعائلتي ولآلاف الأشياء التي غادرتها هناك من صغري، ذلك الشوق الذي أعرف أن ساعة واحدة أقضيها في القرية تكفي تماما لإطفائه؛ إذ ما أكاد أهبط من القطار وتطالعني الأشجار التي أعرفها، والنخيل الذي كان قبل أن أوجد ولا يزال في مكانه من يوم وجدت، والبيوت الرمادية الداكنة التي أعرف عن قاطنيها كل شيء. ما أكاد أعود مرة أخرى إلى ذلك الهدوء الممدود الذي يرقد ريفنا في قاعه، وما تكاد آذاني تستريح من الطنين الذي لا ينقطع في المدينة وأهبط إلى المكان الذي لا ضجة فيه ولا طنين، بل الهدوء الحافل الكبير، هدوء يغري بالهدوء ويثبط الهمم. ما أكاد أطالع كل هذا حتى أبدأ أتناقض مع نفسي؛ فنحن نسير في المدينة بسرعتها القاهرة المجنونة، ولكنا هناك في تلك الأرض الواسعة غير المحدودة نحدو بل نقف في أماكننا لا نسير. وما نكاد ندرك أننا وقفنا وأن سرعتنا هبطت إلى العدم حتى نبدأ نحن إلى الطنين والجري والحركة الهائلة الدائمة التي لا تكف ولا تسكت.
سافرت إلى البلدة إذن، وطالعني كل ما أعرف سلفا أنه سوف يطالعني، ومع هذا فللقائنا بالقرية فرحة كفرحة رؤيتنا لصورنا ونحن أطفال، ولخطنا أيام أن كنا تلامذة في ابتدائي وثانوي. وقوبلت بما تعودت أن أقابل به، جرى أخي الصغير حين رآني من المحطة وعانقني والتف حول ساقي، ثم انفلت وانطلق يعلن الخبر لأبي وأمي وبقية إخوتي، وقبل أن أصل إلى الباب كان يزدحم بمظاهرتهم الحافلة الفرحة الصغيرة، وأنا حائر أعانق من وأسلم على من؟ أكاد أبكي من فرط انفعالي وخجلي وتأثري! ودائما أفتقد أمي في تلك المظاهرة، وأعرف أنها كالعادة غاضبة علي لأي سبب أو للا سبب، وأنها جالسة متناومة أو متمارضة ولا بد لي أن أذهب وأقبل رأسها فتنفر مني، وأعود أقبل يدها فتسحبها بوجه صارم تحاول صاحبته أن تمنع أي بادرة انفعال أن ترتسم عليه. وأفعل هذا كله بحكم الواجب والعرف والتقاليد وبلا أية رغبة حقيقية في فعله؛ فأنا لم أكن حريصا على إرضائها مثلما كانت هي الأخرى غير حريصة على إرضائي. علاقتنا كانت غريبة في بابها منذ صغري ودونا عن بقية إخوتي؛ فلا هي علاقة حب ولا علاقة كره. كنت ابنها الثالث، خلفتني وقد بدأت تضيق بزواجها بأبي، وجئت شبهه، وبكل عنفوان الفلاحة الفتية ذات الخمسة والعشرين عاما عاملتني وربتني، بكل الخشونة والغلظة والجفاف، وكنت طفلا ساكنا حساسا سرحان، روعتني معاملتها لي إلى حد أنها أربكتني وجعلتني أخاف أخطائي إلى الدرجة التي أتردى دائما فيها. وبالعصا والأقلام والشلاليت كانت تواجه أخطائي، وبالرعب كنت أواجهها، رعبا ملك علي كل طفولتي فلم أجد معه وقتا أو جرأة أسأل فيها نفسي: ترى هل أحبها؟ أسأل نفسي فلم أكن في حاجة لسؤالها عن كنه عواطفها نحوي؛ فعواطف الآخرين نقيسها ونحن أطفال من زاوية واحدة فقط، زاوية حنانهم. الحنان عندنا يعني كل شيء، يعني الحب والخير والطيبة. والغلظة تعني كل شيء، تعني الكره والشر والتوحش. وأنى لي وأنا في تلك السن الصغيرة البعيدة أن أدرك أن حنانها هو الذي كان يدفعها لإمساك العصا وتوجيه الصفعات.
Неизвестная страница