فيقول: وما الضرر في هذا؟
فأصرخ: الضرر أنكم بهذا تنصبون أنفسكم قادة أبديين لنا. الضرر أنكم تدعون احتكار الوعي واحتكار الخبرة والثقافة، وتطلبون من الناس أن يسلموا بولايتكم الأبدية هذه، بلا نقاش أو جدال.
فيقول: الضرورة التاريخية تحتم هذا.
فأقول: الضرورة التاريخية؟ خاتم الملك الذي باستطاعة أي منا أن يضعه في أصبعه ليعطي نفسه الحق في الجلوس على العرش، فإذا حاول أحد أن يسأله أو يناقشه اتهمه بالوقوف في وجه حقه المقدس، في وجه الضرورة التاريخية. أنت مثلا غبت في السجن سنوات جرت فيها أحداث وتبدلت أحوال، ومع هذا تصر على أنك أوعى بما حدث منا، ونحن الذين عشنا هذه السنوات ومشاكلها ، فإذا جرؤنا على معارضتك أصبحنا متمردين على القيادة نعترض طريق التطور والتاريخ. القيادة في نظرك هي إرادة التاريخ، هي وارثة الحق الإلهي في حكم الناس، هي المنزهة عن الخطأ.
قل لي بربك: لو أخطأت هذه القيادة مثلا، أو لو خانت وتواطأت مع الأعداء، أو انحرفت عن الطريق، فمن يبصرها، ومن يحاسبها، ومن يقول لها لا؟ وهي التي باستطاعتها ومن حقها أن تفصل وتدمغ وتتهم أي خارج عليها، وبهذا تضمن لنفسها بقاء أبديا لا يعكره معارض أو محاسب.
وضاق البارودي بالنقاش، وقال: اسمع، نحن نتناقش على أساس خاطئ؛ فليس مفروضا أن تخون القيادة؛ لأنها حينئذ إنما تخون نفسها، وأيضا ليس المفروض أن تخطئ، فإذا أخطأت فعليها هي أن تكتشف الخطأ وتصلحه. هي العقل المفكر إذا أردت أن تقول هذا، وعلى العموم أنا غير موافق أبدا على الروح التي تناقشني بها، والتي لا تتحدث فيها بالاحترام الواجب عن قادتك وقيادتك.
وأصبحت بإجابته هذه أكثر ضيقا، بل بدأ شيء باهت يتسرب إلى نفسي ويوسوس لي أن البارودي ليس فقط مخطئا في رأيه، ولكنه يخطئ عن عمد، ولأهداف خفية. وما العمى والإفراج وادعاء المسكنة والإفلاس إلا أجزاء متكاملة لخطة واحدة.
وكنوبة الغروب التي يطلقها نفير البحرية، وبحزن مندى بالعتب والغضب والاستنكار، وجدت الخاطر يعود ليطرق عقلي. أيمكن أن يكون البارودي قد أفرج عنه في هذا الوقت بالذات، وقد كدنا نضع أيدينا على المجلة وسياستها ليحول بيننا وبين ما نريد، وليعود التيار المتهافت القديم يسيطر على المجلة من جديد؟
وفتحت فمي أسأله سؤالا، ولكنه قال: أرجوك، أسمعنا موسيقى أفيد.
ورحبت بالاقتراح الذي أعفاني من مهمة السؤال، ومن تلكؤ الخاطر أطول من اللازم في عقلي.
Неизвестная страница