بدأت الكتابة باحثا عن طريقة للاقتراب مما أريد، ولكني حين عثرت على الوتر الذي بدا لي منطلقا ومعقولا رحت أداعبه وأعزف عليه وأعمقه حتى آمنت أنا به، وتحمست له، ودفعني الحماس إلى أن أظل أكتب وأكتب حتى ملأت ما يقرب من العشر صفحات.
وحين انتهيت كان نور الشمس قد بدأ يملأ الدنيا، والمدينة قد بدأت تدمدم فيها الحركة وتصحو. وحتى لم أقرأ الخطاب، جمعت أوراقه ودبستها ووضعتها في مكان من درج المكتب ثم ذهبت إلى الفراش ونمت.
وطوال اليوم التالي كنت مستريحا نوعا ما، كان كل شيء في هائما نائما، يترقب لقائي القادم معها وما سوف يدور فيه، ولم أفكر فيما يمكن أن يحدث بعد أن تجيء، تركت التفكير والتنبؤات جانبا، وكنت أحيانا أقول لنفسي: لماذا لا آخذ الأمر مأخذا طبيعيا جدا، إنها مهما كانت فهي امرأة، وأنا مهما كنت فأنا شاب، وما يحدث بيننا حدث مثله لملايين من قبلنا وسيحدث لملايين من بعدنا، فلماذا أعقد الأمور وأحملها فوق ما تحتمل؟
ولكني كنت موقنا أني أكذب على نفسي؛ فقد كنت آخر من يعتبر أن ما يدور بيني وبينها شيء عادي. كنت في قرارة نفسي مؤمنا أن ما يحدث لي لم يحدث لإنسان من قبل، وكأنني أول واحد شعر بعواطف كهذه تجاه إنسانة مثلها، وسانتي في يقيني كانت لا يمكن أن تكون مجرد فتاة أو امرأة عادية، كانت تكاد تقترب في نظري من ظاهرة شاذة، كائن خارق للعادة، كائن أحس ناحيته بأحاسيس لم أحسها قبلا تجاه أية أنثى أو تجاه أي إنسان آخر.
ورغم حالتي فالعمل يومها لم يكن سهلا بالمرة؛ فمنذ أسابيع قليلة كانت إدارة الورش قد أصدرت قرارا باعتبار يوم الجمعة راحة أسبوعية إجبارية للعمال بدون أجر، ولا أعرف ما حدث بين العمال نتيجة لهذا القرار، ولكن ما عرفته بعد هذا أنهم - أو على الأقل عدد كبير منهم - بدأ يبحث عن حل، حتى ولو عن طريق باب خلفي؛ فالظروف لم تكن تسمح بحلول عن طريق الأبواب الأمامية ومواجهة الإدارة بصراحة وإجماع. واكتشف العمال - ولا أدري كيف - أنهم إذا بلغ الواحد منهم أنه مريض يوم الخميس مثلا وأعطي الخميس والجمعة إجازة مرضية، فإن يوم الجمعة يحتسب بأجر، وغير مهم حينئذ أن اليومين سيخصمان من إجازته المرضية؛ فأهم لدى العامل الذي يدبر حياته يوما بيوم أن يفرط في رصيد من الإجازات المرضية، على أن يأتي ليقبض في نهاية الشهر أو الأسبوع فيجد يوميته تنقص كل سبعة أيام يوما.
وأول شيء فكر فيه العمال في بحثهم عن هذا الباب الخلفي هو الطبيب، وقدرته على منحهم أو عدم منحهم إجازات. وهكذا فوجئت في أول أسبوع بمائة زيادة قد أبلغوا أنهم مرضى يوم الخميس، وكان إشكالا! وفي الأسبوع التالي تنبهت إدارة الورش لهذا الباب فأصدرت قرارا بأن يوم الجمعة لا يحتسب إجازة مرضية إلا إذا وقع بين يومين من الإجازة المرضية، وعلى هذا فالعامل لكي يحتسب له يوم الجمعة بأجر، عليه أن يأخذ الخميس والجمعة والسبت إجازة مرضية، ومع أن هذا حل غير عملي إطلاقا، لكي يحتسب العامل لنفسه الأربع جمعات التي في الشهر عليه أن يفقد اثني عشر يوما من إجازته السنوية التي لا تتعدى العشرين يوما؛ أي إن إجازة العام المرضية كلها لا تكفي لكي تحتسب له أيام الجمعة في شهرين اثنين، مع هذا إلا أني وجدت العدد يتضاعف في ثاني أسبوع. وفي ذلك الأسبوع الثالث، حاول بعض العمال أن يتلافوا ازدحام يوم الخميس وما قد يحدث فيه، فأبلغوا بمرضهم ليوم الأربعاء، وقضيت يوما طويلا مزدحما أحاول أن أفهم فيه العمال بخطأ ما يرتكبونه في حق أنفسهم، وأحاول أن أفهم فيه أعضاء النقابة أن يتحركوا وأن يفعلوا شيئا غير اللجوء إلى هذا الحل الخلفي. ولم أجد أية فائدة في الكلام مع العمال، أو مع أعضاء النقابة ورئيسها السني النحيف، وأمين صندوقها الحاج الذي لا يفقه من أمور الدنيا شيئا، وأدركت حينئذ حرج الموقف الذي سأقفه في الغد، الخميس، وفي كل خميس؛ فقد كنت أريد أن أقف الموقف الصحيح كمكافح يؤمن بالشعب، حتى ولو جاء هذا الموقف على حساب وظيفتي، وكان لا بد أن أستشير شوقي في الموضوع.
وهكذا في عودتي إلى البيت، مررت على المجلة، كان شوقي هناك، وجلست وطلبت قهوة ودخنت، وراقبت شوقي طويلا وهو يكتب، ثم طرحت المشكلة، وكنت أعتمد اعتمادا كليا على رأي شوقي؛ فمفروض أنه أنضج مني سياسيا، وأكثر خبرة بالموضوع، وفوق هذا وذاك فقد كان يعمل مهندسا في فترة من حياته قبل أن يستقيل وينضم إلى نقابة الصحفيين ويصبح رئيس تحرير مجلتنا. وكان رأي شوقي واضحا محددا صريحا؛ إذ رأى أنه لا يجب علي أبدا أن أساعد العمال على الهروب من مواجهة المشكلة بمنحهم تلك الإجازات، وأن أجبرهم برفضي على مواجهة الإدارة وأخذ حقهم المغتصب. ورغم أني أفهمته بوضوح أن الظروف لا تسمح أبدا بتلك المواجهة العلنية إلا أنه أصر على رأيه، واعتبر رأيه مجرد رأي، ولكنه أمر لي علي أن أنفذه.
وربما لو كان شوقي قد تخيل ما سوف يحدث في الغد نتيجة لمشورته هذه لتردد قليلا مثلا وهو يقولها لي، أو لطلب مني أن يؤجل رأيه حتى يدرس المسألة، ولكنه أبدا لم يفعل هذا ببساطة وحسم أفهمني أن المسألة مسألة مبدأ.
وعدت إلى البيت، وما كدت أضع قدمي فيه وأدرك أن الساعة تقترب من الثانية، وأنه لم يبق على الثالثة والنصف - ميعاد سانتي - إلا تسعون دقيقة، حتى بدأت أنسى شيئا فشيئا مشاكل العمل والورشة والعمال، وبدأت تعود إلي من جديد حالة التوهان الهائم، وبدأت أهيئ نفسي لاستقبالها.
وحين جاءت الثالثة والنصف ومرت، ومرت وراءها الرابعة والخامسة ولم تأت سانتي، لم أحس بخيبة أمل كبيرة؛ فشيء ما لا بد كان سيحدث نتيجة لما دار بيني وبينها بالأمس، ونتيجة للاجتماع الذي أعقب ما دار، أقل ما يمكن أن يحدث أن تمتنع عن الحضور ثاني يوم. لا بد أنها هي الأخرى متأثرة ولها ألف عذر، بل الحقيقة سررت لأنها لم تأت، وتصرفت حسبما اعتقدت أنها ستتصرف؛ إذ معنى هذا أنها تتصرف بطبيعتها معي، لا تدعي شيئا ولا تجبر نفسها على فعل شيء.
Неизвестная страница