البيان المبدي لشناعة القول المجدي
تأليف: الشيخ سليمان بن سحمان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، وأوضح الحق وأعلاه فأضاء نوره ما بين المغارب والمشارق، وأدحض الباطل وأهله من كل معاند للحق ومشاقق، أحمده سبحانه وأشكره على قمع كل منافق ومارق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في إلهيته وربوبيته لجميع الخلائق، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين وقائد الغر المحجلين ذو المناقب والسوابق صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما انغدق الودق وأومضت البوارق، وسلم تسليما كثيرًا.
أما بعد، فقد رأيت كلامًا لمحمد سعيد بن محمد بابصيل الشافعي المكي ردًّا على ما كتبه العالم الفاضل الألمعي والنبيل الجليل اللوذعي المسمّى بعبد الله
1 / 2
ابن عبد الرحمن بن عبد الرحيم السنديّ، وما كتبه عبد الكريم فخر الدين على رسالة أحمد زيني دحلان التي سمّاها: الدّرر السّنية في الرد على الوهابية، وقد ضمنها دحلان من الأكاذيب والترهات ما يستحي العاقل من حكايتها مع ما اشتملت عليه من إباحة الشرك والالتجاء إلى الصالحين ودعائهم والاستغاثة بهم إلى غير ذلك مما تمجه الأسماع ويتفر عنه الطباع وكذلك ما قرره من الزيارة البدعية الشركية واستدل على ذلك بأحاديث مكذوبة موضوعة يعرفها كل من له إلمام بمعرفة الحديث ورجاله فردا عليه فأجادا وأفادا وانتصرا لله ورسوله وأئمة المسلمين، فجزاهما الله عن الإسلام وأهله أفضل الجزاء.
ثم إنّ هذا المكيّ المسمّى بابصيل اعترض عليهما فيما كتباه بما نقله عن ابن حجر الهيثمي في مسبة شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه باعتراضات بعضها حق وهو قائلها ومعه الكتاب والسنة وأقوال الأئمة من الصحابة والتابعين ولم يخرج ﵀ في قول قاله عن قول أحد من السّلف منفردًا به بل قد قاله غيره من الأئمة و
1 / 3
باعتراضات أخرى يعرف كل منصف أنها دعاوى باطلة وأكاذيب محضة وبما نقله أيضًا عن علوي بن أحمد بن حسن بن عبد الله الحداد، وجعل ما اعترض به ما على شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ ردًّا واعتراضًا على الشيخ محمد بن عبد الوهاب تأصيلا منه أنه إنما درج على منواله، واحتذل حذوه في مقاله، وبمناقضات زعم أنه أخذها عليهما وأنه باعتراضه قد وجد الضالة المنشودة، وسقط على الدرة المفقودة وهي على غير ما توهمه، وعنه التحقق على خلاف ما زعمه فردّ عليهما لاعتماده واعتقاده أنهما من الوهابية، وأنهما من اتباع شيخ الإسلام ابن تيمية فاستعنت الله تعالى على رد أباطيل هذا المعترض الأفاك الذي نصب نفسه للانتصار لأهل الباطل والإشراك، وذلك بعد ما أكثر عليّ بعض الإخوان، وإن كنت لست من أهل هذا الشأن ولا ممن يجري الجواد في مثل هذا الميدان.
ولكن البلاد إذا اقشعرت ... وصوح بنتها رعى الهيثم
وقد تأملت ما كتبه هذا المفتري فإذا هو لم يأت إلا بتمويهات وترهات وخزعبلات وخرافات، لا تروج على ذوي العقول السليمة، وليست بحمد الله بصائبة ولا مستقيمة بل عواقبها ذميمة، ومراتعها
1 / 4
وخيمة، والله المسؤول المرجو الإجابة، أن يوفقنا الطريق السداد والإصابة وأن يجزل لنا بمنه وكرمه الإثابة، وهذا جهد المقل، وأسأل الله أن يحسن لنا النية والعمل وسميت هذا: "الرّد بالبيان المبدي لشناعة القول المجدي".
قال المعترض بعد أن ذكر أنه وقف على رسالتين أحدهما مؤلفها عبد الكريم بن فخر الدين، والأخرى مؤلفها عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم السنديّ، قال: ولم ألتفت لمعارضة كل واحد منهما في رد مقالته ببرهان عقلي أو شرعي إلى آخره.
فالجواب ومن الله استمد الصواب أن هذا المعترض الجاهل قد خصم نفسه باعترافه أنه لم يعترض عليهما في الرد ببرهان عقلي أو شرعي ولو ظفر ببرهان عقلي أو شرعي يرد به ما زعم أنه الباطل لما أهمله في هذا المقام، ولصال بخيله ورجله لينال من خصمه المرام، وما يحسن بمن عنده علم وفضل كلام عند مقاومة الخصوم وإرخاء أعنة الأقلام أن يرتدي برداء العيّ والإحجام، ولكنه ولله الحمد والمنة مزجي البضاعة من العلوم النبوية والآثار السلفية وليس له ملكة ولا روية ولا معرفة بمدارك الأحكام ولادرية، وأنى لهذا المعترض يد بمقاومة جند الله ورسوله،
1 / 5
المعتصمين بكتاب الله والسالكين على سنة رسوله وسبيله، ولكن بهذا الهذيان البارد، والأكاذيب المظلمة المسالك والموارد التي لا يعجز عنها أحد ممن تجاوز الحد وأفرط والحد، هيهات هيهات ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ ﴿القمر:٤٥ـ٤٦] .
لعمرك ما يدري الغبي بأنه ... أتى موئدًا من مورد الشرك مظلمًا
وردّ على من شاد سنة أحمد ... باوضاعه اللاتي بها قد تكلما
وأعلى من الكفر الصريح معالما ... أشاد لها دحلان من كان أظلما
وأرسى لها في قلب كل معطل ... جهول وأفاك رسوما وسلما
لترسورير في كل من رام فرية ... بأسبابها طودًا من الكفر قدطما
ويسعى بان يدعى حسين وخالد ... وزيد ومعروف ومن كان أعظما
ويدعى الرفاعي بل على وحمزة ... ويدعى لعمري العيدروس بكلما
به يقصد الرحمن ﷻ ... فبعدًا لأرباب الضلالة والعما
وقد قام هذا الوغد منتصرا له ... بلا حجة أدلى بها إذ تكلما
ولكن ببهتان وسبة مفترٍ ... على علماء الدين ظلما ومأثما
وأرخى عنان الجهل والظلم خاليا ... من العقل والبرهان والشرع مانما
1 / 6
ولو ظفر المخذول بالعلم والهدى ... لا بد لهما فورا وما كان أحجما
ولكنه والحمد لله وحده ... من العلم بالبرهان قد كان معدما
فحادوا بدى نزهات وضيعة ... وأقوال أعداء بها الإفك قد طما
وقد قام كالحرباء يرنو بطرفه ... إلى الشمس عدوانا وبغيا ومأثما
وما ضرّ إلا نفسه باعتراضه ... ونصرته من كان أعمى وأبكما
وأنّى لهذا الوغد علم بمابه ... يدان ويرجى فاطر الأرض والسما
ولو كان يدرى ماهدى بضلالة ... وسطر في أوراقه الجهل والعما
ولكن أهل الزيغ في غمراتهم ... فليس لهم عن مهيع الكفر مرتما
خفافيش اعشاها من الحق شمسه ... وأعمها إشراقه إذ تبسّما
فلما دجى ليل الضلالة أقبلت ... وجالت وصالت حين جنوأظلما
أيحسب هذا الفدم والوغد اننا ... غفلنا وما كنا غفاة ونوما
سنضرب من هاماتهم كل قمحد ... ونبكم صنديدا تحدى وغمغما
وتشدخ بالبرهان يافوخ إفكه ... فيصبح مثلوغا وقد كان مبهما
وما كان أهلا أن يجاب لجهله ... وهُجنة ما أبداه لما تكلما
ولكن ليدرى أن في الربع والحمى ... رماثا اعدّوا للمعادين اسهُما
1 / 7
ويعلم أنا لا نزال ولم نزل ... على ثغرة المرمى قعودا وجثما
وفي زعم هذا الأحمق الوغد انه ... وأصحابه أهل الهدى حين قسما
وإن ذوي الإسلام أهل ضلالة ... وأهل ابتداع بئسما قال إذ رمى
ذوي الدين بالغي الذي هو أهله ... وكان بما أبدى أحق والوما
أيوصف بالإسلام من كان مشركًا ... ويوصف بالاشراك من كان مسلما
لعمري لقد جئتم من القول منكرا ... وزورا وبهتانا وأمرا محرّمًا
فيا ويحه أن لم يتب من ضلاله ... لسوف يرى جهرًا ويصلي جهنما
فصل: قال المعترض بعد أن أصّل أصلين ينبني بزعمه بطلان الأصل الأدنى بالكلام على الأصل إلا بعد قال: فأقول الأصل الأدنى ظهور محمد بن عبد الوهاب، وقد بلغ بدعوته الضالة ما بلغ وملأت البلاد والأقطار وكلامه ودعوته مؤسسة على دعوى من قبله فمن قلد من قبله وهو الأصل الأصيل لهذا الفساد الذي عم العباد والبلاد وهو الشيخ ابن تيمية إلى آخر ما قال.
والجواب: أن يقال: سبحان من طبع على قلوب أعدائه فاصمهم وأعمى أبصارهم فإن هذا الجاهل الذي أعمى الله بصيرة قلبه لما لم يكن لديه
1 / 8
معرفة بأصل هذا الدين الذي بعث الله به رسوله محمدًا ﷺ ومنّ الله بإظهاره بعد أن كان ذلك مهجورًا بين الناس. لا يعرفه منهم إلا النزاع من الأكياس على يدي شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله رب العالمين، وإنكار ما كان الكثير عليه من شرك المشركين، بالإلتجاء إلى الصالحين وطلب ما كان لله عنده ضرائح الأموات من المعبودات، وإنزال الحاجات بهم في الملمات لتفريج الشدائد والكربات، ونهيه عن عبادة الأشجار والأحجار والقبور والطواغيت والأوثان، وعن الإيمان بالسحرة والمنجّمين والكهّان، صار لديه هو أصل الضلال والفساد، الذي ملأ الأقطار وانتشر في البلاد، فلمّا لم يكن لديه معرفة بهذا الدين دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب من إخلاص العبادة لله والشرك الذي نهى عنه وجد أهل نجد عليه من صرف جميع العبادات لغير أمته، تعين أن نذكر هذا الأصل الذي جعله هذا المعترض أصل الضلال والفساد وهو ظهور هذه الدعوة النجدية،
1 / 9
والطريقة المحمدية؛ ليتبين لك فساد تأصيل هذا المكي وليعرف المسلم قدر نعمة الله التي أنعم بها على المسلمين بدعوة هذا الشيخ وأنهم قبله في ضلالة ظلما، وجهالة جهلًا، وفلوات غيّ مفاوزها يهما، ونذكر قبل ذلك ما كان عليه أهل نجد وأهل الأقطار حال تبين الشيخ ﵀.
قال الشيخ أبو بكر حسين بن غنام رحمه الله تعالى: الفصل الأول في بيان ما جرى في تلك الأزمان من الشرك والضلال والطغيان في نجد والحسا وغيرهما مما يليهما من البلدان، فنقول: كان غالب الناس في زمانه متضمخين بالأرجاس متلطخين بوظر الأنجاس، وإطفاء نور الهدى بالانطماس بذهاب ذوي البصائر والبصيرة، والألباب المضيئة المنيرة، وغلبة الجهل والجهال، واستعلاء ذوي الأهواء والضلال حتى نهجوا في تلك الطريق منهجًا وعرا، ونبذوا كتاب الله تعالى وراءهم ظهرًا، وأتوا زورًا وبهتانًا وهجرًا، وزين لهم الشيطان الهم ينالون بذلك أجرًا، ويجوزون به عزا وفخرًا، فاركبهم مراكب
1 / 10
الأسلاف قسرًا وامتطى كواهلهم في ذلك السنن قهرًا، وحسّن لهم أن الأباء بحقيقة الحق أدرى، وأنهم بنهج منهج الشريعة أحرى فعدلوا إلى عبادة الأولياء والصالحين وخلعوا ربقة التوحيد والدين، فجدّوا في الاستغاثة بهم في النوازل والحوادث ةالخطوب العظلة الكوارث، وأقبلوا عليهم في طلب الحاجات وتفريج الشدائد والكربات من الإحياء منهم والأموات وكثير يعتقد النفع والأضرار في الجمادات كالأحجار والأشجار، وينتابون ذلك في أغلب الأزمان والأوقات ولم يكن لهم إلى غيرها إقبال ولا التفات فهم على تلك الأوثان عاكفون ولها في كثير الأحايين ملازمون ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: من الآية١٩]، لعب بعقولهم الشيطان، وأخذ بهم منهج الخسران حتى ألقاهم في قعر الهوان، فلجوا في طغيانهم يعمهون، تسنموا من الأهوى اسمى فنن، وأتوا من الضلال إنما فتن، ورفضوا والله أسنى سنن ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام:١]، أحدثوا من الكفر والفجور،
1 / 11
والإشراك بعبادة أهل القبور وصرف الدعاء لهم والنذور، ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون:١١٧] شرعوا لهم شياطينهم من الدين ما لم يأذن به الله، وجعلوا لغيره ما لا يجوز صرفه إلى سواه، وزادوا على أهل الجاهلية فكانوا لا يدعون إذا مسّهم الضرّ إلا إياه، ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت:٦٥]، ملؤوا قلوبهم له بالوجد والمحبة، وبذلوا أعمارهم وألسنتهم في دفع من أبدى لهم مسبة، ولم يشتغلوا بالله وكفى به لعبده رغبة، وليتهم سووا بينهم في المحبة والطلبة، ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ﴾ [الشعراء:٩٧ـ٩٩]، وكانت هذه المحبة في سويداء القلب سارية وعلى صفحة الوجه واللسان بادية، وأفعال الشرك في غالب الأقطار جارية، ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ [يوسف:١٠٦]، وقد حدث الغيّ والإضلال والإسراف، ووقع التغير في الدين والاختلاف من زمان قديم من غير خلاف، وجاء بعدهم
1 / 12
من اعتقد أن الدين هو ذلك الضلال والإسراف؛ لأنهم وجدوا عليه الأباء والأسلاف ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف:٢٣]، وقد نص عليه كثير من العلماء الأعلام في كتبهم المصنفة فيما حدث من البدع من الأنام وماغيروا من منار الدين والإسلام، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: من الآية١١٢]، وكان أكثر الناس على دعوة الأنبياء والصالحين الأحياء منهم والميتين، مجدين مجتهدين، وبالاعتقاد المحض فيهم مفتونين ﴿وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ [النحل:٥١]، أيدعى من لا يملك لنفسه نفعًا، ولا يصرف عنها من السوء دفعا، ويترك مدبّر الخلائق إعطاء ومنعًا، ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ [النحل:٥٣]، فغدوا عليهم في قضاء الحاجات وراحوا، وابتهلوا لديهم في ذلك وباحوا، وأحلوا ما حرم الله واستباحوا، ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [لأعراف:٣٣]، وكان
1 / 13
في بلدان نجد من ذلك أمر عظيم والكل على تلك الأحوال مقيم، وفي ذلك الوادي مسيم ﴿حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة: من الآية٤٨]، وقد مضوا قبل بدو نور الصواب يأتون من الشرك بالعجاب وينسلون إليه من كل باب ويكثر منهم ذلك عند قبر زيد بن الخطاب ويدعونه لتفريج الكرب بفصيح الخطاب ويسألونه كشف النوب من غير ارتياب ﴿قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس: من الآية١٨]، وكان ذلك في الجبيلة مشهورًا وبقضاء الحوائج مذكورًا، وكذلك قربوه في الدرعية يزعمون أن فيها قبورًا، أصبح فيها بعض الصحابة مقبورًا، فصار حظهم في عبادتها موفورا، فهم في سائر الأحوال عليها يعكفون، ﴿أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾ [الصافات:٨٦]، وكان أهل تلك التربة أعظم في صدورهم من الله خوفًا ورهبة، وأفخم عندهم رجاء ورغبة، فلذلك كانوا في طلب الحاجات بهم يبتدون، ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف:٢٢]
وفي شعب غبيرا يفعل من الهجر والمنكر ما يعهد مثله ولا يتصور، ويزعمون أن فيه قبر ضرار بن
1 / 14
الأزور، وذلك كذب محض وبهتان مزور مثّله لهم إبليس وصوّر، ولم يكونوا به يشعرون، وفي بليدة الفدا ذكر النخل المعروف بالفحال يأتونه النساء والرجال ويفيدون عليه بالبكر والأصال، ويفعلون عنده أقبح الفعال، ويتبرّكون به ويعتقدون، وتأتيه المرأة إذا تأخرت عن الزواج، ولم تأتها لنكاحها الأزواج، فتضمه بيديها بحضور ورجاء الانفراج، وتقول: يا فحل الفحول أريد زوجًا قبل أن يحول الحول، هكذا صحّ عنهم القول، ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: من الآية٤٣] . وشجرة الطرفية تشبث بها الشيطان واعتلق، فكان ينتابها للتبرك طوائف وفرق، ويعقلون فيها إذا ولدت المرأة ذكرن الخرق، لعلهم عن الموت يسلمون، وفي أسفل الدرعية غار كبير يزعمون أن الله تعالى فلقه في الجبل لأمرأة تسمى بنت الأمير أراد بعض الفسقة أن يظلمها فصاحت ودعت الله فانفلق لها الغار بإذن العلي الكبير، وكان تعالى لها من ذلك السوء وجير، فكانوا يرسلون إلى ذلك الغار اللحم والخبز ويهدون، ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات:٩٥ـ٩٦] قال: وكذلك
1 / 15
ما يفعل الآن في الحرم المكي الشريف زاده الله تعالى رفعة وتشريفًا فهو يزيد على غيره وينيف، فيفعل في تلك البقاع المطهرة المكرمة، والمواضع المعظمة المحترمة، من الأمور المحظورة المحرمة ما يحق أن تسفح عند رؤيته العيون والأجفان، وتزال لأجله الدموع وللاتصان، وتلتهب في القلب لوعج الأحزان إذا أبصر الموحد ما يصدر من أولئك العربان من الفسوق والضلال والعصيان، وما عرى فيه الدين من الهوان، فلقد انتهكت فيه المحرمات والحدود، وكان لأهل الباطل فيه قيام وقعود كما هو الآن مشاهد موجود، أين قوله تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج:٢٦]، ويشهد بذلك من رآه ممن كان له قلب سليم، ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج: من الآية٢٥]، ولقد تظاهر بذلك فيهم جمّ غفير، وتجاهر به بين أظهرهم جمع كثير، ولم يكن لأهل العلم إزالة ولا تغيير، بل تألبوا على مصادمة الحق الشهير، وراموا إطفاء مصباحه المنير، وإخماد ضيائه المستنير، وجادلوا
1 / 16
تغيير محيّ الصواب، ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ [غافر: من الآية٥]، ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾ [فاطر: من الآية٣٧] . فمن ذلك ما يفعل عند قبر المحجوب، وقبة أبي طالب، وهم يعلمون أنه شريف حاكم متعد غالب، كان يخرج إلى بلدان نجد ويضع عليهم من المال خراج ومطالب، فإن أعطى ما أراد انصرف وإلاّ أصبح لهم معاديًا ومحارب، وكذلك عند قبر المحجوب، يطلبونه الشفاعة لغفران الذنوب؛ لأنه عندهم المقرب المحبوب، فلهذا كانوا من شره يحذرون، وإن دخل متعد أو سارق أو غاصب مال قبر أحدهما لم يتعرض له أحد من الرجال، ولا يخشى معاقبة ولا نكال ولا يتوصل إليه بما يكره ولا ينال، وإن تعلق جان ولو أقل جناية بالكعبة سحب منها بالأذيال، فهم في تعظيمها مفرطون، ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ، لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ﴾ [يّس:٧٤ـ٧٥]، ومن ذلك ما يفعل عند قبر ميمونة بنت الحارث ﵂ بسرف، وعند قبر خديجة ﵂ في المعلى، مما لا يسوغ
1 / 17
المسلم أن يطلق عليه إباحة وحلا، فضلا عن كونه يراه قربة يدرك بها أجرا وفضلا من اختلاط النساء بالرجال وفعل الفواحش والمنكرات، وارتفاع الأصوات عندهم بالدعوات وحصول الندب وشدة الاستغاثات، وعند قبر عبد الله بن عباس ﵄ في الطائف من الأمور التي تشمئز منها نفس الجاهل فكيف بالعارف فيقف عند قبره متضرعًا مستغيثًا كل مكروب وخائف، وينادي أكثر الباعة في الأسواق من غير نكير ولا زاجر على الإطلاق، ويقول بلهجة قلب واحتراق، كثير من أهل الشرك والإبلاس، وذوي الفقر والإفلاس، اليوم على الله وعليك يا ابن عباس، ويسألونه الحاجات ويسترزقون ﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ﴾ [يّس:٢٣] .
وأما يفعل عند قبره ﵊ من الأمور المحرمة العظام من تعفير الخدور، والإنحناء بالخضوع والسجود واتخاذ ذلك القبر عيدًا، وقد لعن ﵊ فاعله وكفى بذلك زجرًا ووعيدًا ونهى عن ما يفعل عنده الآن غالب العلماء نهيًا شديدًا، وغلظوا في ذلك تغليظًا أكيدًا، فهو مما لا يخفى ولا ينكر، وأعظم
1 / 18
من أن يذكر، فهو في الشهرة والانتشار، كالشمس في رابعة النهار، ويكل اللسان عما يفعل عند قبر حمزة والبقيع وقباء من ذلك القبيل، ويعجز القلم عن بيانه على التفصيل، ولو لم يذكر منه إلا القليل.
شعر:
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
وأما ما يفعل في جدة فما عمت به البلوى فقد بلغ من الضلال والفحش الغاية القصوى، وعندهم قبر طوله ستون ذراعًا عليه قبة يزعمون أنه قبر حوّى، وضعه بعض الشياطين من قديم وهيئه وسوّى، يجبون عند السدنة من الأموال كل سنة ما لا يكاد يخطر على بالبال، ولا يدخل يسلم على أمه كل إنسان إلا مسلمًا دراهم عاجلًا من غير توان، أيبخل أحد من اللئام، فضلا عن الكرامة ببذل الحطام، ويدع الدخول على أمّه والسّلام، وعندهم معبد يسمى العلوي بالغ في تعظيمه جميع الخلائق، وأربوا في الغلو على تلك الطرائق، فلو دخل قبره قاتل نفس أو غاصب أو سارق لم يتعرض بمكروه من مؤمن ولا فاسق، ولم يجسر أحد أن يكون مخرجًا له سائق، أو إلى المساعدة إليه مسارع مسابق، فمن استجار بتربته
1 / 19
أجير، ولم يعرج عليه حاكم ولا وزير.
وأما ما في بلدان مصر وصعيدها، من الأمور التي ينزه اللسان عن ذكرها وتعديدها خصوصًا عند قبور الصلحاء والعباد من ساداتها وعبيدها كما ذكرها الثقات في نقل الأخبار وتوكيدها، فيأتون قبر أحمد البدوي، وكذا قبور غيره من العباد، وسائر ترب المشهورين بالخير والزهاد، فيستغيثون ويندبون ويعجلونهم بالإمداد، ويستحثونهم على زوال المصيبة عنهم والأنكاد، ويتداولون بينهم حكايات وينسبون عنهم قضيات، ويحكون في محافلهم ما جريات من أفحش المنكر والضلالات فيقولون فلان استغاث بفلان فأغيث فورا في ذلك الأوان، وفلان شكى لصاحب القبر حاله وأمره فأغاثه وكشف عنه ضره، وفلان شكى إليه حاجته فأزال عنه فقره، وأمثال هذا الهذيان الذي هو زور وبهتان، ويصدر هذا الكلام في تلك البلدان وهي مملوءة بالعلماء من أهل الزمان وذوي التحقيق والعرفان، ولا يزال ذلك المحظور، ولا يغار من صدور تلك الأمور، بل ربما تنشرح منهم له الصدور.
وأما ما يفعل في بلدان اليمن
1 / 20
من الشرك والفتن قبل هذا الوقت وفي هذا الزمن فأكثر من أن يحسب أو يحصى، أو يعد ويستسقى، أو يدرك له أقصى، فمن ذلك ما يفعله أهل شرقي صنعاء بقبر عندهم يسمى الهادي والكل على دعوته والاستغاثة به رائح غادي، فتأتيه المرأة إذا تعسر عليها الحمل أو كانت عقيمة، فتقول عنده كلمة قبيحة عظيمة، فسبحان من لا يعاجل بالمعاقبة على الجريمة.
وأما أهل بلد برع فعندهم رجل يرحل إلى دعوته، كل ناء عن محله وبلدته، ويؤتي إليه من غير إشكال من مسيرة أيام وليال لطلب الإغاثة وشكاية الحال ويقيمون عند قبره للزيارة ويتقربون بالذبائح عنده كما حقق أخباره من شاهد حضرته واحتضاره.
وأما أهل الهجرية ومن حذا حذوهم فعندهم قبر يسمى ابن علوان، وقد أقبل عليه العامة في نوائب الزمان، واستغاث به منهم كل لهفان، فهم يلجؤون به في كل وقت وأوان ويسميه غوغاء هم منجي الغارقين كما حكاه بعض السامعين، وأغلب أهل البر منهم والبحر يطربون عند سماع ذكره، ويستغيثون به
1 / 21