وفي الإسماعيلية أيضا عرفنا آخر خبر: سيغادر بورسعيد الليلة آخر فوج من العساكر الإنجليز.
وانطلقت العربة ووجهتها بورسعيد. وكانت الساعة العاشرة مساء، والطريق مظلم، طريق معبد لامع تتهادى إليه أنوار السفن التي تعبر قنال السويس.
2
قنال السويس!
إن كل شيء هنا ينطق بأمجاد شعبنا وكل شيء يهتف بما لاقاه من ظلم هذه القناة، إن بلدنا وحدها مات منها عشرة وهم يحفرونها، هذه القناة الضخمة العريضة، هذا البحر المذهب الواصل بين بحرين حفره أجدادنا من مائة سنة، حفروه بكريكاتهم وفئوسهم وعظامهم واستطاعوا أن ينتزعوا ملايين الملايين من الأمتار المكعبة في غمضة شهور وكأنهم مردة أو جان. حفروا، وماتوا، واستهلكهم الكدح .. ولم يقبضوا شيئا. ذهب المال إلى الشركة، وذهب المجد إلى دليسبس، وذهبت الأسهم إلى إنجلترا وفرنسا، وبقيت القناة ممتدة واسعة زرقاء وتذكرنا أننا صانعوها ومنشئوها، وأن ماءها من دمنا، ودمنا تمخر عبابه السفن، ويغل في العام ملايين الجنيهات.
ووصلنا بورسعيد قبل منتصف الليل.
كانت البلدة نائمة أو تكاد، عمال الميناء فقط ساهرون، لا يزالون يتناولون عشاءهم الرخيص وطابورهم واقف أمام الباب ينتظر الإذن بالدخول، ووجدنا صيادا شيخا مسيناه بالخير وسألناه: الإنجليز ح يمشوا منين يا عم؟ ... - أهم طول النهار ماشيين. - هم مشيوا خلاص وآخر دفعة ح تمشي الليلة. تعرفشي منين؟ - هم خلاص ماشيين؟! - ماشيين. - بلا رجعة؟! - بلا رجعة. - الليلة؟! - الليلة. - في داهية. - تعرفشي ماشيين منين؟ - يمشوا من أي حتة .. الله يخرب بيتهم.
وتركنا الصياد الشيخ، وسألنا شيالا شابا وقال: من باب النافي. وذهبنا إلى باب النافي، ودخلنا، وركبنا لنشا، وبعد قليل ونحن في البحر .. قال البحار: هذا مبنى النافي.
ورأينا شيئين: باخرة سوداء كالحة راسية عند المبنى، وديدبانا واقفا. وغادرنا القارب إلى الرصيف، وقال الديدبان: إلى أين؟ .. قالها بإنجليزية ممطوطة وكان شابا لا يتجاوز العشرين، ومعه مدفع ستن، وكان هادئا، وعبيطا، وضيقا بنوبته في الحراسة، وكان أول إنجليزي نراه في منطقة القناة.
وكان في المبنى أربعة عساكر آخرون وضابط .. كانوا هم آخر قوات الاحتلال ، والباخرة السوداء واقفة اسمها إيفان جيب، تنتظر أن تحين اللحظة ليصعد العساكر وترحل، آخر رحيل.
Неизвестная страница