وكانت صلتي به محدودة، وكل ما أعرفه عنه أنه كان في مدرسة التجارة المتوسطة، أو الصنايع لست أدري، وأخذ الدبلوم أو لم يأخذه، ثم دخل الجيش حسب قانون التجنيد الإجباري.
وأغرب شيء أنك تحس دائما أنه ملآن، ولديه آلاف الأشياء التي يود قولها، غير أنه نادرا ما يفصح عن نفسه. وإذا تكلم فلا يقول شيئا من عنده، إنما يعبث بكلمات غيره، فتقول له مثلا: إزيك انت؟ فيرد عليك ويقول: الزاكته! ويضحك ويخجل، ويحمر وجهه، كان لا يخاطبني إلا «بحضرتك»؛ على اعتبار أني الأخ الأكبر لصديقه، وأحيانا كانت تفلت من لسانه كلمة تستحق التأمل، وإذا تأملها الإنسان أدرك أنه ليس بسيطا كما يبدو، وأن له أعماقا.
وكان إذا جاء لزيارتنا وفتح له الباب، خفض رأسه، وسأل عن أخي، فإذا كان موجودا، دلف إلى حيث يكون مطرق الرأس، لا يرفع بصره ولا يتلفت. وكنت أحيانا ألقاه فأحادثه وأحس به شهما خدوما؛ لو قلت له: ارم نفسك في البحر مثلا، لذهب ورمى نفسه في البحر فعلا، ثم عاد إليك في ثاني يوم مبتل الملابس، يقطر الماء من شعره، ويقطر الخجل من وجهه ويتهته ويقول: أما المية كانت ساقعة بشكل!
يقولها قاصدا بها أن يلومك ويؤنبك، وهذا كل ما في استطاعة أحمد أن يؤنب به أحدا!
ولم نكن أصدقاء بالمعنى المفهوم؛ كنت أراه كل ستة أشهر أو كل سنة، وكنت لا أراه على حالة واحدة أبدا؛ ففي كل مرة لا بد أن يكون قد حدث له أو حدث فيه تغيير؛ فهو في لقاء طالب، وفي آخر متخرج، وفي ثالث ساخط يبحث عن عمل، ومرة أراه صغيرا لم تنبت له لحية، وأفاجأ به في المرة التالية وقد فرعني طولا! جاء مرة لزيارتنا بملابس الجيش، وفوجئنا به حقا، وأذكر أننا يومها سلخناه عبثا وتريقة، نقول له: يا دفعة، ونضحك على شعره القصير، الذي قصه كما تقضي التعليمات، ونسأله: لم ربى شاربه هكذا؟ فيقول: ح اعمل إيه؟ ما دام مفيش تعليمات تحدد طول الشنب، أربيه كده إياك يعوض عن شعري!
ويمضي يحدثنا بطريقته المتلعثمة، ويسخر من نفسه ومن زملائه، ومن «اليمك» والطوابير المبكرة والبروجي والنظافة، والشاويش الذي يدربهم، ولسانه الذي لا يكاد يرى متعلما من أمثال أحمد حتى ينهال عليه، والتكدير والتزويغ، وتصاريح الأربع والعشرين ساعة، وكيف «يبلف» الضابط حتى يأخذها، ويضحك، بجسده الضخم كله ومن قلبه، ثم يكف عن سخريته وضحكه فجأة، ويتنحنح ليشعرنا أنه ينوي قول شيء جاد، يتنحنح ويقول: إنما صحتي كويسة!
وأذكر أنه في زيارة أخرى، قال لي: إنه أخذ النمرة النهائية في التنشين، وسألته وأنا أسخر من العبقرية التي هبطت عليه فجأة عن السر في نبوغه، فمضى يشرح لي نظريته؛ فقد وجد أنهم يعلمون النيشان في الجيش على علامات ثابتة، ثم يمتحنونهم على علامات متحركة؛ ولهذا فمن أول لحظة كان ينشن على العلامة الثابتة كأنها ستتحرك فجأة، وبهذه الطريقة كان يضرب بسرعة ويصيب، وبلغ به الحماس مداه، وبلغت بي السخرية مداها، وهو يؤكد لي أن الطريقة التي يعلمون بها الجيش غير مجدية، وأن أهم شيء في الدنيا هو أن يتعود الإنسان أن ينشن على هدف متحرك.
هذا كله أمر معقول.
أما غير المعقول فهو ما حدث؛ فلماذا يكلمني أحمد في التليفون؟
صحيح أني فوجئت به، ولكني أقول الحق فرحت، وأحسست أني افتقدته طويلا؛ فهناك أناس يفتقدهم المرء .. يفتقد القيم .. الشرف في ذهن الواحد منا مرتبط بإنسان، والإخلاص بإنسان آخر، والحنان والمحبة بثالث، وأحمد عمر هذا كان يرتبط في ذهني - ولست أدري لماذا - بشيء يمس من قريب أو بعيد روح شعبنا .. الشعب الضخم الخجول، الذي لا يسعده شيء مثلما يسعده أن يسخر من نفسه وأخطائه.
Неизвестная страница