Басайир фи аль-Фитан

بصائر في الفتن

Издатель

الدار العالمية للنشر والتوزيع

Номер издания

الثانية

Год публикации

١٤٢٩ هـ - ٢٠٠٨ م

Место издания

الإسكندرية - مصر

Жанры

بصائر في الفتن تأليف محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم عفا الله عنه الدار العالمية للنشر والتوزيع

1 / 1

بسم الله الرحمن الرحيم

1 / 2

بصائر في الفتن

1 / 3

بصائر في الفتن كل الحقوق محفوظة الدار العالمية للنشر والتوزيع الطبعة الثانية ١٤٢٩ هـ -٢٠٠٨ م رقم الإيداع: ٢٣٨٣٤/ ٢٠٠٧ الدار العالمية للنشر والتوزيع ٣١ ش الصالحي - محطة مصر - الإسكندرية محمول ٢٠١٠٥٤٠٦٤٠٣ + /ت: ٢٠٣٤٩٧٠٣٧٠ + /تلفاكس ٢٠٣٣٩٠٧٣٠٥ + E-mail: alamina_misr@hotmail.com

1 / 4

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله نحمدُه على النعمِ الغامرة، حمدًا يُعيد قِفارَ القلوبِ عامرة، ونقرُّ له بالتوحيد على عقيدة ظاهرة، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمدٍ صلاةً تجلب لنا صلاةً إلى صلاةٍ إلى عاشرة، وعلى آله أولي المناقب الفاخرة، وصحبه ذوي الفضائل المتكاثرة. أما بعد: فما أحوجنا في هذا الزمان المملوء بالفتن والأكدار إلى أن نستبصر بطبائع الفتن، وكيفية النجاة منها، من خلال هدي القرآن الكريم والسنة الشريفة، وكذا هدي الصحابة الكرام ﵃ أجمعين-. فإن الفتن تترى كالسحب المتراكمة، وتتواتر عمياء صماء مطبقة، كقطع الليل المظلم، أو كالأمواج الملاطمة، تطيش فيها العقول، وتموت فيها القلوب، إلا من عصم الله ﷿. ومن هدي رسول الله ﷺ الذي هو خير الهدى: الاستعداد للفتن قبل نزولها، بالتسلح بالعلم والبصيرة، مع العمل والاجتهاد، والاستعداد ليوم المعاد، عسى أن ننتبه عن الذنوب، وتلين منا القلوب، ونستيقظ من الغفلة، ونغتنم المهلة قبل المباغتة والوَهْلَة. ومن هنا جاءت هذه "البصائر" (١) تذكرة لمن كان له قلب، أو ألقى

(١) بصائر: جمع بصيرة، وهي: قوة القلب المدركة، ويقال لها -أيضًا-: بَصَر؛ =

1 / 5

السمع وهو شهيد، والله سبحانه أسأل أن يُخلص نيتي، ويحْسِنَ طَوِيَّتي، فإنما الأعمالُ بالنيات، وإن الحسناتِ يُذهبن السيئاتِ، وإنما لكل امرئ ما نوى. محمَّد بن أحمد بن إسماعيل المقدم ثغر الإسكندرية في الخميس ٢٧ جادى الآخرة ١٤٢٨ هـ. الموافق ١٢ يوليو ٢٠٠٧ م.

= قال تعالى: ﴿أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ [يوسف: ١٠٨]، أي: على معرفة وتحقق، وقال تعالى: ﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: ٢٢]، والضرير يقال له: بصير؛ لما له من قوة بصيرة القلب، انظر: "المفردات" للراغب ص (١٢٧)، و"بصائر ذوي التمييز" للفيروزآبادي (٢/ ٢٢٢).

1 / 6

تحذير النبي ﷺ أمَّتَه من الفتن أَوْلَى الشرع الشريف الفتن (١) قدرًا عظيمًا من الاهتمام، وحفلت دواوين السنة بالنصوص التي تحذر منها، وقلَّ أن يخلو ديوان منها من كتابِ أو بابِ الفتن. قال البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه: "كتاب الفتن، باب ما

(١) أصل معنى الفتنة في اللغة يدل على الابتلاء والاختبار كما في "مقاييس اللغة" لابن فارس (٤/ ٤٧٢)، وقد قال الإِمام ابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى-: "وأما الفتنة التي يضيفها الله سبحانه إلى نفسه، أو يضيفها رسولُه إليه؛ كقوله: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٥٣]، وقول موسى ﵇: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ﴾ [الأعراف: ١٥٥] فتلك بمعنى آخر، وهي بمعنى الامتحان، والاختبار، والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر، بالنعم والمصائب، فهذه لون، وفتنة المشركين لون، وفتنة المؤمن في ماله وولده وجاره لون آخر، والفتنة التي يوقعها بين أهل الإِسلام؛ كالفتنة التي أوقعها بين أصحاب علي ومعاوية وبين أهل الجمل، وبين المسلمين، حتى يتقاتلوا ويتهاجروا لون آخر، وهي الفتنة التي قال فيها النبي ﷺ: "ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي"، وأحاديثُ الفتنة التي أمر رسول الله- ﷺ فيها باعتزال الطائفتين، هي هذه الفتنة". اهـ. من "زاد المعاد" (١٦٩، ١٧٠)، وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "وُيعرف المراد حيثما وَرَدَ بالسياق والقرائن". اهـ. من "فتح الباري" (١١/ ١٧٦).

1 / 7

جاء في قول الله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ وما كان النبي ﷺ يُحَذِّرَُ من الفتن" (١). اهـ. وعن أسامة بن زيد ﵁ قال: أشرف النبي ﷺ على أُطُمٍ من آطام المدينة، ثم قال: "هل ترون ما أري؟ إني أري مواقع الفتن خلالَ بيوتكم كمواقع القَطْر" (٢). قال النووي - رحمه الله تعالى-: "والتشبيه بمواقع القطر في الكثرة والعموم، أي أنها كثيرة، وتعم الناس، لا تختص بها طائفة، وهذا إشارة إلى الحروب الجارية بينهم؟ كوقعة الجمل، وصفين، والحَرَّة، ومقتل عثمان، ومقتل الحسن ﵄، وغير ذلك، وفيه معجزة ظاهرة له ﷺ" (٣). اهـ.

(١) "فتح الباري" (١٣/ ٣ - فتح). (٢) رواه البخاري (١٣/ ١٤ - فتح)، ومسلم (٤/ ٢٢١١) رقم (٢٨٨٥)، والأُطُم: بناء مرتفع كالحِصن. (٣) "شرح النووي" (١٨/ ٧، ٨).

1 / 8

الفتن واقعة لا محالة والفتن واقعة في أمة محمدٍ ﷺ كونًا وقدرًا، ولا بد من أن يقع ما أخبر به رسول الله ﷺ كما أخبر، ومِن ثَمَّ فلا بد من التبصر بها، والاستعداد لها، والحذر منها، بل يجب مضاعفة الحذر منها في عصرنا؛ لأننا صِرنا أقربَ إلى أشراط الساعة مما كان عليه المسلمون منذ أربعة عشر قرنًا. عن المقداد بن الأسود ﵁ قال رسول الله- ﷺ: "إن السعيد لَمَن جُنِّبَ الفتن، ولَمَن ابتُلي فصبر" (١). وعن أمير المؤمنين معاوية ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لم يبقَ من الدنيا إلا بلاءٌ وفتنة" (٢). وعن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، قال: انتهيت إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو جالس في ظلِّ الكعبة، والناس مجتمعون عليه، فسمعته يقول: بينا نحن مع رسول الله- ﷺ في سفر إذ نزل منزلًا، فمنا من يضرب خباءه، ومنا من ينتضل (٣)، ومنا من هو في جَشَرِه (٤)، إذ نادى مناديه: "الصلاة جامعةً"، فاجتمعنا، فقام

(١) رواه أبو داود (٤٢٦٣)، وقال الألباني في "الصحيحة" رقم (٩٧٥): "إسناده صحيح على شرط مسلم". (٢) "صحيح ابن ماجه" (٢/ ٣٧٤) رقم (٣٢٦٠). (٣) أي: يرتمون بالسهام. (٤) الجَشَر: قوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى، ويبيتون مكانَهم، ولا يأوون إلى البيوت، كما في "النهاية" (١/ ٢٧٣).

1 / 9

رسول الله- ﷺ فخطبنا، فقال: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيرًا لهم، وينذرهم ما يعلمه شرًّا لهم، وإن أمتكم هذه، جُعِلَتْ عافيتُها في أولها، وإن آخِرهم يصيبهم بلاء، وأمورٌ تنكرونها، ثم تجيء فتن يُرَقِّقُ بعضُها بعضًا، فيقول المؤمن: هذه مُهلِكَتي، ثم تنكشف، ثم تجيء فتنة، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، فمن سَرَّه أن يُزَحْزَحَ عن النار ويُدْخَلَ الجنة، فَلْتُدْرِكهُ موتتُه وهو يؤمن باللهِ واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يأتوا إليه، ومن بايع إمامًا فأعطاه صَفْقَةَ يمينه، وثمرةَ قلبه، فليُطعْه ما استطاع، فإن جاء آخرُ ينازعه، فاضربوا عنق الآخر". قال: فأدخلت رأسي من بين الناس، فقلت: أنشدك الله! أنت سمعت هذا من رسول الله ﷺ؟ قال: فأشار بيده إلى أذنيه، فقال: سمعتْه أذناي، ووعاه قلبي (١). وعن أبي موسى ﵁ قال رسول الله- ﷺ: "أمتي أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة (٢)، عذابها في الدنيا (٣): الفتن، والزلازل، والقتل" (٤).

(١) "صحيح ابن ماجه" رقم (٣١٩٥)، وانظر: "السلسلة الصحيحة" رقم (٢٠٥). (٢) قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى-: "وهو محمول على معظم الأمة المحمدية؛ لثبوت أحاديث الشفاعة: أن قومًا يُعذبون ثم يخرجون من النار، ويدخلون الجنة". اهـ. من "بذل الماعون في فضل الطاعون" ص (١٢٧). (٣) وفي "التاريخ الكبير" للبخاري (١/ ٣٨): "إن أمتي أمة مرحومة، جُعل عذابها بأيديها في الدنيا". (٤) أخرجه أبو داود (٤/ ١٠٥) (٤٢٧٨)، والحاكم (٤/ ٤٤٤)، والإمام أحمد (٤/ ٤١٠، ٤١٨)، قال الحاكم: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، وحسَّنه الحافظ =

1 / 10

وفي بعض طرقه: أن أبا بردة قال: بينما أنا واقف في إمارة زياد، إذ ضربت بإحدى يدي على الأخرى تعجبًا، فقال رجل من الأنصار- قد كانت لوالده صحبة مع رسول الله ﷺ: مما تعجب يا أبا بردة؟ قلت: أعجب من قوم دينهم واحد، ونبيهم واحد، ودعوتهم واحدة، وحجهم واحد، وغزوهم واحد، يستحل بعضُهم قتل بعض، قال: فلا تعجب، فإني سمعت والدي أخبرني أنه سمع رسول الله- ﷺ يقول: "أمتي أمة مرحومة" (١) فذكر الحديث. وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: وأخرج أبو يعلى -أيضًا- بسند صحيح من رواية أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة ﵁ قال: "إن هذه الأمة أمة مرحومة، لا عذاب عليها إلا ما عذبت به أنفسها، قلت: وكيف تعذب أنفسها؟ قال: أما كان يوم النهر عذاب؟! أما كان يوم الجمل عذاب؟! أما كان يوم صفين عذاب؟! " (٢).

= ابن حجر في "بذل الماعون" ص (١٢٧)، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (٩٥٩)، وانظر: "عون المعبود" (١١/ ٣٥٨ - ٣٦٠). (١) أخرجه الحاكم (٤/ ٣٥٣، ٣٥٤)، وقال: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، قال الألباني: "هو كما قالا، لولا الرجل الأنصاري الذي لم يُسَمَّ" "الصحيحة" رقم (٩٥٩). (٢) "بذل الماعون في فضل الطاعون" ص (١٢٧).

1 / 11

الحذر من الشر باب من أبواب الخير إن التحذير من الشر باب من أبواب الخير، قال حذيفة ﵁: "كان الناس يسألون رسول الله- ﷺ عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني" الحديث (١). فالدفع أسهل من الرفع، والتخلية مقدمة على التحلية، والوقاية خير من العلاج، وأحيانًا تكون العلاجَ الوحيد، والخبرة بالظلام تميزه عن النور، وتعصم من التورط فيه، فالضِّدُّ يُظِهر حُسْنَه الضدُّ، وبضدها تتميز الأشياء، قال أمير المؤمنين عمر ﵁: "يوشك أن يَهْدِمَ الإِسلامَ حَجَرًا حَجَرًا مَن جهل عاداتِ الجاهلية". عرفتُ الشرَّ لا للشرِّ ... لكنْ لتوقِّيه ومن لا يعرف الشرَّ ... من الخير يقعْ فيه قال الأستاذ محمَّد أحمد الراشد -حفظه الله تعالى-: "كان حذيفة ﵁ لا يقنع أن يشارك إخوته من الصحابة ﵁ سؤالَهم رسولَ الله ﷺ عن مكملات الخير الذي هم فيه، وما أن يشاركهم فرحهم بالخير حتى تلذع ابتسامةَ قلبِه تخوفاتٌ من احتمالات شَرِّ مبهم يراه مُقبِلًا، يجهل صفته وعلامته، فيظل قلقًا وجلًا، حتى ينعته له رسول الله- ﷺ ويذكر له بوادره ومقدماته التي ستنبهه يومًا ما إلى الاحتياط ورفع صوته بأذان التحذير.

(١) رواه البخاريّ في "صحيحه" (٩/ ٦٥).

1 / 12

كان يريد علمًا يكمِّل علم الخير، فصار يحرص على أن يخلو برسول الله ﷺ يسأله. يقول حذيفة ﵁: "كان الناس يسألون رسول الله- ﷺ عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني". فأتقن علم الشر بهذا الحرص، وأحاط خُبرًا بما سيكون من فتن وسوء ونفاق، حتى احتاج إلى علمه كبارُ الصحابة، وطفِق مثلُ عمرَ ﵁ يسأله، ويستشيره. والمغزى الأكبر هنا يكمن في استجابة رسول الله- ﷺ لحذيفة، وجوابه له، وقبولِهِ تعليمه علمَ الشر. لم يقل له: "إننا في خير، ونسير من نصر إلى نصر، فاصرف عنك الهواجس"؛ بل أجابه، وأعلمه. وإنما نستمد نحن مُسَوِّغاتِ تطرقِ بحوثِ فقهِ الدعوة لعلم الفتن والقواصم، وما ينجي منها من النور والعواصم، من مواطأة النبي ﷺ لحذيفة، وتزويده له بما أراد. نتعلم علم الشر كي نراه ونميزه قبل أن يغزونا" (١).

(١) "العوائق" ص (١٧٣ - ١٧٥).

1 / 13

من طبائع الفتن هذا، وإن للفتن طبائعَ وخصائصَ يُعين الاستبصار بها على تَوَقِّيها والنجاةِ منها، وما أكثر الفتن التي وقعت بسبب غياب البصيرة بهذه الطبائع. * فمن طبائع الفتن: أنها تتزين للناس في مباديها، حتى تُغْرِيهم بملابستها والتورط فيها. قال ابن عيينة عن خَلَف بن حوشب: كانوا يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن: قال امرؤ القيس: الحرب أول ما تكونُ فَتيّةً ... تَسْعى بزينتها لكلِّ جهُولِ حتى إذا اشتعلت وشَبَّ ضِرامُها ... ولَّتْ عجوزًا غيرَ ذاتِ حَليلِ شمطاءَ يُنكَرُ لونُها وتغيَّرت ... مكروهةً للشمِّ والتقبيلِ وكان خلف يقول: "ينبغي للناس أن يتعلموا هذه الأبيات في الفتنة" (١). وقال الإِمام ابن حزم (٢) -رحمه الله تعالى-: "نُوَّارُ الفتنةِ لا يَعْقِدُ" (٣).

(١) "السنن المأثورة للشافعي" ص (٣٤٤) رقم (٤٢٣)، "صحيح البخاري" (٩/ ٦٨) ط. دار الشعب. (٢) "الأخلاق والسير" ص (٨٤). (٣) وهذه الحكمة الرائعة من نتاج فكر ابن حزم الذي عاصر فتنة البربر في الأندلس، ورأى كيف كانت الآمال المعقودة على كل ثائر تنتهي بمآسٍ وأحزان وضحايا ودمار.

1 / 14

والنُّوَّار: الزهر؛ ويقال: عَقَد الزهرُ: إذا تضامَّتْ أجزاؤه فصار ثمرًا. ومعنى كلام ابن حزم أن للفتنة مظهرًا خادعًا في مبدئه، حتى يستحسن الناسُ صورتَها، ويعقدوا الآمال عليها، ولكن سُرعان ما تموت وتتلاشى، مثل الزهرة التي تموت قبل أن تتفتح، وتُعطيَ ثمرتها. * والفتن، تذهب بعقول الرجال، وتستخفهم ببُداءاتها: عن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: "أخاف عليكم فتنًا كأنها الدخان، يموت فيها قلبُ الرجل، كما يموت بدنه" (١). وعن حذيفة بن اليمان ﵁ قال رسول الله ﷺ: "تكون فتنة تعرجُ فيها عقولُ الرجال، حتى ما تكاد ترى رجلًا عاقلًا" (٢). وعنه ﵁ قال: "ما الخمر صِرفًا بأذهب بعقول الرجال من الفتنة" (٣). وعن أبي موسى الأشعري ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: "إن بين يدي الساعة الهَرْجَ" قالوا: وما الهرجُ؟ قال: "القتل، إنه ليس بقتلكم المشركين، ولكن قتلُ بعضِكم بعضًا، حتى يقتل الرجل جاره، ويقتل أخاه، ويقتلَ عمَّه، ويقتلَ ابنَ عمه" قالوا: ومعنا

(١) رواه نعيم بن حماد في "الفتن" (١/ ٦٥)، رقم (١١٧). (٢) رواه نعيم في "الفتن" (١/ ٦٢) رقم (١٠٧)، وصححه الهندي في "كنز العمال" (١١/ ١٧٩) رقم (٣١١٢٦). (٣) رواه أبو نعيم في "الحلية" (١/ ٢٧٤)، والصِّرف: غير الممزوج بغيره.

1 / 15

عقولُنا يومئذٍ؟ قال: "إنه لَتُنزَع عقولُ أهلِ ذلك الزمان، ويَخْلُفُ له هباءٌ (١) من الناس، يحسب كثرهم أنهم على شيء، وليسوا على شيء"، قال أبو موسى: "والذي نفسي بيده ما أجد لي ولكم منها مخرجًا إن أدركتني وإياكم - إلا أن نخرج منها كما دخلنا فيها، ولم نصب منها دمًا ولا مالًا" (٢). وقد حدد حذيفة ﵁ مِحَكًّا يقيس به الإنسان مدى تأثره بالفتنة، فقال ﵁: "إن الفتنة تُعرضُ على القلوب، فأيُّ قلبٍ أُشرِبها: نُكِتت فيه نكتة سوداءُ، فإن أنكرها: نكِتت فيه نكتة بيضاءُ؛ فمن أحب منكم أن يعلم: أصابته الفتنةُ أم لا؟ فلينظر: فإن كان يرى حرامًا ما كان يراه حلالًا، أو يرى حلالًا ما كان يراه حرامًا، فقد أصابته الفتنة" (٣). * والفتنة- إذا جُففت منابعُها، وسُدت ذرائعها، وحُسِمت مادةُ أوائلها، وأُخِذَ علي أيدي سفهائها، ولم يُلتفت لقولهم: "ما أردنا إلا الخير" - سَلِمت الأمةُ من غوائلها، وكُفي الناسُ شرَّها. عن النعمان بن بشير ﵁ عن النبي ﷺ قال: "مثل القائم. على حدود الله والواقع (وفي رواية: والراتع) فيها، [والمدهِن فيها]؛ كمثل قومٍ استهموا على سفينةٍ [في البحر]

(١) هباء: أي قليلو العقل، أراذل، وهو في الأصل: الغبار المُنبثُّ. (٢) رواه الإِمام أحمد رقم (١٩٤٩٢) (٣٢/ ٢٤١)، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (١٦٨٢). (٣) "حلية الأولياء" (١/ ٢٧٢،٢٧٣).

1 / 16

فأصاب بعضُهم أعلاها، و[أصاب] بعضُهم أسفلَها [وأوعرَها]، فكان الذي (وفي رواية: الذين) في أسفلها إذا استقوا من الماء فمروا على من فوقهم، [فتأذوا به] (وفي رواية: فكان الذين في أسفلها يصعدون فيستقون الماء، فيصبون على الذين في أعلاها، فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتوذوننا). فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا [فاستقينا منه] ولم نؤذِ مَن فوقنا (وفي رواية: ولم نمرَّ على أصحابنا فنؤذيهم)، [فأخذ (١) فأسًا، فجعل يَنْقُرُ أسفلَ السفينة، فأتوه فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي، ولا بُدَّ لي من الماء]، فإن تركوهم وما أرادوا؛ هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم؛ نجوا، وأنجوا جميعًا" (٢). وكان النعمان بن بشير ﵄ إذا سرد هذه الحديث يقول قبله: "يا أيها الناس، خذوا على أيدي سفهائكم"، فإذا سرده عاد فقال: "خذوا على أيدي سفهائكم قبل أن تهلكوا" (٣). "ولقد صدق الصادق المصدوق ﷺ وصدق النعمان ﵁ فكم من مخلصٍ جاهل يسلك سبيل صاحب الفأس هذا في سفينة الدعوة؟ ذاك حمل فأسًا، وصاحبنا يحمل اللسان.

(١) أي: أحدُهم. (٢) رواه البخاري (٥/ ١٣٢ - فتح)، والترمذي (رقم: ٢١٧٣)، والأمام أحمد (٤/ ٢٦٨، ٢٦٩، ٢٧٠)، واللفظ من "السلسلة الصحيحة" رقم (٦٩). (٣) "الزهد" لابن المبارك ص (٤٧٥).

1 / 17

إنه يهدم، ويشكك، ويثبط، ويفرِّق، ويعصى، كل ذلك بدعاوى حسن النية، والنقد الذاتي، إنه يجهل أن القانون على السفينة إنما هو قانون العاقبة دون غيرها، فالحكم لا يكون على العمل بعد وقوعه، بل على الشروع فيه، بل على توجيه النية إليه، فلا حرية هنا في عملٍ يُفسد السفينة ما دامت ملجَّجة في بحرها، سائرة إلى غايتها. إن كلمة (الخرق) لا تحمل في السفينة معناها الأرضي، بل معناها البحري، فهناك لفظة (أصغر خرق) ليس لها إلا معنى (أوسع قبر) .. في قاع المحيط المظلم، لو تُرك هذا الخرق الصغير وشأنه. وكذا حسن النية، إنه لا يحمل عندنا في علاقاتنا معناه الأخروي الذي يحاسب الله بموجبه عباده، فالإفساد واحد حتى وإن كان بنية حسنة. أفما رأيت حالة هذه الطائفة التي في (الأسفل) تعمل لرحمة من هم في (الأعلى)؟ إنها قصة القواعد الساذَجة مع القيادات العاملة: عواطف ملتهبة .. لكنها بادرة. ومشاعر صادقة .. لكنها كاذبة. ورحمة خالصة .. لكنها مهلكة، إنهم المصلحون إصلاحًا مخروقًا" (١).

(١) انظر: "العوائق" ص (٢١٠ - ٢١٢)، "وحى القلم" (٧١٣).

1 / 18

* ومن طبائع الفتن: أنها متى ما وقعت فإنها سَرعان ما تتطور، وتخرج عن حدود السيطرة، حتى إنها لتستعصي على من أشعلوها إن حاولوا إطفاءها. قال بعض أشياخ الشام: "مَن أعطى مِن نفسه أسبابَ الفتنةِ أولًا، لم ينجُ آخِرًا، ولو كان جاهدًا". وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى-: "والفتنة إذا وقعت عجز العقلاءُ فيها عن دفع السفهاء ... وهذا شأن الفتن كما قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ [الأنفال: ٢٥]، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله (١).

(١) "منهاج السُّنَّة النبوية" (٤/ ٣٤٣).

1 / 19

نور الفطنة ييدد ظلمات الفتنة ويتفاوت الناس في مدى استبصارهم بحقيقة الفتنة، واستجلاء عواقبها، تَبَعًا لما أوتوه من التقوى، والفقه. "فالقلب كالعين في إبصارها، فتجد عينًا لا تبصر البعيد، وأخرى لا تبصر بمجرد وجود ضباب طفيف، أو غبار خفيف، فضلًا عن أن تكون في ظلام، فإبصار القلب تابع لقوة الفقه، ونور الإيمان، ومقدارهما" (١). وقد شَبَّه النبي ﷺ الفتنة بقطع الليل المظلم، أي: الذي لا قمر فيه ولا ضياء، فالساري فيه على شفا هلكة إن لم يكن معه نور يبصر به مواقع قدمه، وهو في حال الفتن نور العلم الذي يكشف أهلَها، ويبين حالها. قال حذيفة ﵁: "لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك، إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل". وقد سمَّى الله تعالى كتابه العزيز نورًا؛ فقال -عز من قائل-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (١٧٤)﴾ [النساء: ١٧٤]، وقال سبحانه: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨)﴾ [التغابن: ٨]، وقال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٧].

(١) "العوائق" ص (٢٩).

1 / 20