المقدمة
دنيا الأحلام والأماني
شو في حياته الشخصية
هؤلاء علموا برنارد شو
الصداقة حب على مستوى عال
العبقري في زواجه
الاشتراكية مذهب شو
الاشتراكية الإنجليزية وحزب العمال
أسلوب شو
شو وويلز
Неизвестная страница
شو وتولستوي وشكسبير
المسرح وسيلة للتربية
الزواج في درامات شو
الفقر . الفقر . الفقر
أولى درامات شو
التربية مهمة العمر
فكرة السبرمان عند شو
كتاب السبرمان
يجب أن نعيش ألف سنة
الدين كما يؤمن به شو
Неизвестная страница
إصلاح الهجاء الإنجليزي
شو والطب والأطباء
شو في سنيه الأخيرة
سطور من الآنسة باتش
كلمات برنارد شو
سطور أخيرة
المقدمة
دنيا الأحلام والأماني
شو في حياته الشخصية
هؤلاء علموا برنارد شو
Неизвестная страница
الصداقة حب على مستوى عال
العبقري في زواجه
الاشتراكية مذهب شو
الاشتراكية الإنجليزية وحزب العمال
أسلوب شو
شو وويلز
شو وتولستوي وشكسبير
المسرح وسيلة للتربية
الزواج في درامات شو
الفقر . الفقر . الفقر
Неизвестная страница
أولى درامات شو
التربية مهمة العمر
فكرة السبرمان عند شو
كتاب السبرمان
يجب أن نعيش ألف سنة
الدين كما يؤمن به شو
إصلاح الهجاء الإنجليزي
شو والطب والأطباء
شو في سنيه الأخيرة
سطور من الآنسة باتش
Неизвестная страница
كلمات برنارد شو
سطور أخيرة
برنارد شو
برنارد شو
تأليف
سلامة موسى
المقدمة
هذه تجربة أولى للترجمة بحياة برنارد شو وأعماله، رجوت أن أحقق فيها بعض ما أريد عن هذا الأديب الفيلسوف الذي حفل الصف الأول من هذا القرن بأفكاره وآرائه وتوجيهاته.
وكنت - منذ أكثر من ثلاثين سنة - على نية إخراج كتاب عنه، ولكن كان يمنعني ما أحسه من الجمود العام في الجمهور، وهو جمود كانت تؤيده قوات رجعية عديدة مثل القصر، والاستعمار، ودعاة التقاليد.
وقد كان كل هؤلاء في تحالف خفي غير واع، أو واع لأنهم كانوا يستغلون الشعب ويكرهون ارتقاءه الذي يحيف بامتيازاتهم وينتقص من قوة مراكزهم ومبلغ ثرائهم، ولكن الهواء الجديد الذي هبت نفحاته منذ قيام الثورة في 1952 قد أتاح لي التفكير في هذا الكتاب والتفريج عما اختمر واحتبس في نفسي طوال السنين الماضية.
Неизвестная страница
وكتابي هذا للعقول المفتوحة التي ترحب بالأفكار، وتجترئ على تخطيط المستقبل، وتضع البرامج للحياة، وليس هو للعقول المقفلة التي تضع التقاليد فوق التطور، وتستسلم للغيبيات التي كان يؤمن بها الفراعنة قبل خمسة آلاف سنة، والتي تعتقد أن الفقر من سنن الطبيعة، وأنه خالد لا يمكن محوه من المجتمع البشري.
هؤلاء المستحيلون الذين ارتضوا لأنفسهم إغلاق عقولهم، ووضعوا العقيدة المريحة المرفهة فوق الشك المقلق، هم علة تأخرنا، وقد كافحتهم نحو نصف قرن، ولكني لا أستطيع أن أقول إني نجحت في تغييرهم؛ فإن قوات الظلام التي يتخبطون فيها ويعتمدون عليها أكبر من قوات النور، ثم أنا فرد وهم جماعة، ولا أكاد أجد أديبا آخر يحمل عبء المكافحة لهم غيري؛ لأن أدباءنا أو من يسمون «أدباء» قد فروا من معارك القرن العشرين إلى معارك نائية في أعماق التاريخ قبل خمسمائة أو ألف سنة؛ ولذلك بدلا من أن يؤلفوا عن الفقر في مصر، أو عن استبداد أسرة محمد علي، أو عن استعمار الإنجليز لوطننا وشعبنا، أو عن الجهل العام بالقيم الانفجارية في العلوم العنصرية، أو عن الاشتراكية الإنسانية التي تدعو إلى الإخاء البشري ... أقول قد فر أولئك الذين نسميهم «أدباء» إلى شغل أذهانهم بقضايا ومشكلات منفصلة من تاريخنا الحاضر؛ ولذلك رأينا من هؤلاء الأدباء الفارين من يكتب عن أبي نواس أو ابن الرومي أو الخوارج أو المأمون، أو أسلوب الجاحظ، أو أدب المتنبي، أو نحو ذلك، ويوهم الجمهور أنه يعالج بهذه المؤلفات صميم الأدب.
وكل هذا فرار من مشكلات مصر الحاضرة، وكلمة «فرار» هي آدب كلمة أصف بها مؤلفات هؤلاء الكتاب؛ لأني لا أحب أن أقول إنهم تعمدوا الكتابة عن هذه الموضوعات النائية كي يشغلوا شباب الشعب المصري ويغشوه بها بدلا من أن يوجهوه إلى مشكلاتنا الحاضرة ويخلصوا له.
والأدب يجب ألا ينفصل عن المشكلات الاجتماعية والسياسية، أي يجب أن يلصق بشئون المجتمع وارتقاء الشعب نحو القيم الإنسانية.
وفي آراء برنارد شو الأدبية ما يحل هذه المشكلات، وقد يجد فيها أصحاب العقول المقفلة ما يعد كفرا بالعقائد والأخلاق، وليست هذه العقائد والأخلاق سوى عادات اجتماعية أو عادات ذهنية، والتزامها فيه تجمد يعوق التطور، وحسبنا تجمدا مئات السنين الماضية، بل حسبنا هذا التجمد إزاء القوات الجديدة التي تهب علينا بنارها.
إن إسرائيل تصنع الهيدروجين النظير الذي يعد أساسا للقنبلة الهيدروجينية أو جزءا فيها، فهل نجمد بعد هذا أو نرفض التطور ونؤلف عن أبي نواس؟ أو هل يرضينا أن نؤلف عن الأساطير القديمة - مثل أهل الكهف - ونسمي هذا التأليف فنا راقيا؟
لقد منعنا التفكير اليساري منذ الحرب الكبرى الأولى - والتفكير اليساري هو التفكير العصري - فوجد «أدباؤنا» الطمأنينة والأمن والسلام في الفرار من كل ما يمس العصر الحاضر، وجعلوا يؤلفون عن القرون الماضية، وأحبتهم حكومات المستبدين لهذا السبب، كما كرهت أولئك الكتاب اليساريين الذين اشتبكوا في معارك الذهن السياسية والاجتماعية العصرية، لم تكرههم فقط، بل حبستهم وعذبتهم.
يجب أن نقول لأدباء مصر: العبوا كما تشاءون، ولكن اتركوا أولئك الذين يجدون أن عقولهم تبصر كما أن عيونهم تنظر، اتركوهم كي يعالجوا الشئون العصرية في مصر، اتركوا اليساريين واتركوا الاشتراكيين، اتركوا الأحرار كي ينبهوا الشعب إلى الأخطار التي تواجهه وأيضا إلى الفرص التي تنتظره.
إننا نحتاج إلى تجديدات لا إلى تقاليد، ونحتاج إلى استخدام العلوم لترقية اقتصادياتنا وأيضا كي نتعلم منها كيف نصنع الهيدروجين النظير.
ونحتاج إلى أدب يكتب لأبناء القرن العشرين عن شئون القرن العشرين، وليس عن شئون القرن الرابع أو العاشر.
Неизвестная страница
نحتاج إلى أدب الأفكار، لا إلى أدب الألفاظ.
وسيشبع القارئ أفكارا من هذا الكتاب، ولكني أرجو أولئك الذين يجهلون الأدب الإنجليزي أن يقرأوا مع هذا الكتاب كتابي الآخر: «الأدب الإنجليزي الحديث»؛ إذ هو تمهيد وتقديم لدراسة شو.
دنيا الأحلام والأماني
قل أن نجد عظيما في شأن من الشئون البشرية إلا وله هوسة أو لوثة قد أصابته وهو في شبابه، وهذه الهوسة واللوثة على الرغم مما يبدو لأصدقائه أو عارفيه كما لو كانت غفلة أو سماجة أو وقاحة، إنما تدل على يقظة الوعي، وأنه قد شرع يستقل في تفكيره ويسأل: لماذا الحكومة؟ لماذا الدين؟ ما هي السعادة؟ ما هي الحضارة؟ ما هو الحب؟
وهو في شبابه يتحسس المبادئ ويقارن بين الأحلام والحقائق ويرفض التسليم بالقواعد، ويحاول أن يبتكر في نظم المجتمع أو نظام حياته، وقد يسخف في بداياته ومحاولاته، ولكنه ينتهي منها إلى الدرس الجاد وإلى الأفكار الناضجة التي يستقر بها على فلسفة ويقين.
وكلنا سواء في رؤية المساوئ التي تحفل بها الحضارة، بل الحضارات قديمها وحديثها، وليس منا من ينكر المظالم التي تقع بالملايين من البشر، والبؤس الذي عاناه ويعانيه الناس من الحرق قديما والاستعمار حديثا، وإرهاق العواطف بسوء العلاقات البشرية، والتكاليف الباهظة التي تطالبنا بها الحضارة.
وكثيرون من الشبان وقفوا فيما بين العشرين والثلاثين من أعمارهم يسألون: لماذا كل هذا العذاب؟ لماذا لا يكون هناك مجتمع عادل نعيش فيه في بساطة لا ترهق وحرية لا تستباح، وإخاء عام يشملنا بالحب؟
ونحن في هذه الفترة نحلم ونتمنى، وتزيد أحلامنا وأمانينا عندما يزيد الإرهاق وتكثر المظالم؛ ولذلك ننفجر بالثورة لتحقيق بعض من هذه الأحلام والأماني في تلك الأوقات.
ونحن نحلم لأنفسنا ونحلم للمجتمع.
والشاب حين يحلم لنفسه وشخصه - بشأن الحب والزواج والعمل والكسب - إنما يبني حياته أو بالأحرى يؤسسها، وهو يدرس ويكد كي يحقق ما يحلم به، بل كثيرا ما أجد الموظف الذي دخل في العقد السادس من عمره يحلم ببضعة الفدادين التي يشتريها عند بلوغه سن الإقالة، ويحيا فيها حياة السذاجة والقناعة ويتخلص بها من تكاليف الحضارة الباهظة التي يعانيها في إقامته بالمدينة، وكلنا نهفو في أي وقت من أعمارنا، إلى تمضية بضعة أسابيع في المصايف الساذجة حيث نستطيع التخلص من تكاليف الحضارة وحيث نسترخي دون أن نقيد بنظام أو ميعاد.
Неизвестная страница
والريف بنضرته وسذاجته، وحيواناته وأشجاره، وقناعة سكانه، هو أقرب الحقائق إلى الأحلام، وريفنا في مصر يحفل بالبؤس والقذر والمرض وسائر مخلفات الإقطاعين المستكرشين، ومع ذلك نجد بيننا من الشيوخ المتعبين من يحلم ويبني أمانيه على تمضية سني العمر الأخيرة فيه، أما ريف أوربا فمن أجمل الأرياف في العالم؛ ولذلك يصح أن يكون من الأماني وأن يحلم به الحالمون، ولعل أعظم ما يفصل بين الريف الأوربي والريف المصري أن الأول عرضة لأن تغسله الأمطار ثلاث أو أربع مرات في الشهر؛ ولذلك تبنى قراه بالحجر ويبقى نظيفا، بل ناصعا، كما يخلو من الغبار، أما ريفنا الذي تبنى منازله بالطوب الأخضر، والذي يجف فيه الهواء، فيمتلئ بالغبار ويحفل بالقذر، ومع كل ذلك ما يزال موضع الأماني لما فيه من سذاجة العيش واسترخاء الحياة عند الذين تعبوا وتوتروا من حضارة المدن.
ولكن الحالمين الذين يمعنون في أحلامهم لا يقنعون أحيانا بالريف، فيتجاوزونه إلى البكر من الأقاليم النائية عند البدائيين أو المتوحشين، وهم ينزعون إليه بخيالهم بحسبان أنه يخلو تماما من تلك المركبات الحضارية التي تربك المتحضرين وتعقد حياتهم وترهقهم بالتكاليف والنظم.
وعندما تفسد الحضارة وتحفل بالمظالم يهفو الخيال إلى هذا الحلم.
وكانت الحضارة على أفسدها في فرنسا قبيل الثورة الفرنسية؛ ولذلك رأينا اثنين من أعظم الأدباء يدعوان إلى السذاجة والفرار من الحضارة، أولهما «جان جاك روسو» الذي عزا إلى الحضارة جميع الكوارث حتى كارثة زلزال لشبونة ودعا إلى العيش الساذج، وثانيهما «برناردان سان بيير» الذي نقلنا في «الكوخ الهندي» إلى مكان ناء في أقصى أفريقيا حيث يعيش المحبان في كوخ لا يزعجهما حسد من المجتمع أو ضرائب من الحكومة، أو ترف مزعج من اللباس والطعام، أو مواعيد مؤقتة بالساعة والدقيقة للعمل والكسب.
وقد قرأ نابليون هذه القصة ودعا المؤلف وطلب إليه أن يؤلف كوخا هنديا «آخر»، والعبرة هنا أن نابليون على الرغم من أنه كان على قمة الحضارة، يسعد بكل ما فيها من وسائل الإسعاد، كان ما يزال مثلنا جميعا يهفو إلى حياة السذاجة والقناعة التي رسمها المؤلف في «كوخ».
غاندي مع عنزته وفي شملته، وتولستوي في ريفه، وطعام النبات بدلا من طعام اللحم، والحياة الجديدة الخالصة من شوائب المجتمع، كل هذه أحلام حلم بها بعضنا، وهو وإن لم يستطع النزول على شروطها والعمل بقواعدها، قد انتفع بها؛ لأنها حفزته إلى التفكير والمراجعة، وما أسميه «يقظة الوعي » لأنه صحا وسأل وحاول.
والشاب الذي يستسلم للقواعد الاجتماعية، ولا يكابد قط مثل هذه الارتباكات، ولا يفكر في المشكلات التي يخلقها لنفسه، مثل هذا الشاب لن يصل إلى يقظة الوعي ولن يفلسف ولن يبتكر، وهو عجوز في سن الثلاثين يحيا بإيمان العجائز في سن الثمانين. •••
في سنة 1881 ظهر رجل أمريكي في لندن به لوثة أو هوسة (كما ذكرنا في أول هذا المقال) يدعى «دافيدسون» دعا إلى ما يسمى «الحياة الجديدة».
وكان لهاتين الكلمتين إغراء له قوة السحر في نفوس الشبان والفتيان والكهول والشيوخ، فما هو أن كان يعلن عن اجتماع يلقي فيه خطبة عن هذا الموضوع حتى كانت المئات تهرع إليه، وكل منهم في شوق لأن يسمع شيئا جديدا في وسط هذه الحياة اللندنية التي كانت تحفل وقتئذ بالمظالم الاجتماعية والتفاوت في الكسب وقلة الطمأنينة على العيش، بل كانت الحكومة البريطانية نفسها تعد العدوان تلو العدوان لضرب الشعوب وخطف أرزاقها كما فعلت بنا في السنة التالية (1882).
وكان الناس يسمعون من هذا الخطيب أننا يجب أن نحيا حياة جديدة، لها قيم جديدة، تلغي التقاليد والعادات القديمة، فلا ننشد الثراء بل نكتفي بقناعة العيش الرخيص الساذج الذي لا يكلفنا الثمن الباهظ، بل لا يرهقنا الحصول عليه، وعلينا أن نلبس اللباس الساذج، ولا نتزوج إلا عن حب، ولا نعامل إلا بالعدل، ولا نسكن إلا الأكواخ، ويجب ألا يستأثر حب الكسب بوقتنا؛ لأننا يجب أن نقنع من الكسب بما يكفينا، وأن نرصد معظم وقتنا للدرس الجاد والاستمتاع الناضج والتفكير الفلسفي.
Неизвестная страница
حياة «الكوخ الهندي» من جديد، ولكن بلا رحلة إلى أفريقيا.
ولم ينجح دافيدسون في إقامة مجتمع على هذه القواعد، ولكنه نجح في إنشاء جمعية يرتبط أعضاؤها بالنية والعزم على أن يحيوا حياة جديدة، وكانت المحاضرات تلقى، والمناقشات تحتدم في هذه الجمعية عن الجديد والنافع والسامي في الحياة.
ثم يكون من المناقشات والمحاضرات انبعاثات جديدة في التفكير والفهم إلى رحاب واسعة من التجارب والاقتحامات في «يقظة الوعي»، فنجد عشرات من المطاعم النباتية تنشأ في لندن ويقصد إليها الإنسانيون الذين يأنفون من جعل بطونهم قبورا للحيوانات، ويبدأ برنارد شو حياته في مقاطعة اللحوم، ويعيش سبعين سنة لا يذوق اللحم، ويترك الأديب الإنجليزي «إدوارد كاربنتر» أعماله في لندن ويقصد إلى الريف الإنجليزي حيث يزرع بيده الكرنب والبطاطس ويأكل من عرق جبينه ويؤلف كتابا بعنوان: «مرض الحضارة وكيف نعالجه؟»، ونجد العالم الطبيب «هافلوك أليس» يؤلف ستة مجلدات عن الحب والزواج والعلاقات الجنسية، ويتزوج الآنسة لي، ويحيا كل من الزوجين في منزل منفصل عن الآخر، ويشرع «رمزي مكدونالد» في الدعوة إلى الاشتراكية ويرأس حزب العمال.
ويؤلف ثلاثة من الأدباء، هم: وليم موريس وتشسترون وبيلوك مؤلفاتهم عن ضرورة ترك الحضارة الحديثة والرجوع إلى حضارة القرون الوسطى، بل إنهم دعوا إلى العمل باليد بدلا من العمل بالآلة.
وتؤلف «الجمعية الفابية» لإيجاد سياسة جديدة غير سياسة المحافظين والأحرار تستهدف العدالة الاجتماعية.
وتنمحي جمعية الحياة الجديدة، ولكن تبقى الخمائر التي بعثتها في أعضائها والتي لا تقل في قيمتها عن الخمائر التي بعثها جان جاك روسو في دعوته السخيفة إلى ترك الحضارة والعودة إلى سذاجة الطبيعة، فقد نسينا هذه الدعوة ولكن بقي منها لنا بعد 150 سنة جملة مركبات سيكولوجية تمس أساليبنا في العيش مثل الاستحمام في البحر، والإقامة على الشواطئ، ودراسة الزهور وغرسها، والتجوال في الريف، إحساس ديني جديد نحو الطبيعة يحملنا على درسها بالميكرسكوب ورسمها بالألوان.
كان البحر موجودا منذ آلاف السنين، كما كانت الحقول موجودة، ولكننا كنا في غيبوبة لا نراهما، ففتح روسو عيوننا وأيقظ عقولنا فرأيناهما.
وكذلك الشأن في جمعية الحياة الجديدة التي ألفها دافيدسون الأمريكي، فقد ماتت هذه الجمعية ولكن خمائرها بقيت تنمو أفكارا حية، فكانت منها تلك المعاني الجديدة بشأن الاستعمار ومعاملة المجرمين وتربية الأطفال وحرية المرأة وضمان العيش للعمال وتعويض المعطلين وبناء الدولة للمساكن وإيجاد المستشفيات المجانية وحزب العمال ... إلخ.
اعتبارات جديدة في الحياة الاجتماعية كان يحلم بها دافيدسون في غموض الأحلام وظلالها، وكان يهتف بها قلب إدوارد كاربنتر وهو يزرع الكرنب، كما شرع برنارد شو يفكر فيها ويشرحها ويقلبها في دراماته الأربعين أو الخمسين.
أجل، إن مثل هذا الوسط الحي الذي يجيز تأليف الجمعيات التي تبعث الأحلام في الشبان هو الذي يربي الأدباء لأن يتيح لهم جوا يتحمل التفكير البكر المثمر والأحلام الجريئة الذكية، وهو جو ما زلنا في مصر نفتقده ولا نجده.
Неизвестная страница
إننا نبدأ حالمين وننتهي محققين، فلا تعاكسوا أحلامنا لأنكم بهذه المعاكسة تمنعون تفكيرنا.
شو في حياته الشخصية
نستطيع أن نستخلص حياة الكاتب من مؤلفاته، ونعني هنا أخلاقه وأهواءه وفلسفته، وذلك لأن اهتمامات الكاتب في مؤلفاته هي أيضا اهتماماته في حياته الشخصية، وهو لا يستطيع أن يفصل بينها إلا عندما يكون مأجورا يؤدي خدمة لغيره، وحتى هنا لا يخلو الكاتب من الزج بشخصيته - بل بنفسه التي وراء الشخصية - فيما يؤدي من عمل يؤجر عليه وينافق فيه؛ لأنه لا يتمالك التعبير بكلمات وسطور تتسلل إليه من حيث لا يريد.
ولسنا في حاجة إلى أن نستخلص حياة شو من مؤلفاته؛ فإن سيرته منذ ميلاده تقريبا معروفة مكشوفة، وكثيرا ما عني هو بالكشف عنها في مؤلفاته في عبارات صريحة لا تحتاج إلى تأويل وتخريج.
مقدماته المسهبة لمؤلفاته، وكذلك بحوثه الاجتماعية، تحتوي الكثير من ترجمته الشخصية أيام طفولته وشبابه؛ ولذلك نحن لا نتعب في التعرف إلى العوامل التي تكونت بها شخصيته.
فقد ولد ونشأ في صباه في «دبلين» عاصمة أرلندا، وكانت عائلته من الأرلنديين البروتستانت الذين يعدون أنفسهم - بحق - أرقى من الأرلنديين الكاثوليك الذين تعزلهم تقاليد الكنيسة ويفسد نفوسهم التعصب الديني ويؤخرهم استمساكهم بالتقاليد، وكان أبوه سكيرا فاشلا في جميع ما تناول من أعمال، ولكن برنارد شو كان يحبه، وهو يذكره بالحنان والتقدير، أما أمه فكانت فنانه تحسن العزف على البيان كما تحسن الغناء، وكانت تحتقر زوجها لإدمانه على الشراب، وكان برنارد شو يكرهها؛ ولذلك لا يكاد يذكرها بكلمة طيبة في جميع ما كتب، بل إنه عندما ماتت كان يضحك في جنازتها حتى لامه بعض أصدقائه.
وظني أن أعظم ما جعله يكره أمه أنها كانت تحتقر والده وتعامله كما لو كانت تشمئز منه، وكان ذلك أيام طفولته حين لم يكن هو يقدر مسئولية هذا الأب أمام الزوجة والأطفال، بل لم يكن يدرك معاني الانهيار في شخص أبيه الذي يعود مساء كل يوم إلى البيت مخمورا، بل لعل الطفل برنارد شو كان يستظرف من أبيه هذا الموقف ويحبه من أجله.
ومما زاد برنارد شو كراهة لأمه أنها هجرت بيت الزوجية في دبلين وسافرت إلى لندن مع ابنتها بعد أن تركت الصبي شو مع أبيه، وهذا عمل قاس لا يستطيع الابن أن ينساه من أمه.
وهذا التفكك في العائلة ينطوي على احتمالين: أحدهما: أن يستهتر الصبي ويأخذ بالقيم الأخلاقية لأبيه وأمه وهما في هذا الانحلال، ثم ينشأ بلا أخلاق تتماسك بها شخصيته، وكثيرا ما يحدث هذا.
والاحتمال الثاني: أن يستيقظ وعيه، ويرى خطورة مركزه بين هذين الأبوين الناقصين، فيعتمد على نفسه، ويحس المسئولية، ويتبصر ويهدف؛ وعندئذ يشرع في تربية نفسه، وهذا هو ما حدث لبرنارد شو كما حدث من قبل لمكسيم جوركي الذي عانى مثل هذه الظروف، بل أسوأ، في عائلته.
Неизвестная страница
وقد ولد برنارد شو في 1856، ونشأ في وسط أرلندي جامد تستولي الكنيسة الكاثوليكية على حياته الاجتماعية وتوجهها وجهة دينية أخرت أرلندا وجعلت الإنجليز يستغلونها ويستعمرونها، وبقي شو فيها إلى حوالي سن العشرين، أمضى منها بعض السنوات في مدرسة ابتدائية كانت كل ما كسب من التعليم المدرسي، ثم حين هجرت أمه البيت إلى لندن بقي هو مع أبيه وعمل «محصلا» يجمع إيجارات المباني التي تملكها إحدى المؤسسات، وكان يحصل على أجر متواضع، ولكنه كسب ما هو أكبر من الأجر، إذ درس أحوال السكان الفقراء في المساكن التي كان يجمع منها مبالغ الإيجارات، وعرف كيف يستغل المالكون العمال الأجراء.
وكان أول ما كتب في الصحف كلمة في جريدة يومية في دبلين قال فيها إنه لا يؤمن بالله، كتبها حين كان عمره لا يزيد على ثماني عشرة سنة، ودلالة هذه الكلمة ليست في انحرافه الديني وإنما في إيضاحها لنا كراهته لوسطه الاجتماعي، وما كان يحس من تعصب الكاثوليك نحوه وهو بروتستانتي.
وكان في ذلك الوقت يعيش مع أبيه، ويبدو أن التلاؤم كان تاما بينهما على الرغم من إدمان الأب للخمر، وكما يحدث كثيرا في مثل هذه الحالات، كره برنارد شو الخمور بل قاطعها طيلة عمره؛ لأن أعظم ما يكف الإنسان عن رذيلة ما أن يعاشر أبا يمارسها ويراه وهو يتمرغ فيها.
ولا نعرف أنه ذاق الخمور إلا في السنوات الأخيرة من عمره حين تجاوز التسعين أو قاربها؛ فإنه وجد في هذه السن أن زوجته وأصدقاءه، بل إن أبناء جيله الذين كان يعرفهم، قد ماتوا جميعهم، فكان إذا انفرد في الليل، وأحس الوحدة والوحشة، تناول شيئا من الويسكي للتخفيف من توترات الشيخوخة.
ولما وصل إلى لندن قصد إلى أمه حيث كانت تسكن مع ابنتها في مسكن متواضع وتكسب عيشها بتعليم الغناء، ولم يسعد برنارد شو بعشرة أمه وأخته؛ وذلك لأنه كان يجد توبيخا دائما لأن لا يعمل ويكسب، بل يعتمد على أمه كي تكسب وتعوله، وبقي على هذه الحال نحو سبع أو ثماني سنوات، كان يحاول في أثنائها أن يؤلف القصص وأن يجد في الأدب حرفة يعيش منها ولكنه لم يفلح، وكان إصراره على احتراف الأدب يحنق والدته وأخته، حتى إن هذه حرضت والدتها على جهاده، ولعل هذه السنوات قد تركت في نفسه مرارة نحو أمه.
ولكن الواقع أن الأم والبنت كانتا معذورتين في إحساسهما نحوه بأنه عاطل فاشل، ولم تكن واحدة منهما تتوقع القدرة الكاملة في هذا الإنتاج الضخم الذي ملأ به أوربا وجعل المسارح تتبارى في تمثيل دراماته.
وكانت هذه السنين العجاف، سني التضرع للأم بأن تعطيه «مصروف جيبه» هي أيضا سني التكمل لشخصيته وبنائها على أساس آخر يحتاج إلى عزيمة وإصرار؛ فإنه قاطع القهوة والشاي والتدخين (لم يدخن قط في حياته) والشراب، بل قاطع اللحوم في الطعام.
وكانت هذه السنين أيضا سني الامتصاص الثقافي، فقد كان يقصد كل صباح إلى «المتحف البريطاني» الذي يضم أكثر من أربعة ملايين كتاب، فكان يختار ويقرأ ويربي شخصيته الفنية الأدبية.
وظني أن الأديب الحق هو الذي «يصنع نفسه» بهذا الأسلوب؛ أي هو الذي يختار ويدرس وفق حاجاته النفسية، فيختار بذلك أصح الغذاء؛ أي يقرأ ويدرس كلما أحس الحاجة النفسية، ثم له حرية الرفض عندما لا يحب، فتنشأ نفسه وتنمو شخصيته وهي على استيفاء للغذاء دون إكراه.
ولذلك ليس من اليسير أن تعلم أحدا الأدب في جامعة؛ لأنك تفرض غذاء قد لا يسيغه، وتحرق غذاء يسيغه، وكان في مقدوره أن يختاره لو كان حرا، ولكنه حين تضع أمامه امتحانا، تقهره على سلوك معين لا يرضاه.
Неизвестная страница
والمتتبع لبرنارد شو في سني الامتصاص الثقافي هذه - فيما بين سن العشرين والثلاثين - يجد أنه قرأ ألوانا من العلوم والآداب والتاريخ والأديان لا يكاد يتصورها العقل، ودراماته التي ألفها ونجحت بعد ذلك تعود إلى هذه الدراسات التطوعية التي قام بها فيما بين 1875 و1885، وحوالي هذه السنة الأخيرة نجد له اهتمامات بالسياسة والاجتماع يبتكر فيها الرأي الجديد ويدعو فيها بحماسة لا ينال عليها أجرا، فهو يخطب ويكتب ويؤلف دون أن يطلب مليما عن مجهوداته.
لقد صار، وهو في سن الثلاثين (1886) إنسانا مسئولا من البشر، يتحدث ويكتب «كما لو كان له سلطان»، وكأنه يحس أنه يحمل رسالة، ولهذا الإحساس وحده نجد أنه كان يتحمل توبيخ أمه وأخته وتعبيرهما له بأنه فاشل، يتحمله بنفس راضية صابرة واثقة بأنها على موعد من النجاح.
وفي هذه السنوات، فيما بين 1885 و1900، نجد له نشاطا مسرفا في منظمة كانت ولا تزال تسمى «الجمعية الفابية»، وكان هو روحها وخطيبها وكاتبها، وكانت غايتها متواضعة في ظاهرها مع اطمئنان إلى قوتها، فقد اتخذت خطة التسلل إلى الأحزاب بدلا من أن تنشئ حزبا، وكانت الاشتراكية مذهبها، ولكنها كانت اشتراكية التدرج وليست اشتراكية الثورة.
وقد عرفت أنا هذه الجمعية حوالي 1908 ولم أكن أسمع فيها اسم «كارل ماركس»، وإنما كنت أسمع عبارة مكررة هي «التدرج المحترم» بمعنى تجنب الثورة بشأن الارتقاء نحو النظام الاشتراكي، وبقيت الحال على ذلك إلى الأزمة العالمية في 1930 حين شرع اسم كارل ماركس يعلو ويسود، ولم يكن يمثل الشيوعية في لندن غير زعيم يدعى هيندمان، يخرج مجلة أسبوعية تسمى «جستس» ولا أظن أن الذين كانوا يقرأونها كانوا يتجاوزون ألفين.
وعرفت برنارد شو، وهو بين الخامسة والخمسين والستين، وأنا في لندن بين 1908 و1914 رجلا طوالا تجلل وجهه لحية صهباء كأنها لهب من نار، ولم يكن يطلقها عن مذهب، وإنما كان يهدف منها إلى ستر آثار الجدري الذي أصيب به وهو صغير وترك نقورا على وجهه، وكان حبيبا إلى قلوب الأعضاء، يلحون عليه في كل اجتماع حتى يقول «كلمة» تعليقا أو نقدا على المتكلمين، وكانت في صوته صحلة موسيقية تجعل الاستماع إليه متعة.
وتزوج برنارد شو بعد أن نجح في التأليف المسرحي، وعرف زوجته عن طريق الأعضاء في هذه الجمعية؛ فإنها كانت فتاة أرلندية ثرية، وكانت صديقة لأكبر عضوين بارزين في الجمعية هما المستر ويب وزوجته، وتوسط الزوجان في إيجاد التعارف، فالصداقة، فالزواج، بينها وبين برنارد شو، وعاشت معه نحو خمس وثلاثين سنة دون أن يتم بينهما أي اتصال جنسي، وكان لكل منهما غرفة خاصة، وكانا على حب عظيم أحدهما للآخر، فقد اعتادت ألا تأوى إلى فراشها إلا بعد أن يغني لها، وكانت تشير إليه بكلمة «العبقري».
ولما ماتت أحرق جثمانها في إحدى المرامد في لندن، وأوصى هو بأن يحرق جثمانه أيضا ويخلط الرمادان، ثم يذر المخلوط في حديقة مسكنهما الذي عاشا فيه طوال زواجهما، وتم ذلك.
وكان برنارد شو كبير العناية بصحته، وكان يقول إن الصحة من الحكمة؛ لأن الرجل الحكيم يتعود العادات التي تخدم صحته ويتجنب تلك التي تؤذيها، ولكن التزامه للطعام النباتي مدة 64 سنة لم يكن لبواعث الصحة وإنما كان للبواعث الإنسانية؛ إذ كان يعتقد أن الناس يستطيعون الاستغناء عن هذه الشدة التي يمارسونها في قتل الحيوانات كل يوم كي يأكلوها، وأن في الطعام النباتي غناء عن ذلك، وكراهته التدخين كان مرجعه الإحساس الفني في تجنب عادة قذرة بعيدة عن الجمال في ممارستها ومضايقتها لمن لا يدخنون، ولكن كيف نفسر امتناعه عن القهوة والشاي؟
لا أستطيع هنا أن أسلم بأن الهدف الذي قصد إليه شو، وهو شاب، حين التزم هذا النسك بالامتناع عن اللحم والخمر والتبغ والقهوة والشاي، لا أسلم بأن هذا الهدف كان للصحة فقط.
واعتقادي أنه نسك قصد منه إلى اعتصام نفسي بغية التوفر على مجهودات سامية، وكثيرا ما نجد أن اليقظة الذهنية، وإحساس الرسالة والقصد في الحياة يرافقها نوع من الاعتصام، يتخذ أسلوبا معينا من النسك الذي ينعكس أثره على النفس، في تحري الجد ورصد العمر لواجب مقدس، برفض الكثير مما نسميه ملذات أو مسرات.
Неизвестная страница
نفعل ذلك وكأننا نعلو على أنفسنا ونخدم رؤوسنا، وهي أسمى ما في أجسامنا، بدلا من أبداننا، وعندئذ تستهلك شهوات الذهن كل طاقتنا وتقمع شهوات الجسم.
إن المسيحي حين يغلو في دينه يذهب ويدخل الدير، وقد أمضى الغزالي سنوات وهو ناسك، وكذلك فعل المعري الذي لم يتزوج ولم يأكل في حياته غير العدس، وشهور الصوم في جميع الأديان هي شهور الغلو في الدين، وقد رفض غاندي الشهوة الجنسية، والطعام والشراب واللباس، إلا القليل من اللبن وشملة من الخيش.
وهؤلاء جميعا: برنارد شو، والغزالي، والمعري، وغاندي، لم ينسكوا حبا للنسك، وإنما حملتهم نزعة الجد في الحياة وإحساس القصد والرسالة على أن يعلوا على أنفسهم للتوفر على ما رسموه من واجبات.
ولست تجد رجلا عظيما إلا وله نوع من النسك يمارسه كما لو كان رياضة نفسية يستعين بها على التوفر لعمله أو قصده العظيم.
وليس في التزام الطعام النباتي صحة كما يتصور البعض؛ فإن برنارد شو قبل وفاته بأكثر من عشر سنوات أصيب بمرض «الأنيميا الخبيثة» وأوشك على الموت منه، فشحب لونه، وكان يتعب لأقل مجهود وينام وهو قاعد، فاضطر هذا النباتي الإنساني إلى أن يتداوى من مرضه بتناول خلاصة كبد الخنزير حتى شفى ولكنه لم يعد إلى طعام اللحم.
ومع أن ثروته تجاوزت ثلاثمائة ألف جنيه عند وفاته؛ فإنه لم يهدف قط إلى جمع المال، وكثيرا ما عمل وجهد بلا أجر، لا يهدف إلا إلى الخدمة الإنسانية، ولما نال جائزة نوبيل وقدرها الآن نحو 14 ألف جنيه رفض تسلمها، وأنشأ بها جمعية لزيادة الاتصال بين أدباء الأقطار الإسكندناوية وبريطانيا.
وكان يسعف جميع الأدباء المحتاجين بمبالغ كبيرة كان بعضها يبلغ خمسمائة جنيه كل عام، وبقي على هذا في بعض الحالات أكثر من عشرين أو ثلاثين سنة، وفي وصيته ترك مبالغ كبيرة لمن خدموه الخدمة المنزلية، بل إنه أقام نصبا تذكاريا لخادمته التي ماتت قبيل وفاته في الحديقة، وحين دعا النحات كي يقوم بصنع النصب خشي أن يموت هو قبل أن يتم النصب فعرض عليه دفع الثمن قبل إتمامه.
وكان يعمل في غرفة نائية من مسكنه في الحديقة؛ وذلك كي يتوفر على عمله دون أن يزعجه صوت أو ضوضاء، حتى إن الخادم عندما كان يأتي إليه كي يطلب شيئا ما أو ينبهه إلى ضيف، لم يكن يشافهه بكلمة، وإنما كان يكتب ما يريد على ورقة يرد عليها برنارد شو كتابة دون أن ينطق بكلمة.
وكانت طريقته في التأليف أن يترك الموضوع يختمر في ذهنه مدة سنة أو سنتين، يقرأ فيها عشرات الكتب التي تتصل بهذا الموضوع، فإذا شرع في التأليف كتب العناصر ووضع التخطيط. وقد يؤلف الدرامة في شهر أو أسبوع وقد يؤلفها في سنتين أو ثلاث سنوات.
وكان يتعب كثيرا في التأليف حتى لقد ذكر عنه أنه كان يترك مقعده أمام مكتبه وينبطح على أرض الغرفة إعياء وتعبا، ويبقى على ذلك حتى يستريح وينهض لاستئناف الكتابة.
Неизвестная страница
هؤلاء علموا برنارد شو
كان برنارد شو يعد نفسه محظوظا قد حابته الأقدار لأنه لم يتعلم في جامعة، وأن كل ما حصل عليه من تعليم لا يزيد على مستوى الصبي الذي ينقطع عن الدراسة النظامية المدرسية منذ السنة الأولى الابتدائية، ومعنى ذلك أنه علم نفسه.
هذا هو المعنى، أما الدلالة فهي أنه كان يختار ما يتعلمه، وكان اختياره يتوقف على حاجاته الذهنية والنفسية، كما يختار الجائع ما يحتاج إليه من طعام، وكما أن الجائع يختار لنفسه أفضل مما نختار نحن له، كذلك طالب الثقافة يحسن الاختيار لنفسه أكثر مما نحسن له هذا الاختيار؛ لأنه يسير فيه وفق كفاءاته وعلى مهل وتدبر وبصيرة بالمستقبل، وقد ذكر أحد الأدباء الإنجليز أنه التقى ببرنارد شو وهو بعد في الحلقة الثالثة من عمره في مكتبة المتحف البريطاني، وكان أمامه كتابان أحدهما «رأس المال» لكارل ماركس، والثاني كتاب عن الموسيقى بالحروف الموسيقية، وكان يراوح بينهما في الدرس.
ويذكر برنارد شو تسع سنوات أيام شبابه كان فيها مغفلا لا يلتفت إليه أحد، وكان كل ما كسبه في هذه السنوات من قلمه ستة جنيهات، ولكنه يظلم نفسه حين يقول هذا القول؛ لأن أي كاتب مهما ضعفت منزلته يستطيع أن يكسب مائة ضعف هذا المبلغ في هذه السنوات؛ إذ إن هناك أعمالا في الصحف، وأيضا هناك من المؤلفات الرائجة ما يرد عليه هذا الكسب.
نقول أعمالا في الصحف ومؤلفات رائجة، ولكن مع التفاهة.
ولكن برنارد شو رفض أن يؤلف أو يكتب شيئا تافها منذ نصب لنفسه قصة حياته، وهو أن يكون مفكرا نافعا، كما أنه في هذه السنوات التسع كان يربي نفسه، يقرأ ولا يكتب، أو يقرأ كثيرا ويكتب قليلا.
وهو كثيرا ما يشير في مؤلفاته إلى المدارس الثانوية وإلى الجامعات في احتقار وغضب؛ لأنها تملأ جماجم الصبيان والشبان بحشو المعارف التي تؤذيهم في نموهم الثقافي حتى تجعل هذا النمو كما يزداد بدلا من أن يكون تطورا يرتقي بهم، وهو يذكر مثلا درامات شكسبير فيقول إنه قرأها جميعها واستمتع بجمالها وتعمق توتراتها، ولكن الطالب الذي يقرأ (أو يدرس) إحدى هذه الدرامات، مع التعليقات والتفسيرات التي يعد بها نفسه للامتحان، لا يعود شكسبير؛ لأنه - لفرط ما تعب في درسه - لا يطيق قراءة شيء منه، بل لعله لا يطيق حتى رؤية هذه الدرامات ممثلة على المسرح.
إن مؤلفات شكسبير يجب أن نستمتع بها قراءة في الكتب، أو رؤية على المسرح، ونحن في طرب الفن والاستمتاع وليس في العرق والدموع، وما يقال عن شكسبير يقال مثله عن سائر الأدباء.
وإني لأذكر هنا ما حدث لي مما يشير برنارد شو إلى دلالته، فقد كنت قد حفظت وأنا في السنة الثالثة بالمدرسة الابتدائية قصيدة أبي العلاء «خفف الوطء»، ولم أفهم لها معنى إلا أنها تجري في الدروس ضمن العذاب المقرر لنا، وكرهت أبا العلاء بسبب هذا العذاب، ولم أعد إليه إلا بعد نحو عشرين سنة حين وجدت فيه دنيا من البر والخير والفن والأدب، وما زلت إلى الآن أعود إليه كي أضحك معه في إلحاده وأتعمق تلميحاته، ولا أعرف أني أحب أديبا عربيا قديما قدر حبي للمعري الذي أوشك معلم اللغة العربية أن يقطع بيني وبينه وهو يعذبنا بإعراب أبياته في قصيدته «خفف الوطء».
التربية الذاتية هي التربية الناجعة، وهي اختيار، في حين أن التربية الجامعية إجبار؛ ولذلك سرعان ما يتخلص منها خريج الجامعة. وبعد، بل يكاد يكون محالا أن يتعلم أحدنا الأدب في الجامعات؛ لأن الأدب تربية ذوقية، وكفاح نفسي، ومثابرة الليل والنهار، وتغيير للأهداف، وتطور، وارتياد للقديم والجديد، وبحث في الصين وإنجلترا، وتطرق إلى الدين وتعمق للفلسفة، وكل هذا - بل بعضه - لا تستطيع أن تقوم به أية جامعة.
Неизвестная страница
وشيء آخر يجعل التعليم الجامعي ناقصا بل مشوها؛ ذلك أن جميع الجامعات على الرغم مما تزعم من «استقلال» تؤيد النظم الحكومية القائمة، فترفض دراسة فولتير لأنه كافر، وترفض دراسة كارل ماركس لأنه ثائر، وترفض دراسة لورنس لأنه فاسق ... إلخ. ولكن طالب الأدب خارج الجامعة يجد الحرية المطلقة في الاختيار، ويطلب المنهل والمرعى كما يفهمه عقله، وعندئذ يجد الوسيلة بل العناد لتأثيث ذهنه وبعث المركبات الأدبية والفنية في نفسه.
يروي «أندريه جيد» عن أيامه الأولى في الامتصاص الثقافي أنه كان فيما بين سن السادسة عشرة والعشرين متعلقا أشد التعلق بكتابين يقرأهما ويعود إليهما، هما الكتاب المقدس وألف ليلة، والجمع بين الاثنين يكاد يعد كفرا في نظر أستاذ جامعي، ولكن أندريه جيد لم يتعلم الأدب في جامعة إنما تعلمه - أو بالأحرى نما إليه - وهو حر مطلق يختار ويرعى وينهل كما يشاء.
ومثل هذا الكلام لا يقال بالطبع عن تعليم العلوم التطبيقية التي تحتاج إلى معامل لا تستطيع تأسيسها غير الجامعات.
وعندما أتأمل حياة برنارد شو وأتجسس على المعلمين الذين تعلم عليهم واستلهمهم في صياغة حياته وأدبه وتكوين رجولته، أجد أربعة يبرزون في مؤلفاته حيث تتكرر أسماؤهم كما تشرح أفكارهم، هم كارل ماركس، وفريدريك نيتشه، وصمويل بطلر، وهنريك أبسن.
وبرنارد شو معروف بين الجمهور بأنه مؤلف مسرحي، ولكنه في الواقع كان أكبر من ذلك، كان رجلا أولا وقبل كل شيء، يجابه الدنيا كما هي بلا استسلام للخيال، وكان إنسانا حساسا لا يطيق الاستعمار أو الاستغلال أو الإذلال، وكان فيلسوفا يضع الفلسفة على المسرح في الوقت الذي كانت المسارح فيه مشاهد سخيفة للغرام أو القتال أو الزنا أو التهريج.
وأعظم المفكرين الذين تأثر بهم برنارد شو هو كارل ماركس داعية الاشتراكية، وبرنارد شو اشتراكي، دعا إلى الاشتراكية نحو ستين سنة، ولم ينحرف عنها ولم يعرف إصلاحا شاملا للشعب في عيشه وثقافته وحضارته غيرها، وكان كارل ماركس فيما بين 1880 و1930 مغمورا في إنجلترا لا يعرفه غير المثقفين، بل الخاصة من المثقفين.
وقد آمن برنارد شو بنظرياته لأنه كان يجد أن الفقر هو علة المرض والجهل والدنس والجريمة، وأنه لا إصلاح لكل هذه الرذائل سوى تعميم اليسر بين جميع أفراد الشعب، وأنه لا سبيل إلى هذا التعميم سوى الاشتراكية، وأكبر مؤلفاته «المرشد للمرأة الذكية عن الاشتراكية» هو شرح مبسط لهذا المذهب، وقد أنفق الكثير من سني عمره في خدمة «الجمعية الفابية» التي كانت تدعو إلى الاشتراكية، ومع أن هذه الاشتراكية كانت تدرجية إصلاحية، على خلاف ما دعا ماركس؛ فإن برنارد شو كان على دراسة تامة لزعيم الاشتراكية الثورية، وقد انتهى هو وزعماء هذه الجمعية في أواخر حياتهم إلى الإشادة بالنظام السوفيتي الذي اعتمد زعماؤه من لنين إلى ستالين على كارل ماركس.
وليس بين مفكري القرن التاسع عشر من أخصب التفكير بين الكتاب، وبعث الدراسات العميقة للتاريخ والاقتصاد والعلم، وجعلنا نرتفع من الفهم إلى الدلالة بشأن الأخلاق والارتزاق وفلسفة العيش والشرف والإنسانية مثل كارل ماركس؛ فإنه خميرة إذا دخلت العقول تناولت أبعادها وأعماقها وعملت فيها نضجا وإيناعا.
والماركسية يمكن أن نعرفها في سطرين وأن نشرحها في ألف صفحة.
فأما السطران فهما أن المجتمع، بما فيه من حكومة وأخلاق، وأساليب للعيش وآراء في الدين، واتجاه في السياسة والأدب والشعر، ينبني كله على نظام اقتصادي ارتزاقي إنتاجي معين، فإذا تغير هذا النظام تغير المجتمع.
Неизвестная страница
وإنه لحظ كبير للرجل المثقف أن يكون قد اهتدى إلى كارل ماركس منذ شبابه، وقد عرفه برنارد شو قبل أن يبلغ الثلاثين واستضاء عقله به طيلة حياته.
أما المعلم الثاني الذي تأثر به برنارد شو فهو فريدريك نيتشه الذي غرس فيه فكرة الإنسان الأعلى (أي السبرمان) الذي سوف يقف منا ما نقفه نحن من القردة؛ فإن هذه الفكرة الجليلة جعلت من التطور عند برنارد شو دينا حميما يؤمن به ويهدف إلى غاياته البشرية.
فهو يحدثنا عن شهوة التطور في الإنسان، بل يزيد في عمق التعبير فيقول «الغلمة إلى التطور» باعتبار أنه أساس الحياة ونظامها، وأن الوقوف عن التطور تعاقب عليه الطبيعة بالمحو والإبادة، بل هو يذكر الدين بأنه يجب أن يتطور، وأن ما نؤمن به هذا العام من عقائد دينية ليس من الضرورة أن نؤمن به في العام القادم؛ إذ يجب أن تتسع وتتعمق عقائدنا وتستنير بالكشوف العلمية التي تخدم الصحة والرقي.
وفكرة السبرمان مع ذلك سبقت داروين والتطور، ونحن نجدها عند نيتشه ذات معنيين اضطرب هو بينهما. فإنه دعا إلى أن تسمو الشخصية الفذة على مألوف المجتمع وقوانينه بحيث يصير كل إنسان قانونا لنفسه مستقلا في قواعده وأهدافه بعيدا عن سلطة «القطيع»، وهو هنا وجودي، وربما كانت شخصية جيته الأديب الألماني العظيم هي التي ألهمت نيتشه هذه الفكرة التي لا تعدو أن تكون اجتماعية.
ولكن نيتشه أيضا يذكر لنا القردة، ويقول إننا يجب أن نهدف إلى إيجاد إنسان أعلى من الإنسان الحاضر، وأن الإنسان الحاضر يجب أن يلغي نفسه، بأن يكون جسرا تعبر عليه الطبيعة من القرد إلى السبرمان، وهو هنا بيولوجي.
وفكرة برنارد شو عن السبرمان - أي الإنسان الأعلى - بيولوجية وليست وجودية؛ أي إنه يرغب في إيجاد إنسان مختلف منا، زائد علينا، في طول العمر وذكاء الفهم وصحة الجسم ... إلخ، وهو هنا يعتمد على خاصة التطور التي يختص بها كل حي والتي ينقرض وينمحي من الدنيا إذا فقدها.
وربما كان أعظم مؤلفات برنارد شو درامته المسماة «الإنسان والسبرمان» التي تقرأ ولا تمثل؛ إذ لا يمكن أن تمثل إلا بعد حذف الكثير منها مما يخل بمغزاها، وهي تدل القارئ على ديانة برنارد شو البيولوجية بل على رسالته في أدبه وفنه.
أما المعلم الثالث الذي تعلم منه برنارد شو فهو صمويل بطلر، وهو أديب إنجليزي حارب النفاق الاجتماعي الذي كان يقول بأن الحياة العائلية الإنجليزية تسمو وتسعد بروابطها المقدسة، واستطاع بمؤلفاته أن يشرح للقراء هذا النفاق وأن يبين تعس الأطفال بين الآباء الذين يصرون على أن ينشئوهم على غرارهم وفق عقائدهم وعاداتهم. وقد ألف في النقد والقصص، وله قصة خيالية فريدة تدعى «ايروين» عن شعب يعاقب على المرض ولا يعاقب على الجريمة، وهو يرمي إلى مغزى هو أن الجريمة كالمرض تحتاج إلى العلاج وليس إلى العقاب، وانغمس في مجادلات مثيرة بشأن مذهب داروين في التطور وعارض القول بأن «تنازع البقاء» هو أساس التطور، كما عارض أن التطور حركة عمياء في الطبيعة لا تهدف إلى قصد، وكتابة «الحياة والعادة» ينقلنا من داروين إلى لامارك من حيث إن العادات هي الأصل في التطور، وأن الابن ثم الأحفاد ثم السلائل، كلها ترث ما اعتاده الآباء والأسلاف من عادات جديدة اقتضتها بيئات جديدة، وأن تراكم العادة جيلا بعد جيل يؤدي إلى خصائص وراثية تتغير بها الأحياء وتتطور.
وانتفع برنارد شو كثيرا بصمويل بطلر وأخذ عنه هذه الأفكار جميعها، وتناولها في كثير من مؤلفاته بالشرح والتوسع، وقد أخصبت ذهنه وزادته إنسانية كما زادته بصيرة في دلالة العلم.
والمعلم الرابع لبرنارد شو هو هنريك إبسن المؤلف النرويجي.
Неизвестная страница
فقد ظهر إبسن حوالي منتصف القرن الماضي بمذهب جديد في الدرامة هي أنها يجب أن تعالج المشاكل الاجتماعية والفلسفية في عمق وجراءة، ودرسه برنارد شو، وألف عنه كتيبا بعنوان «لباب الإبسنية» دافع فيه عن موقفه هذا، كما أنه تأثر بإبسن في التأليف فجعل المسرح ميدانا للمناقشات الاجتماعية والفلسفية، ولكن ميزة إبسن الأولى، وهي دقة الحبكة المسرحية، لم يستطع برنارد شو أن يرتفع إليها.
هؤلاء المعلمون الأربعة علموا برنارد شو، وبرزوا في وجدانه الثقافي، وكانت لأفكارهم دورات في ذهنه بحيث تغير بهم وتطور، ولكن هناك مئات من المؤلفين الذين انتفع بهم أيضا، فقد عاش 94 سنة كان يقرأ ويدرس فيها، أو في ثمانين سنة منها، قراءة الوعي والتساؤل والتطور.
ولم نذكر هنا داروين باعتباره أحد معلميه، ومع أن فكرة التطور بارزة في جميع مؤلفات برنارد شو؛ وعلة ذلك أن برنارد شو كان يسلم بالتطور، بل يؤمن به إيمانا دينيا، ولكنه كان يكره داروين لاعتماده على «تنازع البقاء»؛ ولذلك فالتطور عنده هو تطور لامارك الذي سبق داروين، وقال بأن العادات تورث وأنها هي علة التطور.
إن برنارد لم يكتب تاريخ حياته ولم يخبر في إيضاح مسهب عن أولئك الذين علموه، ولكنه في مقدماته لدراماته كثيرا ما يذكر حياته وكفاحه ودراساته، ومنها نستطيع أن نتبين أن هؤلاء الأربعة، أو الخمسة بزيادة لامارك، قد أثروا في ثقافته وأخصبوا ذهنه.
ولكن مع ذلك يجب ألا ننسى أن الذي وجه شو وجهة الفن هي أمه التي احترفت الغناء والموسيقى، وهو لا يذكر فضلها لأنه كان يكرهها للمعاملة السيئة التي وجدها منها لأبيه السكير، ويبدو أن هذا الأب كان يحب الصبي جورج كما كان الصبي يتعلق به، وكثير من السكيرين يبدون أبطالا للأطفال، وتزيد هذه البطولة إذا كان البطل أبا، ولكن ليست هناك امرأة تطيق زوجا سكيرا عربيدا تافها أجوف ليست له غير زجاجة الخمر يعانقها ويفرغها في جوفه كل يوم؛ فالأم تعذر هنا في كراهتها له.
وكان برنارد شو، كان على الدوام، يذكر أباه بلهجة الحب، ولكنه لا يكاد يذكر أمه، مع أننا نفهم أنها هي التي وجهته وجهة الفن - أجل - والاستقلال؛ إذ كانت تعمل لكسب قوتها وقوت أبنائها في وقت كانت المرأة فيه، حتى في إنجلترا، قعيدة البيت.
الصداقة حب على مستوى عال
الصداقة حب على المستوى الإنساني العالي، وهي لذلك تتجاوز الحب الجنسي في القيم الإنسانية؛ لأن هذا قد ينبعث بالاشتهاء الجنسي أولا فيكون حافزه انفراديا، ثم يتسامى إلى الصداقة، وليس في هذا بالطبع ما يعيب الحب، بل ليس هناك ما يعيب الاشتهاء الجنسي؛ إذ كيف نعيب شيئا تطالبنا به الطبيعة في نخاع عظامنا بل يطالبنا به الخلود البشري؟
ولكن الصداقة، حين تنشأ بين رجل ورجل أو بين رجل وامرأة، ويكون حافزها اجتماعيا وليس انفراديا، تكون بلا شك أسمى من الحب، بل نحن حين يستولي علينا حب عظيم، بل حب جنسي عظيم، نكاد نفقد غريزة الاشتهاء، ألسنا نستطيع أن نقول أحيانا في بعض تجاربنا: «إن حبي لها كان أعظم من أن أشتهيها؟»
والصداقة ميزة للممتازين من الناس؛ إذ ليس كل إنسان قادرا على أن يصادق، ذلك أننا حين نصادق نحتاج إلى قدرة تؤاتينا على اختيار من يستحق الصداقة، وإلى قدرة أخرى تؤاتينا على أن نضحي من أجله، وبين هاتين القدرتين: فضائل لا تحصى من الإيثار والشرف والشهامة والنجدة، وهذه خصال نادرة.
Неизвестная страница
ونحن نجد في الحياة ألوانا من الاستمتاعات كالثقافة، والطبيعة، والحب الجنسي، والأبوة، والهناء العائلي، والفلسفة، والإنسانية، ونحو ذلك. ولكن يجب أن نعد الصداقة في مقدمة هذه الاستمتاعات، وهي بلا شك استمتاع نادر لأن القادرين عليها - كما قلنا - نادرون، وهم نادرون لأن المجتمع قد ربانا وأنشأنا على الانفرادية الأنانية التي تعوق الصلات الاجتماعية، والصداقة صلة اجتماعية قبل كل شيء.
وكثيرا ما تلتبس علينا القرابة بالصداقة، حتى إننا لنتحمل القريب مهما خطر وفدح ايذاؤه لنا، أو حين تقطع الظروف بيننا وبينه، فلا تكون هناك مشاكلة أو مقاربة في منهج عيشنا أو أهدافنا أو ثقافتنا. ومع ذلك نتكلف له «الصداقة» الجوفاء التي لا تزيد على أن تكون فرضا اجتماعيا نتأفف منه في أعماقنا ولكننا لا نصرح به ، مع أن التصريح به هو خير ما نفعل؛ لأن القرابة مصادفة عمياء قضت بها الطبيعة ولكن الصداقة اختيار وتفعل.
وتبادل الصداقة بين كفئين هو تربية إنسانية عالية كما هو سعادة عظمى أكاد أقول إنها لا تدانيها أية سعادة أخرى، ولست تجد عظيما لهذا السبب إلا وله صديق أو أصدقاء آزروه على أن يبلغ عظمته.
ونحب هنا أن نذكر أصدقاء برنارد شو، فقد كان شخصية فذة وكان له لذلك أصدقاء أفذاذ اختاروه للمشاكلة في الأهداف.
وكان أعظم أصدقائه في هذه الدنيا شارلوت زوجته «التي كان حبه لها أكبر من أن يشتهيها» وقد عاش معها 35 سنة لم ينفصل عنها يوما واحدا، بل لم ينفصل عنها بعد موته؛ فقد أحرق جثمانها وحفظ الرماد في زجاجة، فلما مات هو أوصى بإحراق جثمانه ثم خلط رماده برمادها، وأنفذت الليدي أستور هذه الوصية، ونحن نحس هنا الوفاء في هذه الصداقة الفريدة، بل جمال الفكرة في هذه الأسطورة التي تحمل إلينا في معانيها رمزا إنسانيا نكاد نتذوق جماله ونتنهد لإنسانيته، ونحب أن نقول إنهما كانا يحييان معا بعد الموت في زجاجة على الرغم مما في هذا القول من لغو؛ إذ هو لغو محبب إلى نفوسنا.
ومنذ تزوج برنارد شو انقطع عن أقاربه، بل أقاربه الحميمين، إذ لم يجد فيهم أصدقاء؛ فقد كانت أهدافه غير أهدافهم وأسلوب عيشه غير أسلوبهم. ومن السخف أن يتكلف الصداقة لهم ويرهق نفسه بها في مثل هذه الأحوال، وانقطع أقاربه الحميمون، مثل أمه وأخته، عن زيارته عقب زواجه إلى وفاتهما، ومع أنه كان مثابرا على معونتهما بماله فإنه لم يستطع أن ينسى أنهما سودتا عيشه معهما حين كان لا يزال كما مهملا في هذه الدنيا يعجز عن كسب لقمته.
ولسنا نعرف كثيرا عن علاقته بزوجته سوى الهناء الذي كانا ينعمان به كما كان يبدو عليهما أمام الزائرين والأصدقاء، وكانت هي أديبة غير صغيرة لها بعض المترجمات من الدرامات الفرنسية التي وضع برنارد شو مقدمة لها، وقد عرفته عن طريق صديقيه سيدني ويب وزوجته بالجمعية الفابية، ولزمت فراشه حين كسرت ساقه وهو أعزب، وكانت تعنى به وتمرضه إلى أن برئ حين عقد زواجهما.
وأقرب الأصدقاء إليه بعد زوجته هو وليم آرتشر الأديب الناقد الذي ترجم درامات إبسن من اللغة النرويجية إلى اللغة الإنجليزية، وكان آرتشر عضوا عاملا في جمعية «العقليين» وهي جمعية تناهض الأديان جميعها وتنشر على الجمهور كتبا علمية بأثمان تافهة بل غاية في التفاهة، فقد كانت تبيع كتاب «أصل الأنواع» لداروين بخمسة وعشرين مليما، ونشرت المئات من كتب العلم بهذا الثمن أو بأقل، وعممت التفكير العلمي بين طائفة كبيرة من القراء، ولعل مما يستغربه القارئ المصري أن ج. م. روبرتسون الذي كان صديق مصطفى كامل والذي دافع عن مصر أيام حادث دنشواي، هذا الرجل كان من أقطاب هذه الجمعية وكان داعية الإلحاد في إنجلترا.
ويبدو من الكثير الذي كتبه برنارد شو عن وليم آرتشر أنه عرفه منذ أيام شبابه الأولى، وأنه هو الذي وجهه في حياته الأدبية، أو كان له أكبر تأثير عليه، وكان هبوط برنارد شو على إبسن من أعظم الحظوظ التي لقيها؛ فإنه هو الذي فتح ذهنه لدلالة الدرامة الاجتماعية التي احتضنها شو بعد ذلك وجعلها رسالة حياته.
واشترك الاثنان في التأليف المسرحي، ولكنهما لم يفلحا في ذلك؛ لأن التأليف هنا شخصي، فردي، يستند إلى مزاج وعاطفة كما يستند إلى عقل، وبلغ من دالة شو على صديقه أن وبخه ذات مرة على تقصيره وتخلفه وعزا ذلك إلى زواجه، وكان آرتشر قد تزوج فتاة ذكية تعلق بها كثيرا، وفهم آرتشر من هذا التوبيخ أن شو يدعوه إلى الطلاق أو الانفصال، أو على الأقل النسك، حتى يستعيد كفاءته الأدبية، وغضب وأرسل خطابا إليه يمنعه فيه عن زيارته، وبقيت هذه الجفوة بينهما مدة، ولكنهما عادا إلى الصفاء.
Неизвестная страница
وحدث أن احتاج وليم آرتشر في سنة 1924 إلى إجراء عملية جراحية خطيرة، وكان وقتئذ في نروج وفي مثل هذه الظروف يذكر الإنسان دنياه التي قد تزول فجأة إزاء المجهول في التردد بين الحياة والموت؛ ولذلك كتب قبل إجراء العملية بساعات هذا الخطاب إلى برنارد شو:
عزيزي برنارد شو
عرفت، بعد أن كتبت إليك خطابي الأخير أني محتاج إلى إجراء عملية جراحية هذه الأيام، وسأذهب إلى المستشفى غدا، ولست أعرف إذا كانت هذه العملية خطيرة جدا أم لا، والواقع أني أحس الصحة الكاملة، وظني أني سأنهض منها معافى، ولكن مع ذلك قد يحدث غير ما ننتظر، هنا أجد العذر لأن أقول لك كلمة أرجو واؤمل أنه لم يدخلك شك قط بشأنها، وهي أني على الرغم من بعض مواقفي نحوك وأني كنت أخاطبك وأعاملك أحيانا بلهجة اللوم والتأنيب، فإني لم أتردد قط في إعجابي بك وحبي لك ولم أكف عن الإحساس بأن الأقدار قد حابتني حين جعلتك صديقا لي وجعلتني أعيش في هذه الصداقة سني حياتي، إني أشكرك من قلبي لأربعين سنة أمضيتها في زمالتك، ومهما قيل عني فلن يقال إني لم أعش في مجتمع حسن.
تناولت غذائي اليوم مع ملك نروج والأمير أولاف.
تحياتي وتسليماتي إلى زوجتك وهنيئا لكما.
المخلص و. آرتشر
عام 1935
ووصل الخطاب إلى برنارد شو بعد وفاة آرتشر.
ونحن نتنهد في شجن لهذه الصداقة السامية التي ربطت هذين الأديبين، فلقد اختار كل منهما الآخر لما فيه من سمات عالية يجد فيها ما يرفعه ويرقيه، وارتقى كل منهما بهذه الصداقة واستمتع بها بأكثر مما يستمتع الحبيبان بحبهما.
وكلمة الحب تذكرنا بصداقة أخرى مارسها برنارد شو، وأنت بعدما تقرأ ما سأقوله عنها ستتساءل: هل كانت هذه صداقة أم حبا؟
Неизвестная страница