مقدارها إلا المريض السقيم - صدقت، لقد كنا روحين في بدن واحد، وكنا في مثل جنة الخلد سعادة وفرحا وهناء، لا أروم إلا ما تريده أنت، ولا تطلب إلا ما أرومه أنا، واليوم لا بد لنا من ترك ذلك كله امتثالا لأمر الناس، إنما الناس بلاء الناس. - لو شئت يا راحة الروح ولو لم ترفعي عني العهد والميثاق لنشطنا معا من هذا العقال، وقصدنا ملاذا من الأرض بعيدا عن الرقباء، وكنا به الآن مقيمين آمنين. - نعم، لا ريب عندي في ذلك وإني لو شئت لتركت وطنك وآل بيتك، وكنا نسافر معا ونلقي اليأس في قلوب المحبين، ولكن لو فعلنا لكانت العاقبة عذابا شديدا، فإني أعلم أنك لا تصبر على لوم النفس، بل ربما قتلتك شكوى السريرة، وكنت ترى في حلك وترحالك خيال زوجتك آسفة حزينة، وأولادك باكين مكتئبين، ووالدك رازحا تحت أثقال الحزن، ثم لا تذكر لي ذلك ولكنه لا يخفى عني، فينالنا الشقاء ويكون الأسف الأول مضعفا للثقة، والثقة عماد الحب، فيسقط الاثنان معا، ولقد تأملت في كل هذا منذ يومين حتى ظهر لي وجه الحقيقة منه ؛ ولذاك أعيد قولي إنه لا بد لنا من الافتراق. - ومن لي بالصبر يا «أليس»؟ أراك اليوم ثم يجيء غده وتتوالى بعده الأيام والأسابيع والأشهر والأعوام ولا أبصر هذا الجمال! إن هذا هو المحال.
تقول العواذل من بعد ما
أطلن الملام بقيل وقال
حقيق حقيق وجدت السلو
فقلت محال محال محال
وكيف ترومين يا شقيقة الروح أن أصبر على تجريد حياتي من رونقها الأوحد وشاغلها المفرد، وأبقى بعد ذلك بين هواجس الفكر ووساوس الذكر متقلبا على مثل شوك القتاد. - لا بأس عليك، فإنك لا تكون منفردا وحيدا. - هذا الذي تشيرين إليه أشد علي من الانفراد، فإني سأرى لدي على الدوام ضحية ثانية لا ذنب لها، تحتمل عذابها ويؤلمها عذابي، وتتجلد لمصابها ولا تتسلى عن مصابي، ثم لا أجد من أمنية أعللها بها في الحال أو المآل، ولا أرى غير اليأس القاطع لأسباب الآمال، لكن الموت خير من هذه الحياة. - الموت! الموت! نعم نعم، هو الصديق الذي يمد لنا ذراعيه عندما ينفر الناس عنا. - ما ضر لو كنا نموت يا «أليس»؟! - لا، أنت لا ينبغي أن تموت يا حبيبي، فإن أولادك محتاجون إليك، أما أنا فإني مطلقة الحرية لا شيء يمنعني عن التخلص من العذاب. - نشدتك الله إلا ما أوضحت لي ما الذي تعنين بهذا الكلام. - ما عنيت إلا ما فهمته أنت. - الآن تبين لي سر هذه الخلوة وهذا التجلد وهذه الزينة، فعلمت أنك قد عزمت على الانتحار. - وإن صح ذلك فماذا علي منه؟! - ما عليك من حرج فيما عزمت عليه إلا أنك لم تتخذيني فيه شريكا. - أصحيح ما تقول؟! أتحبني إلى هذا الحد؟ وا فرحتاه! - أي وخالق الحب والنوى، وفالق الحب والنوى، إن الموت معك لأهون من الحياة في البعد عنك، ولقد قبلت ما سمتني من الفراق جهلا مني بحقيقة ما نحن عليه، وكنت أنت أعرف مني بمقدار حبنا، فأضمرت ما أراك الآن عليه، فمتى ترومين أن تموتي؟ - اليوم. - وكيف ذلك؟! - أما قرأت في كتاب «ليون غزلان» قصة تلك الفتاة التي ماتت مختنقة بروائح الزهر؟ - نعم، قرأت هذه القصة. - فهذه ألطف وسيلة رأيتها لترك الحياة، ولقد تأملت فيها كثيرا، وكنت أذكرها كلما سكرنا بخمرة الطرب والهناء، فترتاح نفسي إلى أن أرقد على ما بي من الفرح ذاك الرقاد الذي لا ألم فيه ولا خوف بعده من اليقظة، وقد كدت أعرض ذلك عليك مائة مرة ولم أفعل، فمذ دهمنا اليوم الأسود الذي انقطعت فيه صلات اللقاء عزمت على ما علمته الآن من أمري عزما صادقا، فقصدت عالما بارعا من علماء النبات، فسألته عما يوجد في باريس من الأزاهر السامة الرائحة موهمة أني أخافها وأروم اجتنابها، فكتب لي جريدة بأسمائها زهرة زهرة، ثم علمت منه بوسيلة من الكلام درجة الحرارة التي إذا وجدت معها تلك الأزاهر كانت قاتلة الرائحة، واخترت الموت على هذه الصورة؛ لأنها جميلة تمثل عندي فتاة بارعة الحسن مكللة بالزهر، فمتى فتحت هذا الباب أدخل هذه الغرفة، ولا أخرج بعد ذلك منها، هذه حقيقة الحال قد أبنتها لك قضاء لحقك علي فإن أردت موافقتي على ما نويت ورأيت البعد أصعب من الموت، فليس من حقي أن أمنعك من ذلك، فأنت تحبني كما أحبك وإن متنا معا فقد حفظنا ما تواثقنا عليه من عدم الافتراق.
وكان «ڤكتور» ينظر إليها وهي تتكلم نظر العاشق إلى المعشوق، بل نظر العابد إلى المعبود، جاثيا بين يديها مستسلما لكل ما تصوره الشهوة في مخيلته من فاسد الوهم، فلما فرغت من كلامها صاح: كيف لا أريد ما أردت، ولا أقصد ما قصدت وهو أحب الأماني إلي؟! فإني وقد فرق بيننا الزمان لم يبق لي من بغية إلا أن نموت معا، فنجتمع اجتماعا لا خوف بعده من الفراق، وما أنتظر الآن إلا أن تقولي فأفعل، وتأمري فأمتثل.
فألقت بنفسها عليه فضمها إليه، وتعانقا عناقا كاد يفصل روحهما عن البدن وجدا، فكانت هذه الدقيقة أحسن وأطيب وأشهى وأعذب ما مضى من حياتهما إلى ذلك اليوم، ثم خطر ل «ڤكتور» خاطر جديد فقال: أروم أن أكتب إلى «ماري» فأستودعها الله وأودع والدي وأولادي، آه وا أسفاه عليهم! وما الأسف لموتي فإنهم لا يفقدون به عظيما؟ إني ما كنت لولاك شيئا مذكورا، ولو انفصلت عنك لأضعت ما بي من الذكاء والإقدام فعدت بليدا مستضعفا لا أرجو من الزمان مستقبلا حسنا.
ثم نهض إلى مكتب في الغرفة وتناول القلم، فخط به أسطر الوداع الأخير لزوجته التي أحبها ابتداء ذلك الحب العظيم، ثم هجرها ذاك الهجر الأليم، فتأمل فيما سينالها بموته من الحزن واليأس فما تمالك أن بكى، فنظرت إليه «أليس» وقالت: إن كنت قد ندمت فما فات وقت الرجوع يا «ڤكتور»، أنت حر ولا لوم عليك. - لست أبكي على نفسي يا شقيقة الروح ولكن عليها، وقد انقطعت الآن عن الدنيا بأسرها، ولست أملك نفسي وإنما أنا عبدك المطيع، فأمري بما تريدين.
ومضى عليهما في هذه الحالة بضع ساعات يتجاذبان أطراف الحديث القديم، وتغنيهما أقداح الأحداق عن المدام والنديم، حتى أقبل غراب الليل مسدول الجناحين، فقالت الباريسية الحسناء: لقد حان الدخول إلى غرفة الزهر، فنهضا إليها ناشطين وافتتحا بابها قليلا، فهب عليهما من أرجها القاتل ما ردهما عن الباب مكرهين، فقال «ڤكتور» باسما: ما الذي أرى؟ أيليق بنا أن نخاف من الخيال ونهرب قبل القتال؟! ثم أخذ بيد المركيزة وأدخلها الغرفة وهو يقول: ما أحسن هذا القبر! وكيف لا يحسدنا الأحياء على الموت فيه على هذا المقعد بين هذه الأزهار؟ - صدقت، وإني لأرى الموت حياة لنا، غير أني أرانا في ريعان الشباب وغضارة الحياة، وفينا حسن بارع ولنا مستقبل لامع، وكل ذلك لم يزل بقبضة اليد، ولكن كل ذلك لا خير فيه ما لم يكن الحب، ولا حياة في الحب مع الفراق، فهلم يا حبيبي نطرب على ذكر الحب لآخر مرة، واسمع مني في ذلك أصوات غناء تملأ قلبك طربا.
Неизвестная страница