وكان زي مدام «ديلار» مماثلا لزي المركيزة الحسناء، على أن ثوبها الأبيض كان أزين، وباقات الأزهار عليه أحسن، وجواهر حليها أبهى وأثمن، ولم تكن تلك الجواهر لها وحدها، ولكن أعارتها الكونتة من حلاها الثمينة ما كملت لها به أسباب الزينة، والتمست لها العطر شاهي من منابته، ولم تترك ل «باتون» - بائع الزهر - منه غير القليل، فكان لها منه أكاليل منسوقة موفورة، ولم يكن للمركيزة إلا أزاهر قليلة منثورة، وفي الجملة أن زينة «ماري» كانت أبهى من زينة «أليس» على قرب المماثلة بينهما، وقد اتضح ذلك لمن رأى الاثنين من أهل المرقص، فصح عندهم أن «ماري» إنما عمدت إلى تلك المماثلة لتبين كيف يظهر الفرق بين المتشابهات، فكان ذلك موضوع الأحاديث في كل حلقات الرقص، ولما اشتد قلب «ماري» قالت لها لويكونتة: ينبغي أن ترقصي مع ابن أخي ليراك زوجك، ولا تخافي سوءا فإنك منصورة لا محال وما لك من شبه في هذا الجمال، فامتثلت أمرها ورقصت مع ابن أخيها بين الراقصين، ولم تكن منفردة في الجمال، ولكن كان في حسنها غضاضة ومائية قل أن توجد في نساء باريس - لشدة ما يكابدون من عناء السهر وضنك الأثواب - وكانت مع ذلك جديدة، وللجديد عند الناس طلاوة، فإن أكثرهم كالمبتذل الذي أتى عليه وقت طويل، فهو يمل ما كان موجودا ويلتمس كل يوم حسنا جديدا، أما «ڤكتور» فكان لدى المركيزة في آخر الغرف لاهيا بمسامرتها عن الرقص والراقصين، وكان قد أتى عليه هناك ساعة من الزمن، ولم يسمع بحديث زوجته حتى دنا منه أحد أصحابه، وقال له: ماذا تقول في مليحة فتانة تنسب إليك، وهي بصحبة الكونتة «سرزول»؟ - وهمت يا صاحبي، فليس في باريس من امرأة تنسب إلي. - لست واهما، لست واهما؛ فالمرأة تدعى بالويكونتة ديلار، وهي الآن ترقص في الغرفة الأولى، وقد حدقت بها الأبصار وافتتنت بها العقول؛ فإنها من آيات الحسن والجمال. - أعيد إليك القول أنك واهم فيما انصرف خاطرك إليه. - إني على هدى وبينة مما أقول، والفتاة بزي سيدتي - وأشار إلى «أليس» - ألا إن ثوبها أبيض. - فقالت «أليس»: بهذا الزي؟! - نعم سيدتي، بزيك هذا ... أزاهر من العطر شاهي وحلى متألقة الجواهر.
فتساءلت أعين «ڤكتور» و«أليس» عن سر هذا الأمر، فقال «ڤكتور»: لا، لا يمكن! - فقال صاحبه: هلم وانظر بعينك.
فأجاب «ڤكتور» متبسما من الغيظ: أنت وما أردت، فسر بنا لنرى.
وانطلقا إلى الغرفة الأولى مخترقين صفوف الراقصين المتزاحمين على رفعة قدرهم تزاحم الغوغاء حتى تجلت لهم الحسناء المقصودة، فتبينها «ڤكتور» فإذا هي «ماري» بعينها، لكنها لم تكن كما عهدها ساذجة فطرية الخلق تخاف الكلام، ولا تكاد تحسن تأدية السلام، وإنما كانت بهية فتانة رشيقة الحركات ذات بهجة ورواء، فحار في أمرها، ولم يدر كيف أتت باريس، وكيف تحولت أحوالها السابقة، ثم التقى نظره بنظرها، فأوشكت أن يغمى عليها من التهيب والخوف، ولكنها تجلدت، فسكن جأشها، فأتمت الرقص، وحينئذ شعر «ڤكتور» بيد مسته في كتفه، فالتفت فرأى مدام «سرزول» تبتسم إليه ابتسام الظافر وهي تقول: ألا ترى أني أعددت لك دهشة تجلب السرور، وأني أتقنت تعليم زوجتك فنون الإتقان، وأحسنت تلقينها أساليب الإحسان؟ وهل عرفتها بعد تغير أحوالها وظهور جمالها؟ - لك المنة والفضل فيما تكلفت من تعليمها وتغيير أحوالها، ولكن ما ضر لو أخبرت بالأمر وإن لم أشاور فيه، ألم تروني لذلك أهلا؟! - لا يا حبيبي الويكونت، ولكني ووالدك قد أضمرنا لك هذه الخدعة المطهرة، والدهشة السارة، ولو أظهرناك عليها من قبل لضاعت بهجتها، وقد أعيتنا زوجتك ترددا وامتناعا حتى تم لنا إلجاؤها إلى ما تراه اعتقاد أن يجلب لك السرور. - لقد كلفت نفسك يا سيدتي من المبالغة في الاهتمام. - لا أجد من كلفة فيما يجلب لك المسرة، فأنت ابن الصديق القديم الذي أتى علي في صداقته خمسون عاما، وما كتبت إليك صباحا أدعوك إلى زيارتي قبل المساء إلا لأن «ماري» أبت أن تأتي المرقص من غير أن تعلمك بذلك، وقد سرني غيابك عن منزلك وقت الزيارة، فإني أمنت به ضياع الدهشة وذهاب ما أتوقع لها من حسن التأثير.
ثم تقدم نحو «ڤكتور» صاحبه الذي أخبره الخبر، ولم يكن سمع ما دار بينه وبين الكونتة من الحديث فقال: أرأيت مدام «ديلار»؟ - نعم، وهي زوجتي بعينها، وقد أتت باريس هذا المساء ونزلت على الكونتة «سرزول»، فكتمت الكونتة عني خبرها على سبيل المداعبة والمباغتة بالسرور. - هنئت بها يا صاحبي فهي آية من آيات البهاء! - ولست كاتمك أني من لقائها في أتم الهناء.
ثم انتهى دور الرقص، فتمشت «ماري» قاصدة زوجها والكونتة وهي تتعثر بأذيال الخوف حتى وقفت تجاه «ڤكتور» ولم ترفع طرفها إليه، فقالت لها العجوز: لا بأس عليك با بنية، فإني قد التزمت العهدة في كل ما جرى، فلن تسمعي فيه لوما، ثم إن زوجك يحبك الحب العظيم؛ فلا خوف منه، فقال «ڤكتور»: مرحبا بك يا سيدتي، وإن كنت قد اخترت لنا هذا الملتقى العمومي، فقبضت «ماري» على يد زوجها وعلت وجهها حمرة الخجل، فقالت لهما الكونتة: تخطرا معا يا ولدي، وأنت يا «ڤكتور» كن معجبا بامرأتك مسرعا لإظهارها للناس فذلك يفيدك خيرا، وسأقدمكما إلى بعض ذوي المقامات الذين يحصل منهم النفع. - فلم يستطع «ڤكتور» مخالفة الكونتة، بل سار بزوجته على أثرها، فطافت بهما على أهل المرقص تعرف بهما أكابر الوجهاء، رافعة صوتها ما أمكن رفع الصوت في ذلك المقام، مخاطبة كل من تقف به بشيء من هذا الكلام، لله ما أحسن هذين العروسين! إنهما سيقيمان بباريس، كان اعتلال مدام «ديلار» هو السبب في افتراقهما، وقد عاودتها العافية فلن يفترقا بعدها، أما أحسنت في الجمع بينهما في هذا المرقص البهيج؟ أما ترون عليهما لوائح الهناء والسعادة؟
وكانت «ماري» في الواقع فرحة مفعمة القلب هناء وسرورا، لكن «ڤكتور» كان مبتئسا مضطرب الذهن، منقبض الصدر، منفعل النفس من كل الوجوه، يروم الخروج من موقفه الحرج ولا يستطيع التخلص من ملازمة الكونتة؛ فإنها لم تكن تغفل عنه طرفة عين، وقد بشرته بأنها لا تنصرف من المرقص في ذلك اليوم السعيد الذي هو عندها بمنزلة العيد إلا بعد انتهاء الرقص وتفرق المدعوين.
وكانت «أليس» على حالة من القلق لا يعرفها إلا من يعانيها أو يقع فيما يدانيها، فلم تجرؤ على التحول من مكانها، بل وقفت فيه شاخصة إلى باب الغرفة تنتظر إياب «ڤكتور» انتظار المتهم لقضاء الحاكم، حتى مر بها صاحبه الذي أتاه بنبأ زوجته، فابتدرته بالسؤال عنه غير مالكة من نفسها ما يليق بها من الجلد، قالت: ماذا جرى على الموسيو «ديلار»؟ - تركته سعيدا فرحا، يمشي على الأرض مرحا، ووددت لو رأيته وزوجته يتخطران بين الراقصين والكونتة تحول إليهما الأنظار. - أتركته مع زوجته؟ - نعم، نعم، وهي لعمر أبي فتانة حسناء يأخذ حسنها بالألباب، أفما عرفتها يا سيدتي؟ - عرفتها ... رأيتها في «بواتو» فلاحة عسراء بلهاء. - لست أدري إن كانت بلهاء، ولكني أقول عن يقين إنها ليست فلاحة ولا عسراء. - وهل هما الآن معا؟ - على أحسن حال من المسرة والهناء، ينظر إليهما بالأعين ويشار بالبنان.
فأوشكت المركيزة أن يغمى عليها من هذا القول غيرة وقلقا بما خطر لها من الخواطر وما داخلها من الظنون، وحدثتها النفس بداءة بدء أن تناظر ضرتها علنا بشاهد الحسن ودليل الجمال، ثم خامر قلبها الخوف من حيث لم تدر، وكانت هذه أول مرة خافت بها مناظرة الحسان، فرأت أن الفرار أوقى لها من الثبات، وأحفظ لكرامتها عند ذوي المقامات، فعولت على الانصراف، وقالت للفتى صاحب «ڤكتور»: أرجوك أن تدعو إلي الموسيو «ڤلمورين» من هذه الغرفة - وأشارت إلى مكانه - فقد دعاني إلى الانصراف ثلاثا ولا أحب أن أكلفه الرابعة.
فامتثل الفتى وأبلغ إلى المركيز «ڤلمورين» مقالة زوجته، فسارع إليها ملبيا مطيعا، وكانت هي قد أيقنت بتعذر انتصارها في ساحة المناظرة، فرضيت بالتقهقر من غير انكسار للنجاة من غير فرار، فعقدت يدها على ساعد زوجها، وتمشت وإياه في غرف القصر متخطرة مختالة دلالا وعجبا تبتسم لكل من تراه، وتتيم كل من تلقاه، حتى أجمع أهل المرقص رجالا ونساء على أنها لم تر من قبل أجمل منها في تلك الليلة وأحسن، ثم لمحت الكونتة وماري ومعهما الموسيو «ديلار» عند المائدة؛ فأومأت إليهم بالسلام ولم تجرؤ على الدنو منهم خشية أن يخونها الجلد، فانطلقت بزوجها مسرعة هارعة حتى أتت موقف العربة، فانطرحت في زاويتها كاسفة البال واهنة العزم، ونظرت الكونتة إليها وهي منصرفة على تلك الحال، فأخذتها الشفقة عليها فقالت بنفسها: أسفا عليها! إن عذابها لأليم، ولقد فعلت فعل كرام النفوس، فهي جديرة بأن يرق لها لولا أنها على الباطل، وأن الحق بالنصر أحق.
Неизвестная страница