وأحست «ماري» بانحطاطها عنهن، وبعدها عما رأت بهن من الرشاقة وحسن الزي، شأن النبيه الذكي، فلاذت بأطراف الصمت والخفاء، فلم تنطق بكلمة ولم تبد إشارة، وظهر ذلك ل «ڤكتور»، فأخذته فيه عزة النفس، ورأى أن المقام ضنك عليه وعلى زوجته غير أنه تجلد مخافة الهوان، واستعمل ما فيه من النباهة والذكاء في اجتناب الاستهجان، فأعانه الجمال على ما أراد، فارتفعت منزلته عند الفتيات ارتفاعا عظيما، وصح عندهن بعد انقضاء الزيارة فيما حكموا به على أهل «مرلي» أن الشيخين محو مطلق - أي لا شيء - وأن «ماري» غبية بلهاء، وأما «ڤكتور» فلو انفصل عن هذه الجماعة وتخرج بآداب الاجتماع ولبس مما يفصله «بلين» - خياط كان مشهورا - لكان من أحسن رجال الفرنسيس وأحقهم بحب الغانيات.
ولما عاد أهل «مرلي» إلى منزلهم تذاكر الشيخان فيما رأياه وما سمعاه من أهل «سرڤيل»، أما «ڤكتور» و«ماري» فكانا متفكرين صامتين يسمعان ولا يجيبان، حتى جاء وقت الرقاد وهم كل منهم بالانصراف إلى مخدعه ، فقالت الفتاة لزوجها: لست بذاهبة بعد هذه المرة إلى مجامع الناس. - لك الاختيار، فافعلي يا صديقتي ما تريدين.
1
وظهرت علائم الوحشة على «ڤكتور» بعد زيارته لأهل «سرڤيل»، واشتد به الميل إلى الانفراد والتغيب عن المنزل؛ حتى قلقت «ماري» لذلك وألم بها الغم، فكانت كلما غاب زوجها وأدركه المساء قبل الرجوع تقف له في طرف حديقة القصر عند شبكة البركة، فبينما هي في ذلك الموقف لعدة أيام مضت من تلك الزيارة إذ طرق سمعها صوت حوافر خيل على الطريق، فأخرجها ذلك من عالم الهيمان الذي كانت فيه، فرأت الجو أدكن والسحائب سوداء، والمطر متدفقا كأفواه القرب، وقد هبت العاصفة، وجلجلت الرعود القاصفة، ولمعت سيوف البرق على صفحات الأفق، ثم توارت حركة الحوافر متوجهة نحو القصر؛ فعلمت أن القادمين وافدون عليه لاجئون من النوء إليه، فحدقت لتراهم، فإذا بامرأة ورجل من ورائهما خادم، وكانت المرأة فتاة فائقة الجمال قائمة على صهوة الجواد، كأنها من فرسان الرجال، فجبنت «ماري» عند رؤيتها وارتدت إلى مدخل الدهليز، فأقبلت المرأة عليها وهي تقول: عفوا يا سيدتي عن وفودنا فجأة عليك، فإنا تائهون في هذا الوادي بين هذه الغابات، وقد أدركنا المطر، واشتدت الأنواء علينا، فهل في هذه الأرض من مبيت نلوذ به من العاصفة. - أنتم بالقرب من «مرلي» وأنا صاحبة المكان، فإن شئتم اتباعي إليه وجدتم الملاذ الأمين وكنت لكم من الشاكرين.
فأثنت المرأة والرجل عليها ثناء جميلا، ثم قالت المرأة: المقام يا سيدتي لا يحتمل الكلفة، فها أنا أعرفك بنفسي: إني ابنة «المركيزة درميل» التي تشرفت برؤيتك في منزلها في الأسبوع الماضي، وهذا زوجي «المركيز دي ڤلمورين»، وهو لا شك مسرور بما سرني من سنوح هذه الفرصة للائتناس بلقائك.
فانحنت «ماري» لهذا الكلام شكرا، وسارت أمام الضيفين في طريق القصر، فعادت الفتاة إلى حديثها فقالت: أتيت هذا البلد أول أمس، فرأيت من بهجة منظره ما حبب إلي التجول فيه، فأصابني ما رأيتني عليه من التيه.
وما برحوا سائرين بين صفوف الأشجار الملتفة، والرعد يهزم، والمطر يهمع، و«ماري » قلقة مضطربة على زوجها تلتفت المرة بعد المرة لعلها تراه مقبلا، ولا تعير السمع حديث مدام «ڤلمورين» إلا قليلا، ثم خافت أن تحسب ذلك منها إعراضا أو كراهية للضيافة، فقالت لها: لا تؤاخذيني يا سيدتي، فإني مترقبة رجوع الموسيو «ديلار» - تعني زوجها - من الصيد، فقد مضى ميعاده، وأخاف أن يدركه المطر، ويظلم عليه الليل وأنا لذلك على ما ترين من القلق والانزعاج.
ثم اشتدت العاصفة، وهمى الغيث وابلا، حتى نفذ الماء في ثوب «ماري» وثوب ضيفتها الحسناء مع أنه من الجوخ،
2
فلم تصلا إلى القصر إلا وقد ثقل الثوبان بالماء، وتلوثت أطرافهما بالوحول، وكان الليل قد أقبل بجيوش الظلام، وضرب في الآفاق خيام القتام، فصار من حق الضيافة على «ماري» أن تعير ضيفتها ثوبا تلبسه إلى أن يجف ثوبها المبلول، فسارت بها إلى غرفة النوم، وتركت زوجها «المركيز دي ڤلمورين» لدى حميها يعتني بشأنه ويتدارك ما يحتاج إليه، وحينئذ لمع البرق دراكا، فتلاه الرعد والصاعقة، وانصب البرد كالحجارة وثارت العواصف، فزلزل القصر من أساسه حتى كأن عناصر الطبيعة قد هجمت عليه لتجعله دكا، فاشتد القلق ب «ماري» من جراء غياب «ڤكتور» فكانت تصلح شأن ضيفتها وهي كالآلة الصماء لا تنطق ببنت شفة، وغلب الخوف على الضيفة أيضا فالتزمت السكوت وجلا، ثم طال عليها الصمت، فقالت الباريسية الغريبة: أرى أن الإنسان يشعر بالحاجة إلى الصلاة والدعاء لله في مثل هذه الأوقات، فما قولك في ذلك يا سيدتي؟! - إن رمت الصلاة، فهلم ندخل الكنيسة قبل الرجوع إلى القاعة.
Неизвестная страница