هكذا شرعت ميرفت هانم في غرامها الأخير. وسجلت تلك الليلة أول كلمة في صفحته الموردة، وحقق به علي حلما قديما يائسا، أما ميرفت فقدمت على مذبحه ولعها العارم بالحياة والشباب. والعجب أنه سعد مثلما سعدت وأكثر، والأعجب أن سيطرتها عليه فاقت سيطرته عليها، فوفقت دائما إلى نفخه بالخيلاء والأريحية والجنون حتى باتت المستقر الوحيد في الدنيا الذي يجد فيه ذاته وشفاءه وخلوده. وكانت سهام في نفس الوقت يتفتح لها طريق آخر. امتعضت نفسها المتطلعة عندما علمت باضطرار عزيز صفوت إلى الانقطاع عن الدراسة بعد الثانوية العامة ليرتزق من مراسلة بعض الجرائد العربية. وكان عزيز قد يئس تماما من جذب شفيق إلى فكره، بل إنه - وهو بسبيل إقناعه - دفعه وهو لا يدري إلى حضن الدين فلحق بأبيه. ولكنه حقق نجاحا عفويا مع سهام وهو ما لم يركز عليه من أول الأمر. عند ذاك انساق إليها بعقله وقلبه معا فباتت غاية حياته. وزارها في الكلية ودعاها إلى لقاءات قاصرة عليهما دون شفيق، فلما وافقت تلقى من الحياة بركة صافية. وناقشها برفق كمبتدئة ولكنه لم يصبر مع عواطفه المتأججة فقال لها: إني أحبك، من قديم، ربما من أول يوم! - وجد في صمتها المحفوف بالرضى استجابة أخطر من استجابتها العقلية، ولعلها كانت الاستجابة الصادقة الأصلية القائمة على أساس مكين حقا. قالت له: إني آسفة لانقطاعك عن الدراسة.
فتساءل باستهانة: هل تعطيك الجامعة شيئا يعتبر الحرمان منه خسارة؟
ثم ضغط على راحتها بحنان وقال: لن أنقطع عن الثقافة أبدا.
وتساءل عما يدور برأسها من هموم المستقبل فرآه في ضوء ساطع، وصارحها بما رأى كالشهادة الجامعية وطبقة الأسرة والفقر، فقالت: لا يهمني هذا كله!
فقال لها: إنها مشكلات حقيقية ولكن في العالم الذي يؤمن بها، فإذا كفرنا بهذا العالم فلا وجود ثمة لها.
وتحمست بدافع حبها لتقويض ذلك العالم المغضوب عليه، ولكنها ترنحت على الحافة وهي تشعر بحاجتها إلى المزيد من القوة لتحقق واقعا جديدا. ومع أن جو أسرتها عودها على الصدق والصراحة إلا أنها أسدلت على أسرارها الجديدة ستارا لما تعرفه جيدا عن أبيها، بل وأخيها الذي انضم إلى الأب من خلال عناده الجدلي قبل أي شيء آخر، وقالت لنفسها: فلنؤجل المعارك إلى حينها!
ولكنها لم تستطع أن تعرف خواطرها عن «المستقبل» فسألت عزيز يوما وهما جالسان في الجنفواز: ألديك صورة واضحة عن المستقبل؟
فقال بهدوء لم يخل من امتعاض: عندما تكفين عن الاكتراث بهذه الشواغل أعرف أنك وصلت!
فصممت على أن تحوز ثقته مهما جشمها ذلك من متاعب. وكان يجد في زينات محمدين - أخت زكية صديقة شفيق - مفرجا عن توترات شبابه لينعم بصفاء الحب مع سهام، غير أن زينات فاجأته ذات يوم قائلة: سأتزوج من تاجر ليبي وأسافر معه إلى ليبيا.
فقال لها قبل أن يفيق من المفاجأة: سيتاجر بك هناك!
Неизвестная страница