فقالت منيرة بإشفاق: نرجع إلى الطبيب.
فقال بمرح: الإنسان طبيب نفسه!
وذهب إلى الحمام معتمدا على سنية ومحمد، وجرى الماء على جسده فاجتاحته فرحة شخص اعتاد طيلة حياته النظافة والأناقة، وعاد إلى فراشه سعيدا وهو يقول: الإنسان بلا صحة أقل من حشرة.
ولما جاء الليل لم ينم. تدهور بسرعة مذهلة حتى صار شحوبا مركبا على هزال. وأرق الليل كله يتأوه وجسمه يكاد يتقصف. وجيء بالطبيب فاحتج على الحمام بلا تحفظ، ولكنه حرر روشتة على أي حال، وعند منتصف الليل، وأهله محدقون به، أسلم الروح دون جهد كأنما غلبه نعاس مفاجئ ... ودل الحزن الشديد عليه على تعلق الجميع به، سنية فاق حزنها كل تقدير. ولما لم يكن يملك مدفنا فقد دفن في مدفن آل المهدي بالإمام. وأنكرت سنية حال المدفن التي آل إليها، ورأت أنه أصبح في حاجة إلى تجديد كالبيت القديم، فانضاف ذلك إلى الهموم التي استأثرت بها في الزمن الأخير. ولعل كوثر كانت أحزن الإخوة عليه لطبعها الذي يستجيب للحزن بقوة غير عادية، ولأنها أحبت الرجل لدرجة العبادة حتى إنها غفرت له زواجه من ميرفت قبل محمد ومنيرة بزمن غير قصير. وعند مطلع الصيف رجع الموت لزيارة الأسرة فأخذ نعمان الرشيدي زوج كوثر متسمما بالباولينا عقب تدهور الكلى، ولعل الموت أراحه من رعبه الذي لم يكف عن مطاردته مذ جاءت الثورة. أجل لم تكد تمسه قوانين الإصلاح الزراعي؛ إذ إن مصادر ثروته ترجع إلى العمارات والأموال السائلة، ولكنه اعتقد بأن دوره حتم مؤجل، وأنه آت لا ريب فيه. وبكته كوثر بحرارة وصدق ولكن سرعان ما أفاقت على تحرش أبنائه، فخف محمد إلى جانبها بأخوته وخبرته كمحام ولكنها قالت له من أول يوم: أبعدني عن التحديات فلا شيء في الدنيا يساوي الشقاء.
فقال بتصميم: حقك تأخذينه لآخر مليم.
فقالت بضراعة: حقي مكفول بالقانون، ولكنهم ينظرون بطمع إلى الفيلا، وهي كبيرة ولا أطمئن فيها وحدي وأريد أن أعود إلى ماما في حلوان!
ورجعت كوثر إلى حلوان حاضنة رشاد، وانهمك محمد في فرز إرثها هي وابنها من الأرض والعمارات والأموال السائلة ثم انقطعت الصلة بآل الرشيدي إلى الأبد. ورحبت الأسرة في باطنها الخفي بثروة كوثر. وانبعثت في صدورهم آمال لما هو معروف عنها من طيبة واستكانة فاعتبروها هدية مرسلة من السماء حاملة الفرج لأزماتهم المستعصية. منيرة توغلت في العمر حتى قاربت الثلاثين وهي ملهوفة على الزواج، ومحمد يشعر بأن عهد خطوبته طال أكثر مما ينبغي، حتى سنية تتوق بكل قواها لتجديد البيت والمدفن. تربصوا جميعا بأيام الحداد، ولما خفت الغيوم وواصل الراديو أغانيه تشجعت سنية فقالت في حياء مخاطبة كوثر: حبيبتي ألا ترين معي أن البيت في حاجة إلى تجديد؟!
سرعان ما شعر محمد بالخطر يهدد مشاريعه فتبادل مع منيرة نظرة سريعة جمعتهما في وجدان مشترك فقال: البيت لا يعيبه شيء وهو يستطيع أن ينتظر.
فقالت سنية محتجة: إنه مأوانا على مدى العمر!
فقال بخبرة اكتسبها في المحكمة: نحن في حاجة إلى المعونة لا البيت!
Неизвестная страница