Бакаийят
بكائيات: ست دمعات على نفس عربية
Жанры
طيبون هؤلاء الناس، طيبون وأصلاء صامتون أيضا، يتركون لك حرية البكاء، أيديهم الخشنة السمراء تشغلهم عن سقطات اللسان. الأنامل النحيلة كأسراب النمل، تتحرك ، تمتد وتقبض، تخزن وتفكر، تتكلم من غير كلام، طيبة هذي البلدة، والرب غفور، يتجول فيها شبح الزمن الميت، يتثاءب يتنفس يزفر أبخرة من مسك وعطور، في كل مساء يلمع فوق مآذنها سيف يحمله سيف، يهتف يتأوه ويرف، ويهب حريق فوق مآذنها في منتصف الليل وعند الفجر، تعلو ألسنة اللهب تسبح، تدعو بالخير وتنذر بالويل، تطوقها جبال سوداء كظهور مردة شامخين، أخذوا يهدهدونها على بحور الذاكرة والليل والشعر مجهولا ينظر فيه مجهولون (آه يا مدن الضجة والأحزان! حاصرني قيظ جحيمك، زحف على الطوفان، تختال القردة فيك، وتزهو بفحولتها الخصيان، أهرب منك إليك، وعن ظلي التائه أبحث بين النيران).
أسمع هرجا وسط الجمهور، يبكي طفل حط على عينيه جيش ذباب، وتنوح عجوز طيبة الوجه انكسرت في جبهتها سفن الأيام، ووقف الموت على الباب. يهتف شاب: عاش العدل! نصر الله الإسلام! تضطرب الأيدي الخشنة والأذرع والأجسام، تقترب من السور الشائك، تسري الهمهمة كشبح يجري في الليل الحالك. يقف حمار كان يتجول وحيدا، يمد الرأس والأنف، يحك رأسه بالسور وينهق، تتسلل عنزة خلال الصفوف ويتفرس في وجهها السامي المستطيل، باستغراب وصل القاضي ورسول الجبار، ترك السياف القات، ووقف على قدميه، ابتسم وخبط على صدره العاري، وتحسس مقبض سيفه، انحنت جذوع الشجر السوداء، وقدموا أنفسهم: نحن تتبعنا أثره، مجهول حاول أن يزرع في الأرض الطيبة بذور الفتنة، راقبناه وعرفنا سره، وذهبنا للجبار وأبلغناه أمره، ها هو مربوط في جذع الشجرة.
اقترب القاضي مني، ووقف رسول الجبار بجانبه يحمل أوراقا ملفوفة، نظر القاضي في وجهي، لمست كفاه كتفي، تمتم وتنحنح، حمد الله وسبح باسمه، كانت شفتاه تتحركان ولا يخرج منها غير حروف مقطوعة الرءوس، لم أفهم شيئا مما قال؛ سقطت في أذني بعض الكلمات: تلك حدود الله، فاحكم بالعدل، تقطع أيديهم، أرجلهم. كان وجهه كوجه فأر، على عينيه نظارة بنية سميكة تستند على أرنبة أنفه، فوق رأسه عمامة بيضاء ملفوفة بعناية، على كتفه شال حريري مذهب الأطراف، في عينيه أصرار تكسر حدته الرحمة والعطف. أما الرسول فكان يقف وراءه ويده على خنجره اللامع، بينما تدير اليد الأخرى اللفافة الصفراء المربوطة بشريط حريري أحمر. وجهه عريض بارز الوجنات، مكتنز من أثر النعمة، وعيناه واسعتان تلمع فيهما حدقتان شديدتا السواد يحيط بهما البياض. ما أشبههما بعيني الجبار! لم أرهما إلا في الصور والكتب القديمة، لكنهما أرقا ليالي ونفذا كالجمر بلحمي، عينان كعيني ثور هائج، واسعتان مخيفتان كبئر مسموم، معلقتان كدوائر النار في السحب، في الهواء، في أوراق الأشجار، شررهما المتقد يضيء فوق قمم الجبال، يلتصق بأحجار الشارع، يتوهج في البيوت وعلى الجدران، تتسلط على القرية في كل وقت وكل مكان، عينا نسر شرس منهوم، رفرف فوق سطوح المدن، تدلى منه سيف يقطر بالدم، يرعب حتى النمل الراقد في الشقوق والجحور، كم تلمع هاتان العينان فيسيل منهما طوفان الليل والخوف الأصم. ارتعدت، جرفتني قشعريرة الحمى، ربتت كتفي كف القاضي الحانية: هدئ روعك يا ولدي؛ فالعدل سيأخذ مجراه.
التفت إلى الحراس الستة، اهتز الصنم الأكبر وتكلم: مجهول دلف إلى الفندق في وقت مجهول.
سأل القاضي، لمعت عينا السياف: ماذا يفعل؟ - لا نعلم. يهذي، يهمس، يحلم.
صحت غاضبا: هل حرمت الأحلام؟!
هز الصنم رأسه، وانفرجت شفتاه: بالطبع. الأحلام الفاسدة بذور الفتنة.
استعاذ القاضي بالله: المؤمن لا يحلم. والعاقل لا يفشي أبدا سر الحلم.
تقدم رسول الجبار، وقال: عين الجبار على الكفرة، لا تخطئ منهم شعرة.
بدأ كبير الأصنام يشرح القضية، ويلقي التهمة: راقبناه مع الأيام، وصبرنا حتى جاوز سن الخمسين، وفحصنا الأحلام، ودققنا في الأوهام، ليتكلم كنتم معنا حين دخلنا في رأس القاتل، ورأينا الخنجر، ورأينا بركان الثورة يتفجر، طوفان الغضب يدمر، ورأينا مدن الأحلام يمشي فيها ناس من نوع آخر، قيم وشرائع أخرى، أفكار وعلوم تشعل نارا كبرى.
Неизвестная страница