Средиземное море: Судьбы моря
البحر المتوسط: مصاير بحر
Жанры
15
أثبت تاريخ أثينة أنه يمكن شعبا أن يحب المال والذهن والتجارة والجمال معا، والشيء الوحيد الذي أقسى الأمم وحطها مع الزمن هو إرادة التسلط، وتكاد تكون منابع حياتنا الذهنية كلها صادرة عن اليونان لا عن الرومان مطلقا. والرومان، بعد أن قهروا الأغارقة، بدوا تلاميذ وارثين لهم، ومن الأغارقة تعلموا الشعر والحكمة والنحت، غير أن آثارهم لم تكن سوى تقليد ممهد لأساتيذهم، وهم لم يضيفوا إليها شيئا جديدا أو مبتكرا، وهكذا يتجلى تفوق الذهن على القوة، ولدينا من الأسباب ما يجعلنا نأمل ذلك في عصرنا الذي يفوز فيه البرابرة مجددا.
ولولا الروح التجارية ما وجدت عبقرية أهل أثينة أساسا متينا، ولولا البحر المتوسط ما استطاعت بلاد اليونان الفقيرة أن تنال الذهب الذي حول بعد حين إلى أوابد من الفن. ويحسن أن يحكم في أمر الأغارقة بآثارهم الانتقادية التي نشأت عن روحهم الساخرة، لا بفنهم وحده، وذلك إذا ما أريد اكتناه الأثنيين. ويمكن ابن البحر المتوسط، كما لا يزال، أن يحكم في مشاعره وذوقه الفني بتماثيل العصر الكلاسي
106
وجوقات مأساته، ولكن يعوزنا هجاء الحياة المألوفة وتصاويرها إدراكا لمكره وبشره وميله إلى المال والثلب، وميله كذلك إلى الكنود والحقد اللذين يتألف منهما طبع الرجل، الملاح والتاجر، فخلده أرستوفان والآنية الإغريقية.
وأهل أثينة هم الذين اخترعوا تعبير «عمل المال»، وهم الذين كانوا يصفرون وينشدون بيت الشعر القائل: «أجل، المال، والمال هو الذي يعمل الرجال!» وكان توسيديد يقول عن أبناء وطنه: «إن الأثنيين دائمو الحركة، وهم يسافرون دائما إنماء لثرواتهم، ومن النادر أن يستطيعوا التمتع بها هادئين ما فكروا في أرباح جديدة على الدوام.»
ويتشابه توسيديد وهيرودوتس اللذان خلدت ملامحهما بهرمس ذي الرأسين، وذلك مع كون الأخير أخفهما وأكثرهما تأملا وكون الأول أشدهما قتوما وأعظمهما مجونا. وكان أولئك الذين هم أقدم حضريي أوروبة يتصرفون في قليل من الأرضين الخصيبة حول مدينتهم، ولكن سفنهم كانت تحملهم في جميع العالم القديم، وكان حب المال يلازمهم في جميع التحولات السياسية، حتى عند تحول حكومة الأعيان، التي خلفت الملوك، إلى ديموقراطية. وقد أصاب أرسطو حينما عرف هذين النظامين فقال إن أحدهما ذو حظوة لدى الأغنياء وإن الآخر عزيز على الفقراء، وهذا ما كان قد حفز أفلاطون إلى نبذهما.
وإذا ما سيطرت أثينة في جميع الأدوار بروح أبنائها التجارية وحبهم للمال؛ أي بهذين الأمرين اللذين كانا يأتلفان ائتلافا عجيبا مع حبهم للجمال والحكمة، فإن هذه العناصر كلها كانت تنشأ عن ميل جامح إلى الحرية، ويمكن تشبيه الأثنيين بالفرنسيين المعاصرين من هذه الناحية. والحق أن الغداء في أثينة القديمة كثير الشبه بغداء يتناول بباريس الحاضرة أو باريس الأمس. والحق أن الأثنيين، كالفرنسيين، كان يجاورهم عدو فيغلبهم في الحرب أحيانا. والحق أن الإسبارطيين هم بروسيو ذلك الدور، والإسبارطيون قد تواروا عن مسرح العالم تواريا تاما في نهاية الأمر على الرغم من انتصارهم.
وكيف استطاعت إسبارطة القاتمة الجبلية المقتطعة من البحر أن تنشئ مذهبا سياسيا داخليا أخصب من المذهب الذي دعي بالأدب الإسبارطي منذ ذاك؟ كان يرتفع جبلان مستوران بالثلج إلى سماء واحدة تنعكس عليها جزر وخلجان كما تبدو من تل أثينة، فأنتج هذا البلد الحجير الفقير شعبا جديا ضيق العيش، وقد أسفر صغر أرضه عن عزمه على قهر جيرانه، وقد أدى هذا العزم إلى ازدياد سلطان الدولة على حساب الفرد، وقد حول هذا النظام شبه الشيوعي وشبه الاستبدادي عبيدا غلاظا إلى جنود، كما حول الجنود إلى فاتحين زالوا في نهاية الأمر.
واليوم تقطع المسافة بين المدينة القديمة المتبربرة وأثينة في ساعة طيران، وهذه هي الأرض الصغيرة التي كان يتقاتل عليها أبطال صبانا والتي يعرض عنها فصل من التاريخ العام الذي تحول إلى أسطورة لا تزال تغذي قلب جميع أمم العالم ودماغها، ولا شيء يحرك النفس أكثر من منظر الألنب بضيقه واستداراته اللطيفة.
Неизвестная страница