أهما فيه سواءٌ عندكم ... ليست السّنّة فينا كالبدع
وكذاك الجهل والعلم فخذ ... منه ما شئت وما شئت فدع
كان أبو مسلم مؤدب عبد الملك بن مروان، قد نظر في النحو، فلما أحدث الناس التصريف لم يحسنه، وهجا أصحابه فقال:
؟ قد كان أخذهم في النّحو يعجبني ... حتّى تعاطوا كلام الزّنج والرّوم
لّما سمعت كلامًا لست أعرفه ... كأنّه زجل الغربان والبوم
تركت نحوهم والله يعصمني ... من التّقحّم في تلك الجراثيم
وقال عمّار الكلبي:
ماذا لقيت من المستغربين ومن ... قياس نحوهم هذا الّذي ابتدعوا
إن قلت قافيةً بكرًا يكون لها ... معنىً يخالف ما قاسوا وما صنعوا
قالوا لحنت فهذا الحرف منخفضٌ ... وذاك نصبٌ وهذا ليس يرتفع
وحرّشوا بين عبد الله فاجتهدوا ... وبين زيدٍ وطال الضّرب والوجع
فقلت واحدةً فيها جوابهم ... وكثرة القول بالإيجاز تنقطع
ما كلّ قولي مشروحٌ لكم فخذوا ... ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا
حتّى أعود إلى القوم الّذين غذوا ... بما غذيت به والقول يتّسع
فتعرفوا منه معنى ما أفوه به ... كأنّني وهم في قوله شرع
كم بين قومٍ قد احتالوا لمنطقهم ... وبين قومٍ على الإعراب قد طبعوا
وبين قومٍ رأوا أشيا معاينةً ... وبين قومٍ حكوا بعض الّذي سمعوا
إنّي ربيت بأرض لا يشبُّ بها ... نار المجوس ولا تبنى بها البيع
ولا يطا القرد والخنزير تربتها ... لكن بها الرّيم والرّئبال والضّبع
وقال أبو هفان:
إذا ما شئت أن تحظى ... وأن تلبس قوهيّا
وأن تصبح ذا مالٍ ... فكن علجًا نبيطيّا
وإن سرّك أن تشقى ... وأن تصبح مقليّا
فكن ذا نسبٍ ضخمٍ ... وكن مع ذاك نحويّا
؟ باب اختلاف عبارتهم عن البلاغة
قال المفضّل الضّبّي لأعرابي: ما البلاغة؟ قال الإيجاز في غير عجز، والإطناب في غير خطل.
وقيل للأحنف: ما البلاغة؟ قال: الإيجاز في استحكام الحجج، والوقوف عند ما يكتفى به.
وقال خالد بن صفوان لرجل كثر كلامه: إنّ البلاغة ليست بكثرة الكلام، ولا بخفّة اللسان، ولا كثرة الهذيان. ولكنها إصابة المعنى القصد إلى الحجة.
وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ فقال: لمحة دالّة.
وقيل لبشر بن مالك: ما البلاغة؟ قال: التقرّب من المعنى، والتباعد عن حشّو الكلام، ودلالةٌ بقليل على كثير.
سئل عبيد الله بن عتبة: ما البلاغة؟ فقال: القصد إلى عين الحجة بتقليل اللفظ.
وقال غيره: البلاغة معروفة الفصل من الوصل، وفرق ما بين المشترك والمفرد وفصل ما بين المقيّد والمطلق، وما يحتمل التأويل ويستغني عن الدليل.
وقيل لبعض اليونانية: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام.
وقيل لرجل من الرّوم: ما البلاغة؟ حسن الاقتصاد عند البديهة، والغزارة يوم الإطالة.
وقيل لرجل: ما البلاغة؟ فقال: حسن الإشارة، وإيضاح الدلالة، والبصر بالحجة، وانتهاز مواضع الفرصة.
وسأل معاوية بن أبي سفيان صحارًا العبديّ؟ ماالبلاغة عندكم؟ قال: الإيجاز. قال: ما الإيجاز؟ قال: أن تقول فلا تخطئ وتسرع فلا تبطئ، فقال معاوية. وكذلك تقول؟ قال: أقلني يا أمير المؤمنين. أنت لا تخطئ ولا تبطئ.
وقد روي مثل هذا المعنى للحجّاج مع ابن القبعثري. فالله أعلم.
وقالوا: أبلغ النّاس أحسنهم بديهة، وأمثلهم لفظا.
قال خالد بن صفوان: خير الكلام ما ظرفت معانيه، وشرفت مبانيه والتذّت به آذان سامعيه.
؟ باب من خطب فأريج عليه
قال الحرّ بن جابر، وكان أحد حكماء العرب - فيما أوصى به ابنه: وإياك والخطب فإنّها مشوارٌ كثير العثار.
صعد عثمان بن عفّان ﵁ على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم أرتج عليه، فقال: أمّا بعد فإنّ أول كلّ مركبٍ صعب، وما كنا خطباء، وسيعلم الله، وإن امرأً ليس بينه وبين آدم أب حيٌّ لموعوظ.
1 / 9