لئن كان النقد فطريا في المرء فالإصلاح كذلك. النقد مزيج من كره وحب: كره لما يرغب عنه من موجود، وحب لما يرغب فيه من مفقود. وهذا المفقود المرغوب فيه هو عنصر الإصلاح بعينه؛ لذلك كان كل نقد إصلاحا مضمرا، وكل ناقد مصلحا محجوبا. أي شيء يحل بنا لولا الإصلاح؟ إنه إن لم يتبسم لنا بسمة التعليل والتسويف التفت حولنا أكفان الجمود وتاقت جوانبنا إلى أخشاب النعوش ومضاجع البلى. إن جمال كل شيء قائم على الرجاء بالتحسن والنمو والتقدم ليصير في الغد أفضل منه اليوم، وما مجد الإنسانية إلا في كونها اليوم أوسع قوة منها البارحة وأشمل إدراكا. لا أمل بلا إصلاح، وإن لم يكن ثمة أمل فما هو معنى الحياة؟ كلنا عالم بذلك، على أن من الناس من يلحق به من صدمات الأيام ووخز الساعات ما يلفته إلى ما لا يحفل به الآخرون، فيصبح النقد والإصلاح غاية حياته ومحورا تدور حوله الأفكار منه والأقوال.
تلك هي باحثة البادية. قلت في فصل سابق إنها لا تعطي قارئها جناحين يطير بهما، ولا تسكب له من رحيق الفكر والخيال ما يعلو به إلى قوة الألمبس أو يحدو به إيغالا في هياكل السر والألغاز، ولا يهمها من خفايا النفوس غير ما هو معروف تشترك الجماعات في تقاسم خيراته وشروره. أنها تبقى بين جدران بيئتها إلا أنها تحدق في مظاهر الأسى بعين يظللها خيال الدموع فتكتب متهيجة متأثرة كأنما هي تحارب ذرات الشقاء بكل كلمة تخطها. رأت كل ما يتقيد به قومها من عادات دهرية وفروض دينية واصطلاحات اجتماعية، ورأت من جهة أخرى ما لا بد من إدخاله من تحسين يؤهلهم للسير بكرامة في موكب القرن العشرين، فنسيت أو تناست تأثرها لتبسط رأيا معتدلا يوفق بين القديم الجامد والحديث المتهور. كتبت للجميع لأنها أرادت أن يفهمها الجميع، ولم تقصد إلا الإفادة. يدلك على ذلك تصريحها هذا:
أريد مما كتبت وأكتب للجريدة بعنوان «النسائيات» تخفيف ويلات الزواج على قدر الإمكان. ولست أقصد كل رجل على الإطلاق كما أني لم أكن أقصد كل امرأة، وإنما الكلام على من فسدت أخلاقهم (وهم مع الأسف كثيرون) فسببوا شقاء النساء وهدموا بناء الزوجية.
1
وقد حاولت تخفيف تلك الويلات والتسوية بين الرجل والمرأة واختطاط الأسلوب لإصلاح شئونهما، بالقلم واللسان معا. وهذا استهلال خطبتها الإصلاحية الأولى في نادي حزب الأمة.
أيتها السيدات، أحييكن تحية أخت شاعرة بما تشعرن، يؤلمها ما يؤلم مجموعكن وتجذل بما به تجذلن. «ليس اجتماعنا اليوم لمجرد التعارف أو لعرض مختلف الأزياء ومستحسن الزينات، وإنما هو اجتماع جدي؛ أقصد به تقرير رأي لنتبعه؛ ولأبحث فيه عن عيوبنا فنصلحها. فقد عمت الشكوى منها وكثرت كذلك شكوانا من الرجال. كلنا متظلمون، وكلنا على حق مما نقول. بيننا وبين الرجال الآن شبه خصومة، وما سببها إلا قلة الوفاق بيننا وبينهم. هم يعزون هذه الحالة إلى نقص في تربيتنا وعوج في طريقة تعلمنا. ونحن نعزوها لغطرستهم وكبريائهم» ... «والأوفق أن نسعى للوفاق جهدنا، ونزيل سوء التفاهم والتحزب؛ لنحل بدلهما الثقة والإنصاف، ولنبحث أولا في نقاط الخلاف.»
إذن فغايتها صريحة، وهي تريد إصلاحا سريعا لأن الشقاق بين الجنسين يؤلمها. قد وجدت الوسيلة، فلماذا لا يسير عليها الحائرون؟ إنها كتبت دواما كمن يرسل أقواله من على منبر الخطابة، وعندها استحسان لرأيها وإقدام وشجاعة ملازمة دائما لجميع المصلحين. كم من الجرأة والثقة بالذات في هذه الجملة: «هو اجتماع جدي أقصد به تقرير رأي لنتبعه ولأبحث فيه عن عيوبنا فنصلحها»! هذه المرأة تشعر بقلبها، إن لم تقرر بإدراكها، أن المتفوق بين ذويه رسول من لدن الله جاء يحمل إليهم رسالة إنما هي كل غايته في الحياة.
كل مقالاتها جديرة بالاهتمام، وكل انتقاد وإصلاح فيها يستحق البحث والنظر، غير أني أورد هنا وسائل الإصلاح التي لخصتها في بنود عشرة جعلتها خاتمة خطبتها الأولى في نادي حزب الأمة قالت:
بقي علينا أن نبين الطريق العملي الذي يجب أن نسير عليه. ولو كان لي حق التشريع لأصدرت اللائحة الآتية:
المادة الأولى:
Неизвестная страница