فإن المثل القائل: «إن الجزاء من جنس العمل.» لا يمكن أن يتم بولد نحو والديه؛ لأنه مستحيل لولد مهما فعل أن يكافئ والديه وخصوصا أمه.
وبناء على هذا الحب سرت جميلة لما رأت بأن بديعة آتية مع أديب؛ لأنها كانت تعرف ما هو عليه الشاب من الأدب والغنى والشرف والجمال، فقالت: «إنه يليق ببديعة.» ولما جلست بديعة على الكرسي وهي مصفرة اللون من الانزعاج، لم تعرف جميلة ما جد لها، فصارت تلمح بالكلام وهي تكاد تطير فرحا لظنها أن أديبا قد خطب بديعة، ولحظت بديعة فشكرت حب هذه الفتاة في قلبها، ولكن الليل لم يأت جميلة بالأحلام السارة، بل أبدلها بالأحلام المزعجة؛ لأن بديعة قصت عليها قصتها بتمامها.
لما خرج نسيب من الحديقة تاركا فيها بديعة، حمله الغيظ إلى أول مركبة بانتظار الركاب، فركب فيها ولم ينظر وراءه إلى أحد.
وفيما هو جالس تتقاذفه أمواج الأفكار سمع ضحكة عالية، وكان الضاحك امرأة فقال في نفسه: ما أشد جهل الذين يقولون بأن في أمريكا تمدنا! ولكنه لم يلبث أن كذب نفسه؛ لأنه سمع الضاحكة تتكلم اللغة العربية مع رفيق لها فقال: يا للعجب! كيف أن هذه الفتاة تتكلم اللغة العربية وهي لا تخجل بها؟ فإن التكلم بهذه اللغة قد أصبح «موضة قديمة» حتى في بلاد العربية ذاتها. وبعد برهة تحقق السبب الذي من أجله تكلمت الفتاة هذه اللغة؛ ذلك لأن حديثها كان سريا، فقال في نفسه: إن السوري لا يتكلم اللغة العربية إلا إذا كان في سر يريد كتمه أو في كلام يخجل أن يقوله على مسمع من الأمريكان، وربما كان هذا رأيه؛ لأنه كان حديث العهد في أمريكا.
وبقي الشاب مصغيا لحديث الرفيقين، فسمع اسم «بديعة» و«أديب» مرارا وسمع النم والاغتياب في كثيرين، وهكذا بقي صامتا حتى عرف أسرارا كثيرة لو عرف أصحابها بإفشائها لفدوها بما عز وغلا. فهز رأسه وقال: ما أجهل هذين الشخصين اللذين يتكلمان مثل هذا الكلام في الأماكن العمومية، وهما لا يدريان من الحضور فهم لغتهما. وكان لذلك الوقت لم يلتفت وراءه ليرى من هما، فلما فعل عرف الفتاة التي رافقت بديعة في البحر ونظرها معها للمرة الثانية وهي لم تنظره.
وكان نسيب قد أعجب بجمال لوسيا من قبل كما مر، فلما رآها هذه المرة رأى بأن ذلك الجمال قد صار مزدوجا الآن؛ لأن لوسيا كانت مرتدية بأجمل ثيابها في ذلك اليوم «والصقل برداخ المادة» فلما نظر إليها قال في نفسه إذا لم أقدر على إقناع بديعة - وهذا ما لا يكون - فسأختبر هذه الفتاة فإن كانت مثل بديعة وقدرت أن أحبها أقترن بها، وإلا فإنني أرمي لها شراك حبي فأصطادها بها وأسلب منها مالها؛ لأن المال نفد مني ولا أقدر على الشغل. والعجيب أن ذلك الشاب مع كثرة شروره رام «اختبار لوسيا» ولم ينخدع بظواهرها مما يدل على أن في الرجل أمرين؛ الأول: أنه وإن يكن شريرا فهو يقدر على معرفة المرأة الفاضلة، والثاني: هو أن الرجل يحترم المرأة التي تحترم نفسها، وإن كانت عدوته اللدودة، فيا حبذا لو اعتبر بعض النساء هذا، واعتبر أيضا أن الرجل لا يسأل على نقصه، وإنما يطلب الكمال في المرأة ، وقد قيل إن المرأة خلقت لتكمل نقص الرجل.
وكان نسيب ينظر إلى لوسيا من تلك الساعة بتدقيق وهو يقول في نفسه: إنني رجل نبذت الفضل ولكنني أعرفه، والذي أراه هو أن هذه الفتاة خلقت لتكون زهرة ذات رائحة تنعش القلب ولكنها لا تهتم قط بأن تكون ثمرة، وهي لا تعلم بأن الزهرة يشم الإنسان رائحتها فقط وبعد حين تزول هذه الرائحة، وأما الثمرة فإنه يأكلها وتتحول في معدته إلى دم يتوزع من قلبه إلى كل جسمه.
ولما نزل الرفيقان أمام مرسح خارج البلدة - لأن الوقت كان صيفا - تبعهما نسيب ولم يلبث أن عرفهما بنفسه، فلما عرفا بأنه سوري مثلهما طلبا إليه قبول ضيافتهما والدخول معهما إلى المرسح ففعل، وكان ما بين كل فصل وفصل يلقي شباك مكره للوسيا التي عرف حالا بأن صيدها سهل للغاية.
ظنت الفتاة في أول الأمر أنها تلاطف نسيبا شأنها مع كل الشبان نظيره، الذين كانت تقبل هداياهم وتذهب نهارا معهم إلى المتنزهات، وليلا إلى المراسح، وهي لم تحسب عملها مغايرا للأدب قط؛ لأنها في بلاد تفعل عادات أهلها، ولكنها بالحقيقة كانت لا تميل إلى واحد من أولئك الشبان أكثر من الآخر، ولا تفضل واحدا منهم على سواه.
ولم تكن تنتهي تلك الليلة حتى شعرت لأول مرة بما لم تشعر به من قبل؛ بسرور زائد من محادثة نسيب وارتياح زائد إليه. ولما فارقهما وذهب إلى المنزل، أحست بأن بعضها قد فارقها وحزنت لفراقه.
Неизвестная страница