وباتت الفتاتان تلك الليلة على طرفي نقيض من الأفكار؛ لوسيا تحلم مسرورة بأنها تركت بيت أبيها وتركت الفقر والتعب وراءها فيه، وتخلصت من مرأى وجه خالتها العبوس وحديثها الخشن.
وبديعة تحارب أفكارها وترى بأن كل أمل لها في السعادة قد غاب عنها منذ غابت بيروت، وهي أرقة لا تقدر على النوم بعد أن دفنت كل مطامعها بالسعادة في تلك المدينة السورية العظيمة.
وكان الليل قد حجب عن نظر بديعة الناقد كل مناظر المكان الذي كانت فيه، فلما أفاقت صباحا ذهلت مما رأته حولها من أشكال الناس المختلفي اللغة والجنس ولكن أكثرهم من بني وطنها. ثيابهم رثة بالية، ومضاجعهم قذرة، والمكان الذي ينامون فيه محاط بالأوساخ التي تنبعث منها رائحة كريهة لا تحتمل، وتجلب الأمراض من جهة ودوار البحر من أخرى، وتورثهم أمراضا تزيد تعاستهم تعاسة، ولا يعودون قادرين على تنشق الهواء النقي والخروج من تلك الجهنم الأرضية. ونظرت بديعة فرأت لوسيا تتأمل في تلك المناظر المؤلمة، فسألتها قائلة: ما بالك يا لوسيا حزينة؟
قالت لوسيا: آه يا بديعة إذا كان السوريون يتعذبون في أمريكا ويعيشون كهذه المعيشة بسفرهم؛ فإنني لا أكون كسبت شيئا، وأكون انتقلت من «المقلى إلى النار»، بل أفضل البقاء في وطني على هذه الحالة من أن أكون فيها في بلاد الغربة. - إنها حالة مضنكة يا عزيزتي، ولكن ما هو ذنب أمريكا يا ترى؟ أليس الذنب كله علينا نحن السوريين؛ لأننا نمشي كالنمل على طريق واحدة؟ انظري بين هؤلاء المسافرين يا لوسيا تري ثلثهم قد هاجر إلى أمريكا من قبل، وأتى بمال كثير فذهب إلى الوطن واشترى ببعضه أرزاقا وبنى بالبعض الآخر بيوتا للسكن جميلة، وأدان قسما بالفائض وهو راجع اليوم إلى أمريكا، إما مع عائلته وإما وحده طمعا بالزيادة من الربح. والثلث الثاني هو من الناس الذين يسمونهم «مستورين» في وطننا، وغيره من إخوانهم سافروا لأمريكا طمعا بالربح الكثير أيضا. والثلث الباقي هو من أولئك الفقراء مثلنا الذين ليس لهم إلا مال قليل يكاد يكفي للقيام بأودهم ولنفقات سفرهم إلى أمريكا، ومنهم من ليس لهم كفاية لهذا الأمر. فالثلث الأول من هؤلاء مجرم يا لوسيا؛ لأنه قد هاجر وعرف ما هي المعيشة، ومعه مال كثير، وترينه لا يزال على مثل ما كان من الجهل، يسافر هذه المرة إلى أمريكا على «ظهر البابور» كما سافر في المرة الأولى عندما كان فقيرا، وهو الآن قادر على اجتناب كل هذه القذارة والأمراض ببذل القليل من المال زيادة. والثلث الثاني مجرم في الدرجة الثانية؛ لأنه قادر على الاستراحة ولا يستريح، ولكنه يعذر أكثر من الثلث الأول الذي هو مجرم في الدرجة الأولى؛ لأنه أكثر اختبارا ومعرفة. وأما الثلث الأخير فهو معذور ويستحق الرحمة لأنه يمد رجليه على قدر بساطه.
ومن هنا يتضح لك بأن ليس لأمريكا يد «ببهدلتنا»؛ بل نحن نسعى بضرر نفسنا بنفسنا.
ولم تنته بديعة من كلامها حتى أمسكت لوسيا بذراعها وقالت: انظري انظري، فهل هذا ذنبنا أيضا؟
فالتفتت بديعة، وإذا بأحد النوتية يهين رجلا سوريا بالكلام، والسوري ساكت لا يبدي حراكا. فتأسفت بديعة لهذا الأمر وقالت: إن هذا الرجل يهان إما لأنه سبب الإهانة لنفسه، وإما لأن غيره سببها له بأعماله المغايرة حتى صار الجميع عند الإفرنج سواء. وفيما هما بالكلام حانت من بديعة التفاتة، فرأت نوتيا آخر وهو مار بجانب إحدى الفتيات ضربها بيده على خدها ضربة لطيفة تدل على المداعبة، فضحكت الفتاة ومر النوتي ضاحكا أيضا. وعند هذا المنظر تحركت عوامل الشرف في قلب بديعة وتمزق فؤادها الطاهر لهذا الأمر، ولشدة غيرتها على شرف جنسها لم تقف لتفتكر فيما إذا كان تداخلها بالأمر واجبا أم لا. وللحال قامت من مكانها وذهبت توا إلى تلك الفتاة التي كانت لا تزال واقفة مكانها. وكانت بديعة تشعر بأن الرجل لئيم، وقد أهان فتاة من جنسها. وبأن تلك الإهانة موجهة إليها نفسها؛ لأن المرأة الشريفة متى أهينت امرأة غيرها تتحمس لمعرفتها بأن الإهانة لحقت بكل امرأة على السواء وليس بامرأة واحدة فقط.
وكانت الفتاة قد عرفت الغرض من قدومها إليها فقالت: اعذريني يا أختي؛ فإنني لم أتجرأ على ردع هذا النوتي؛ لأنني أخافه، فاستري ما رأيت مني.
فقالت بديعة: إن السترة واجبة علي، وأنا لا أنكر لؤم ووقاحة كل رجل خال من الشهامة، ولكن كان يجب عليك يا أختي أن تقابلي تلك القوة الشريرة بالمقاومة؛ لأن ما لا يأتي باللطف يأتي بالعنف.
فقالت: وأنى لي ذلك وأنا امرأة ضعيفة، وهو رجل قوي، وقد التقيت به بهذا المكان المنفرد ولا قدرة لي على ردعه؟!
Неизвестная страница