[خُطْبَةُ الْكِتَابِ لِلْمُصَنِّفِ]
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) خُطْبَةُ الْكِتَابِ لِلْمُصَنِّفِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْقَادِرِ الْقَوِيِّ الْقَاهِرِ الرَّحِيمِ الْغَافِرِ الْكَرِيمِ السَّاتِرِ ذِي السُّلْطَانِ الظَّاهِرِ، وَالْبُرْهَانِ الْبَاهِرِ، خَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَالِكِ كُلِّ مَيِّتٍ، وَحَيٍّ، خَلَقَ فَأَحْسَنَ، وَصَنَعَ فَأَتْقَنَ، وَقَدَرَ فَغَفَرَ، وَأَبْصَرَ فَسَتَرَ، وَكَرَمَ فَعَفَا، وَحَكَمَ فَأَخْفَى، عَمَّ فَضْلُهُ، وَإِحْسَانُهُ، وَتَمَّ حُجَّتُهُ، وَبُرْهَانُهُ، وَظَهَرَ أَمْرُهُ، وَسُلْطَانُهُ فَسُبْحَانَهُ مَا أَعْظَمَ شَأْنَهُ، وَالصَّلَاةُ، وَالسَّلَامُ عَلَى الْمَبْعُوثِ بَشِيرًا، وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا فَأَوْضَحَ الدَّلَالَةَ، وَأَزَاحَ الْجَهَالَةَ، وَفَلَّ السَّفَهَ، وَثَلَّ الشُّبَهَ: مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ، وَعَلَى آلِهِ الْأَبْرَارِ، وَأَصْحَابِهِ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ.
(وَبَعْدُ) فَإِنَّهُ لَا عِلْمَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ، وَصِفَاتِهِ أَشْرَفُ مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِعِلْمِ الْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ، وَعِلْمِ الشَّرَائِعِ، وَالْأَحْكَامِ، لَهُ بَعَثَ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِالْعَقْلِ الْمَحْضِ دُونَ مَعُونَةِ السَّمْعِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ﴾ [البقرة: ٢٦٩] وَقِيلَ: فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ هُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: " مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي دِينٍ، وَلَفَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ مِنْ الشَّامِ إلَى عُمَرَ ﵁ فَقَالَ: مَا أَقْدَمَك قَالَ: قَدِمْت لِأَتَعَلَّمَ التَّشَهُّدَ فَبَكَى عُمَرُ حَتَّى ابْتَلَّتْ لِحْيَتُهُ ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو مِنْ اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَك أَبَدًا.
وَالْأَخْبَارُ، وَالْآثَارُ فِي الْحَضِّ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْعِلْمِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَقَدْ كَثُرَ تَصَانِيفُ مَشَايِخِنَا فِي هَذَا الْفَنِّ قَدِيمًا، وَحَدِيثًا، وَكُلُّهُمْ أَفَادُوا، وَأَجَادُوا غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَصْرِفُوا الْعِنَايَةَ إلَى التَّرْتِيبِ فِي ذَلِكَ سِوَى أُسْتَاذِي وَارِثِ السُّنَّةِ، وَمُوَرِّثِهَا الشَّيْخِ الْإِمَامِ الزَّاهِدِ عَلَاءِ الدَّيْنِ رَئِيسِ أَهْلِ السُّنَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَاقْتَدَيْت بِهِ فَاهْتَدَيْت إذْ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ، وَالْمَقْصُودُ الْكُلِّيُّ مِنْ التَّصْنِيفِ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ هُوَ تَيْسِيرُ سَبِيلِ الْوُصُولِ إلَى الْمَطْلُوبِ عَلَى الطَّالِبِينَ، وَتَقْرِيبُهُ إلَى أَفْهَامِ الْمُقْتَبِسِينَ، وَلَا يَلْتَئِمُ هَذَا الْمُرَادُ إلَّا بِتَرْتِيبٍ تَقْتَضِيهِ الصِّنَاعَةُ، وَتُوجِبُهُ الْحِكْمَةُ، وَهُوَ التَّصَفُّحُ عَنْ أَقْسَامِ الْمَسَائِلِ، وَفُصُولِهَا، وَتَخْرِيجِهَا عَلَى قَوَاعِدِهَا، وَأُصُولِهَا لِيَكُونَ أَسْرَعَ فَهْمًا، وَأَسْهَلَ ضَبْطًا، وَأَيْسَرَ حِفْظًا فَتَكْثُرُ الْفَائِدَةُ، وَتَتَوَفَّرُ الْعَائِدَةُ فَصَرَفْت الْعِنَايَةَ إلَى ذَلِكَ، وَجَمَعْت فِي كِتَابِي
1 / 2
هَذَا جُمَلًا مِنْ الْفِقْهِ مُرَتَّبَةً بِالتَّرْتِيبِ الصِّنَاعِيِّ، وَالتَّأْلِيفِ الْحُكْمِيِّ الَّذِي تَرْتَضِيهِ أَرْبَابُ الصَّنْعَةِ، وَتَخْضَعُ لَهُ أَهْلَ الْحِكْمَةِ مَعَ إيرَادِ الدَّلَائِلِ الْجَلِيَّةِ، وَالنُّكَتِ الْقَوِيَّةِ بِعِبَارَاتٍ مُحْكَمَةِ الْمَبَانِي مُؤَيَّدَةِ الْمَعَانِي، وَسَمَّيْته (الْفِقْهَ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ) إذْ هِيَ صَنْعَةٌ بَدِيعَةٌ، وَتَرْتِيبٌ عَجِيبٌ، وَتَرْصِيفٌ غَرِيبٌ لِتَكُونَ التَّسْمِيَةُ مُوَافِقَةً لِلْمُسَمَّى، وَالصُّورَةُ مُطَابِقَةً لِلْمَعْنَى وَافَقَ شَنٌّ طَبَقَهُ وَافَقَهُ فَاعْتَنَقَهُ فَأَسْتَوْفِقُ اللَّهَ تَعَالَى لِإِتْمَامِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْمُرَادِ، وَالزَّادِ لِلْمُرْتَادِ، وَمُنْتَهَى الطَّلَبِ، وَعَيْنُهُ تُشْفِي الْجَرَبَ، وَالْمَأْمُولُ مِنْ فَضْلِهِ، وَكَرَمِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ وَارِثًا فِي الْغَابِرِينَ، وَلِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخَرِينَ، وَذِكْرًا فِي الدُّنْيَا، وَذُخْرًا فِي الْعُقْبَى، وَهُوَ خَيْرُ مَأْمُولٍ، وَأَكْرَمُ مَسْئُولٍ.
[كِتَابُ الطَّهَارَةِ]
[تَفْسِيرُ الطَّهَارَةِ]
(كِتَابُ الطَّهَارَةِ):
الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ، فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا، فِي تَفْسِيرِ الطَّهَارَةِ، وَالثَّانِي، فِي بَيَانِ أَنْوَاعِهَا (أَمَّا) تَفْسِيرُهَا: فَالطَّهَارَةُ لُغَةً، وَشَرْعًا هِيَ النَّظَافَةُ، وَالتَّطْهِيرُ، وَالتَّنْظِيفُ، وَهُوَ إثْبَاتُ النَّظَافَةِ فِي الْمَحَلِّ، وَأَنَّهَا صِفَةٌ تَحْدُثُ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ حُدُوثُهَا بِوُجُودِ ضِدِّهَا، وَهُوَ الْقَذَرُ، فَإِذَا زَالَ الْقَذَرُ، وَامْتَنَعَ حُدُوثُهُ بِإِزَالَةِ الْعَيْنِ الْقَذِرَةِ، تَحْدُثُ النَّظَافَةُ، فَكَانَ زَوَالُ الْقَذَرِ مِنْ بَابِ زَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ حُدُوثِ الطَّهَارَةِ، لَا أَنْ يَكُونَ طَهَارَةً، وَإِنَّمَا سُمِّيَ طَهَارَةً تَوَسُّعًا لِحُدُوثِ الطَّهَارَةِ عِنْدَ زَوَالِهِ.
[فَصْلٌ بَيَانُ أَنْوَاعِ الطَّهَارَةِ]
(فَصْلٌ):
وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِهَا: فَالطَّهَارَةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: طَهَارَةٌ عَنْ الْحَدَثِ، وَتُسَمَّى طَهَارَةً حُكْمِيَّةً، وَطَهَارَةٌ عَنْ الْخَبَثِ، وَتُسَمَّى طَهَارَةً حَقِيقِيَّةً أَمَّا الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَدَثِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الْوُضُوءُ، وَالْغُسْلُ، وَالتَّيَمُّمُ.
[بَيَانُ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ]
(أَمَّا) الْوُضُوءُ: فَالْكَلَامُ فِي الْوُضُوءِ فِي مَوَاضِعِ تَفْسِيرِهِ، وَفِي بَيَانِ أَرْكَانِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْأَرْكَانِ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِهِ، وَفِي بَيَانِ آدَابِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْقُضُهُ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْوُضُوءُ اسْمٌ لِلْغَسْلِ وَالْمَسْحِ، لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: ٦] أَمَرَ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَمَسْحِ الرَّأْسِ.
فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَعْنَى الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ فَالْغَسْلُ هُوَ إسَالَةُ الْمَائِعِ عَلَى الْمَحَلِّ، وَالْمَسْحُ هُوَ الْإِصَابَةُ، حَتَّى لَوْ غَسَلَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ، وَلَمْ يُسِلْ الْمَاءَ، بِأَنْ اسْتَعْمَلَهُ مِثْلَ الدُّهْنِ، لَمْ يَجُزْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَوْ تَوَضَّأَ بِالثَّلْجِ، وَلَمْ يَقْطُرْ مِنْهُ شَيْءٌ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ قَطَرَ قَطْرَتَانِ، أَوْ ثَلَاثٌ، جَازَ لِوُجُودِ الْإِسَالَةِ، وَسُئِلَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ عَنْ التَّوَضُّؤِ بِالثَّلْجِ، فَقَالَ: ذَلِكَ مَسْحٌ، وَلَيْسَ بِغَسْلٍ، فَإِنْ عَالَجَهُ حَتَّى يَسِيلَ يَجُوزُ وَعَنْ خَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ أَنَّهُ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْمُتَوَضِّئِ فِي الشِّتَاءِ أَنْ يَبُلَّ أَعْضَاءَهُ شِبْهَ الدُّهْنِ، ثُمَّ يُسِيلَ الْمَاءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَتَجَافَى عَنْ الْأَعْضَاءِ فِي الشِّتَاءِ.
مَطْلَبُ غَسْلِ الْوَجْهِ (وَأَمَّا) أَرْكَانُ الْوُضُوءِ فَأَرْبَعَةٌ: (أَحَدُهَا): غَسْلُ الْوَجْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦]، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَدَّ الْوَجْهِ، وَذَكَرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ مِنْ قِصَاصِ الشَّعْرِ إلَى أَسْفَلِ الذَّقَنِ، وَإِلَى شَحْمَتَيْ الْأُذُنَيْنِ، وَهَذَا تَحْدِيدٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ تَحْدِيدُ الشَّيْءِ بِمَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ لُغَةً؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ اسْمٌ لِمَا يُوَاجِهُ الْإِنْسَانَ، أَوْ مَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ فِي الْعَادَةِ، وَالْمُوَاجَهَةُ تَقَعُ بِهَذَا الْمَحْدُودِ، فَوَجَبَ غَسْلُهُ قَبْلَ نَبَاتِ الشَّعْرِ، فَإِذَا نَبَتَ الشَّعْرُ يَسْقُطُ غَسْلُ مَا تَحْتَهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ: إنَّهُ لَا يَسْقُطُ غَسْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ الشَّعْرُ كَثِيفًا يَسْقُطُ، وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا لَا يَسْقُطُ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مَا تَحْتَ الشَّعْرِ بَقِيَ دَاخِلًا تَحْتَ الْحَدِّ بَعْدَ نَبَاتِ الشَّعْرِ، فَلَا يَسْقُطُ غَسْلُهُ وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ السُّقُوطَ لِمَكَانِ الْحَرَجِ،، وَالْحَرَجُ فِي الْكَثِيفِ لَا فِي الْخَفِيفِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْوَاجِبَ غَسْلُ الْوَجْهِ، وَلَمَّا نَبَتَ الشَّعْرُ خَرَجَ مَا تَحْتَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَجْهًا، لِأَنَّهُ لَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ، فَلَا يَجِبُ غُسْلُهُ، وَخَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَعَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا، لِأَنَّ السُّقُوطَ فِي الْكَثِيفِ لَيْسَ لِمَكَانِ الْحَرَجِ، بَلْ لِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَجْهًا لِاسْتِتَارِهِ بِالشَّعْرِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي الْخَفِيفِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ غَسْلُ مَا تَحْتَ الشَّارِبِ وَالْحَاجِبَيْنِ.
وَأَمَّا الشَّعْرُ الَّذِي يُلَاقِي الْخَدَّيْنِ، وَظَاهِرَ الذَّقَنِ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزُفَرَ، أَنَّهُ إذَا مَسَحَ مِنْ لِحْيَتِهِ ثُلُثًا، أَوْ رُبُعًا جَازَ، وَإِنْ مَسَحَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ لَمْ
1 / 3
يَمْسَحْ شَيْئًا مِنْهَا جَازَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مَرْجُوعٌ عَنْهَا،، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ؛ لِأَنَّ الْبَشَرَةَ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ وَجْهًا، لِعَدَمِ مَعْنَى الْمُوَاجَهَةِ لِاسْتِتَارِهَا بِالشَّعْرِ، فَصَارَ ظَاهِرُ الشَّعْرِ الْمُلَاقِي لَهَا هُوَ الْوَجْهُ، لِأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ تَقَعُ إلَيْهِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: وَإِنَّمَا مَوَاضِعُ الْوُضُوءِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَالظَّاهِرُ هُوَ الشَّعْرُ لَا الْبَشَرَةُ، فَيَجِبُ غَسْلُهُ، وَلَا يَجِبُ غَسْلُ مَا اسْتَرْسَلَ مِنْ اللِّحْيَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ (لَهُ) أَنَّ الْمُسْتَرْسِلَ تَابِعٌ لِمَا اتَّصَلَ، وَالتَّبَعُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَصْلِ.
وَ(لَنَا) أَنَّهُ إنَّمَا يُوَاجِهُ إلَى الْمُتَّصِلِ عَادَةً، لَا إلَى الْمُسْتَرْسِلِ، فَلَمْ يَكُنْ الْمُسْتَرْسِلُ وَجْهًا، فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ، وَيَجِبُ غَسْلُ الْبَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَا تَحْتَ الْعِذَارِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ مَعَ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْوَجْهِ، فَلَأَنْ لَا يَجِبَ غَسْلُ الْبَيَاضِ أَوْلَى، وَلَهُمَا أَنَّ الْبَيَاضَ دَاخِلٌ فِي حَدِّ الْوَجْهِ، وَلَمْ يُسْتَرْ بِالشَّعْرِ فَبَقِيَ وَاجِبَ الْغَسْلِ كَمَا كَانَ، بِخِلَافِ الْعِذَارِ.
وَإِدْخَالُ الْمَاءِ فِي دَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ دَاخِلَ الْعَيْنِ لَيْسَ بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ حَرَجًا، وَقِيلَ: إنَّ مَنْ تَكَلَّفَ لِذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ كُفَّ بَصَرُهُ، كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ ﵃.
مَطْلَبُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ
(وَالثَّانِي) غَسْلُ الْيَدَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَأَيْدِيَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ.
وَالْمِرْفَقَانِ يَدْخُلَانِ فِي الْغَسْلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَدْخُلَانِ، وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنْ الْمِرْفَقِ، يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ مَوْضِعِ الْقَطْعِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمِرْفَقَ غَايَةً، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَا جُعِلَتْ لَهُ الْغَايَةُ، كَمَا لَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ تَحْتَ الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ فِي قَوْله تَعَالَى ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: ١٨٧] .
(وَلَنَا) أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِغَسْلِ الْيَدِ، وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْإِبِطِ، وَلَوْلَا ذِكْرُ الْمِرْفَقِ لَوَجَبَ غَسْلُ الْيَدِ كُلِّهَا، فَكَانَ ذِكْرُ الْمِرْفَقِ لِإِسْقَاطِ الْحُكْمِ عَمَّا وَرَاءَهُ، لَا لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهِ، لِدُخُولِهِ تَحْتَ مُطْلَقِ اسْمِ الْيَدِ، فَيَكُونُ عَمَلًا بِاللَّفْظِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمِرْفَقَ لَا يَصْلُحُ غَايَةً لِحُكْمٍ ثَبَتَ فِي الْيَدِ، لِكَوْنِهِ بَعْضَ الْيَدِ، بِخِلَافِ اللَّيْلِ فِي بَابِ الصَّوْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا ذِكْرُ اللَّيْلُ لَمَا اقْتَضَى الْأَمْرُ إلَّا وُجُوبَ صَوْمِ سَاعَةٍ، فَكَانَ ذِكْرُ اللَّيْلِ لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهِ؛ عَلَى أَنَّ الْغَايَاتِ مُنْقَسِمَةٌ، مِنْهَا مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ، وَمِنْهَا مَا يَدْخُلُ، كَمَنْ قَالَ: رَأَيْتُ فُلَانًا مِنْ رَأْسِهِ إلَى قَدَمِهِ، وَأَكَلْتُ السَّمَكَةَ مِنْ رَأْسِهَا إلَى ذَنَبِهَا، دَخَلَ الْقَدَمُ، وَالذَّنَبُ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْغَايَةُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي يَجِبُ، فَيُحْمَلُ عَلَى الثَّانِي احْتِيَاطًا، عَلَى أَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ دُخُولَ الْمَرَافِقِ فِي الْأَمْرِ بِالْغَسْلِ، وَاحْتَمَلَ خُرُوجَهَا عَنْهُ صَارَ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ.
وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «كَانَ إذَا بَلَغَ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْوُضُوءِ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَيْهِمَا» فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ، وَالْمُجْمَلُ إذَا الْتَحَقَ بِهِ الْبَيَانُ يَصِيرُ مُفَسَّرًا مِنْ الْأَصْلِ.
مَطْلَبُ مَسْحِ الرَّأْسِ (وَالثَّالِثُ): مَسْحُ الرَّأْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ [المائدة: ٦] وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ بِالْفِعْلِ لَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ،، وَاخْتُلِفَ فِي الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ مَسْحُهُ، ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ، وَقَدَّرَهُ بِثَلَاثِ أَصَابِعِ الْيَدِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِالرُّبْعِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا مِقْدَارَ النَّاصِيَةِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَمْسَحَ جَمِيعَ الرَّأْسِ، أَوْ أَكَثْرَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا مَسَحَ مَا يُسَمَّى مَسْحًا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ.
وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الرَّأْسَ، وَالرَّأْسُ اسْمٌ لِلْجُمْلَةِ، فَيَقْتَضِي وُجُوبَ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ، وَحَرْفُ الْبَاءِ لَا يَقْتَضِي التَّبْعِيضَ لُغَةً، بَلْ هُوَ حَرْفُ إلْصَاقٍ، فَيَقْتَضِي إلْصَاقَ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْمَسْحُ بِالرَّأْسِ، وَالرَّأْسُ اسْمٌ لِكُلِّهِ، فَيَجِبُ مَسْحُ كُلِّهِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا مَسَحَ الْأَكْثَرَ جَازَ لِقِيَامِ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ.
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِالْمَسْحِ بِالرَّأْسِ، وَالْمَسْحُ بِالشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي اسْتِيعَابَهُ فِي الْعُرْفِ، يُقَالُ: (مَسَحْتُ يَدِي بِالْمِنْدِيلِ)، وَإِنْ لَمْ يَمْسَحْ بِكُلِّهِ، وَيُقَالُ: " كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَضَرَبْتُ بِالسَّيْفِ "، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ بِكُلِّ الْقَلَمِ، وَلَمْ يَضْرِبْ بِكُلِّ السَّيْفِ، فَيَتَنَاوَلُ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَسْحِ يَقْتَضِي آلَةً، إذْ الْمَسْحُ لَا يَكُونُ إلَّا بِآلَةٍ، وَآلَةُ الْمَسْحِ هِيَ أَصَابِعُ الْيَدِ عَادَةً، وَثَلَاثُ أَصَابِعِ الْيَدِ أَكْثَرُ الْأَصَابِعِ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، فَصَارَ كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الثَّلَاثِ وَقَالَ: " وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ بِثَلَاثِ أَصَابِعِ أَيْدِيكُمْ ".
وَأَمَّا وَجْهُ التَّقْدِيرِ بِالنَّاصِيَةِ فَلِأَنَّ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ لَيْسَ بِمُرَادٍ مِنْ الْآيَةِ بِالْإِجْمَاعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ إلَّا قَلِيلًا مِنْهُ جَائِزٌ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ الرَّأْسِ، وَلَا عَلَى بَعْضٍ مُطْلَقٍ، وَهُوَ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ مَاسِحَ
1 / 4
شَعْرَةٍ، أَوْ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ لَا يُسَمَّى مَاسِحًا فِي الْعُرْفِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى مِقْدَارٍ يُسَمَّى الْمَسْحُ عَلَيْهِ مَسْحًا فِي الْمُتَعَارَفِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ.
وَقَدْ رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَنْ «النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ بَالَ، وَتَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ» فَصَارَ فِعْلُهُ ﵊ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ، إذْ الْبَيَانُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ تَارَةً، وَبِالْفِعْلِ أُخْرَى، كَفِعْلِهِ فِي هَيْئَةِ الصَّلَاةِ، وَعَدَدِ رَكَعَاتِهَا، وَفِعْلِهِ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ مِقْدَارَ النَّاصِيَةِ بِبَيَانِ النَّبِيِّ ﷺ وَوَجْهُ التَّقْدِيرِ بِالرُّبْعِ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ اعْتِبَارُ الرُّبْعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، كَمَا فِي حَلْقِ رُبْعِ الرَّأْسِ أَنَّهُ يَحِلُّ بِهِ الْمُحْرِمُ، وَلَا يَحِلُّ بِدُونِهِ، وَيَجِبُ الدَّمُ إذَا فَعَلَهُ فِي إحْرَامِهِ، وَلَا يَجِبُ بِدُونِهِ، وَكَمَا فِي انْكِشَافِ الرُّبْعِ مِنْ الْعَوْرَةِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَمَا دُونَهُ لَا يَمْنَعُ، كَذَا هَهُنَا، وَلَوْ وَضَعَ ثَلَاثَ أَصَابِعَ وَضْعًا، وَلَمْ يَمُدَّهَا جَازَ عَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ الْأَصْلِ، وَهِيَ التَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ، وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ النَّاصِيَةِ: وَالرُّبْعُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى ذَلِكَ الْقَدْرَ.
وَلَوْ مَسَحَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ مَنْصُوبَةٍ غَيْرِ مَوْضُوعَةٍ وَلَا مَمْدُودَةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ، وَلَوْ مَدَّهَا حَتَّى بَلَغَ الْقَدْرَ الْمَفْرُوضَ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا مَسَحَ بِأُصْبُعٍ، أَوْ بِأُصْبُعَيْنِ، وَمَدَّهُمَا حَتَّى بَلَغَ مِقْدَارَ الْفَرْضِ.
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ إنَّ الْمَاءَ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا حَالَةَ الْمَسْحِ كَمَا لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا حَالَةَ الْغَسْلِ، فَإِذَا مَدَّ فَقَدْ مَسَحَ بِمَاءٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ، فَجَازَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ سُنَّةَ الِاسْتِيعَابِ تَحْصُلُ بِالْمَدِّ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا بِالْمَدِّ لَمَا حَصَلَتْ، لِأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَصِيرَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِأَوَّلِ مُلَاقَاتِهِ الْعُضْوَ، لِوُجُودِ زَوَالِ الْحَدَثِ، أَوْ قَصْدِ الْقُرْبَةِ، إلَّا أَنَّ فِي بَابِ الْغَسْلِ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ أَعْطَى لَهُ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَأْخُذَ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْعُضْوِ مَاءً جَدِيدًا، وَفِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى، فَلَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْمَسْحِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْسَحَ دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْمَدِّ لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ، فَظَهَرَ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ، وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى إقَامَةِ سُنَّةِ الِاسْتِيعَابِ، فَلَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ كَمَا فِي الْغَسْلِ.
وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَعَادَهَا إلَى الْمَاءِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ جَازَ، هَكَذَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّوَادِرِ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْمَسْحُ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ.
وَقَدْ وُجِدَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ رَأْسَهُ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْمَسْحِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلُ الْمَسْحِ رَأْسًا، وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ بِبَطْنِهَا، وَبِظَهْرِهَا، وَبِجَانِبِهَا لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْمَسْحِ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَإِيصَالُ الْمَاءِ إلَى أُصُولِ الشَّعْرِ لَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَرَجًا فَأُقِيمَ الْمَسْحُ عَلَى الشَّعْرِ مَقَامَ الْمَسْحِ عَلَى أُصُولِهِ، وَلَوْ مَسَحَ عَلَى شَعْرِهِ وَكَانَ شَعْرُهُ طَوِيلًا فَإِنْ مَسَحَ عَلَى مَا تَحْتَ أُذُنِهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ مَسَحَ عَلَى مَا فَوْقَهَا جَازَ، لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الشَّعْرِ كَالْمَسْحِ عَلَى مَا تَحْتَهُ، وَمَا تَحْتَ الْأُذُنِ عُنُقٌ، وَمَا فَوْقَهُ رَأْسٌ.
وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَالْقَلَنْسُوَةِ، لِأَنَّهُمَا يَمْنَعَانِ إصَابَةَ الْمَاءِ الشَّعْرَ، وَلَا يَجُوزُ مَسْحُ الْمَرْأَةِ عَلَى خِمَارِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ﵂ أَنَّهَا أَدْخَلَتْ يَدَهَا تَحْتَ الْخِمَارِ، وَمَسَحَتْ بِرَأْسِهَا وَقَالَتْ: بِهَذَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَّا إذَا كَانَ الْخِمَارُ رَقِيقًا يُنْفِذُ الْمَاءَ إلَى شَعْرِهَا، فَيَجُوزُ لِوُجُودِ الْإِصَابَةِ.
وَلَوْ أَصَابَ رَأْسَهُ الْمَطَرُ مِقْدَارَ الْمَفْرُوضِ أَجْزَأَهُ مَسَحَهُ بِيَدِهِ أَوْ لَمْ يَمْسَحْهُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي الْمَسْحِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ وُصُولُ الْمَاءِ إلَى ظَاهِرِ الشَّعْرِ، وَقَدْ وُجِدَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
مَطْلَبُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ
(وَالرَّابِعُ) غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: ٦] بِنَصْبِ اللَّامِ مِنْ الْأَرْجُلِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة: ٦] كَأَنَّهُ قَالَ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ، وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ.
وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَقَالَتْ الرَّافِضَةُ الْفَرْضُ هُوَ الْمَسْحُ لَا غَيْرُ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْمَسْحِ، وَالْغَسْلِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَأَصْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْآيَةَ قُرِئَتْ بِقِرَاءَتَيْنِ، بِالنَّصْبِ، وَالْخَفْضِ فَمَنْ قَالَ بِالْمَسْحِ أَخَذَ بِقِرَاءَةِ الْخَفْضِ، فَإِنَّهَا تَقْتَضِي كَوْنَ الْأَرْجُلِ مَمْسُوحَةً لَا مَغْسُولَةً؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى الرَّأْسِ، وَالْمَعْطُوفُ يُشَارِكُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، ثُمَّ وَظِيفَةُ الرَّأْسِ الْمَسْحُ، فَكَذَا وَظِيفَةُ
1 / 5
الرِّجْلِ، وَمِصْدَاقُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْكَلَامِ عَامِلَانِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: ﴿فَاغْسِلُوا﴾ [المائدة: ٦]
وَالثَّانِي: حَرْفُ الْجَرِّ، وَهُوَ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: ﴿بِرُءُوسِكُمْ﴾ [المائدة: ٦]، وَالْبَاءُ أَقْرَبُ فَكَانَ الْخَفْضُ أَوْلَى، وَمَنْ قَالَ بِالتَّخْيِيرِ يَقُولُ: إنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ قَدْ ثَبَتَ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قُرْآنًا، وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ مُوجِبَيْهِمَا، وَهُوَ وُجُوبُ الْمَسْحِ، وَالْغَسْلِ، إذْ لَا قَائِلَ بِهِ فِي السَّلَفِ، فَيُخَيَّرُ الْمُكَلَّفُ، إنْ شَاءَ عَمِلَ بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ فَغَسَلَ، وَإِنْ شَاءَ بِقِرَاءَةِ الْخَفْضِ فَمَسَحَ، وَأَيُّهُمَا فَعَلَ يَكُونُ إتْيَانًا بِالْمَفْرُوضِ، كَمَا فِي الْأَمْرِ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَمَنْ قَالَ بِالْجَمْعِ يَقُولُ: الْقِرَاءَتَانِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا جَمِيعًا مَا أَمْكَنَ، وَأَمْكَنَ هَهُنَا لِعَدَمِ التَّنَافِي، إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْغَسْلِ، وَالْمَسْحِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
(وَلَنَا) قِرَاءَةُ النَّصْبِ، وَأَنَّهَا تَقْتَضِي كَوْنَ، وَظِيفَةِ الْأَرْجُلِ الْغَسْلَ، لِأَنَّهَا تَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْمَغْسُولَاتِ، وَهِيَ الْوَجْهُ، وَالْيَدَانِ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْمَغْسُولِ يَكُونُ مَغْسُولًا تَحْقِيقًا لِمُقْتَضَى الْعَطْفِ، وَحُجَّةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وُجُوهٌ:.
أَحَدُهَا: مَا قَالَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ مُحْكَمَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْأَرْجُلِ مَعْطُوفَةً عَلَى الْمَغْسُولَاتِ، وَقِرَاءَةُ الْخَفْضِ مُحْتَمَلَةٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الرُّءُوسِ حَقِيقَةً، وَمَحَلُّهَا مِنْ الْإِعْرَابِ الْخَفْضُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْوَجْهِ، وَالْيَدَيْنِ حَقِيقَةً، وَمَحَلُّهَا مِنْ الْإِعْرَابِ النَّصْبُ، إلَّا أَنَّ خَفْضَهَا لِلْمُجَاوَرَةِ، وَإِعْطَاءُ الْإِعْرَابِ بِالْمُجَاوَرَةِ طَرِيقَةٌ شَائِعَةٌ فِي اللُّغَةِ بِغَيْرِ حَائِلٍ، وَبِحَائِلٍ، أَمَّا بِغَيْرِ الْحَائِلِ فَكَقَوْلِهِمْ: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ وَمَاءُ شَنٍّ بَارِدٍ، وَالْخَرِبُ نَعْتُ الْجُحْرِ لَا نَعْتُ الضَّبِّ، وَالْبُرُودَةُ نَعْتُ الْمَاءِ لَا نَعْتُ الشَّنِّ، ثُمَّ خُفِضَ لِمَكَانِ الْمُجَاوَرَةِ.
وَأَمَّا مَعَ الْحَائِلِ، فَكَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ [الواقعة: ١٧] إلَى قَوْلِهِ: ﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾ [الواقعة: ٢٢] لِأَنَّهُنَّ لَا يُطَافُ بِهِنَّ، وَكَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
فَهَلْ أَنْتَ إنْ مَاتَتْ أَتَانُكَ رَاكِبٌ ... إلَى آلِ بِسْطَامٍ بْنِ قَيْسٍ فَخَاطِبُ
فَثَبَتَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْخَفْضِ مُحْتَمَلَةٌ، وَقِرَاءَةَ النَّصْبِ مُحْكَمَةٌ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ أَوْلَى إلَّا أَنَّ فِي هَذَا إشْكَالًا، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي حَدِّ التَّعَارُضِ لِأَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ مُحْتَمَلَةٌ أَيْضًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْأَرْجُلِ مَعْطُوفَةً عَلَى الْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الرَّأْسِ.
وَالْمُرَادُ بِهَا الْمَسْحُ حَقِيقَةً، لَكِنَّهَا نُصِبَتْ عَلَى الْمَعْنَى لَا عَلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّ الْمَمْسُوحَ بِهِ مَفْعُولٌ بِهِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ [المائدة: ٦] .
وَالْإِعْرَابُ قَدْ يَتْبَعُ اللَّفْظَ، وَقَدْ يَتْبَعُ الْمَعْنَى، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
مُعَاوِيَةَ إنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ ... فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا
نَصَبَ الْحَدِيدَ عَطْفًا عَلَى الْجِبَالِ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ، مَعْنَاهُ فَلَسْنَا الْجِبَالَ، وَلَا الْحَدِيدَ، فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقِرَاءَتَيْنِ مُحْتَمَلَةً فِي الدَّلَالَةِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَيُطْلَبُ التَّرْجِيحُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَّ الْحُكْمَ فِي الْأَرْجُلِ إلَى الْكَعْبَيْنِ، وَوُجُوبُ الْمَسْحِ لَا يَمْتَدُّ إلَيْهِمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْغَسْلَ يَتَضَمَّنُ الْمَسْحَ، إذْ الْغَسْلُ إسَالَةٌ، وَالْمَسْحُ إصَابَةٌ، وَفِي الْإِسَالَةِ إصَابَةٌ، وَزِيَادَةٌ، فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ عَمَلًا بِالْقِرَاءَتَيْنِ مَعًا، فَكَانَ أَوْلَى.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ رَوَى جَابِرٌ،، وَأَبُو هُرَيْرَةَ،، وَعَائِشَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَغَيْرُهُمْ، أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى قَوْمًا تَلُوحُ أَعْقَابُهُمْ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَقَالَ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ، أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ» .
وَرُوِيَ «أَنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ» وَعِيدٌ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِتَرْكِ الْمَفْرُوضِ، وَكَذَا نَفْيُ قَبُولِ صَلَاةِ مَنْ لَا يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ فِي وُضُوئِهِ، فَدَلَّ أَنَّ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ.
وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ غَسَلَ رِجْلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ»، لَا يَجْحَدُهُ مُسْلِمٌ، فَكَانَ قَوْلُهُ، وَفِعْلُهُ بَيَانُ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ، فَثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْمُتَّصِلَةِ، وَالْمُنْفَصِلَةِ أَنَّ الْأَرْجُلَ فِي الْآيَةِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْمَغْسُولِ لَا عَلَى الْمَمْسُوحِ، فَكَانَ وَظِيفَتُهَا الْغَسْلَ لَا الْمَسْحَ، عَلَى أَنَّهُ إنْ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فَالْحُكْمُ فِي تَعَارُضِ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْحُكْمِ فِي تَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا مُطْلَقًا يُعْمَلُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ لِلتَّنَافِي يُعْمَلُ بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْغَسْلِ، وَالْمَسْحِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ، وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الْمَسْحِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْغَسْلَ يَتَضَمَّنُ الْمَسْحَ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَيُعْمَلُ بِهِمَا فِي الْحَالَتَيْنِ، فَتُحْمَلُ قِرَاءَةُ النَّصْبِ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ الرِّجْلَانِ بَادِيَتَيْنِ، وَتُحْمَلُ قِرَاءَةُ الْخَفْضِ عَلَى مَا إذَا كَانَتَا مَسْتُورَتَيْنِ بِالْخُفَّيْنِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَعَمَلًا بِهِمَا
1 / 6
بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّخْيِيرِ بَاطِلٌ عِنْدَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَعِنْدَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ أَصْلًا، وَرَأْسًا لَا يُخَيَّرُ أَيْضًا، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، ثُمَّ الْكَعْبَانِ يَدْخُلَانِ فِي الْغَسْلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَدْخُلَانِ، وَالْكَلَامُ فِي الْكَعْبَيْنِ عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي الْمِرْفَقَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
، وَالْكَعْبَانِ هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ فِي أَسْفَلِ السَّاقِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْأَصْحَابِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ لِأَنَّ الْكَعْبَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا عَلَا وَارْتَفَعَ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْكَعْبَةُ كَعْبَةً، وَأَصْلُهُ مِنْ كَعْبِ الْقَنَاةِ، وَهُوَ أُنْبُوبُهَا سُمِّيَ بِهِ لِارْتِفَاعِهِ.
وَتُسَمَّى الْجَارِيَةُ النَّاهِدَةُ الثَّدْيَيْنِ كَاعِبًا لِارْتِفَاعِ ثَدْيَيْهَا، وَكَذَا فِي الْعُرْفِ يُفْهَمُ مِنْهُ النَّاتِئُ، يُقَالُ ضَرَبَ كَعْبَ فُلَانٍ، وَفِي الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ فِي تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ: «أَلْصِقُوا الْكِعَابَ بِالْكِعَابِ» وَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ إلَّا فِي النَّاتِئِ، وَمَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ الْمِفْصَلُ الَّذِي عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، إنَّمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي مَسْأَلَةِ الْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، أَنَّهُ يَقْطَعُ الْخُفَّ أَسْفَلَ الْكَعْبِ، فَقَالَ: إنَّ الْكَعْبَ هَهُنَا الَّذِي فِي مِفْصَلِ الْقَدَمِ فَنَقَلَ هِشَامٌ ذَلِكَ إلَى الطَّهَارَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إذَا كَانَتَا بَادِيَتَيْنِ لَا عُذْرَ بِهِمَا، فَأَمَّا إذَا كَانَتَا مَسْتُورَتَيْنِ بِالْخُفِّ، أَوْ كَانَ بِهِمَا عُذْرٌ مِنْ كَسْرٍ، أَوْ جُرْحٍ، أَوْ قُرْحٍ، فَوَظِيفَتُهُمَا الْمَسْحُ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَالثَّانِي: فِي الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ.
[فَصْلٌ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ]
(فَصْلٌ) أَمَّا الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ مُدَّتِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْقُضُهُ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا انْتَقَضَ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ جَائِزٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ ﵃ إلَّا شَيْئًا قَلِيلًا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵁ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّافِضَةِ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُقِيمِ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَنْكَرَ الْمَسْحَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: ٦] فَقِرَاءَةُ النَّصْبِ تَقْتَضِي وُجُوبَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ مُطْلَقًا عَنْ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْجُلَ مَعْطُوفَةً عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَهِيَ مَغْسُولَةٌ، فَكَذَا الْأَرْجُلُ، وَقِرَاءَةُ الْخَفْضِ تَقْتَضِي وُجُوبَ الْمَسْحِ عَلَى الرِّجْلَيْنِ لَا عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ فَقَالَ: «وَاَللَّهِ مَا مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ»، وَلَأَنْ أَمْسَحَ عَلَى ظَهْرِ عِيرٍ فِي الْفَلَاةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ رِوَايَةٍ قَالَ: لَأَنْ أَمْسَحَ عَلَى جِلْدِ حِمَارٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا»، وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلِ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ،، وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَصَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ، وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبِي عُمَارَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ ﵃ حَتَّى قَالَ أَبُو يُوسُفَ: خَبَرُ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمِثْلِهِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إذَا وَرَدَتْ كَوُرُودِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَكَذَا الصَّحَابَةُ ﵃ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ قَوْلًا، وَفِعْلًا، حَتَّى رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ سَبْعِينَ بَدْرِيًّا مِنْ الصَّحَابَةِ كُلُّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلِهَذَا رَآهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ شَرَائِطِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَقَالَ فِيهَا: أَنْ تُفَضِّلَ الشَّيْخَيْنِ، وَتُحِبَّ الْخَتَنَيْنِ، وَأَنْ تَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَنْ لَا تُحَرِّمَ نَبِيذَ التَّمْرِ؛ يَعْنِي: الْمُثَلَّثَ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا قُلْتُ: بِالْمَسْحِ حَتَّى جَاءَنِي فِيهِ مِثْلُ ضَوْءِ النَّهَارِ فَكَانَ الْجُحُودُ رَدًّا عَلَى كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَنِسْبَةَ إيَّاهُمْ إلَى الْخَطَأِ، فَكَانَ بِدْعَةً، فَلِهَذَا قَالَ الْكَرْخِيُّ: أَخَافُ الْكُفْرَ عَلَى مَنْ لَا يَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ الْمَسْحَ لَا خُلْفَ فِيهِ مَا مَسَحْنَا وَدَلَّ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى أَنَّ خِلَافَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَكَادُ يَصِحُّ؛ وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ لَمْ تَخْتَلِفْ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَسَحَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَسَحَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، أَوْ بَعْدَهَا، وَلَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، حَتَّى قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: حَدَّثَنِي سَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ «أَنَّهُمْ رَأَوْهُ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ» .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ﵄ أَنَّ «النَّبِيَّ ﷺ
1 / 7
مَسَحَ بَعْدَ الْمَائِدَةِ» .
وَرُوِيَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقِيلَ: لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقِيلَ لَهُ: أَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ؟ فَقَالَ: وَهَلْ أَسْلَمْتُ إلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ؟ وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قُرِئَتْ بِقِرَاءَتَيْنِ فَنَعْمَلُ بِهِمَا فِي حَالَيْنِ، فَنَقُولُ وَظِيفَتُهُمَا الْغَسْلُ إذَا كَانَتَا بَادِيَتَيْنِ، وَالْمَسْحُ إذَا كَانَتَا مَسْتُورَتَيْنِ بِالْخُفِّ، عَمَلًا بِالْقِرَاءَتَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ مَسَحَ عَلَى خُفِّهِ إنَّهُ مَسَحَ عَلَى رِجْلِهِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: ضَرَبَ عَلَى رِجْلِهِ، وَإِنْ ضَرَبَ عَلَى خُفِّهِ، وَالرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ تَصِحَّ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى عِكْرِمَةَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَتْ رِوَايَتُهُ عَطَاءً قَالَ كَذَبَ عِكْرِمَةُ وَرَوَى عَنْهُ عَطَاءٌ، وَالضَّحَّاكُ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خِلَافَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ يَثْبُتْ.
وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُخَالِفُ النَّاسَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَلَمْ يَمُتْ حَتَّى تَابَعَهُمْ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ مَالِكٍ، فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَسْحَ شُرِعَ تَرَفُّهًا، وَدَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ، فَيَخْتَصُّ شَرْعِيَّتُهُ بِمَكَانِ الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ السَّفَرُ.
(وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ ﷺ: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا»، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الِاعْتِبَارِ غَيْرُ سَدِيدٍ، لِأَنَّ الْمُقِيمَ يَحْتَاجُ إلَى التَّرَفُّهِ، وَدَفْعِ الْمَشَقَّةِ، إلَّا إنَّ حَاجَةَ الْمُسَافِرِ إلَى ذَلِكَ أَشَدُّ، فَزِيدَتْ مُدَّتُهُ لِزِيَادَةِ التَّرْفِيهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
[بَيَان مُدَّة الْمَسْح]
مَطْلَبُ بَيَانِ مُدَّةِ الْمَسْحِ
(وَأَمَّا بَيَانُ مُدَّةِ الْمَسْحِ) فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِمُدَّةٍ؟ قَالَ عَامَّتُهُمْ: إنَّهُ مُقَدَّرٌ بِمُدَّةٍ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَفِي حَقِّ الْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيَهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ إنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ كَمْ شَاءَ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ﵃ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَسَعْدٍ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ﵃ أَنَّهُ مُؤَقَّتٌ وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَزَيْدٍ بْنِ ثَابِتٍ، وَسَعِيدٍ ﵃ أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ بَلَغَ بِالْمَسْحِ سَبْعًا» .
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ ﵁ سَأَلَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ وَقَدْ قَدِمَ مِنْ الشَّامِ: مَتَى عَهْدُكَ بِالْمَسْحِ؟ قَالَ: سَبْعًا فَقَالَ عُمَرُ: ﵁ أَصَبْتَ السُّنَّةَ (وَبَلَغَ بِالْمَسْحِ سَبْعًا)، فَهُوَ غَرِيبٌ، فَلَا يُتْرَكُ بِهِ الْمَشْهُورُ مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا أَنَّهُ بَلَغَ بِالْمَسْحِ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ احْتَاجَ إلَى الْمَسْحِ سَبْعًا فِي مُدَّةِ الْمَسْحِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَقَدْ رَوَى جَابِرُ الْجُعْفِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ، وَلَيْلَةٌ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ، فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: " مَتَى عَهْدُكَ بِلُبْسِ الْخُفِّ؟ " ابْتِدَاءَ اللُّبْسِ أَيْ مَتَى عَهْدُكَ بِابْتِدَاءِ اللُّبْسِ؟، وَإِنْ كَانَ تَخَلَّلَ بَيْنَ ذَلِكَ نَزْعُ الْخُفِّ.
ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي اعْتِبَارِ مُدَّةِ الْمَسْحِ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ يُعْتَبَرُ؟ فَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، فَيَمْسَحُ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ إلَى وَقْتِ الْحَدَثِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ اللُّبْسِ، فَيَمْسَحُ مِنْ وَقْتِ اللُّبْسِ إلَى وَقْتِ اللُّبْسِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الْمَسْحِ، فَيَمْسَحُ مِنْ وَقْتِ الْمَسْحِ إلَى وَقْتِ الْمَسْحِ حَتَّى لَوْ تَوَضَّأَ بَعْدَ مَا انْفَجَرَ الصُّبْحُ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، وَصَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ أَحْدَثَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، فَعَلَى قَوْلِ الْعَامَّةِ يَمْسَحُ إلَى مَا بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي إنْ كَانَ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا يَمْسَحُ إلَى مَا بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ وَقْتَ اللُّبْسِ، يَمْسَحُ إلَى مَا بَعْدِ انْفِجَارِ الصُّبْحِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي إنْ كَانَ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا إلَى مَا بَعْدِ انْفِجَارِ الصُّبْحِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ وَقْتَ الْمَسْحِ يَمْسَحُ إلَى مَا بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي إنْ كَانَ مُقِيمًا.
وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا يَمْسَحُ إلَى مَا بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَالصَّحِيحُ اعْتِبَارُ وَقْتِ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ؛ لِأَنَّ الْخُفَّ جُعِلَ مَانِعًا مِنْ سِرَايَةِ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ، وَمَعْنَى الْمَنْعِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْحَدَثِ، فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ ضُرِبَتْ تَوْسِعَةً، وَتَيْسِيرًا لِتَعَذُّرِ نَزْعِ الْخُفَّيْنِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَالْحَاجَةُ إلَى التَّوْسِعَةِ عِنْدَ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى النَّزْعِ عِنْدَهُ، وَلَوْ تَوَضَّأَ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ، فَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، لَا تَتَحَوَّلُ مُدَّتُهُ إلَى مُدَّةِ مَسْحِ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ لَمَّا تَمَّتْ سَرَى الْحَدَثُ السَّابِقُ إلَى الْقَدَمَيْنِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا الْمَسْحَ صَارَ الْخُفُّ رَافِعًا لِلْحَدَثِ لَا مَانِعًا، وَلَيْسَ هَذَا عَمَلَ الْخُفِّ فِي الشَّرْعِ.
وَإِنْ سَافَرَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ، فَإِنْ سَافَرَ قَبْلَ الْحَدَثِ، أَوْ بَعْدَ
1 / 8
الْحَدَثِ، قَبْلَ الْمَسْحِ، تَحَوَّلَتْ مُدَّتُهُ إلَى مُدَّةِ السَّفَرِ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ الْمَسْحِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَتَحَوَّلُ، وَلَكِنَّهُ يَمْسَحُ تَمَامَ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَيَنْزِعُ خُفَّيْهِ، وَيَغْسِلُ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ مُدَّةَ السَّفَرِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ ﷺ «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا، وَلَيْلَةً»، وَلَمْ يُفَصِّلْ.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ ﷺ «، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيَهَا»، وَهَذَا مُسَافِرٌ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمُقِيمَ وَقَدْ بَطَلَتْ الْإِقَامَةُ بِالسَّفَرِ، هَذَا إذَا كَانَ مُقِيمًا فَسَافَرَ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ مُسَافِرًا فَأَقَامَ فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ مُدَّةِ السَّفَرِ نَزَعَ خُفَّيْهِ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ، لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ أَقَامَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ مُدَّةَ السَّفَرِ فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ تَمَامِ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ، أَوْ أَكْثَرَ، فَكَذَلِكَ يَنْزِعُ خُفَّيْهِ، وَيَغْسِلُ رِجْلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَسَحَ لَمَسَحَ، وَهُوَ مُقِيمٌ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَقَامَ قَبْلَ تَمَامِ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ أَتَمَّ يَوْمًا، وَلَيْلَةً؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ مُقِيمٌ فَيُتِمُّ مُدَّةَ الْمُقِيمِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيرِ مُدَّةِ الْمَسْحِ بِيَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ، وَبِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيهَا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ، فِي حَقِّ الْأَصِحَّاءِ.
فَأَمَّا فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ، كَصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ، وَالِاسْتِحَاضَةِ، وَمَنْ بِمِثْلِ حَالِهِمَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ زُفَرَ وَأَمَّا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ فَيَخْتَلِفُ الْجَوَابُ، إلَّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَ الْعُذْرِ إذَا تَوَضَّأَ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَمَّا إنْ كَانَ الدَّمُ مُنْقَطِعًا وَقْتَ الْوُضُوءِ، وَاللُّبْسِ وَأَمَّا إنْ كَانَ سَائِلًا فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا وَأَمَّا إنْ كَانَ مُنْقَطِعًا وَقْتَ الْوُضُوءِ، سَائِلًا وَقْتَ اللُّبْسِ.
وَأَمَّا إنْ كَانَ سَائِلًا وَقْتَ الْوُضُوءِ، مُنْقَطِعًا وَقْتَ اللُّبْسِ، فَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا فِي الْحَالَيْنِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَصِحَّاءِ؛ لِأَنَّ السَّيَلَانَ وُجِدَ عَقِيبَ اللُّبْسِ، فَكَانَ اللُّبْسُ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ، فَمَنَعَ الْخُفُّ سِرَايَةَ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمَيْنِ مَا دَامَتْ الْمُدَّةُ بَاقِيَةً.
وَأَمَّا فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّهُ يَمْسَحُ مَا دَامَ الْوَقْتُ بَاقِيًا، فَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ نَزَعَ خُفَّيْهِ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ، عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَسْتَكْمِلُ مُدَّةَ الْمَسْحِ كَالصَّحِيحِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ طَهَارَةَ صَاحِبِ الْعُذْرِ طَهَارَةٌ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا؛ لِأَنَّ السَّيَلَانَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِهَا، فَحَصَلَ اللُّبْسُ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ، فَأُلْحِقَتْ بِطَهَارَةِ الْأَصِحَّاءِ.
(وَلَنَا) أَنَّ السَّيَلَانَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فِي الْوَقْتِ، بِدَلِيلِ أَنَّ طَهَارَتَهُ تُنْتَقَضُ بِالْإِجْمَاعِ إذَا خَرَجَ الْوَقْتُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْحَدَثُ، فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ صَارَ مُحْدِثًا مِنْ وَقْتِ السَّيَلَانِ.
وَالسَّيَلَانُ كَانَ سَابِقًا عَلَى لُبْسِ الْخُفِّ، وَمُقَارِنًا لَهُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ اللُّبْسَ حَصَلَ لَا عَلَى الطَّهَارَةِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ السَّيَلَانَ ثَمَّةَ وُجِدَ عَقِيبَ اللُّبْسِ، فَكَانَ اللُّبْسُ حَاصِلًا عَنْ طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ.
(وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْمَسْحِ) فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَاسِحِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَمْسُوحِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَاسِحِ أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لَابِسُ الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ عِنْدَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ اللُّبْسِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ اللُّبْسِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحْدِثَ إذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ أَوَّلًا، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ أَتَمَّ الْوُضُوءَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ، ثُمَّ أَحْدَثَ جَازَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ عِنْدَنَا، لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَهُوَ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ وَقْتَ اللُّبْسِ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ عِنْدَهُ شَرْطٌ، فَكَانَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مُقَدَّمًا عَلَى الْأَعْضَاءِ الْأُخَرِ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، فَلَمْ تُوجَدْ الطَّهَارَةُ وَقْتَ اللُّبْسِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَضَّأَ فَرَتَّبَ، لَكِنَّهُ غَسَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ وَلَبِسَ الْخُفَّ، ثُمَّ غَسَلَ الْأُخْرَى وَلَبِسَ الْخُفَّ، قِيلَ: " لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ، وَإِنْ وُجِدَ التَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ " لَكِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ لُبْسِهِمَا، حَتَّى لَوْ نَزَعَ الْخُفَّ الْأَوَّلَ ثُمَّ لَبِسَهُ جَازَ الْمَسْحُ، لِحُصُولِ اللُّبْسِ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْمَسْحَ شُرِعَ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْمَسْحِ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، فَأَمَّا عِنْدَ الْحَدَثِ قَبْلَ اللُّبْسِ فَلَا حَاجَةَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْغَسْلُ، وَكَذَا لَا حَاجَةَ بَعْدَ اللُّبْسِ قَبْلَ الْحَدَثِ، لِأَنَّهُ طَاهِرٌ، فَكَانَ الشَّرْطُ كَمَالَ الطَّهَارَةِ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ وَقَدْ وُجِدَ.
وَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ وَهُوَ مُحْدِثٌ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَخَاضَ الْمَاءَ حَتَّى أَصَابَ الْمَاءُ رِجْلَيْهِ فِي دَاخِلِ الْخُفِّ، ثُمَّ أَحْدَثَ جَازَ لَهُ الْمَسْحُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَهُوَ كَمَالُ الطَّهَارَةِ عِنْدَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ، وَهُوَ كَمَالُ الطَّهَارَةِ عِنْدَ اللُّبْسِ، وَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ وَهُوَ مُحْدِثٌ، ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَمَّ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ بِالْإِجْمَاعِ، أَمَّا عِنْدَنَا فَلِانْعِدَامِ الطَّهَارَةِ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِانْعِدَامِهَا عِنْدَ اللُّبْسِ.
وَلَوْ أَرَادَ
1 / 9
الطَّاهِرُ أَنْ يَبُولَ، فَلَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ بَالَ، جَازَ لَهُ الْمَسْحُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، وَسُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ هَذَا فَقَالَ: " لَا يَفْعَلُهُ إلَّا فَقِيهٌ ".
وَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ عَلَى طَهَارَةِ التَّيَمُّمِ، ثُمَّ وُجِدَ الْمَاءُ، نَزَعَ خُفَّيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ عَلَى التَّيَمُّمِ، إذْ رُؤْيَةُ الْمَاءِ لَا تُعْقَلُ حَدَثًا، لِأَنَّهُ امْتَنَعَ ظُهُورُ حُكْمِهِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَاءِ، فَعِنْدَ وُجُودِهِ ظَهَرَ حُكْمُهُ فِي الْقَدَمَيْنِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا الْمَسْحَ لَجَعَلْنَا الْخُفَّ رَافِعًا لِلْحَدَثِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ عَلَى طَهَارَةِ نَبِيذِ التَّمْرِ ثُمَّ أَحْدَثَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً مُطْلَقًا تَوَضَّأَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ؛ لِأَنَّهُ طَهُورٌ مُطْلَقٌ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَإِنْ وَجَدَ مَاءً مُطْلَقًا، نَزَعَ خُفَّيْهِ، وَتَوَضَّأَ، وَغَسَلَ قَدَمَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَهُورٍ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ، وَتَيَمَّمَ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ أَحْدَثَ.
وَلَوْ تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، وَلَمْ يَتَيَمَّمْ، حَتَّى أَحْدَثَ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ، وَيَمْسَحُ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ، وَيُصَلِّي لِأَنَّ سُؤْرَ الْحِمَارِ، إنْ كَانَ طَهُورًا فَالتَّيَمُّمُ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ الطَّهُورُ هُوَ التُّرَابُ، فَالْقَدَمُ لَا حَظَّ لَهَا مِنْ التَّيَمُّمِ.
وَلَوْ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى جَبَائِرِ قَدَمَيْهِ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ أَحْدَثَ، أَوْ كَانَتْ إحْدَى رِجْلَيْهِ صَحِيحَةً، فَغَسَلَهَا، وَمَسَحَ عَلَى جَبَائِرِ الْأُخْرَى، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ أَحْدَثَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَرَأَ الْجُرْحُ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ كَالْغَسْلِ لِمَا تَحْتَهَا، فَحَصَلَ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ، كَمَا لَوْ أَدْخَلَهُمَا مَغْسُولَتَيْنِ حَقِيقَةً فِي الْخُفِّ وَإِنْ كَانَ بَرَأَ الْجُرْحُ، نَزَعَ خُفَّيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ، فَظَهَرَ أَنَّ اللُّبْسَ حَصَلَ لَا عَلَى طَهَارَةٍ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ فِي الزِّيَادَاتِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْحَدَثُ خَفِيفًا، فَإِنْ كَانَ غَلِيظًا، وَهُوَ الْجَنَابَةُ، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا الْمَسْحُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ يَأْمُرُنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذَا كُنَّا سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيَهَا، لَا عَنْ جَنَابَةٍ، لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ نَوْمٍ»،، وَلِأَنَّ الْجَوَازَ فِي الْحَدَثِ الْخَفِيفِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ، وَيَغْلِبُ وُجُودُهُ فَيَلْحَقُهُ الْحَرَجُ، وَالْمَشَقَّةُ فِي نَزْعِ الْخُفِّ، وَالْجَنَابَةُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهَا، فَلَا يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِي النَّزْعِ.
الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَمْسُوحِ، فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ خُفًّا يَسْتُرُ الْكَعْبَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَمَا يَسْتُرُ الْكَعْبَيْنِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْخُفِّ، وَكَذَا مَا يَسْتُرُ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْجِلْدِ مِمَّا سِوَى الْخُفِّ، كَالْمُكَعَّبِ الْكَبِيرِ، وَالْمِيثَمِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْخُفِّ.
[الْمَسْح عَلَى الْجَوْرَب]
مَطْلَبُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوَارِبِ
وَأَمَّا الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، فَإِنْ كَانَا مُجَلَّدَيْنِ، أَوْ مُنَعَّلَيْنِ، يُجْزِيهِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُجَلَّدَيْنِ، وَلَا مُنَعَّلَيْنِ، فَإِنْ كَانَا رَقِيقَيْنِ يَشِفَّانِ الْمَاءَ، لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَا ثَخِينَيْنِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِهِمَا فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْهِ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ قَالَ لِعُوَّادِهِ: " فَعَلْتُ مَا كُنْت أَمْنَعُ النَّاسَ عَنْهُ " فَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى رُجُوعِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوَارِبِ، وَإِنْ كَانَتْ مُنَعَّلَةً، إلَّا إذَا كَانَتْ مُجَلَّدَةً إلَى الْكَعْبَيْنِ، احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَنَّ «النَّبِيَّ ﷺ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ»؛ وَلِأَنَّ الْجَوَازَ فِي الْخُفِّ لِدَفْعِ الْحَرَجِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ بِالنَّزْعِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْجَوْرَبِ، بِخِلَافِ اللِّفَافَةِ، وَالْمُكَعَّبِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِي نَزْعِهِمَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَبَتَ نَصًّا، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، فَكُلُّ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْخُفِّ فِي إدْمَانِ الْمَشْيِ عَلَيْهِ، وَإِمْكَانِ قَطْعِ السَّفَرِ بِهِ، يَلْحَقُ بِهِ، وَمَا لَا، فَلَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَيْرَ الْمُجَلَّدِ، وَالْمُنَعَّلِ، مِنْ الْجَوَارِبِ لَا يُشَارِكُ الْخُفَّ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ، عَلَى أَنَّ شَرْعَ الْمَسْحِ إنْ ثَبَتَ لِلتَّرْفِيهِ، لَكِنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّرْفِيهِ، فِيمَا يَغْلِبُ لُبْسُهُ، وَلُبْسُ الْجَوَارِبِ مِمَّا لَا يَغْلِبُ، فَلَا حَاجَةَ فِيهَا إلَى التَّرْفِيهِ، فَبَقِيَ أَصْلُ الْوَاجِبِ بِالْكِتَابِ، وَهُوَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ.
(وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا كَانَا مُجَلَّدَيْنِ، أَوْ مُنَعَّلَيْنِ، وَبِهِ نَقُولُ: وَلَا عُمُومَ لَهُ، لِأَنَّهُ حِكَايَةُ حَالٍ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الرَّقِيقَ مِنْ الْجَوَارِبِ؟ وَأَمَّا الْخُفُّ الْمُتَّخَذُ مِنْ اللَّبَدِ، فَلَمْ يَذْكُرُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ،، وَقِيلَ: " إنَّهُ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا "، وَقِيلَ: " إنْ كَانَ يُطِيقُ السَّفَرَ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا " وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ.
(وَأَمَّا) الْمَسْحُ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ مِنْ الْجِلْدِ، فَإِنْ لَبِسَهُمَا فَوْقَ الْخُفَّيْنِ جَازَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَبِسَ الْجُرْمُوقَ وَحْدَهُ، قِيلَ: " إنَّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ "، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ بَدَلٌ عَنْ الْغَسْلِ؛ فَلَوْ جَوَّزْنَا الْمَسْحَ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ، لَجَعَلْنَا لِلْبَدَلِ بَدَلًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْت «النَّبِيَّ ﷺ مَسَحَ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ»
1 / 10
وَلِأَنَّ الْجُرْمُوقَ يُشَارِكُ الْخُفَّ فِي إمْكَانِ قَطْعِ السَّفَرِ بِهِ، فَيُشَارِكُهُ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا شَارَكَهُ فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ، وَلِأَنَّ الْجُرْمُوقَ فَوْقَ الْخُفِّ، بِمَنْزِلَةِ خُفٍّ ذِي طَاقَيْنِ، وَذَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، فَكَذَا هَذَا وَقَوْلُهُ: " الْمَسْحُ عَلَيْهِ بَدَلٌ عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ " مَمْنُوعٌ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ عَنْ الْغَسْلِ، قَائِمٌ مَقَامَهُ، إلَّا إنَّهُ إذَا نَزَعَ الْجُرْمُوقَ لَا يَجِبُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ، لِوُجُودِ شَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ بَدَلٌ عَنْ الْغَسْلِ، قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَهُوَ الْخُفُّ.
ثُمَّ إنَّمَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ عِنْدَنَا، إذَا لَبِسَهُمَا عَلَى الْخُفَّيْنِ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ، فَإِنْ أَحْدَثَ ثُمَّ لَبِسَ الْجُرْمُوقَيْنِ، لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا، سَوَاءٌ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَوْ لَا أَمَّا إذَا مَسَحَ فَلِأَنَّ حُكْمَ الْمَسْحِ اسْتَقَرَّ عَلَى الْخُفِّ، فَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى غَيْرِهِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَمْسَحْ فَلِأَنَّ ابْتِدَاءَ مُدَّةِ الْمَسْحِ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ وَقَدْ انْعَقَدَ فِي الْخُفِّ فَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْجُرْمُوقِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْجُرْمُوقِ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ لِتَعَذُّرِ النَّزْعِ، وَهُنَا لَا حَاجَةَ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، ثُمَّ لُبْسُ الْجُرْمُوقِ، فَلَمْ يَجُزْ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا لَبِسَهُمَا عَلَى الْحَدَثِ، كَذَا هَذَا.
وَلَوْ مَسَحَ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ ثُمَّ نَزَعَ أَحَدَهُمَا، مَسَحَ عَلَى الْخُفِّ الْبَادِي، وَأَعَادَ الْمَسْحَ عَلَى الْجُرْمُوقِ الْبَاقِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ، وَزُفَرُ: " يَمْسَحُ عَلَى الْخُفِّ الْبَادِي، وَلَا يُعِيدُ الْمَسْحَ عَلَى الْجُرْمُوقِ الْبَاقِي ".
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْزِعُ الْجُرْمُوقَ الْبَاقِي، وَيَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ الْجُرْمُوقَ بِالْخُفِّ، وَلَوْ نَزَعَ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ، يَنْزِعُ الْآخَرَ، وَيَغْسِلُ الْقَدَمَيْنِ، كَذَا هَذَا وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ، وَزُفَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَسْحِ عَلَى الْجُرْمُوقِ، وَبَيْنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ ابْتِدَاءً، بِأَنْ كَانَ عَلَى أَحَدِ الْخُفَّيْنِ جُرْمُوقٌ دُونَ الْآخَرِ، فَكَذَا بَقَاءٌ، وَإِذَا بَقِيَ الْمَسْحُ عَلَى الْجُرْمُوقِ الْبَاقِي، فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الرِّجْلَيْنِ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ، بِمَنْزِلَةِ عُضْوٍ وَاحِدٍ، لَا يَحْتَمِلُ التَّجْزِيء، فَإِذَا اُنْتُقِضَتْ الطَّهَارَةُ فِي إحْدَاهُمَا بِنَزْعِ الْجُرْمُوقِ، تُنْتَقَضُ فِي الْأُخْرَى ضَرُورَةً، كَمَا إذَا نَزَعَ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ، وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْقُفَّازَيْنِ،، وَهُمَا لِبَاسَا الْكَفَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، لِتَعَذُّرِ النَّزْعِ، وَلَا حَرَجَ فِي نَزْعِ الْقُفَّازَيْنِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ بِالْخُفِّ خَرْقٌ كَثِيرٌ، فَأَمَّا الْيَسِيرُ، فَلَا يَمْنَعُ الْمَسْحَ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُمْنَعَ قَلِيلُهُ، وَكَثِيرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ،، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، الْخَرْقُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْمَسْحِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، بَعْدَ أَنْ كَانَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْخُفِّ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَمَا دَامَ اسْمُ الْخُفِّ لَهُ بَاقِيًا، يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ الْقَدَمِ، وَإِنْ قَلَّ وَجَبَ غَسْلُهُ لِحُلُولِ الْحَدَثِ بِهِ، لِعَدَمِ الِاسْتِتَارِ بِالْخُفِّ، وَالرِّجْلُ فِي حَقِّ الْغَسْلِ غَيْرُ مُتَجَزِّئَةٍ، فَإِذَا وَجَبَ غَسْلُ بَعْضِهَا، وَجَبَ غَسْلُ كُلِّهَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَمَرَ أَصْحَابَهُ ﵃ بِالْمَسْحِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ خِفَافَهُمْ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ الْخُرُوقِ، فَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَيَانًا أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْخُرُوقِ لَا يَمْنَعُ الْمَسْحَ؛ وَلِأَنَّ الْمَسْحَ أُقِيمَ مَقَامَ الْغَسْلِ تَرَفُّهًا، فَلَوْ مَنَعَ قَلِيلَ الِانْكِشَافِ، لَمْ يَحْصُلْ التَّرْفِيهُ لِوُجُودِهِ فِي أَغْلَبِ الْخِفَافِ، وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، هُوَ قَدْرُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، فَإِنْ كَانَ الْخَرْقُ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، مَنَعَ، وَإِلَّا فَلَا.
ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ أَصَابِعُ الْيَدِ، وَأَصَابِعُ الرِّجْلِ، ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ مِنْ أَصْغَرِ أَصَابِعِ الرِّجْلِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثُ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ، وَإِنَّمَا قُدِّرَ بِالثَّلَاثِ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ إذَا انْكَشَفَ، مَنَعَ مِنْ قَطْعِ الْأَسْفَارِ.
وَالثَّانِي أَنَّ الثَّلَاثَ أَصَابِعَ أَكْثَرُ الْأَصَابِعِ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، ثُمَّ الْخَرْقُ الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ مُنْفَتِحًا، بِحَيْثُ يَظْهَرُ مَا تَحْتَهُ مِنْ الْقَدَمِ مِقْدَارَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، أَوْ يَكُونَ مُنْضَمًّا لَكِنَّهُ يَنْفَرِجُ عِنْدَ الْمَشْيِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُنْضَمًّا لَا يَنْفَرِجُ عِنْدَ الْمَشْيِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، كَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُنْفَتِحًا، أَوْ يَنْفَتِحُ عِنْدَ الْمَشْيِ، لَا يُمْكِنُ قَطْعُ السَّفَرِ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ، يَمْنَعُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْخَرْقُ فِي ظَاهِرِ الْخُفِّ، أَوْ فِي بَاطِنِهِ، أَوْ مِنْ نَاحِيَةِ الْعَقِبِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ بَدَا ثَلَاثٌ مِنْ أَنَامِلِهِ، اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَمْنَعُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَمْنَعُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَوْ انْكَشَفَتْ الظِّهَارَةُ، وَفِي دَاخِلِهِ بِطَانَةٌ مِنْ جِلْدٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ الْقَدَمُ، يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، هَذَا إذَا كَانَ الْخَرْقُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ، يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي خُفٍّ وَاحِدٍ، يُجْمَعُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، فَإِنْ بَلَغَ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، يَمْنَعُ، وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ كَانَ فِي خُفَّيْنِ لَا يُجْمَعُ وَقَالُوا فِي النَّجَاسَةِ، إنْ كَانَتْ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ مَنَعَتْ جَوَازَ
1 / 11
الصَّلَاةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخَرْقَ إنَّمَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْمَسْحَ لِظُهُورِ مِقْدَارِ فَرْضِ الْمَسْحِ، فَإِذَا كَانَ مُتَفَرِّقًا، فَلَمْ يَظْهَرْ مِقْدَارُ فَرْضِ الْمَسْحِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْمَانِعُ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي النَّجَاسَةِ هُوَ كَوْنُهُ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ، وَمَعْنَى الْحَمْلِ مُتَحَقِّقٌ سَوَاءٌ كَانَ فِي خُفٍّ وَاحِدٍ، أَوْ فِي خُفَّيْنِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَمْسَحَ عَلَى ظَاهِرِ الْخُفِّ، حَتَّى لَوْ مَسَحَ عَلَى بَاطِنِهِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَأَنَسٍ ﵃، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعَنْهُ أَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْبَاطِنِ لَا يَجُوزُ، وَالْمُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا الْجَمْعُ بَيْنَ الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ فِي الْمَسْحِ، إلَّا إذَا كَانَ عَلَى بَاطِنِهِ نَجَاسَةٌ.
وَحَكَى إبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ فِي كِتَابِ الِاخْتِلَافِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَسْفَلِ الْخُفِّ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا لَوْ مَسَحَ عَلَى الْعَقِبِ، أَوْ عَلَى جَانِبِيِّ الْخُفِّ، أَوْ عَلَى السَّاقِ لَا يَجُوزُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت «رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَأْمُرُ بِالْمَسْحِ عَلَى ظَاهِرِ الْخُفَّيْنِ» .
، وَعَنْ عَلِيٍّ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ بَاطِنُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ دُونَ بَاطِنِهِمَا، وَلِأَنَّ بَاطِنَ الْخُفِّ لَا يَخْلُو عَنْ لَوْثٍ عَادَةً، فَالْمَسْحُ عَلَيْهِ يَكُونُ تَلْوِيثًا لِلْيَدِ، وَلِأَنَّ فِيهِ بَعْضَ الْحَرَجِ، وَمَا شُرِعَ الْمَسْحُ إلَّا لِدَفْعِ الْحَرَجِ،، وَلَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ كَمَا لَا تُشْتَرَطُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ.
وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْغَسْلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْغَسْلِ، بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ.
وَكَذَا فِعْلُ الْمَسْحِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِهِ بِدُونِهِ أَيْضًا، بَلْ الشَّرْطُ إصَابَةُ الْمَاءِ، حَتَّى لَوْ خَاضَ الْمَاءَ، أَوْ أَصَابَهُ الْمَطَرُ، جَازَ عَنْ الْمَسْحِ، وَلَوْ مَرَّ بِحَشِيشٍ مُبْتَلٍّ، فَأَصَابَ الْبَلَلُ ظَاهِرَ خُفَّيْهِ، إنْ كَانَ بَلَلَ الْمَاءِ أَوْ الْمَطَرِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ بَلَلَ الطَّلِّ قِيلَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الطَّلَّ لَيْسَ بِمَاءٍ.
[فَصْلٌ مِقْدَارُ الْمَسْحِ]
(فَصْلٌ):
وَأَمَّا مِقْدَارُ الْمَسْحِ، فَالْمِقْدَارُ الْمَفْرُوضُ هُوَ مِقْدَارُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ طُولًا، وَعَرْضًا، مَمْدُودًا، أَوْ مَوْضُوعًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، الْمَفْرُوضُ هُوَ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ، كَمَا قَالَ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ أَوْ أُصْبُعَيْنِ، وَمَدَّهُمَا حَتَّى بَلَغَ مِقْدَارَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِزُفَرَ كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، وَلَوْ مَسَحَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ مَنْصُوبَةٍ غَيْرِ مَوْضُوعَةٍ، وَلَا مَمْدُودَةٍ، لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَعَادَهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ إلَى الْمَاءِ يَجُوزُ كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، ثُمَّ الْكَرْخِيُّ اعْتَبَرَ التَّقْدِيرَ فِيهِ بِأَصَابِعِ الرِّجْلِ.
فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي مُخْتَصَرِهِ، إذَا مَسَحَ مِقْدَارَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ الرِّجْلِ أَجْزَأَهُ، فَاعْتُبِرَ الْمَمْسُوحُ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ يَقَعُ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ ثَلَاثَةَ أَصَابِعَ وَضْعًا أَجْزَأَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِ بِأَصَابِعِ الْيَدِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ ﵁ أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: لَكِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ خُطُوطًا بِالْأَصَابِعِ وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّفْسِيرِ لِلْمَسْحِ أَنَّهُ الْخُطُوطُ بِالْأَصَابِعِ، وَالْأَصَابِعُ اسْمُ جَمْعٍ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ، فَكَانَ هَذَا تَقْدِيرًا لِلْمَسْحِ بِثَلَاثِ أَصَابِعِ الْيَدِ، وَلِأَنَّ الْفَرْضَ يَتَأَدَّى بِهِ بِيَقِينٍ، لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ مَحْسُوسٌ، فَأَمَّا أَصَابِعُ الرِّجْلِ فَمُسْتَتِرَةٌ بِالْخُفِّ، فَلَا يُعْلَمُ مِقْدَارُهَا إلَّا بِالْحِرْزِ، وَالظَّنِّ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِأَصَابِعِ الْيَدِ أَوْلَى.
[فَصَلِّ بَيَانُ مَا يَنْقُضُ الْمَسْحَ]
مَطْلَبُ نَوَاقِضِ الْمَسْحِ.
(فَصْلٌ):
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَنْقُضُ الْمَسْحَ، وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا انْتَقَضَ فَالْمَسْحُ يُنْتَقَضُ بِأَشْيَاءَ (مِنْهَا) انْقِضَاءُ مُدَّةِ الْمَسْحِ، وَهِيَ يَوْمٌ، وَلَيْلَةٌ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ، وَفِي حَقِّ الْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيهَا لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُوَقَّتَ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ، فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ، يَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي إنْ كَانَ مُحْدِثًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا، يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ لَا غَيْرُ، وَيُصَلِّي.
(وَمِنْهَا) نَزْعُ الْخُفَّيْنِ، لِأَنَّهُ إذَا نَزَعَهُمَا فَقَدْ سَرَى الْحَدَثُ السَّابِقُ إلَى الْقَدَمَيْنِ، ثُمَّ إنْ كَانَ مُحْدِثًا، يَتَوَضَّأُ بِكَمَالِهِ، وَيُصَلِّي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ لَا غَيْرُ، وَلَا يَسْتَقْبِلُ الْوُضُوءَ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ مِثْلُ قَوْلِنَا.
وَفِي قَوْلٍ يَسْتَقْبِلُ الْوُضُوءَ وَجْهُهُ أَنَّ الْحَدَثَ قَدْ حَلَّ بِبَعْضِ أَعْضَائِهِ، وَالْحَدَثُ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَتَعَدَّى إلَى الْبَاقِي (وَلَنَا) أَنَّ الْحَدَثَ السَّابِقَ هُوَ الَّذِي حَلَّ بِقَدَمَيْهِ وَقَدْ غَسَلَ بَعْدَهُ سَائِرَ الْأَعْضَاءِ، وَبَقِيَتْ الْقَدَمَانِ فَقَطْ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا غَسْلُهُمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَكَذَلِكَ إذَا نَزَعَ أَحَدَهُمَا أَنَّهُ يُنْتَقَضُ مَسْحُهُ فِي الْخُفَّيْنِ، وَعَلَيْهِ نَزْعُ الْبَاقِي، وَغَسْلُهُمَا لَا غَيْرُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا، وَالْوُضُوءُ بِكَمَالِهِ إنْ كَانَ مُحْدِثًا وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: فِي قَوْلٍ مِثْلُ قَوْلِنَا، وَفِي قَوْلٍ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذْ لَا يُعْقَلُ حَدَثًا، وَفِي قَوْلٍ يَسْتَقْبِلُ الْوُضُوءَ وَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْحَدَثَ لَا يَتَجَزَّأُ فَحُلُولُهُ بِالْبَعْضِ كَحُلُولِهِ
1 / 12
بِالْكُلِّ.
وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الطَّهَارَةَ إذَا تَمَّتْ لَا تُنْتَقَضُ إلَّا بِالْحَدَثِ، وَنَزْعُ الْخُفِّ لَا يُعْقَلُ حَدَثًا (وَلَنَا) أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ سِرَايَةِ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ اسْتِتَارُهَا بِالْخُفِّ وَقَدْ زَالَ بِالنَّزْعِ فَسَرَى الْحَدَثُ السَّابِقُ إلَى الْقَدَمَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ فَإِذَا وَجَبَ غَسْلُ إحْدَاهُمَا وَجَبَ الْأُخْرَى وَلَوْ أَخْرَجَ الْقَدَمَ إلَى السَّاقِ اُنْتُقِضَ مَسْحُهُ، لِأَنَّ إخْرَاجَ الْقَدَمِ إلَى السَّاقِ إخْرَاجٌ لَهَا مِنْ الْخُفِّ، وَلَوْ أَخْرَجَ بَعْضَ قَدَمِهِ، أَوْ خَرَجَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ أَخْرَجَ أَكْثَرَ الْعَقِبِ مِنْ الْخُفِّ اُنْتُقِضَ مَسْحُهُ، وَإِلَّا فَلَا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ أَخْرَجَ أَكْثَرَ الْقَدَمِ مِنْ الْخُفِّ اُنْتُقِضَ، وَإِلَّا، فَلَا، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ بَقِيَ فِي الْخُفِّ مِقْدَارُ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ بَقِيَ الْمَسْحُ، وَإِلَّا اُنْتُقِضَ وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّهُ يَسْتَمْشِي فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْمَشْيُ الْمُعْتَادُ بَقِيَ الْمَسْحُ، وَإِلَّا فَيُنْتَقَضُ.
وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ اعْتِبَارُ أَكْثَرِ الْقَدَمِ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ يَتَعَذَّرُ بِخُرُوجِ أَكْثَرِ الْقَدَمِ، وَلَا بَأْسَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ لُبْسِ الْخُفِّ هُوَ الْمَشْيُ فَإِذَا تَعَذَّرَ الْمَشْيُ انْعَدَمَ اللُّبْسُ فِيمَا قُصِدَ لَهُ؛؛ وَلِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ.
مَطْلَبُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ (وَأَمَّا) الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ.
وَفِي بَيَانِ صِفَةِ هَذَا الْمَسْحِ أَنَّهُ وَاجِبٌ أَمْ لَا؟، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْقُضُهُ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا اُنْتُقِضَ، وَفِي بَيَانِ مَا يُفَارِقُ فِيهِ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ جَائِزٌ،، وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: كُسِرَ زَنْدِي يَوْمَ أُحُدٍ فَسَقَطَ اللِّوَاءُ مِنْ يَدِي فَقَالَ النَّبِيُّ: ﷺ «اجْعَلُوهَا فِي يَسَارِهِ فَإِنَّهُ صَاحِبُ لِوَائِي فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصْنَعُ بِالْجَبَائِرِ؟ فَقَالَ: امْسَحْ عَلَيْهَا» شُرِعَ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ عِنْدَ كَسْرِ الزَّنْدِ فَيَلْحَقُ بِهِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْجُرْحِ، وَالْقُرْحِ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «لَمَّا شُجَّ فِي وَجْهِهِ يَوْمَ أُحُدٍ دَاوَاهُ بِعَظْمٍ بَالٍ، وَعَصَبَ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْعِصَابَةِ»، وَلَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ؛ لِأَنَّ فِي نَزْعِهَا حَرَجًا وَضَرَرًا.
[شَرْط جَوَازِ الْمَسْح]
مَطْلَبُ شَرْطِ جَوَازِ الْمَسْحِ (وَأَمَّا) شَرَائِطُ جَوَازِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْغَسْلُ مِمَّا يَضُرُّ بِالْعُضْوِ الْمُنْكَسِرِ وَالْجُرْحِ وَالْقُرْحِ، أَوْ لَا يَضُرُّهُ الْغَسْلُ لَكِنَّهُ يُخَافُ الضَّرَرَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى بِنَزْعِ الْجَبَائِرِ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّهُ، وَلَا يُخَافُ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَسْقُطُ الْغَسْلُ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ لِمَكَانِ الْعُذْرِ، وَلَا عُذْرَ ثُمَّ إذَا مَسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ، وَالْخِرَقِ الَّتِي فَوْقَ الْجِرَاحَةِ جَازَ لِمَا قُلْنَا فَأَمَّا إذَا مَسَحَ عَلَى الْخِرْقَةِ الزَّائِدَةِ عَنْ رَأْسِ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَغْسِلْ مَا تَحْتَهَا فَهَلْ يَجُوزُ؟ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ،، وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كَانَ حَلَّ الْخِرْقَةَ، وَغَسَلَ مَا تَحْتَهَا مِنْ حَوَالَيْ الْجِرَاحَةِ مِمَّا يَضُرُّ بِالْجُرْحِ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْخِرْقَةِ الزَّائِدَةِ، وَيَقُومُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا مَقَامَ غَسْلِ مَا تَحْتَهَا كَالْمَسْحِ عَلَى الْخِرْقَةِ الَّتِي تُلَاصِقُ الْجِرَاحَةَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالْجُرْحِ عَلَيْهِ أَنْ يَحِلَّ، وَيَغْسِلَ حَوَالَيْ الْجِرَاحَةِ، وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ.
وَمِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمَسْحُ عَلَى عَيْنِ الْجِرَاحَةِ مِمَّا يَضُرُّ بِهَا، فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهَا لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ إلَّا عَلَى نَفْسِ الْجِرَاحَةِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْجَبِيرَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ عَلَى الْجَبِيرَةِ لِلْعُذْرِ، وَلَا عُذْرَ.
وَلَوْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ عَلَى رَأْسِهِ، وَبَعْضُهُ صَحِيحٌ، فَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ قَدْرَ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ، وَهُوَ قَدْرُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ مِنْ مَسْحِ الرَّأْسِ هُوَ هَذَا الْقَدْرُ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ الرَّأْسِ صَحِيحٌ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ، وَعِبَارَةُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ فِي مِثْلِ هَذَا " إنْ ذَهَبَ عَيْرٌ فَعَيْرٌ فِي الرِّبَاطِ " وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَمْسَحْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ، وَعَدَمَهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَمْسَحُ عَلَى الْجَبَائِرِ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا؟ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ، وَذَلِكَ يَضُرُّهُ أَجْزَأَهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ لَمْ يَجُزْ، فَخَرَجَ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي صُورَةٍ، وَخَرَجَ جَوَابُهُمَا فِي صُورَةٍ أُخْرَى، فَلَمْ يَتَبَيَّنْ الْخِلَافُ.
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ يَضُرُّهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْمَسْحُ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ، فَالْمَسْحُ أَوْلَى وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَضُرُّهُ فَقَدْ حَقَّقَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الِاخْتِلَافَ، فَقَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهَكَذَا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ، وَيَعْقُوبَ، وَعِنْدَهُمَا وَاجِبٌ، وَحُجَّتُهُمَا مَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ ﵁ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «أَمَرَ عَلِيًّا ﵁
1 / 13
بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ بِقَوْلِهِ: امْسَحْ عَلَيْهَا»، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفَرْضِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ.
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ ﵁ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَلَا تَثْبُتُ الْفَرْضِيَّةُ بِهِ وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إذَا كَانَ الْمَسْحُ لَا يَضُرُّهُ يَجِبُ بِلَا خِلَافٍ وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ حِكَايَةِ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَالَ: " إنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ " عَنَى بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَفْرُوضَ اسْمٌ لِمَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَوُجُوبُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ ثَبَتَ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ ﵁ وَأَنَّهُ مِنْ الْآحَادِ فَيُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ.
وَمَنْ قَالَ إنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ وَاجِبٌ عِنْدَهُمَا فَإِنَّمَا عَنَى بِهِ وُجُوبَ الْعَمَلِ لَا الْفَرْضِيَّةَ، وَعَلَى هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ لِأَنَّهُمَا يَقُولَانِ بِفَرْضِيَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ لِانْعِدَامِ دَلِيلِ الْفَرْضِيَّةِ، بَلْ بِوُجُوبِهِ مِنْ حَيْثُ الْعَمَلُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوب فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا الْفَرْضِيَّةُ تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ﵁ يَقُولُ بِوُجُوبِهِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَالْجَوَازُ، وَعَدَمُ الْجَوَازِ يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى الْوُجُوبِ، وَعَدَمُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَلَوْ تَرَكَ الْمَسْحَ عَلَى بَعْضِ الْجَبَائِرِ، وَمَسَحَ عَلَى الْبَعْضِ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ: إنْ مَسَحَ عَلَى الْأَكْثَرِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، بِخِلَافِ مَسْحِ الرَّأْسِ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الْأَكْثَرُ لِأَنَّ هُنَاكَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالتَّقْدِيرِ، فَلَا تُشْتَرَطُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمُقَدَّرِ، وَهَهُنَا لَا تَقْدِيرَ مِنْ الشَّرْعِ بَلْ وَرَدَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ ضَرْبِ حَرَجٍ فَأُقِيمَ الْأَكْثَرُ مَقَامَ الْجَمِيعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مَطْلَبُ نَوَاقِضِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَنْقُضُ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ،، وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا انْتَقَضَ فَسُقُوطُ الْجَبَائِرِ عَنْ بُرْءٍ يَنْقُضُ الْمَسْحَ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْجَبَائِرَ إذَا سَقَطَتْ فَإِمَّا أَنْ تَسْقُطَ لَا عَنْ بُرْءٍ أَوْ عَنْ بُرْءٍ.
وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ سَقَطَتْ لَا عَنْ بُرْءٍ فِي الصَّلَاةِ مَضَى عَلَيْهَا، وَلَا يَسْتَقْبِلُ، وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ يُعِيدُ الْجَبَائِرَ إلَى مَوْضِعِهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْمَسْحِ، وَكَذَلِكَ إذَا شَدَّهَا بِجَبَائِرَ أُخْرَى غَيْرَ الْأُولَى، بِخِلَافِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا سَقَطَ الْخُفُّ فِي حَالِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ، وَإِنْ سَقَطَ خَارِجَ الصَّلَاةِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغَسْلُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ سُقُوطَ الْغَسْلِ لِمَكَانِ الْحَرَجِ كَمَا فِي النَّزْعِ، فَإِذَا سَقَطَ فَقَدْ زَالَ الْحَرَجُ، وَهَهُنَا السُّقُوطُ بِسَبَبِ الْعُذْرِ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ فَكَانَ الْغَسْلُ سَاقِطًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْمَسْحُ، وَالْمَسْحُ قَائِمٌ، وَإِنَّمَا زَالَ الْمَمْسُوحُ، كَمَا إذَا مَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَلَقَ الشَّعْرَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إعَادَةُ الْمَسْحِ، وَإِنْ زَالَ الْمَمْسُوحُ كَذَلِكَ هَهُنَا.
وَإِنْ سَقَطَتْ عَنْ بُرْءٍ فَإِنْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُحْدِثٌ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ تَوَضَّأَ، وَغَسَلَ مَوْضِعَ الْجَبَائِرِ إنْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا غَسَلَ مَوْضِعَ الْجَبَائِرِ لَا غَيْرُ، لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ فَبَطَلَ حُكْمُ الْبَدَلِ فِيهِ، فَوَجَبَ غَسْلُهُ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْغَسْلِ، وَهُوَ الطَّهَارَةُ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ قَائِمٌ لِانْعِدَامِ مَا يَرْفَعُهَا، وَهُوَ الْحَدَثُ، فَلَا يَجِبُ غَسْلُهَا، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ يَسْتَقْبِلُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ
وَلَوْ مَسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ وَصَلَّى أَيَّامًا، ثُمَّ بَرَأَتْ جِرَاحَتُهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا صَلَّى بِالْمَسْحِ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ الْجَبْرُ عَلَى الْجُرْحِ، وَالْقُرْحِ يُعِيدُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْكَسْرِ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا عُذْرٌ نَادِرٌ، فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عِنْدَ زَوَالِهِ كَالْمَحْبُوسِ فِي السِّجْنِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَوَجَدَ تُرَابًا نَظِيفًا أَنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ، ثُمَّ يُعِيدُ إذَا خَرَجَ مِنْ السِّجْنِ كَذَلِكَ هَهُنَا.
(وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ ﵁ أَنَّ «النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَهُ بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ»، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ مَعَ حَاجَتِهِ إلَى الْبَيَانِ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُفَارِقُ فِيهِ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ (فَمِنْهَا): أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِالْأَيَّامِ، بَلْ هُوَ مُؤَقَّتٌ بِالْبُرْءِ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُؤَقَّتٌ بِالْأَيَّامِ لِلْمُقِيمِ يَوْمٌ، وَلَيْلَةٌ، وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيهَا؛ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ بِالشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ وَقَّتَ هُنَاكَ بِقَوْلِهِ: " يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا، وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا " وَلَمْ يُؤَقِّتْ هَهُنَا بَلْ أَطْلَقَ بِقَوْلِهِ: " امْسَحْ عَلَيْهَا ".
(وَمِنْهَا): أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ لِوَضْعِ الْجَبَائِرِ، حَتَّى لَوْ وَضَعَهَا، وَهُوَ مُحْدِثٌ، ثُمَّ تَوَضَّأَ جَازَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَتُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ لِلُبْسِ الْخُفَّيْنِ، حَتَّى لَوْ لَبِسَهُمَا، وَهُوَ مُحْدِثٌ، ثُمَّ تَوَضَّأَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ كَالْغَسْلِ لِمَا تَحْتَهَا، فَإِذَا مَسَحَ عَلَيْهَا فَكَأَنَّهُ غَسَلَ مَا تَحْتَهَا لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْغَسْلِ، وَالْخُفُّ جُعِلَ مَانِعًا مِنْ نُزُولِ الْحَدَثِ بِالْقَدَمَيْنِ لَا رَافِعًا لَهُ
1 / 14
وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ لَابِسُ الْخُفِّ عَلَى طَهَارَةٍ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ.
(وَمِنْهَا): أَنَّهُ إذَا سَقَطَتْ الْجَبَائِرُ لَا عَنْ بُرْءٍ لَا يُنْتَقَضُ الْمَسْحُ، وَسُقُوطُ الْخُفَّيْنِ أَوْ سُقُوطُ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ انْتِقَاضَ الْمَسْحِ لِمَا بَيَّنَّا
[فَصْلٌ شَرَائِطُ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ]
(فَصْلٌ):
وَأَمَّا شَرَائِطُ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ (فَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ، حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّوَضُّؤُ بِمَا سِوَى الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ كَالْخَلِّ، وَالْعَصِيرِ، وَاللَّبَنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: ٦]، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْغَسْلُ بِالْمَاءِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ [المائدة: ٦] نَقَلَ الْحُكْمَ إلَى التُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْقُولَ مِنْهُ هُوَ الْغَسْلُ بِالْمَاءِ، وَكَذَا الْغَسْلُ الْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْغَسْلِ الْمُعْتَادِ، وَهُوَ الْغَسْلُ بِالْمَاءِ.
(وَمِنْهَا): أَنْ يَكُونَ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْمَاءِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ الْمُقَيَّدِ، وَالْمَاءُ الْمُطْلَقُ هُوَ الَّذِي تَتَسَارَعُ أَفْهَامُ النَّاسِ إلَيْهِ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ، كَمَاءِ الْأَنْهَارِ، وَالْعُيُونِ، وَالْآبَارِ، وَمَاءِ السَّمَاءِ، وَمَاءِ الْغُدْرَانِ، وَالْحِيَاضِ، وَالْبِحَارِ، فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ بِذَلِكَ كُلِّهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي مَعْدِنِهِ، أَوْ فِي الْأَوَانِي؛ لِأَنَّ نَقْلَهُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان لَا يَسْلُبُ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَاءِ عَنْهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَذْبًا أَوْ مِلْحًا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمِلْحَ يُسَمَّى مَاءً عَلَى الْإِطْلَاقِ وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ، أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ»، وَالطَّهُورُ هُوَ الطَّاهِرُ فِي نَفْسِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: ٤٨] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ [الأنفال: ١١] .
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «سُئِلَ عَنْ الْبَحْرِ فَقَالَ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» .
وَرُوِيَ أَنَّهُ ﷺ «سُئِلَ عَنْ الْمِيَاهِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْفَلَوَاتِ، وَمَا يَنُوبُهَا مِنْ الدَّوَابِّ، وَالسِّبَاعِ فَقَالَ: لَهَا مَا أَخَذَتْ فِي بُطُونِهَا، وَمَا أَبْقَتْ فَهُوَ لَنَا شَرَابٌ، وَطَهُورٌ» «، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَوَضَّأُ مِنْ آبَارِ الْمَدِينَةِ» .
مَطْلَبُ الْمَاءِ الْمُقَيَّدِ (وَأَمَّا) الْمُقَيَّدُ فَهُوَ مَا لَا تَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْأَفْهَامُ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ، وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يُسْتَخْرَجُ مِنْ الْأَشْيَاءِ بِالْعِلَاجِ كَمَاءِ الْأَشْجَارِ، وَالثِّمَارِ، وَمَاءِ الْوَرْدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ،، وَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ إذَا خَالَطَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ كَاللَّبَنِ، وَالْخَلِّ، وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْمَاءِ بِأَنْ صَارَ مَغْلُوبًا بِهِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْمَاءِ الْمُقَيَّدِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الَّذِي خَالَطَهُ مِمَّا يُخَالِفُ لَوْنُهُ لَوْنَ الْمَاءِ كَاللَّبَنِ، وَمَاءِ الْعُصْفُرِ، وَالزَّعْفَرَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ فِي اللَّوْنِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُخَالِفُ الْمَاءَ فِي اللَّوْنِ، وَيُخَالِفُهُ فِي الطَّعْمِ كَعَصِيرِ الْعِنَبِ الْأَبْيَضِ، وَخَلِّهِ تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ فِي الطَّعْمِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُخَالِفُهُ فِيهِمَا تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ فِي الْأَجْزَاءِ.
فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْأَجْزَاءِ؟ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَقَالُوا: حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَاءِ الْمَغْلُوبِ احْتِيَاطًا هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الَّذِي خَالَطَهُ مِمَّا يُقْصَدُ مِنْهُ زِيَادَةُ نَظَافَةٍ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُقْصَدُ مِنْهُ ذَلِكَ، وَيُطْبَخُ بِهِ أَوْ يُخَالِطُ بِهِ كَمَاءِ الصَّابُونِ، وَالْأُشْنَانِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، وَإِنْ تَغَيَّرَ لَوْنُ الْمَاءِ، أَوْ طَعْمُهُ، أَوْ رِيحُهُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمَاءِ بَاقٍ، وَازْدَادَ مَعْنَاهُ، وَهُوَ التَّطْهِيرُ، وَكَذَلِكَ جَرَتْ السُّنَّةُ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ بِالْمَاءِ الْمَغْلِيِّ بِالسِّدْرِ، وَالْحُرُضِ فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ إلَّا إذَا صَارَ غَلِيظًا كَالسَّوِيقِ الْمَخْلُوطِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْمَاءِ، وَمَعْنَاهُ أَيْضًا.
وَلَوْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ بِالطِّينِ أَوْ بِالتُّرَابِ، أَوْ بِالْجِصِّ، أَوْ بِالنُّورَةِ أَوْ بِوُقُوعِ الْأَوْرَاقِ، أَوْ الثِّمَارِ فِيهِ، أَوْ بِطُولِ الْمُكْثِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ اسْمُ الْمَاءِ، وَبَقِيَ مَعْنَاهُ أَيْضًا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الضَّرُورَةِ الظَّاهِرَةِ لِتَعَذُّرِ صَوْنِ الْمَاءِ عَنْ ذَلِكَ.
وَقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ لِتَغَيُّرِ طَعْمِ الْمَاءِ، وَصَيْرُورَتِهِ مَغْلُوبًا بِطَعْمِ التَّمْرِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمَاءِ الْمُقَيَّدِ، وَبِالْقِيَاسِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ تَرَكَ الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ، وَهُوَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ فَجَوَّزَ التَّوَضُّؤَ بِهِ.
وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَوَجَدَ نَبِيذَ التَّمْرِ تَوَضَّأَ بِهِ، وَلَمْ يَتَيَمَّمْ، وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَإِنْ تَيَمَّمَ مَعَهُ أَحَبُّ إلَيَّ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ.
وَرَوَى نُوحٌ فِي الْجَامِعِ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ يَتَيَمَّمُ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ، كَذَا قَالَ نُوحٌ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ [المائدة: ٦] نَقَلَ الْحُكْمَ مِنْ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ إلَى التُّرَابِ فَمَنْ نَقَلَهُ إلَى النَّبِيذِ، ثُمَّ مِنْ
1 / 15
النَّبِيذِ إلَى التُّرَابِ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ، وَهَؤُلَاءِ طَعَنُوا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا): أَنَّهُمْ قَالُوا: رَوَاهُ أَبُو فَزَارَةَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبُو فَزَارَةَ هَذَا كَانَ نَبَّاذًا بِالْكُوفَةِ، وَأَبُو زَيْدٍ مَجْهُولٌ (وَمِنْهَا): أَنَّهُ قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: هَلْ كُنْتَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ: لَيْتَنِي كُنْتُ.
وَسُئِلَ تِلْمِيذُهُ عَلْقَمَةُ هَلْ كَانَ صَاحِبُكُمْ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ: وَدِدْنَا أَنَّهُ كَانَ (وَمِنْهَا): أَنَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَرَدَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ، وَمِنْ شَرْطِ ثُبُوتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَنْ لَا يُخَالِفَ الْكِتَابَ، فَإِذَا خَالَفَ لَمْ يَثْبُتْ أَوْ ثَبَتَ لَكِنَّهُ نُسِخَ بِهِ، لِأَنَّ لَيْلَةَ الْجِنِّ كَانَتْ بِمَكَّةَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ.
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَامَ هَهُنَا دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ، وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ ﵁، وَالْآخَرُ يَقْتَضِي وُجُوبَ التَّيَمُّمِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ [المائدة: ٦]، وَالْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ وَاجِبٌ إذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا.
وَهَهُنَا أَمْكَنَ، إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ، وَالتَّيَمُّمِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ جُلُوسًا فِي بَيْتٍ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: لِيَقُمْ مِنْكُمْ مَنْ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ فَقُمْتُ، وَفِي رِوَايَةٍ فَلَمْ يَقُمْ مِنَّا أَحَدٌ، فَأَشَارَ إلَيَّ بِالْقِيَامِ فَقُمْتُ، وَدَخَلْتُ الْبَيْتَ، فَتَزَوَّدْتُ بِإِدَاوَةٍ مِنْ نَبِيذٍ فَخَرَجْتُ مَعَهُ فَخَطَّ لِي خَطًّا وَقَالَ: إنْ خَرَجْتَ مِنْ هَذَا لَمْ تَرَنِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقُمْتُ قَائِمًا، حَتَّى انْفَجَرَ الصُّبْحُ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ عَرِقَ جَبِينُهُ، كَأَنَّهُ حَارَبَ جِنًّا، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ مَسْعُودٍ هَلْ مَعَكَ مَاءٌ أَتَوَضَّأُ بِهِ؟ فَقُلْتُ لَا إلَّا نَبِيذَ تَمْرٍ فِي إدَاوَةٍ فَقَالَ ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ، وَمَاءٌ طَهُورٌ فَأَخَذَ ذَلِكَ، وَتَوَضَّأ بِهِ، وَصَلَّى الْفَجْرَ» .
وَكَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ﵃ كَانُوا يُجَوِّزُونَ التَّوَضُّؤَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ﵁ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «نَبِيذُ التَّمْرِ وُضُوءُ مَنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ» .
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «تَوَضَّئُوا بِنَبِيذِ التَّمْرِ، وَلَا تَتَوَضَّئُوا بِاللَّبَنِ» .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَفَنِيَ مَاؤُهُمْ، وَمَعَهُمْ نَبِيذُ التَّمْرِ فَتَوَضَّأَ بَعْضُهُمْ بِنَبِيذِ التَّمْرِ، وَكَرِهَ التَّوَضُّؤَ بِمَاءِ الْبَحْرِ، وَتَوَضَّأَ بَعْضُهُمْ بِمَاءِ الْبَحْرِ، وَكَرِهَ التَّوَضُّؤَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَهَذَا حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ مَنْ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ كَانَ يَعْتَقِدُ جَوَازَ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ بِنَبِيذِ التَّمْرِ لِكَوْنِهِ وَاجِدًا لِلْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَمَنْ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالنَّبِيذِ كَانَ لَا يَرَى مَاءَ الْبَحْرَ طَهُورًا، أَوْ كَانَ يَقُولُ هُوَ مَاءُ سَخْطَةٍ، وَنِقْمَةٍ، كَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ قَوْلُهُ «ﷺ فِي صِفَةِ الْبَحْرِ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» .
فَتَوَضَّأَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ لِكَوْنِهِ عَادِمًا لِلْمَاءِ الطَّاهِرِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ مَوْرِدَ الشُّهْرَةِ، وَالِاسْتِفَاضَةِ حَيْثُ عَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ ﵃، وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ فَصَارَ مُوجِبًا عِلْمًا اسْتِدْلَالِيًّا كَخَبَرِ الْمِعْرَاجِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ، وَشَرِّهِ مِنْ اللَّهِ، وَأَخْبَارِ الرُّؤْيَةِ، وَالشَّفَاعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ الرَّاوِي فِي الْأَصْلِ وَاحِدًا، ثُمَّ اشْتَهَرَ، وَتَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ، وَمِثْلُهُ مِمَّا يُنْسَخُ بِهِ الْكِتَابُ مَعَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ نَبِيذِ التَّمْرِ فِي الْأَسْفَارِ يَسْبِقُ عَدَمَ الْمَاءِ عَادَةً؛ لِأَنَّهُ أَعْسَرُ وُجُودًا، وَأَعَزُّ إصَابَةً مِنْ الْمَاءِ فَكَانَ تَعْلِيقُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِعَدَمِ الْمَاءِ تَعْلِيقًا بِعَدَمِ النَّبِيذِ دَلَالَةً، فَكَأَنَّهُ قَالَ: " فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً وَلَا نَبِيذَ تَمْرٍ فَتَيَمَّمُوا " إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ لِثُبُوتِهِ عَادَةً.
يُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ فَتَاوَى نُجَبَاءِ الصَّحَابَةِ ﵃ فِي زَمَانٍ انْسَدَّ فِيهِ بَابُ الْوَحْيِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ النَّاسِ بِالنَّاسِخِ، وَالْمَنْسُوخِ، فَبَطَلَ دَعْوَى النَّسْخِ، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الطَّعْنِ فِي الرَّاوِي، أَمَّا أَبُو فَزَارَةَ فَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ، فَلَا مَطْعَنَ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَأَمَّا أَبُو زَيْدٍ فَقَدْ قَالَ صَاعِدٌ، وَهُوَ مِنْ زُهَّادِ التَّابِعِينَ: وَأَمَّا أَبُو زَيْدٍ فَهُوَ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ فَكَانَ مَعْرُوفًا فِي نَفْسِهِ، وَبِمَوْلَاهُ فَالْجَهْلُ بِعَدَالَتِهِ لَا يَقْدَحُ فِي رِوَايَتِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا طَعْنٌ.
وَقَوْلُهُمْ: إنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُنْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ الْجِنِّ دَعْوَى بَاطِلَةٌ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّهُ تَرَكَهُ فِي الْخَطِّ، وَكَذَا رُوِيَ كَوْنُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي خَبَرٍ آخَرَ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ أَحْجَارًا لِلِاسْتِنْجَاءِ فَأَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: إنَّهَا
1 / 16
رِجْسٌ أَوْ رِكْسٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَقْوَامًا مِنْ الزُّطِّ بِالْعِرَاقِ قَالَ: مَا أَشْبَهَ هَؤُلَاءِ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالْكُوفَةِ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ بِهَؤُلَاءِ مِنْ الْجِنِّ الَّذِينَ رَأَيْتُهُمْ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ لَيْلَةَ الْجِنِّ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُ، وَأَنَّ عَلْقَمَةَ قَالَ: وَدِدْنَا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي خَاطَبَ فِيهَا الْجِنَّ أَيْ لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُ وَقْتَ خِطَابِهِ الْجِنَّ، وَوَدِدْنَا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ وَقْتَ مَا خَاطَبَ الْجِنَّ.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي جَوَازِ الِاغْتِسَالِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ عُرِفَ بِالنَّصِّ، وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْوُضُوءِ دُونَ الِاغْتِسَالِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ تَفْسِيرِ نَبِيذِ التَّمْرِ الَّذِي فِيهِ الْخِلَافُ، وَهُوَ أَنْ يُلْقَى شَيْءٌ مِنْ التَّمْرِ فِي الْمَاءِ فَتَخْرُجُ حَلَاوَتُهُ إلَى الْمَاءِ،، وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ ﵁ فِي تَفْسِيرِ نَبِيذِ التَّمْرِ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ الْجِنِّ فَقَالَ: تُمَيْرَاتٌ أَلْقَيْتُهَا فِي الْمَاءِ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تَطْرَحُ التَّمْرَ فِي الْمَاءِ الْمِلْحِ لِيَحْلُوَ، فَمَا دَامَ حُلْوًا رَقِيقًا، أَوْ قَارِصًا يُتَوَضَّأُ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ غَلِيظًا كَالرُّبِّ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا إنْ كَانَ رَقِيقًا لَكِنَّهُ غَلَا، وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْكِرًا، وَالْمُسْكِرُ حَرَامٌ، فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيذَ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَانَ رَقِيقًا حُلْوًا، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْغَلِيظُ، وَالْمُرُّ، هَذَا إذَا كَانَ نِيئًا، فَإِنْ كَانَ مَطْبُوخًا أَدْنَى طَبْخَةٍ فَمَا دَامَ حُلْوًا أَوْ قَارِصًا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَإِنْ غَلَا، وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْكَرْخِيِّ، وَأَبِي طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ يَجُوزُ.
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي طَاهِرٍ لَا يَجُوزُ وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ اسْمَ النَّبِيذِ كَمَا يَقَعُ عَلَى النِّيءِ مِنْهُ يَقَعُ عَلَى الْمَطْبُوخِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ إذَا اخْتَلَطَ بِهِ الْمَائِعَاتُ الطَّاهِرَةُ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا إذَا كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا، وَهَهُنَا أَجْزَاءُ الْمَاءِ غَالِبَةٌ عَلَى أَجْزَاءِ التَّمْرِ فَيَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي طَاهِرٍ أَنَّ الْجَوَازَ عُرِفَ بِالْحَدِيثِ، وَالْحَدِيثُ وَرَدَ فِي النِّيءِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيذِ فَقَالَ: تُمَيْرَاتٌ أَلْقَيْتُهَا فِي الْمَاءِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّ الْمَائِعَ الطَّاهِرَ إذَا اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ لَا يَمْنَعُ التَّوَضُّؤَ بِهِ " فَنَعَمْ إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْمَاءِ أَصْلًا فَأَمَّا إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَلَا، وَهَهُنَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الطَّعْمِ، وَاللَّوْنِ، وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ مِنْ حَيْثُ الْأَجْزَاءِ، فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، وَهَذَا أَقْرَبُ الْقَوْلَيْنِ إلَى الصَّوَابِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ وَجَعَلَهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي شُرْبِهِ فَقَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ كَمَا يَجُوزُ شُرْبُهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ شُرْبُهُ، وَأَبُو يُوسُفَ فَرَقَّ بَيْنَ الْوُضُوءِ، وَالشُّرْبِ فَقَالَ: يَجُوزُ شُرْبُهُ، وَلَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَرَى التَّوَضُّؤَ بِالنِّيءِ الْحُلْوِ مِنْهُ، فَبِالْمَطْبُوخِ الْمُرِّ أَوْلَى
وَأَمَّا نَبِيذُ الزَّبِيبِ، وَسَائِرُ الْأَنْبِذَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيِّ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالْأَنْبِذَةِ كُلِّهَا نِيئًا كَانَ النَّبِيذُ أَوْ مَطْبُوخًا، حُلْوًا كَانَ أَوْ مُرًّا قِيَاسًا عَلَى نَبِيذِ التَّمْرِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْجَوَازَ فِي نَبِيذِ التَّمْرِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى الْجَوَازَ إلَّا بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَهَذَا لَيْسَ بِمَاءٍ مُطْلَقٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا الْجَوَازَ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي نَبِيذِ التَّمْرِ خَاصَّةً فَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.
(وَمِنْهَا): أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ طَاهِرًا، فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ النَّجِسِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَمَّى الْوُضُوءَ طَهُورًا، وَطَهَارَةً بِقَوْلِهِ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ» وَقَوْلِهِ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهَارَةٍ»، وَيَسْتَحِيلُ حُصُولُ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ، وَالْمَاءُ النَّجِسُ مَا خَالَطَهُ النَّجَاسَةُ، وَسَنَذْكُرُ بَيَانَ الْقَدْرِ الَّذِي يُخَالِطُ الْمَاءَ مِنْ النَّجَاسَةِ فَيُنَجِّسُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
(وَمِنْهَا): أَنْ يَكُونَ طَهُورًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ»، وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلطَّاهِرِ فِي ذَاتِهِ الْمُطَهِّرِ لِغَيْرِهِ.
فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَيَجُوزُ بِالْمَاءِ الْمَكْرُوهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ إذَا وُجِدَ غَيْرُهُ، وَلَا يَجُوزُ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مَشْكُوكُ فِي طَهُورِيَّتِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ فِي طَهَارَتِهِ، وَسَنُفَسِّرُهُ، وَنَسْتَوْفِي الْكَلَامَ فِيهِ إذَا انْتَهَيْنَا إلَى بَيَانِ حُكْمِ الْأَسْآرِ عِنْدَ بَيَانِ أَنْوَاعِ الْأَنْجَاسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَأَمَّا) النِّيَّةُ فَلَيْسَتْ مِنْ الشَّرَائِطِ، وَكَذَلِكَ التَّرْتِيبُ فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ
1 / 17
بِدُونِ النِّيَّةِ وَمُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ عِنْدنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ الشَّرَائِطِ لَا يَجُوزُ بِدُونِهِمَا، وَكَذَلِكَ إيمَانُ الْمُتَوَضِّئِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ وُضُوئِهِ عِنْدَنَا فَيَجُوزُ وُضُوءُ الْكَافِرِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ شَرْطٌ، فَلَا يَجُوزُ وُضُوءُ الْكَافِرِ، وَكَذَلِكَ الْمُوَالَاةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ شَرْطٌ، وَسَنَذْكُرُ هَذِهِ الْمَسَائِلَ عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ السُّنَنِ عِنْدَنَا لَا مِنْ الْفَرَائِضِ، فَكَانَ إلْحَاقُهَا بِفَصْلِ السُّنَنِ أَوْلَى.
[فَصْلٌ سُنَنُ الْوُضُوءِ]
(فَصْلٌ):
وَأَمَّا سُنَنُ الْوُضُوءِ فَكَثِيرَةٌ بَعْضُهَا قَبْلَ الْوُضُوءِ، وَبَعْضُهَا فِي ابْتِدَائِهِ، وَبَعْضُهَا فِي أَثْنَائِهِ، (أَمَّا) الَّذِي هُوَ قَبْلَ الْوُضُوءِ (فَمِنْهَا): الِاسْتِنْجَاءُ بِالْأَحْجَارِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا،، وَسَمَّى الْكَرْخِيُّ الِاسْتِنْجَاءَ اسْتِجْمَارًا إذْ هُوَ طَلَبُ الْجَمْرَةِ، وَهِيَ الْحَجَرُ الصَّغِيرُ، وَالطَّحَاوِيُّ سَمَّاهُ اسْتِطَابَةً، وَهِيَ طَلَبُ الطِّيبِ، وَهُوَ الطَّهَارَةُ، وَالِاسْتِنْجَاءُ هُوَ طَلَبُ طَهَارَةِ الْقُبُلِ، وَالدُّبُرِ مِنْ النَّجْوِ، وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْبَطْنِ، أَوْ مَا يَعْلُو، وَيَرْتَفِعُ مِنْ النَّجْوَةِ، وَهِيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ.
(وَالْكَلَامُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ) فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْتَنْجَى بِهِ، وَفِي بَيَان مَا يُسْتَنْجَى مِنْهُ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالِاسْتِنْجَاءُ سُنَّةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ الِاسْتِنْجَاءَ أَصْلًا جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا، وَلَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ أَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ عَفْوٌ فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِعَفْوٍ، ثُمَّ نَاقَضَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ فَقَالَ: إذَا اسْتَنْجَى بِالْأَحْجَارِ، وَلَمْ يَغْسِلْ مَوْضِعَ الِاسْتِنْجَاءِ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَيَقُّنًا بِبَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَةِ، إذْ الْحَجَرُ لَا يَسْتَأْصِلُ النَّجَاسَةَ، وَإِنَّمَا يُقَلِّلُهَا وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ، ثُمَّ ابْتِدَاءُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لَيْسَ بِفَرْضٍ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ»، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ نَفَى الْحَرَجَ فِي تَرْكِهِ، وَلَوْ كَانَ فَرْضًا لَكَانَ فِي تَرْكِهِ حَرَجٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ " وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ فِي الْمَفْرُوضِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ، وَالْمُسْتَحَبِّ، إلَّا أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الِاسْتِنْجَاءَ أَصْلًا، وَصَلَّى يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ جُعِلَ عَفْوًا فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ دُونَ الْكَرَاهَةِ، وَإِذَا اسْتَنْجَى زَالَتْ الْكَرَاهَةُ لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْأَحْجَارِ أُقِيمَ مَقَامَ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ شَرْعًا لِلضَّرُورَةِ إذْ الْإِنْسَانُ قَدْ لَا يَجِدُ سُتْرَةً، أَوْ مَكَانًا خَالِيًا لِلْغَسْلِ، وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ فَأُقِيمَ الِاسْتِنْجَاءُ مَقَامَ الْغَسْلِ فَتَزُولُ بِهِ الْكَرَاهَةُ كَمَا تَزُولُ بِالْغَسْلِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ﵁ أَنَّ «النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَسْتَنْجِي بِالْأَحْجَارِ»، وَلَا يُظَنُّ بِهِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُسْتَنْجَى بِهِ فَالسُّنَّةُ هُوَ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ مِنْ الْأَحْجَارِ وَالْأَمْدَارِ، وَالتُّرَابِ، وَالْخِرَقِ الْبَوَالِي.
وَيُكْرَهُ بِالرَّوْثِ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْجَاسِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ أَحْجَارِ الِاسْتِنْجَاءِ أَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَمَى بِالرَّوْثَةِ، وَعَلَّلَ بِكَوْنِهَا نَجَسًا، فَقَالَ: إنَّهَا رِجْسٌ» أَوْ رِكْسٌ، أَيْ: نَجَسٌ.
وَيُكْرَهُ بِالْعَظْمِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ «نَهَى عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ، وَالرِّمَّةِ وَقَالَ: مَنْ اسْتَنْجَى بِرَوْثٍ، أَوْ رِمَّةٍ فَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَسْتَنْجُوا بِالْعَظْمِ وَلَا بِالرَّوْثِ فَإِنَّ الْعَظْمَ زَادُ إخْوَانِكُمْ الْجِنِّ، وَالرَّوْثُ عَلَفُ دَوَابِّهِمْ» فَإِنَّ فِعْلَ ذَلِكَ يُعْتَدُّ بِهِ عِنْدَنَا، فَيَكُونُ مُقِيمًا سُنَّةً، وَمُرْتَكِبًا كَرَاهَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ جِهَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، فَيَكُونُ بِجِهَةِ كَذَا، وَبِجِهَةِ كَذَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، حَتَّى لَا تَجُوزَ صَلَاتُهُ إذَا لَمْ يَسْتَنْجِ بِالْأَحْجَارِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالْأَحْجَارِ فَيُرَاعَى عَيْنُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ؛، وَلِأَنَّ الرَّوْثَ نَجَسٌ فِي نَفْسِهِ، وَالنَّجَسُ كَيْفَ يُزِيلُ النَّجَاسَةَ؟ (وَلَنَا) أَنَّ النَّصَّ مَعْلُولٌ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ وَقَدْ حَصَلَتْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَمَا تَحْصُلُ بِالْأَحْجَارِ، إلَّا أَنَّهُ كُرِهَ بِالرَّوْثِ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِعْمَالِ النَّجَسِ، وَإِفْسَادِ عَلَفِ دَوَابِّ الْجِنِّ، وَكُرِهَ بِالْعَظْمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إفْسَادِ زَادِهِمْ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ، فَكَانَ النَّهْيُ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ لَا فِي عَيْنِهِ، فَلَا يُمْنَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ وَقَوْلُهُ: " الرَّوْثُ نَجَسٌ فِي نَفْسِهِ " مُسَلَّمٌ، لَكِنَّهُ يَابِسٌ لَا يَنْفَصِلُ مِنْهُ شَيْءٌ إلَى الْبَدَنِ فَيَحْصُلُ بِاسْتِعْمَالِهِ نَوْعُ طَهَارَةٍ بِتَقْلِيلِ النَّجَاسَةِ.
وَيُكْرَهُ الِاسْتِنْجَاءُ بِخِرْقَةِ الدِّيبَاجِ وَمَطْعُومِ الْآدَمِيِّ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لِمَا فِيهِ مِنْ إفْسَادِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَكَذَا بِعَلَفِ الْبَهَائِمِ، وَهُوَ الْحَشِيشُ؛ لِأَنَّهُ تَنْجِيسٌ لِلطَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ.
1 / 18
وَالْمُعْتَبَرُ فِي إقَامَةِ هَذِهِ السُّنَّةِ عِنْدَنَا هُوَ الْإِنْقَاءُ دُونَ الْعَدَدِ، فَإِنْ حَصَلَ بِحَجَرٍ وَاحِدٍ كَفَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِالثَّلَاثِ زَادَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْعَدَدُ مَعَ الْإِنْقَاءِ شَرْطٌ، حَتَّى لَوْ حَصَلَ الْإِنْقَاءُ بِمَا دُونِ الثَّلَاثِ كَمَّلَ الثَّلَاثَ، وَلَوْ تَرَكَ لَمْ يُجْزِهِ.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ» أَمْرٌ بِالْإِيتَارِ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ.
(وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ «ابْنِ مَسْعُودٍ ﵁ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَأَلَهُ أَحْجَارَ الِاسْتِنْجَاءِ فَأَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَرَمَى الرَّوْثَةَ»، وَلَمْ يَسْأَلْهُ حَجَرًا ثَالِثًا، وَلَوْ كَانَ الْعَدَدُ فِيهِ شَرْطًا لَسَأَلَهُ إذْ لَا يُظَنُّ بِهِ تَرْكُ الْوَاجِبِ؛ وَلِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ هُوَ التَّطْهِيرُ وَقَدْ حَصَلَ بِالْوَاحِدِ، وَلَا يَجُوزُ تَنْجِيسُ الطَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةِ.
(وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَحُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْإِيتَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً، عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِيتَارِ لَيْسَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ فَإِذَا حَصَلَتْ بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَيَنْتَهِي حُكْمُ الْأَمْرِ، وَكَذَا اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ وَاحِدٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فِي تَحْصِيلِ مَعْنَى الطَّهَارَةِ.
وَيَسْتَنْجِي بِيَسَارِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَأْكُلُ بِيَمِينِهِ، وَيَسْتَجْمِرُ بِيَسَارِهِ، وَعَنْ عَائِشَةَ ﵂ أَنَّ «النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَأْكُلُ بِيَمِينِهِ، وَيَسْتَنْجِي بِيَسَارِهِ»، وَلِأَنَّ الْيَسَارَ لِلْأَقْذَارِ.
وَهَذَا إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ الَّتِي عَلَى الْمَخْرَجِ قَدْرَ الدِّرْهَمِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَزُولُ بِالْأَحْجَارِ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ النَّجَسُ الْمَخْرَجَ فَإِنْ تَعَدَّاهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُتَعَدِّي أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ يَجِبُ غَسْلُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ.
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا تَجَاوَزَتْ مَخْرَجَهَا وَجَبَ غَسْلُهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافَ أَصْحَابِنَا لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ النَّجَاسَةِ لَيْسَ بِعَفْوٍ، وَهَذَا كَثِيرٌ، وَلَهُمَا أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي عَلَى الْمَخْرَجِ قَلِيلٌ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ كَثِيرًا بِضَمِّ الْمُتَعَدِّي إلَيْهِ، وَهُمَا نَجَاسَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ فِي الْحُكْمِ، فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَلَا يُرَى أَنَّ إحْدَاهُمَا تَزُولُ بِالْأَحْجَارِ، وَالْأُخْرَى لَا تَزُولُ إلَّا بِالْمَاءِ، وَإِذَا اخْتَلَفَتَا فِي الْحُكْمِ يُعْطَى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهَا، وَهِيَ فِي نَفْسِهَا قَلِيلَةٌ فَكَانَتْ عَفْوًا.
(وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُسْتَنْجَى مِنْهُ فَالِاسْتِنْجَاءُ مَسْنُونٌ مِنْ كُلِّ نَجَسٍ يَخْرُجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ لَهُ عَيْنٌ مَرْئِيَّةٌ كَالْغَائِطِ، وَالْبَوْلِ، وَالْمَنِيِّ، وَالْوَدْيِ، وَالْمَذْيِ، وَالدَّمِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لِلتَّطْهِيرِ بِتَقْلِيلِ النَّجَاسَةِ، وَإِذَا كَانَ النَّجِسُ الْخَارِجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ عَيْنًا مَرْئِيَّةً تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّطْهِيرِ بِالتَّقْلِيلِ، وَلَا اسْتِنْجَاءَ فِي الرِّيحِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَيْنٍ مَرْئِيَّةٍ.
مَطْلَبٌ فِي السِّوَاكِ (وَمِنْهَا) السِّوَاكُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ»، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ؛، وَلِأَنَّهُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، وَمَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» ﷿.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ، حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُدْرِدَنِيَ» .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ «طَهِّرُوا مَسَالِكَ الْقُرْآنِ بِالسِّوَاكِ»، وَلَهُ أَنْ يَسْتَاكَ بِأَيِّ سِوَاكٍ كَانَ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا، مَبْلُولًا أَوْ غَيْرَ مَبْلُولٍ، صَائِمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ صَائِمٍ، قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ نُصُوصَ السِّوَاكِ مُطْلَقَةٌ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُكْرَهُ السِّوَاكُ بَعْدَ الزَّوَالِ لِلصَّائِمِ لِمَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ.
(وَأَمَّا) الَّذِي هُوَ فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ (فَمِنْهَا) النِّيَّةُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هِيَ فَرِيضَةٌ، وَالْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَالْعِبَادَةِ غَيْرُ لَازِمٍ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَازِمٌ، وَلِهَذَا صَحَّ مِنْ الْكَافِرِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ»، وَالْإِيمَانُ عِبَادَةٌ فَكَذَا شَطْرُهُ، وَلِهَذَا كَانَ التَّيَمُّمُ عِبَادَةً، حَتَّى لَا يَصِحَّ بِدُونِ النِّيَّةِ، وَأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْوُضُوءِ، وَالْخَلَفُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ.
(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: ٦] أَمْرٌ بِالْغَسْلِ، وَالْمَسْحِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ.
وقَوْله تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ [النساء: ٤٣] نَهَى الْجُنُبَ عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَابِرَ سَبِيلٍ إلَى غَايَةِ الِاغْتِسَالِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ، فَيَقْتَضِي انْتِهَاءَ حُكْمِ النَّهْي عِنْدَ الِاغْتِسَالِ الْمُطْلَقِ، وَعِنْدَهُ لَا يَنْتَهِي إلَّا عِنْدَ
1 / 19
اغْتِسَالٍ مَقْرُونٍ بِالنِّيَّةِ، وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ؛ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ آيَةِ الْوُضُوءِ ﴿وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ [المائدة: ٦]، وَحُصُولُ الطَّهَارَةِ لَا يَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ بَلْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلطَّهَارَةِ، وَالْمَاءُ مُطَهِّرٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ، أَوْ رِيحَهُ، أَوْ لَوْنَهُ» .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: ٤٨] وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلطَّاهِرِ، فِي نَفْسِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ عَلَى مَا عُرِفَ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَمَلُ الْمَاءِ خِلْقَةً، وَفِعْلُ اللِّسَانِ فَضْلٌ فِي الْبَابِ، حَتَّى لَوْ سَالَ عَلَيْهِ الْمَطَرُ أَجْزَأَهُ عَنْ الْوُضُوءِ، وَالْغَسْلِ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُمَا النِّيَّةُ، إذْ اشْتِرَاطُهَا لِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّازِمَ لِلْوُضُوءِ مَعْنَى الطَّهَارَةِ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ مِنْ الزَّوَائِدِ، فَإِنْ اتَّصَلَتْ بِهِ النِّيَّةُ يَقَعُ عِبَادَةً، وَإِنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِهِ لَا يَقَعُ عِبَادَةً لَكِنَّهُ يَقَعُ، وَسِيلَةً إلَى إقَامَةِ الصَّلَاةِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ.
(وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ شَطْرُ الصَّلَاةِ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطِ الْإِيمَان؛ لِصِحَّةِ الْإِيمَانِ بِدُونِهِ، وَلَا شَطْرِهِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالْوُضُوءُ لَيْسَ مِنْ التَّصْدِيقِ فِي شَيْءٍ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ شَطْرُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يُذْكَرُ عَلَى إرَادَةِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ قَبُولَهَا مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: ١٤٣]، أَيْ صَلَاتَكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَهَكَذَا نَقُولُ فِي التَّيَمُّمِ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ تَتَّصِلْ بِهِ النِّيَّةُ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِهِ، لَا لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ، بَلْ لِانْعِدَامِ حُصُولِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ جُعِلَتْ طَهَارَةً عِنْدَ مُبَاشَرَةِ فِعْلٍ لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ فَإِذَا عَرِيَ عَنْ النِّيَّةِ لَمْ يَقَعْ طَهَارَةً، بِخِلَافِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، فَلَا يَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ.
[التَّسْمِيَة فِي الْوُضُوء]
مَطْلَبٌ فِي التَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ
(النِّيَّةِ وَمِنْهَا): التَّسْمِيَةُ وَقَالَ مَالِكٌ إنَّهَا فَرْضٌ إلَّا إذَا كَانَ نَاسِيًا فَتُقَامُ التَّسْمِيَةُ بِالْقَلْبِ مَقَامَ التَّسْمِيَةِ بِاللِّسَانِ دَفْعًا لِلْحَرِجِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ» .
(وَلَنَا) أَنَّ آيَةَ الْوُضُوءِ مُطْلَقَةٌ عَنْ شَرْطِ التَّسْمِيَةِ فَلَا تُقَيَّدُ إلَّا بِدَلِيلٍ صَالِحٍ لِلتَّقْيِيدِ؛، وَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْمُتَوَضِّئِ هُوَ الطَّهَارَةُ، وَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ لَا يَقْدَحُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ خُلِقَ طَهُورًا فِي الْأَصْلِ، فَلَا تَقِفُ طَهُورِيَّتُهُ عَلَى صُنْعِ الْعَبْدِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ﵁ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ «مَنْ تَوَضَّأَ، وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ طَهُورًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ، وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ كَانَ طَهُورًا لِمَا أَصَابَ الْمَاءَ مِنْ بَدَنِهِ»، وَالْحَدِيثُ مِنْ جُمْلَةِ الْآحَادِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ، وَهُوَ مَعْنَى السُّنَّةِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ»، وَبِهِ نَقُولُ: " إنَّهُ سُنَّةٌ " لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَيْهَا عِنْدَ افْتِتَاحِ الْوُضُوءِ، وَذَلِكَ دَلِيلُ السُّنِّيَّةِ وَقَالَ ﵊ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ»، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّ التَّسْمِيَةَ يُؤْتَى بِهَا قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: قَبْلَهُ لِأَنَّهَا سُنَّةُ افْتِتَاحِ الْوُضُوءِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَعْدَهُ لِأَنَّ حَالَ الِاسْتِنْجَاءِ حَالُ كَشْفِ الْعَوْرَةِ، فَلَا يَكُونُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ.
مَطْلَبٌ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ
(وَمِنْهَا): غَسْلُ الْيَدَيْنِ إلَى الرُّسْغَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ لِلْمُسْتَيْقِظِ مِنْ مَنَامِهِ وَقَالَ قَوْمٌ: إنَّهُ فَرْضٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ فَرْضٌ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ فَرْضٌ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ خَاصَّةً، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسَنَّ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»، وَالنَّهْيُ عَنْ الْغَمْسِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْغَسْلِ فَرْضًا.
(وَلَنَا) أَنَّ الْغَسْلَ لَوْ وَجَبَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَجِبَ مِنْ الْحَدَثِ، أَوْ مِنْ النَّجَسِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغَسْلُ مِنْ الْحَدَثِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ غَسْلَ الْعُضْوِ عِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ مِنْ مَنَامِهِ مَرَّةً، وَمَرَّةً عِنْدَ الْوُضُوءِ، لَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْغَسْلَ عِنْدَ الْحَدَثِ مَرَّتَيْنِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ النَّجَسَ غَيْرُ مَعْلُومٍ بَلْ هُوَ مَوْهُومٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ.
«فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى تَوَهُّمِ النَّجَاسَةِ، وَاحْتِمَالِهَا فَيُنَاسِبُهُ النَّدْبُ إلَى الْغُسْلِ، وَاسْتِحْبَابُهُ لَا الْإِيجَابُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الطَّهَارَةُ، فَلَا تَثْبُتُ النَّجَاسَةُ بِالشَّكِّ، وَالِاحْتِمَالِ، فَكَانَ الْحَدِيثُ مَحْمُولًا عَلَى نَهْيِ التَّنْزِيهِ لَا التَّحْرِيمِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي وَقْتِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ أَنَّهُ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ أَوْ بَعْدَهُ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ قَبْلَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَعْدَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَبْلَهُ، وَبَعْدَهُ تَكْمِيلًا لِلتَّطْهِيرِ.
مَطْلَبٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ
1 / 20
(وَمِنْهَا): الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَمُعَاوِيَةُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ ﵃ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَعَلْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ دَوَاءً، وَطَهُورًا، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ، وَيَقُولُ: إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانَ يَبْعَرُ بَعْرًا، وَأَنْتُمْ تَثْلِطُونَ ثَلْطًا فَأَتْبِعُوا الْحِجَارَةَ الْمَاءَ، وَهُوَ كَانَ مِنْ الْآدَابِ فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ﵂ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَوَضَّأَ، وَغَسَلَ مَقْعَدَهُ بِالْمَاءِ ثَلَاثًا»، وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: ١٠٨] فِي أَهْلِ قِبَا سَأَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ شَأْنِهِمْ، فَقَالُوا: إنَّا نُتْبِعُ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ.
ثُمَّ صَارَ بَعْدَ عَصْرِهِ مِنْ السُّنَنِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ كَالتَّرَاوِيحِ، وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ يَغْسِلَ بِيَسَارِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «الْيَمِينُ لِلْوَجْهِ، وَالْيَسَارُ لِلْمَقْعَدِ»، ثُمَّ الْعَدَدُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْإِنْقَاءُ، فَإِنْ لَمْ يَكْفِهِ الْغَسْلُ ثَلَاثًا يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مُوَسْوَسًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ عَلَى السَّبْعِ لِأَنَّ قَطْعَ الْوَسْوَسَةِ وَاجِبٌ، وَالسَّبْعُ هُوَ نِهَايَةُ الْعَدَدِ الَّذِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي الْغَسْلِ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ وُلُوغِ الْكَلْبِ.
مَطْلَبٌ فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِنْجَاءِ
(وَأَمَّا) كَيْفِيَّةُ الِاسْتِنْجَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُرْخِيَ نَفْسَهُ إرْخَاءً تَكْمِيلًا لِلتَّطْهِيرِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْتَدِئَ بِأُصْبُعٍ، ثُمَّ بِأُصْبُعَيْنِ ثُمَّ بِثَلَاثٍ أَصَابِعَ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَنْدَفِعُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَنْجِيسُ الطَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِبُطُونِ الْأَصَابِعِ لَا بِرُءُوسِهَا كَيْلَا يُشْبِهَ إدْخَالَ الْأُصْبُعِ فِي الْعَوْرَةِ، وَهَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَفْعَلُ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ الرَّجُلُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَنْجِيَ بِرُءُوسِ الْأَصَابِعِ؛ لِأَنَّ تَطْهِيرَ الْفَرْجِ الْخَارِجِ فِي بَابِ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَالْجَنَابَةِ وَاجِبٌ، وَفِي بَابِ الْوُضُوءِ سُنَّةٌ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِرُءُوسِ الْأَصَابِعِ.
(وَأَمَّا) الَّذِي هُوَ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ (فَمِنْهَا): الْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ وَقَالَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: وَهُمَا فَرْضَانِ فِي الْوُضُوءِ، وَالْغَسْلِ جَمِيعًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سُنَّتَانِ فِيهِمَا جَمِيعًا فَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ احْتَجُّوا بِمُوَاظَبَتِهِ ﷺ عَلَيْهِمَا فِي الْوُضُوءِ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ عَنْ الْجَنَابَةِ يَتَعَلَّقُ بِالظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، وَدَاخِلُ الْأَنْفِ، وَالْفَمِ مِنْ الْبَوَاطِنِ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْوَاجِبَ فِي بَابِ الْوُضُوءِ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَمَسْحُ الرَّأْسِ، وَدَاخِلُ الْأَنْفِ، وَالْفَمِ لَيْسَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَمَّا مَا سِوَى الْوَجْهِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا الْوَجْهُ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ عَادَةً، وَدَاخِلُ الْأَنْفِ، وَالْفَمُ لَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ، فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ، بِخِلَافِ بَابِ الْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ تَطْهِيرُ الْبَدَنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة: ٦]، أَيْ طَهِّرُوا أَبْدَانَكُمْ فَيَجِبُ غَسْلُ مَا يُمْكِن غَسْلُهُ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ ظَاهِرًا كَانَ أَوْ بَاطِنًا، وَمُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ ﷺ عَلَيْهِمَا فِي الْوُضُوءِ دَلِيلُ السُّنِّيَّةِ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى سُنَنِ الْعِبَادَاتِ.
(وَمِنْهَا): التَّرْتِيبُ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْمَضْمَضَةِ عَلَى الِاسْتِنْشَاقِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى التَّقْدِيمِ (وَمِنْهَا): إفْرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَاءٍ عَلَى حِدَةٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ السُّنَّةُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمَاءٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمَاءَ بِكَفِّهِ فَيَتَمَضْمَضُ بِبَعْضِهِ، وَيَسْتَنْشِقُ بِبَعْضِهِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ» .
(وَلَنَا) أَنَّ الَّذِينَ حَكَوْا وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَخَذُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاءً جَدِيدًا؛ وَلِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ مُنْفَرِدَانِ فَيُفْرَدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَاءٍ عَلَى حِدَةٍ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَمَا رَوَاهُ مُحْتَمَلٌ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِمَاءٍ عَلَى حِدَةٍ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ، أَوْ يُرَدُّ الْمُحْتَمَلُ إلَى الْمُحْكَمِ - وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا - تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ.
(وَمِنْهَا): الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ بِالْيَمِينِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَضْمَضَةُ بِالْيَمِينِ، وَالِاسْتِنْشَاقُ بِالْيَسَارِ؛ لِأَنَّ الْفَمَ مَطْهَرَةٌ، وَالْأَنْفَ مَقْذَرَةٌ، وَالْيَمِينُ لِلْإِطْهَارِ، وَالْيَسَارُ لِلْأَقْذَارِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَن بْنِ عَلِيٍّ ﵄ أَنَّهُ اسْتَنْثَرَ بِيَمِينِهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: جَهِلْتَ السُّنَّةَ، فَقَالَ الْحَسَنُ ﵁: كَيْفَ أَجْهَلُ، وَالسُّنَّةُ خَرَجَتْ مِنْ بُيُوتِنَا؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «الْيَمِينُ لِلْوَجْهِ، وَالْيَسَارُ لِلْمَقْعَدِ» .
(وَمِنْهَا): الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، إلَّا فِي حَالِ الصَّوْمِ فَيُرْفَقُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ «بَالِغْ فِي الْمَضْمَضَةِ، وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا فَارْفُقْ»، وَلِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِيهِمَا مِنْ بَابِ التَّكْمِيلِ فِي التَّطْهِيرِ، فَكَانَتْ مَسْنُونَةً إلَّا فِي حَالِ الصَّوْمِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ لِلْفَسَادِ.
[التَّرْتِيب فِي الْوُضُوء]
مَطْلَبٌ فِي التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ.
(وَمِنْهَا): التَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ؛
1 / 21