الذين يدينون بدين أبيهم إبراهيم خالصا من عبادة الأوثان، ويحرمون على أنفسهم الخمر والميسر والنصاب والأزلام، ويفتدون الموءودة، ويدعون إلى عبادة الواحد الأحد القهار.
ولكن القوم كانوا لاهين بما هم فيه مغتبطين بأن يعبدوا آلهتهم حيث كانت من الكعبة، وإن كان لهم أن يغيروا دينهم فلن يكونوا هم البادئين إنما عليهم أن يثبتوا على دينهم ويجاهدوا في سبيله غير متسائلين، ويسفهوا كل ما عداه بغير نظر ولا بحث، ولذلك صموا عن هذا النداء، بل انبرى بعضهم بزعامة الخطاب أبي عمر الفاروق يسبون هؤلاء الشيوخ الأجلاء، ويطعنون عليهم بكل لسان ويرمونهم الأحجار، وما زالوا بهم يرجمونهم ويطاردونهم جزاء سبهم آلهتهم، حتى أخرجوهم إلى ما وراء مكة في طريق غار حراء، وكان قد أصاب الإعياء كبيرهم زيد بن عمرو بن نفيل، وبرحت به جراح الرجم، فقضي في ذمة ربه من ذلك اليوم، وكان الأمين
صلى الله عليه وسلم
عاد إلى بيته في شعب بني عامر يتعجب لما روى عنه الشيوخ الأجلاء، وكانوا أعلم من في قريش بما في كتب الله، يقص على أهله ما رأى وما سمع.
وإذ أتم باقوم بناء الكعبة وكان قد تعرف إلى أهل الفن من الصناع بمكة، وعرف من بينهم أبا ورقة صليحا، وتوثقت بينهما الصداقة بالمحبة والإخاء، فقد نصح لقريش أن يصنع لهم نجر البيت الكريم، وأثبت لهم اقتداره في ذلك بما صنعه من قبل، وإذ كانوا يعرفونه ويعرفون دقة صنعه، وكان أبو الوليد بن المغيرة ، مستقدمه إلى مكة صاحب الرأي الأعلى في شئون البناء شهد له بالنبوغ، عهدوا إليه في تسقيف الكعبة وصنع بابها
11
فأقام السقف على أحسن وضع، وصقله بذوب من الشمع، وصنع بابها على نحو ما كان يصنع في مصر، فطربت قريش لصنعه، وجزته على ذلك جزاء كريما.
ولكنه ما حمل أدوات العمل بعد انتهائه وعاد إلى منزله حتى ملكته حمى شديدة من أثر ما خلفته السيول، ومرض بضعة أيام، ثم قضى نحبه تاركا ورقة وأمه في كنف الله.
حزن بنو عبد المطلب ونوفل لما أصاب العفيفة في زوجها، وتباروا في مؤاساتها، وبالغت سيدتها في تعزيتها، وكانت تود أن تنقلها إلى دارها لولا أن باقوم كان قد مرض هو أيضا ولجأ إلى دار صديقه صليح، ومات صليح وباقوم في منزله يفيق وينتكس، والعفيفة وابنها يقومان بخدمته في مرضه حتى شفاه الله، ولكنه كان هزيلا فبقي في رعايتها بضعة أشهر حتى أبل، وإذ ذاك لم يجد من المروءة أن يرحل عن البيت بعدما دخله وهو عامر، وأخذته شفقة على الغلام وأمه، ففكر في أن يقضي أيامه الباقية في مكة؛ ليكون أبا للغلام يرعاه كما كان يرعاه أبوه، وإذ كان الرجل أعزب فقد خطر له أن يبني بالعفيفة إذا رضيت به بعلا ليعيشوا كلهم معا، واستأذن سيدتها في ذلك، فأذنت وباركت هذا الزواج.
ظل ورقة منذ ذلك الحين إلى أن بلغ من العمر ست عشرة سنة في كنف باقوم، وباقوم يتولى بناء دور السراة في مكة وغير مكة من بلاد الحجاز، وكان يود أن يعلم الغلام صنعة البناء، ولكنه وجده يصلح لما هو أفضل من هذا وأعود عليه بالخير. فأخذ يعده لما توسمه فيه، وكان لا يفارق الغلام لحبه له، وإذ لم يكن يحسن العربية فقد تعلم ورقة منه الرومية وقراءتها، وصار لا يكلمه في خصائصه إلا بها، وتزكى بما كان يقصه عليه باقوم من أخبار مصر ونيلها العجيب، والإسكندرية وما فيها من الدور والقصور والكنائس والمدارس، وبلاد الشام والروم وما جرى فيها من الأحداث ، وكيف أنهم إنما غضبوا على إمبراطورهم موريقس الطيب، وانحازوا إلى قاتله فوقاس بدعوى أنه أذل الروم بدفع جزية لبرابرة من الشرق يعرفون بالتركمان.
Неизвестная страница