وبكر ليدرك القطار الأول مع قوية وأمه، وكانت الأم تحمل تحت ذراعها صرة فيها هدايا لولدها، ومضى القطار الصغير يتبختر ويهتز وسط الحقول الخضراء، ومبروكة لا تفتأ تتحدث عن سلومة الذي كانت تحبه ولا ترى فيه سوى فلذة كبدها، كان حبها مثل حب الكلب لصاحبه لا يبالي ما هو سوى أنه صاحبه، فهو يحبه إذا كان سكيرا أو قاتلا أو لصا أو نذلا، ويرقد تحت قدميه ويترقب عودته من ليلته السوداء، فإذا رآه هب يتمسح به ويلعق وجهه حبا، ولو وقف العالم كله معاديا لذلك الصاحب البشع لما تزحزح الكلب عن محبته ولوقف إلى جنبه يقاتلهم جميعا.
وكان قوية حزينا مطرقا يختلس نظرات من فؤاد وهو يستمع إلى حديث أمه كأنه يرقب حركة وجهه متلهفا.
ولما بلغوا جانب السجن آخر الأمر رأوا عربة سوداء عند بابه، وعلى مقربة منها جمع من نساء ورجال في ثياب قاتمة، يجلسون القرفصاء على الأرض في ظل شجرة، وأفاق فؤاد عند ذلك إلى نفسه، فرأى أنه قد أقبل مع شاب مسكين وأمه لكي يروا سجينا وهم وقوف عند باب سجنه.
ودب إليه شيء من العجب كيف دفعه الفضول إلى مثل هذا الموقف المزري، وداخله شعور يشبه أن يكون ندما، فما كان ينبغي له أن يقف هكذا مع كل هؤلاء.
ورأى مبروكة وهي تهتز وتحاول أن تخفي ما بها، ثم رآها تذهب نحو حارس الباب مترددة، فناداها قوية: إلى أين يا أمي؟
فهمست له وهي تلمس الصرة التي تحت ذراعها.
ورأى فؤاد أنه واقف على مقربة منهما لا يفيدهما شيئا ولا يدري ماذا ينبغي له حيالهما، أيتركهما حتى يفرغا من أمرهما كما يتهيأ لهما؟ أم يذهب مع المرأة إلى حارس الباب فيقول له: إنه جاء معها لعله يظهر له إعظاما فيساعدها على إيصال الصرة إلى ولدها السجين؟ وأحس في نفسه حنقا شديدا، إذ يقف هناك كأنه أحد أولئك الجالسين تحت الشجرة في صغار، ولكنه لم يتحرك لشيء ووقف ينظر إلى من حوله كأنه يلهو بمنظر في مأساة.
وأراد قوية أن يجذب أمه عن الباب قسرا، ولكنها امتنعت عليه في قوة كان من العجيب أن تكمن في مثلها.
وفي تلك اللحظة سمعت صيحة من وراء الباب الأسود، فانفلتت الأم من ذراع ابنها وأسرعت تستقبل مبعث الصيحة، وكانت عيناها مفتوحتين لا تطرفان كأنها تنتظر جلادها، وفتح الباب وخرج منه جندي في يده سلاحه، فلما رأى المرأة وابنها قريبين صاح بهما: إلى أين؟
فوقفت المرأة في مكانها خاشعة ومدت يدها بالصرة إلى الجندي وقالت له كلمات بصوت خافت.
Неизвестная страница