وأيسر ما تغير من حياته المادية أنه هجر مجلسه من الغرفة على البساط القديم الذي بسط على الحصير البالي العتيق، فلم يعرفه إلا حين كان يجلس للإفطار أو للعشاء، وحين كان يأوي إلى مضجعه حين يتقدم الليل؛ وإنما كان يقضي يومه كله أو أكثره في الأزهر، وفيما حوله من المساجد التي كان يختلف فيها إلى بعض الدروس. فإذا عاد إلى «الربع» لم يدخل الغرفة إلا ليتخفف من عباءته، ثم يعود فيخرج منها ليجلس مع صاحبه على فراش ضيق من اللبد قد فرش أمامها وأخذ أكثر الطريق على المارة، فلم يخل لهم منه إلا موضع أقدام الرجل الواحد أو الرجلين.
وفي هذا المجلس كان الصبيان يلهوان بالحديث قليلا وبالقراءة كثيرا، وقد يفرغان لما كان يجري في الطبقة السفلى من حركة وحديث، يسمع أحدهما، ويرى الآخر ويفسر لصاحبه ما لا يرى.
وكذلك عرف الصبي الربع أكثر مما كان يعرفه، وعرف من شئون أهله أكثر مما كان يعرف، وسمع من أحاديثهم أكثر مما كان يسمع، عاش جهرة بعد أن كان يعيش سرا. ولكن حياته الخصبة الممتعة منذ أقبل عليه صديقه لم تكن في الغرفة ولا في الربع، وإنما كانت في الأزهر نفسه، فقد استراح الصبي من درس الفجر وتلبث في غرفته حتى يدنو درس الفقه، فكان يستمتع إذن مع صديقه بصوت الشيخ الموسوس حين كان يقيم الصلاة في كل يوم، بعد أن كان لا يستمتع بهذا الصوت إلا يوم الجمعة من كل أسبوع.
فإذا حان وقت الدرس خرج مع صاحبه إلى الأزهر، فسلكا الطريق نفسها التي كان يسلكها مع أخيه، ولكنهما يسلكان هذه الطريق متحدثين بالجد مرة وبالهزل مرة أخرى، وقد ينحرفان عن حارة الوطاويط تلك القذرة، إلى شارع خان جعفر ذلك النظيف، ويخلصان على كل حال إلى شارع سيدنا الحسين. والغريب أن الصبي تعود منذ أقبل صديقه عليه ألا يمر بمسجد سيدنا الحسين ولا يدخله إلا قرأ الفاتحة، عوده صديقه هذه العادة فدأب عليها. وقد تقدمت به السن واختلفت عليه أطوار الحياة، وما يذكر أنه مر بمسجد سيدنا الحسين إلا قرأ في نفسه هذه السورة الكريمة من سور القرآن.
وكان أخو الصبي قد خصص له ولصاحبه مقدارا يسيرا جدا من النقد ثمنا لإفطارهما، على أن يأخذا بعد درس الفقه جراية الشيخ الفتى من رواق الحنفية، وكانت أربعة أرغفة، فيأكلان منها رغيفين إذا أفطرا ويحفظان منها رغيفين للعشاء، ومع أن هذا المقدار الذي خصص لهما من النقد قد كان يسيرا ضئيلا لا يتجاوز القرش الواحد في كل يوم، فقد عرفا كيف يحتالان وكيف يقتصدان ليمتعا أنفسهما ببعض ما كانت نفوسهما تتوق إليه من طرائف الطعام والشراب. وما يمنعهما أن يغدوا ذات صباح مع الطير، فإذا تجاوزا ذلك الباب المقفل من فجوته الضيقة، واستدارا ليأخذا طريقهما نحو الأزهر، وقفا عند بائع البليلة فأخذ كل منهما قدرا من هذا الطعام الذي كانا يحبانه أشد الحب؛ لكثرة ما أكلا منه في الريف، ولكثرة ما كان يوضع عليه من السكر الذي يختلط بحباته الغلاظ ويذوب في مائه الشديد الحرارة جدا، فلا يكادان يسيغانه حتى يطرد عنهما بقية النوم ويشيع في جسميهما النشاط ويثير في أفواههما وأجوافهما لذة كانا يقدرانها قدرها، ويهيئهما تهيئة صالحة لدرس الفقه، يسمعان لحديث الشيخ وقد عمرت بطونهما ورءوسهما معا.
وما يمنعهما إذا كانا في شارع سيدنا الحسين أن يعطفا على هذا البائع أو ذاك فيجلسا على مجلس ضيق من الخشب قد ألقي عليه حصير ضيق أحيانا، ولم يلق عليه شيء أحيانا أخرى، ولكنه كان وثيرا على كل حال؛ لأن الجلوس عليه كان يصحبه انتظار لذة كانا يحبانها ويقدرانها؛ لذة هذا التين المرطب الذي يقدم إليهما في إناء صغير، فيلتهمانه التهاما ثم يعبان في مائة عبا، ثم يأكلان ما كان تحته من زبيب في أناة وهدوء! وما يمنعهما حين يعودان قبل العصر أو بعيده أن يجورا على ثمن العشاء فيقفا عند بائع الهريسة أو بائع البسبوسة، ويرضيا لذاتهما البريئة إلى هذا اللون من الحلوى أو ذاك! وليس على إفطارهما ولا على عشائهما بأس.
فأما الإفطار فقد كان أمره يسيرا جدا: زيارة لبائع من هؤلاء الباعة الذين كانوا يعرضون الفول النابت، ومعهما رغيفاهما وهما يدفعان إلى هذا البائع مليمين ونصف مليم، وقد اشتريا بنصف مليم حزمة أو حزمتين من كراث، وهذا البائع يقبل عليهما بإناء ضخم عميق قد امتلأ مرقا وسبحت فيه حبات من الفول وألقي عليه قليل من الزيت، فهما يغمسان خبزهما في المرق، ويتصيدان ما تيسر من حب، ويلتهمان ما تحمله يدهما اليسرى إلى أفواههما من الكراث ... وما يبلغان آخر الرغيف وآخر الكراث حتى يبلغا حظهما من الطعام وقد امتلأا حتى كادا يكتظان. ولكن في الإناء بقية من مرق، فكان الصبي يستحيي أن يجيب صاحبه إلى ما يعرض عليه من شرب هذا المرق، وكان صاحبه يضحك منه ويرفع الإناء فيعب فيه حتى يرده إلى البائع نظيفا.
فقد أفطرا إذن ولم ينفقا أكثر من ثلاثة مليمات، وقد غنما ما طعما قبل الدرس. وما عليهما الآن إلا أن يعودا إلى الأزهر ليرضيا عقولهما بعد أن رضيت أجسامهما. وكان الصبي قد حرص كل الحرص على أن يواظب على درس شيخه المجدد المحافظ في الفقه والنحو، طاعة لأخيه من جهة وإرضاء لنفسه من جهة أخرى. ولكنه كان شديد الطمع في أن يسمع لغير هذا الشيخ، وأن يذوق غير هذين اللونين من ألوان العلم. وقد أتيح له ذلك في غير مشقة ولا جهد بفضل هذه الدروس التي كانت تلقى في الضحى بعد أن يفرغ الطلاب من إفطارهم. وقد قرر الصديقان أن يحضرا شرح «الكفراوي» وكان يلقى في الضحى من كل يوم، يلقيه شيخ جديد ولكنه قديم؛ جديد في الدرجة، قديم في الصلة بالأزهر، قد تقدمت به السن وطال عليه الطلب حتى ظفر بدرجته، وبدأ كما كان يبدأ أمثاله بقراءة «شرح الكفراوي».
وكان الصبي يسمع من شيخه الأول ومن أخيه وأصحابه عبثا كثيرا بشرح الكفراوي، وسخطا كثيرا عليه، فكان ذلك يغريه به ويرغبه فيه.
وما هي إلا أن يحضر الدرس الأول ويسمع الأوجه التسعة في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم وإعرابها، حتى يفتن بهذا اللون من العلم ويكلف به أشد الكلف، وإذا هو يواظب مع صاحبه في دقة على هذا الدرس من دروس النحو، ويواظب في دقة أيضا على درسه القديم. وكان يرى أنه يتعلم النحو في درسه القديم، وأنه يلهو بالنحو في درسه الجديد. وكان يلهو في درسه الجديد حقا؛ يلهو بهذا الإعراب المتصل الذي ألح فيه الشارح على المتن إلحاحا شديدا. ويلهو خاصة بالشيخ الذي كان يقرأ متنه وشرحه ويفسر ما يقرأ في صوت غريب مضحك حقا، لم يكن يقرأ وإنما كان يغني، ولم يكن غناؤه يصعد من صدره، وإنما كان يهبط من رأسه. وكان صوته قد جمع بين خصلتين متناقضتين، فكان أصم مكظوما، وكان ممتدا عريضا.
Неизвестная страница