وقد تخفف الفتى من عبئين ثقيلين؛ عبء الليسانس وما فيه من امتحان اللغة اللاتينية، وعبء الرسالة وما فيها من رقابة الجامعة والإذن في تقديمها. على أن فوزه بالليسانس لم يكن كاملا، فهو قد نجح في الامتحان التحريري نجاحا حسنا، ولكنه كان قد شق على نفسه بالاستعداد لهذا الامتحان وكتابة الرسالة، وهو بعد ذلك مشغول متصل التفكير في زواجه الذي أذنت به الجامعة والذي كان يجب أن يتم في ذلك الصيف.
فخادع الفتى نفسه شيئا، وقرر أن يرجئ الامتحان الشفهي إلى الدور الثاني في أول العام الدراسي، وما هي إلا أن يعرض نفسه على طبيب فيشهد كتابة بأنه مكدود الأعصاب محتاج إلى الراحة، ويقدم هذه الشهادة إلى السوربون فتؤجل ما بقي من امتحانه إلى شهر نوفمبر، ويفرغ الفتى لنفسه وخطيبته، وما كان يعنيهما من أمر الزواج.
فإذا كان اليوم التاسع من أغسطس من ذلك العام، أصبحا زوجين حين انتصف النهار، وتركا باريس إلى الجنوب حين أقبل الليل، ولم يفرغا مع ذلك لحياتهما الجديدة في أثناء الصيف، وإنما استقرا في مدينة هادئة من مدن الجنوب، وأقبلا فور استقرارهما على ما لم يكن بد من الإقبال عليه وهو الاستعداد للامتحان الذي يجب أن يؤدى بعد شهرين.
وكان الاستعداد عسيرا حقا، فلم يكن بد لطالب الليسانس في التاريخ من أن يكون مستعدا بعد نجاحه في الامتحان التحريري لأن يسأل فيما يريد الأساتذة أن يسألوه فيه من تاريخ العصور القديمة، وتاريخ القرون الوسطى، والتاريخ الحديث، والتاريخ المعاصر، والجغرافيا، والفلسفة، ولغة أوروبية غير اللغة الفرنسية، وحسبك بهذا كله عبئا ثقيلا وعناء طويلا، وحسبك به أو بالاستعداد له نعيما يلائم حياة عروسين قد أتما زواجهما منذ أيام!
وهما مع ذلك يقبلان على هذه المحنة الثقيلة لا يضيقان بها ولا ينفران منها، وإنما يصبحان في التاريخ ويمسيان في الجغرافيا ويلمان بالإنجليزية بين ذلك، ويتركان أمر الفلسفة إلى الله وإلى ذاكرة الفتى، وما يمكن أن يكون قد استقر فيها مما سمع في السوربون أثناء العام.
وينقضي الصيف ويعود الزوجان إلى باريس، ويقبل صاحبنا على الامتحان مشفقا منه أعظم الإشفاق، مروعا به أشد الروع لا يخاف التاريخ القديم، وإنما يخاف أشد الخوف أساتذة التاريخ الحديث والتاريخ المعاصر، ولا يكاد يذكر الجغرافيا حتى يجن جنونه، فقد كان واثقا بأنه مخفق فيها من غير شك، وقد كتب عليه أن يرضى في يوم من أيام الامتحان كل الرضا مصبحا وأن يسخط فيه كل السخط ممسيا.
وأقبل من ضحى ذلك اليوم على أستاذ تاريخ القرون الوسطى وكان من أعظم أساتذة السوربون قدرا، وهو الأستاذ شارلي ديل، فإذا الأستاذ قد كتب على أوراق صغيرة أسئلة كثيرة وضعها أمامه، وجعل الطلاب كلما أقبل واحد منهم على الأستاذ يرمقونه ويرقبون ما يسعفه به الحظ، ويقبل صاحبنا ترافقه زوجه، فإذا أخذت ورقة ودفعتها إلى الأستاذ نظر فيها ثم ابتسم ثم قال في صوت عذب: لقد أسعدك الحظ بمرافقة هذه الآنسة، حدثني إذن عن الإمبراطورية العربية أيام بني أمية، وما أرى إلا أنك تعرفها خيرا مما أعرفها.
واندفع الفتى في حديثه لا يلوي على شيء حتى وقفه الأستاذ قائلا: حسبك فقد ظفرت بالدرجة العليا.
في ذلك اليوم لم يعد الزوجان إلى البيت ليصيبا غداءهما، وإنما ألح الفتى على صاحبته في أن يرفها عن نفسيهما بتناول الغداء في مطعم من مطاعم الحي اللاتيني، يجدان فيه من لين الطعام ما لم يكن مقدرا أن يجداه إن عادا إلى البيت. وكانت صاحبته تكره له أن يسرف فيما يبقى له من مرتبه بعد أداء ما عليه فيه من الحق، فامتنعت عليه وألحت في الامتناع، ولكنه ما زال بها حتى استجابت له، فأصابا في ذلك اليوم غداء قلما كانا يصيبان مثله في سائر أيامهما.
وعادا بعد ذلك إلى السوربون، وإن قلب الفتى ليخفق فرقا وقلقا؛ وكيف لا وهو مقبل على امتحان الجغرافيا بعد قليل؟ وكان قد قدر في نفسه أن الأستاذ الذي سيمتحنه لن يراه مقبلا عليه حتى يرفق به ويعرف أن مثله لا ينبغي أن يسأل إلا فيما يفهمه العقل وتحفظه الذاكرة بدون أن يحتاج إلى الإبصار، يسأله في الجغرافيا السياسية أو الاقتصادية أو البشرية، ولا يسأله في الجغرافيا الطبيعية مثلا. ولكن الأستاذ يدعوه فيسعى إليه ويجلس بين يديه، ويقول الأستاذ في هذه المداعبة الرفيقة التي يتكلفها الممتحنون عادة: مسيو حسين، صف لي مجرى نهر الرون.
Неизвестная страница