وأقبل الفتى على الكتابة البارزة يتعلمها، فلم يلبث أن أحسنها، ولكنه عندما حاول أن ينتفع بها في درسه لم يجد إلى الانتفاع بها سبيلا؛ فلم تكن الكتب التي كان يحتاج إلى قراءتها قد طبعت على هذه الطريقة الخاصة، وكان ربما أتيح له الكتاب المطبوع على هذه الطريقة، فلا يكاد يأخذ في قراءته حتى يضيق بهذه القراءة أشد الضيق، وينفر منها أعظم النفور، فهو قد تعود أن يأخذ العلم بأذنيه لا بأصبعه، وهو من أجل ذلك يجد المشقة كل المشقة في تتبع هذه النقط البارزة حتى يؤلف منها الكلمة، ثم يؤلف من الكلمة وأمثالها جملة، ثم يؤلف من هذه الجملة وأمثالها كلاما يمكن أن يعمل فيه عقله وفهمه وبصيرته. وإذا هو يجد في ذلك عسرا أي عسر، ويسأم ذلك أشد السأم وأقساه، ويرى أنه يستطيع أن يحصل من طريق أذنيه في اللحظات القصيرة ما يحتاج إلى الوقت الطويل والملل الثقيل ليحصله من طريق أصابعه. وهو يعدل عن الكتابة البارزة وعن القراءة بالأصابع إلى طريقته التي ألفها إلا في درس اللاتينية، فقد كان حريصا على أن يتعلم هذه اللغة في أناة ومهل، وكانت هذه الطريقة في الكتابة والقراءة تواتيه وتلائم ابتداءه درس هذه اللغة وحاجته إلى الريث والأناة.
على أنه لم يكد يتقدم في درس اللاتينية قليلا حتى سئم القراءة بأصابعه، وآثر الاستماع على تلمس الحروف، وأحس الحاجة إلى قارئ يقرأ عليه ما يريد في اللاتينية والفرنسية جميعا، ولم يستغن عن أستاذه ذاك الذي كان يعلمه هاتين اللغتين، واستحى أن يطلب إلى الجامعة عونا جديدا، فقتر على نفسه أشد التقتير وأقساه، وعاش عيشة فيها شيء من غلظة وخشونة، ولكنها كانت على كل حال خيرا من حياته التي ألفها في مصر. •••
على أن الأيام أبت إلا أن تشق عليه وترهقه من أمره عسرا؛ فقد كان يعيش مع أخيه عيشة راضية على ما فيها من قسوة ومشقة، وكانا يدبران أمرهما تدبيرا ملائما لطاقتهما المالية؛ ولكنهما لم يلبثا أن اختلفا واشتد بينهما الاختلاف، حتى أصبحت حياتهما خصاما متصلا وشقاء ملحا، وحتى اضطر إلى أن يفترقا ... يسكن كل واحد منهما في منزل غير الذي يسكنه أخوه، ويلتقيان بين حين وحين، وقد اضطرهما ذلك إلى المبالغة في التقتير على أنفسهما؛ فليست النفقات التي يقتضيها افتراقهما في المسكن، كالنفقات التي كانا يحتملانها حين كانا يسكنان في غرفة واحدة، ويختلفان إلى مائدة واحدة.
وكذلك اشتدت قسوة الحياة على هذين الأخوين الغريبين، ولكنها لم تنل من صبرهما، ولم تصرفهما عن جدهما في الدرس والتحصيل. ولم تكن حياة الفتى على ذلك النحو مبغضة إليه، ولا ثقيلة عليه من جميع وجوهها، وإنما كانت مزاجا من الجد الصارم والهزل الباسم، يلتقيان أحيانا فيحيا الفتى حياة ليست حلوة ولا مرة، ولكنها تمر في أول النهار، وتحلو في آخره حين كان الفتى يلقى رفاقه ويسمع لأحاديثهم، ويقضي بينهم فيما كان يعرض لهم من المشكلات، وما أكثر ما كان يعرض لهم من المشكلات، ومن مشكلات الحب والغرام خاصة!
وكيف تريد فتية من المصريين على أن يعيشوا في فرنسا ويختلفوا إلى القهوات والأندية وبعض ما يقام من الحفلات بدون أن يداعبوا الحب أو يداعبهم الحب، وبدون أن تقسو عليهم دعابة الحب بين حين وحين؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يمنع صديقين من أن تروقهما فتاة واحدة، وإذا هما يلتمسان إلى لقائها الوسيلة. فإذا أتيح لهما هذا اللقاء ابتغيا عندها مواقع الرضا، ثم لا يلبث أن يكون بينهما التنافس، ثم الخصومة، ثم التلاحي، ثم الفرقة، أيهما ظفر عند صاحبتهما بالرضا فهو عدو لصاحبه الذي أخلفه الظن، وكذبه الأمل، ولم يقع من نفس الحسناء ما كان يرجو من موقع الرضا والارتياح. ولا تلبث هذه الخصومة بين الرفيقين أن تتجاوز الحب إلى غيره من ألوان الحياة التي كانا يتعاونان عليها ويشتركان فيها، وإذا صاحبنا يصبح قاضيا بين رفاقه في شئون الحب، وليس له أرب فيه ولا سبيل إليه، وأنى له بشيء من ذلك وهو المكفوف الذي لا يحسن شيئا حتى يعينه عليه معين، وهو لا يرى وجوه الحسان، ولا يعرف كيف يتحدث إليهن، أو كيف يبتغي إلى رضاهن الوسائل! فهو يغدو على الجامعة مصبحا، فإذا راح إلى منزله آخر النهار لم يبرحه حتى يسفر له صبح الغد. والرفاق يلمون به في آخر النهار وأول الليل، فيختصمون بين يديه ويتخذونه حكما بينهم، وهو يصلح بين المختصمين مرة ويقضي لبعضهم على بعض مرة. •••
ولكن الليل لا يكاد يتقدم حتى يتفرق عنه رفاقه جميعا، وإذا هو يخلو إلى نفسه هذه الخلوة المرة التي لا يجد عليها معينا، قد جلس وحده في غرفته تداعب نفسه الخواطر المختلفة الكثيرة، فيها ما يسر، وفيها ما يسوء، فيها ما يحيي الأمل، وفيها ما يملأ القلب يأسا وقنوطا.
وما يزال الفتى جالسا في مجلسه ذاك من غرفته تعبث به خواطره هذه المختلفة لا يسأل عنه سائل ولا يلم به ملم، وإنما هي الوحدة المطلقة القاسية التي كانت تذكره وحدته في غرفته في حوش عطا، حين لم يكن يؤنسه إلا صوت الصمت وما كان يتردد فيه أحيانا من أزيز بعض الحشرات.
وربما أسرفت عليه القسوة حتى تنتهي به إلى أقصاها فيمتنع عليه النوم، ويأبى الأرق إلا أن يكون له حليفا، وإنه لفي ذلك وإذا بابه يطرق، وقد كاد الليل يبلغ ثلثيه، فإذا أذن للطارق بالدخول فتح الباب، وأقبل عليه أحد رفاقه وقد أخذ من عبث الشباب بأعظم حظ ممكن ، وهو لا يريد أن يأوى إلى سريره حتى يتحدث ببعض عبثه إلى صاحبه. فإذا فرغ من حديثه وانصرف ترك صاحبنا وقد انتهى به الحزن والضيق إلى غايتهما، وإذا هو يقضي ليلة بيضاء لا يذوق فيها للنوم طعما، فإذا أصبح غدا على حياة فاترة لا خير فيها لعقله ولا لجسمه.
وهو على ذلك وعلى ضيق ذات يده، وعلى المشقة الشاقة التي كان يلقاها في الاختلاف إلى الجامعة والانتفاع بما كان يسمع من الدروس، راض عن حياته كل الرضا، مطمئن إليها أشد الاطمئنان لا يتمنى إلا أن يمضي فيها حتى ينتهي إلى ما قدر له من غاية. وهو واثق بأنه سيبلغ من هذه الحياة ما يريد؛ سيحسن الفرنسية، بل هو قد أخذ يحسنها ويطلق بها لسانه في غير مشقة، وسيتعلم اللاتينية، وسيتهيأ للامتحان. ومن يدري لعله أن يكون أول طالب مصري يظفر في يوم من الأيام بدرجة الليسانس في الآداب.
وإنه لفي هذه الحياة الحلوة المرة القاسية اللينة التي يحبها أحيانا كأشد ما يكون الحب، ويضيق بها أحيانا أخرى كأشد ما يكون الضيق، وإذا الحياة تبتسم له فجأة في يوم من أيام الربيع ابتسامة تغير حياته كلها تغييرا.
Неизвестная страница