ويدخل الساعي إلى لطفي بالخطاب يخبره أن خادمته قد جاءت به، ويفتح لطفي الخطاب في لهفة ويقرأ:
أعلم أنك تبقي علي لأنني لا ملجأ لي إذا تركتك، وأعلم أنك تقوم بتضحيتك هذه لترضى بها مثلا أعلى أقمته لنفسك ولكنك نسيت شيئا مهما في تضحيتك هذه، أنا هو ذلك الشيء لقد قسوت أنت على نفسك - ما في ذلك شك - ولكن قسوتك علي أشد وأعظم، أنت قاس علي برحمتك، قاس علي بعطفك، قاس علي بسترك على ما تعلمه عني، أن تكن أنت قد قبلت لنفسك هذه التضحية فأنا لا أقبلها، وإن تكن ظننت الرحمة في نفسك حين تأويني في بيتك، فإني أرى الرحمة بي في أن أترك هذا البيت، إن تكن الرحمة عندك أن تضمنا جدران بيت على كره، فإنني أرى الرحمة بي تتمثل في الفراق بيننا؛ فإني أعلم منذ زمن بعيد أن لا حياة بين زوجين أحدهما خائن، ولا حياة بين زوجين تقوم على العطف دون الحب. اعطف على اليتيم والمقطوع وابن السبيل أما زوجتك فأحببها أو طلقها.
لن تجدني في البيت حين تعود، وأرجوك أن تعود بعد أن تنتهي من عملك فلم يعد هناك ما يدعوك إلى قطع عملك للعودة المفاجئة فأنا لست بالمنزل. وأرجوك قبل أن تعود أن تمر بالمأذون وتطلقني. أما أنا فسأعمل خادمة، فإن لم أجد عملا سأتسول على أبواب الأضرحة، وثق أنني بهذا أكون قد أنقذت نفسي من رحمتك القاسية.
وقرأ لطفي الخطاب وأعاد قراءته واغرورقت عيناه بالدموع. لقد حاول أن يضحي بشيء لا يمكن التضحية به - كرامته - لم يستطع أن يجعل من نفسه مثلا أعلى، ولكنه سعيد بفشله هذا، سعيد بأنه غير ملزم الآن أن يترك عمله أو يقفز من القطار قبل أن يتحرك، أو يدخل البيت بتذكرة السينما كاملة بنصفيها، إنه منذ اليوم سيمشي في الشوارع مرحا لا يبالي أي إنسان سيلقاه في الطريق، لقد تخلص من العار الذي حاول أن يقيم حوله تضحية ومثلا أعلى.
وتخلص من تضحيته التي كلفته قطعة من حياته، وكانت الأيام فيها باهته حائلة اللون فمنذ اليوم، أهلا بالحياة ووداعا أيتها التضحية.
عودة السيد سكر
نعم فإن اسمه السيد سكر، والسيد اسم، أطلقه عليه أبوه قبل أن تلغى الألقاب لتحل كلمة السيد محلها، وأما السكر فهو اسم صنعته له القرية، ولم يكن ذلك عن بله من أهلها ولا غفلة، وإنما كان ذلك في الحرب الأخيرة، حين أصبح السكر من المواد التي تشرف الحكومة على التصرف فيها، فلا يعطى إلا بإذن، وتصدى السيد للتجارة ولم يكن له بها شأن، وإنما رأى تجارة التموين رابحة، ففتح دكانا خاصا لتجارة السكر، واستصدر رخصة للتجارة، وهيمن على كل شيء حلو في البلدة؛ فأصبح لا يستطيع أي إنسان في القرية أن يشرب قهوة أو شايا بسكر إلا إذا أذن له السيد، وأصبح لا يستطيع أي إنسان في البلدة أن يصنع فطيرة حلوة أو أرزا بلبن إلا إذا كان صديقا صدوقا للسيد.
وفي القرية كثير ممن حاولوا مصادقة السيد، فأباها عليهم، فلم يجدوا شيئا ينفسون به عن غضبهم إلا أن يطلقوا عليه «السيد سكر» فصحبه الاسم منذ ذلك الحين، وهو فرح به، راض عنه، يكاد يوقع به ما يضطره الأمر إلى توقيعه، وقد نشأ جيل ما بعد الحرب لا يعرف أن للسيد سكر اسما آخر كان له قبل أن يلتصق به السكر ويصبح جزءا منه لا يتجزأ.
لم تقف تجارة السيد سكر عند السكر وحده، بل تجاوزته إلى مختلف أنواع البقالة، وأصبح كثير الذهاب إلى البندر ليشتري حاجيات دكانه، وكان يذهب في كثير من الأحيان إلى المعلم حسونة وهو من كبار التجار هناك، وكان يشتري منه ما يحتاجه دكانه الصغير من بضاعة.
توطدت الصداقة بين السيد والمعلم حسونة؛ حتى لقد دعاه المعلم إلى زيارة بيته هو في القرية.
Неизвестная страница