ويسمع ولدا القوارير هذا الكلام فيضعانه من عقليهما حيث يضعان كل ما لم يفهماه من قبل، إلا أن ذلك ترك فيهما غصة، ولكن العالمين يضطران آخر الأمر أن يشرحا لهما إنهما مختلفان عن الناس جميعا، ويرويان لهما كيف جاءا إلى هذه الدنيا فلا يصيب هذا من نفسيهما شيئا ولا يفسر لهما شيئا.
وتمر الأعوام ويبلغ الطفلان مطالع الشباب الأولى فتتحكم النزوة فيهما، نزوة لا تتحكم فيها عاطفة ولا شعور ويخشى العالمان على مصيرهما فيزوجان الفتاة من الفتى، ويقيمان المراسيم الدينية ولكن الفتاة والفتى لا يفهمان من هذه المراسيم شيئا وإنما يفهمان أنهما سيتزوجان، ويفهمان هذا المعنى مجردا عن كل روحية فيه، لقد سمعا أن الناس فيما بينهم يتحابون ثم يتزوجون ولكن ما هو الحب؟ لم يعرف واحد منهما إنما قد عرف الرغبة، فكان الزواج، ثم كان لهما أطفال وكان الأطفال يموتون الواحد تلو الآخر فلا يحسان لذلك ألما ولا حزنا إنما هو شيء جاء فما فرحوا به ثم ذهب فما حزنوا عليه، ويريان الناس من حولهما يحزنون ويريانهم يدمعون ويبكون لمصابهما فيعجبان من الناس.
وتمر الصور أمامهما كثيرة متلاحقة فهما يريان الناس تفرح وتحزن وتغضب وتنبسط وتتألم وتصح وتشقى وتسعد ويريان الحياة أمامهما تضطرب وتموج بهذه الإحساسات والمشاعر، وهما عنها بمنأى، بعيدان عن كل ما تزخر به فيثب خاطر واحد إلى رأس كليها فما يلبثان أن يذهبا للعالمين فيقول الفتى: قلتما لنا أنتما اللذان سعيتما لمجيئنا في هذا العالم. - نعم. - فنحن نريد أن تخرجانا منه كما أدخلتمانا فيه. - ولماذا؟! - لأننا نعيش فيه ولا نحبه لأننا نأكل كما يأكل الناس، ونشرب كما يشربون ونتعاشر كما يتعاشرون ولكننا لا نحس كما يحسون، إننا مشتاقان إلى الإيمان، إلى السعادة، إلى الشقاء، إلى الألم، إلى الفرح، إلى الحزن، إلى كل هذا الذي نراه يضطرب في إحساس الناس ولا يضطرب في أجسامنا، لأننا لا إحساس لنا. نريد أن نموت، ليس هذا العالم لنا، إننا هنا غلطة، إننا هنا سخرية، لقد أراد الله أن يسخر منكما فكنا نحن، ألم تقولا إنكما حاولتما أن تصنعا مثلنا فما أفلحتما؟ نحن سخرية العالم منكما، ألم تقولا إن من يموت يختاره الله إلى جواره؟ نريد أن نذهب إلى هذا الجوار فهناك سيعطينا الله ما حرمنا منه هنا.
ويقول أكبر العالمين: ولكننا لا نستطيع، إن موتكما ليس من عملنا. - ولماذا؟! إن الذين تقولون عنهم إنهم مجرمون يقتلون في كل يوم فاقتلانا مثلما يفعلون. - إننا لسنا مجرمين. - بل أنتما أشد إجراما منهم، ألم تفكرا حين قمتما بتجربتكما، أي شيء هذا الذي تفعلان وتزعمان أن لكما قلوبا، وتزعمان أن لكما إحساسا، إننا نحن - ونحن بلا قلب ولا إحساس - نفكر في العواقب، أما أنت أيها العالم العبقري فلم تفكر في مصير إنسان ليس بإنسان؟ لقد أراد الله أن يسخر منك فكنا نحن، فاقتلانا. - لا نستطيع. - إذن نقتلكما نحن.
وأخرج الفتى من جيبه سكينا وأراد أن يطعن به العالم الكبير ولكن كان يعرف ما ينتويان، فسرعان ما يخرج غدارته وسرعان ما يسقط ولدا القوارير صريعين مضرجين بدماء هي في أصلها تنتسب للإنسان وإن كانت قد ربيت في بيت من زجاج ليس فيه من الإنسانية عرق، وتمت كلمة ربك واختار الفتى والفتاة إلى جواره وتكسرت القوارير، فالرحم وحده هو الذي اختاره الله ليخرج منه الحياة، والروح - قبل - من عنده سبحانه، هو الله.
سماء ولا أرض
تأهبت الجيوش لحرب، ولم يطمئن الملك إلى قواده؛ فهو يشرف على كل شأن. ولا حديث له إلا الجيش وما اكتمل من عدده، وعتاده، والمدينة قائمة لا تعرف قرارا، والناس مضطربون، فمن لا يذهب منهم سيقدم ابنه أو أخاه أو أباه، يدفعون ضريبة الدم للوطن والدين، والألسنة كلها تدور في أفواه أصحابها لا حديث لها إلا هذه الحرب، والأعين كلها هالعة، خائفة، فهي تتجه إلى السماء داعية في خضوع، راجية في إلحاح، ثم ترتد إلى الأرض وقد هدأ هالعها واستقر مضطربها، ولكن إلى حين قريب، ثم ما تلبث أن تتجه مرة أخرى إلى السماء، وهكذا تظل مترددة بين لطف السماء، ورهبة الأرض، والجيش لاه عن هؤلاء جميعا، إلى الإعداد، والتفكير فيما يحتاجه في تلك الرحلة التي قد تطول حتى نهاية هذه الدنيا، وقد تقصر فهي إذن سنة أو بعض السنة، يلاقون فيها الموت ويخادعونه عن أنفسهم، ويقودونه إلى أعدائهم، والنساء باكيات، والقليلات منهن القليلات يقفن إلى جانب أزواجهن يلهمنهم العزيمة، ويوحين إليهم بالمصابرة، مصابرة النفس، ومصابرة العدو، ومصابرة الزمن.
ويصل الوحي إلى نفوس البعض، أو هو يرتد عن النفوس الخائرة التي تذهب إلى الحرب لأنها لا تملك إلا ذهابا، ولعل ذلك الوحي يصل إلى نفوس بعض الجند فيجد ألا عمل له في هذه النفوس فهي مليئة بالإيمان، مفعمة بالثقة، وهبت نفسها لله وفي سبيله تحارب.
وكان في المدينة شاعر، أراد أن يذهب إلى تلك الحرب؛ فقد كانت العقيدة تملأ جوانب نفسه، وقد شب لا أمل له إلا أن يحارب أعداء الله في سبيل الله، وقد كان الشاعر يعرف طريقه إلى قصر الملك، بل كان يعرف طريقه إلى جلسة الملك ذاتها، فهو يذهب إلى هناك ويجلس، وما هي إلا لحظات حتى ينتهي الملك من أوامره التي كان يصدرها متلاحقة قاطعة؛ فقد كان الجيش في سبيله إلى الرحلة إذا ما أقبل الصباح.
ويقف الشاعر فيلقي قصيدة رائعة، ثم هو يسأل الملك أن يسمح له بالذهاب مع الجيش فيقول له الملك: ولكنك الشاعر الفرد، لو فقدناك وجدنا لك عوضا. - أبقاك الله يا مولاي، أيمنعني هذا حقي؟! - وأنا أخشى عليك. - أتخشى علي الموت يا مولاي ولا تخشى قولهم، قد جبن حين نفر الناس إلى الجهاد، وخاف حين هم القوم إلى النضال. - إنك يا أخي لتقول الشعر فتهب النفس الخائرة قوة، وتلهم الروح الناكصة إقداما. - شكر الله لك يا مولاي، فأين يكون مكاني إذن إن لم يكن بين قوم يناضلون، قد يتعرض لهم الموت فيصيب من عزيمتهم، ألا أكون أنا أجدر الناس بالذهاب إلى الحرب فأرد خوفهم شجاعة، وتراجعهم إقداما. - لكم أتمنى أن تبقى، ولكنى لا أملك أن أبقيك فإليها أيها الشاعر، إلى حيث تريد لنفسك، وإلى حيث تريد لك نفسك من شوق، أما اليوم فإننا سنريح أنفسنا، من عناء ما كنا فيه، ونهيئ أرواحنا لما ستقدم عليه بليلة بيضاء، ينيرها الأمل في المستقبل والإيمان بالله، وما لا يغضبه سبحانه.
Неизвестная страница