حين انتهتا أخيرا من السروال وارتدته إليزابيث لقياسه، تنهدت السيدة لاكرستين لدى رؤيتها. كانت تبدو فاتنة في السروال، فاتنة للغاية! ثم خطر لهما أنه خلال يوم أو اثنين سيكون عليهم العودة إلى المعسكر، لأسابيع أو ربما شهور، ويتركون كياوكتادا وهذا الشاب المروم. يا لها من خسارة! مع انتقالهما إلى الدور العلوي توقفت السيدة لاكرستين عند الباب. فقد طرأ على بالها أن تقدم على تضحية كبرى ومؤلمة. أخذت إليزابيث من منكبيها وقبلتها بمودة حقيقية أكثر مما أبدت من قبل. «عزيزتي، سيكون من المؤسف بحق أن ترحلي من كياوكتادا الآن!» «هذا صحيح إلى حد ما.» «إذن لدي فكرة يا عزيزتي. لن نعود إلى تلك الغابة البشعة! سوف يعود عمك وحده. وأنا وأنت سنبقى في كياوكتادا.»
الفصل التاسع عشر
كان الحر يزداد سوءا. كاد أبريل أن ينتهي، لكن لم يكن ثمة أمل في سقوط الأمطار لثلاثة أسابيع أخرى، أو ربما خمسة. حتى الفجر الجميل العابر صار يفسده التفكير في الساعات الطويلة المقبلة التي تسطع فيها الشمس حتى تعمي البصر؛ حيث يشعر المرء بالألم في رأسه ويخترق الوهج أي غطاء ويجعل الجفون تلتصق في نوم خال من الراحة. لم يكن أحد، سواء شرقي أو أوروبي، يستطيع أن يبقى مستيقظا في حر النهار دون معاناة؛ وفي الليل، على النقيض، مع عواء الكلاب وفيضان العرق الذي كان يتجمع ويجعل الطفح الجلدي مؤلما، لم يكن أحد يستطيع النوم. وكان الناموس في النادي مزعجا بشدة حتى إنه كان لا بد من حرق عيدان البخور في كل الزاويا، وكان النساء يجلسن واضعات سيقانهن في أكياس وسائد. وحدهما فيرال وإليزابيث لم يأبها للحر. فقد كانا شبابا ودماؤهما متجددة، وكان فيرال أكثر لامبالاة وكانت إليزابيث أكثر سعادة من الاكتراث للطقس على الإطلاق.
جرى الكثير من المشاحنات وتناقل النميمة في النادي تلك الأيام. كان فيرال قد أثار حفيظة الكل. فقد اعتاد المجيء إلى النادي ليمكث ساعة أو ساعتين في المساء، لكنه كان يتجاهل الأعضاء الآخرين، ويرفض المشروبات التي يعرضونها عليه، ويرد على محاولات إجراء حوار معه بكلمات قصيرة فظة. وكان يجلس تحت المروحة على المقعد الذي كان قبل ذلك مكرسا للسيدة لاكرستين، يقرأ ما يروق له من الصحف، حتى تأتي إليزابيث، فيرقص معها ويتحدث لساعة أو ساعتين ثم يفر دون حتى أن يلقي التحية على أي حد. في الوقت ذاته كان السيد لاكرستين بمفرده في المعسكر، وكان، حسب الشائعات التي كانت ترتد إلى كياوكتادا، يستعين على وحدته بطائفة شديدة التنوع من النساء البورميات.
كان إليزابيث وفيرال يخرجان لركوب الخيل معا كل مساء تقريبا. كان فيرال يكرس الفترات الصباحية، بعد استعراض الجنود، للعب البولو، لكنه كان قد قرر أن يخصص الأمسيات لإليزابيث. وألفت هي ركوب الخيل، تماما كما اعتادت على الرماية؛ بل كان لديها من الثقة ما جعلها تخبر فيرال أنها قد «مارست الصيد كثيرا جدا» في الوطن. لكنه عرف من لمحة أنها كانت تكذب، لكنها على الأقل لم تكن سيئة إلى درجة أن تكون مزعجة له.
اعتاد الاثنان أن يصعدا بالخيل الطريق الأحمر المتجه إلى الغابة، ويعبرا الجدول القريب من شجرة البينكادو الكبيرة المغطاة بزهور الأوركيد، ثم يتبعان مسار العربات الضيق؛ حيث كان التراب ناعما وكان باستطاعة الخيل أن ترمح. كان الحر خانقا في الغابة المغبرة، وظلت تتردد دمدمات رعد بعيد بلا مطر. ورفرفت طيور خطاف صغيرة حول الخيل، تسايرها السرعة، لاصطياد الذباب الذي كانت حوافرها تكشف عنه. كانت إليزابيث تمتطي المهر الأكمت، ويمتطي فيرال المهر الأبيض. وكانا في طريق العودة يسيران بمهريهما اللذين حلك لونهما من العرق متقاربين، متقاربين بشدة حتى إن ركبته كانت تحتك بركبتها أحيانا، وكانا يتحدثان. كان باستطاعة فيرال أن يترك سلوكه العدائي ويتحدث بود شديد حين يختار ذلك، وقد اختار ذلك بالفعل مع إليزابيث.
يا للسعادة التي كانت تكتنف جولاتهما معا! سعادة أن تكون على صهوة جواد وفي عالم الخيل، عالم الصيد والسباق، البولو وصيد الخنازير البرية! إذا لم تكن إليزابيث تحب فيرال لأي شيء آخر؛ فقد كانت ستحبه لأنه أدخل الخيل في حياتها. كانت تلح عليه ليتحدث عن الخيل كما كانت تلح على فلوري من قبل ليتحدث عن الرماية. لم يكن فيرال ثرثارا، هذا صحيح. كان أفضل ما في إمكانه قوله هو بضع جمل غليظة سخيفة عن البولو وصيد الخنازير البرية، وقائمة بقواعد هندية وأسماء كتائب. ورغم ذلك فقد استطاع أن يثير حماس إليزابيث كما لم يستطع كل حديث فلوري أن يفعل قط. كان مجرد رؤيته على صهوة الفرس أكثر استثارة للمشاعر من أي كلمات. فقد كانت تحيط به هالة من الفروسية والجندية. وكانت إليزابيث ترى في وجهه المسمر وجسده القوي المستقيم كل الرومانسية، روعة حياة الخيالة وأبهتها. رأت الحدود الشمالية الغربية ونادي الفرسان، رأت ملاعب البولو وساحات الثكنات الحارة الجافة، والفصائل البنية للخيالة وهم يرمحون ورمحاهم الطويلة متزنة وأذيال عمامتهم متطايرة؛ وسمعت نداء البوق وجلجلة المهاميز، والفرق الموسيقية العسكرية وهي تعزف خارج قاعات الطعام والضباط جالسين يتناولون العشاء في زيهم الرسمي المهندم الرائع. كم هو بديع، عالم الفروسية ذلك، كم هو بديع! وكان هو عالمها، فقد انتمت إليه، وولدت من رحمه. كانت في تلك الأيام تعيش بالخيل وتفكر فيها وتحلم بها، تكاد تكون مثل فيرال نفسه. وجاء عليها وقت حيث صارت لا تكذب كذبتها الصغيرة فحسب بشأن «ممارسة الصيد كثيرا جدا»، بل أوشكت أن تصدقها.
انسجم الاثنان كثيرا بكل السبل الممكنة. ولم يثر ضجرها ولا جزعها قط كما فعل فلوري. (بل إنها في الواقع كادت تنسى فلوري؛ وحين كان يخطر على بالها، كانت وحمته هي ما تتذكره لسبب ما.) كان الرابط الذي قرب بينهما أن فيرال كان يزدري أي شيء يمت لل «ثقافة الرفيعة» بصلة أكثر منها حتى. وقد أخبرها ذات مرة أنه لم يقرأ كتابا منذ كان في سن الثمانية عشرة، وأنه «مقت» الكتب مقتا شديدا؛ «باستثناء أعمال جوروكس وما إلى ذلك بالطبع.» (جوروكس هو شخصية كوميدية تهوى سباق الخيل والصيد، ظهرت في بعض الروايات والمجلات الفكاهية). في مساء جولتهما الثالثة أو الرابعة لركوب الخيل ذهب ليودعها عند بوابة منزل آل لاكرستين. كان فيرال قد استطاع مقاومة كل دعوات السيدة لاكرستين لتناول الطعام؛ فلم يكن حتى ذاك الوقت قد وطأ بقدمه منزل آل لاكرستين، ولم يكن ينوي ذلك. بينما كان السائس يأخذ مهر إليزابيث، قال فيرال: «سأخبرك بشيء. حين نخرج المرة القادمة سوف تركبين بليندا، وسأركب أنا المهر الكستنائي. أعتقد أنك صرت ماهرة في الركوب بما يكفي لتحسني ركوب بليندا.»
بليندا كانت الفرس العربية التي اقتناها فيرال منذ عامين، ولم يسمح قط لأي أحد حتى هذه اللحظة بامتطائها، ولا حتى السائس. كان هذا أكبر فضل يمكنه تصوره. وقد قدرت إليزابيث وجهة نظر فيرال تمام التقدير وأدركت عظمة ذلك الفضل، وكانت ممتنة له.
في المساء التالي، وهما عائدان جنبا إلى جنب على صهوة الخيل، أحاط فيرال ذراعه بمنكب إليزابيث، ورفعها عن السرج وجذبها إليها، فقد كان شديدا جدا. ألقى اللجام، وبيده الخاوية رفع وجهها ليقابل وجهه؛ والتقت شفتاهما. ظل يضمها بشدة للحظة، ثم أنزلها إلى الأرض ونزل عن فرسه. وقفا متعانقين، وقد تضام قميصاهما الخفيفان المبتلان عرقا، قابضا على اللجامين في ثنية ذراعه.
Неизвестная страница