حنت رأسها إليه، فسوى خصلات شعرها القصير الرطب بيده . منحته الطريقة التي حنت بها رأسها له شعورا غريبا بالقرب، أقوى كثيرا من القبلة، كما لو كان زوجها بالفعل. آه، لا بد أن تصير له، كان هذا مؤكدا! فقط بالزواج منها من الممكن إنقاذ حياته. سيسألها في الحال. سارا على مهل بين شجيرات الكروتون عائدين إلى النادي، وذراعه ما زالت تحيط بكتفها.
قال مجددا: «يمكننا أن نتحدث في الشرفة. لسبب ما لم يتسن لنا، أنا وأنت، أن نتحدث بحق قط. يا إلهي، لكم اشتقت طوال هذه السنوات لشخص أتحدث معه! كم أود الحديث معك بلا توقف، بلا توقف! يبدو هذا مملا. أخشى أنني سأكون مملا. لا بد أن أرجوك أن تصبري على الأمر قليلا.»
صدر منها صوت ينم عن اعتراضها على كلمة «ممل». «لا، إنه ممل. أعلم ذلك. نحن الإنجليز المقيمين في الهند دائما ما نرى أشخاصا مملين. وإننا مملون. لكن لا يد لنا في هذا. فالأمر وما فيه أن هناك ... ما الكلمة المناسبة؟ ... شيطان بداخلنا يدفعنا للكلام. إننا نتحدث تحت وطأة عبء من الذكريات التي نتلهف لمشاركتها ولا نستطيع أبدا لسبب ما. إنه الثمن الذي ندفعه نظير قدومنا إلى هذا البلد.»
كانا في مأمن من المقاطعة في طرف الشرفة؛ إذ لم يكن ثمة باب يؤدي إليها مباشرة. كانت إليزابيث قد جلست باسطة ذراعيها على المنضدة الخوص الصغيرة، أما فلوري فظل يتمشى جيئة وذهابا، واضعا يديه في جيوب معطفه، ذاهبا إلى ضوء القمر المنسكب أسفل الحواف الشرقية لسقف الشرفة، وعائدا إلى الظل. «لقد قلت للتو إنني أحبك. الحب! لقد استهلكت الكلمة حتى صارت بلا معنى. لكن دعيني أحاول التفسير. هذا العصر حين كنت هناك تصطادين معي، شعرت، يا إلهي! أخيرا يوجد شخص يستطيع أن يشاركني حياتي، يعيشها معي حقا، هل ترين؟»
كان سيطلب يدها للزواج. قطعا، فقد انتوى أن يطلبها دون المزيد من التأخير. لكن لم تنطق الكلمات بعد؛ فقد وجد نفسه بدلا من ذلك يسترسل في الكلام بأنانية. لم يكن له حيلة في ذلك. كان من المهم جدا أن تفهم كيف كانت حياته في هذا البلد؛ أن تستوعب طبيعة الوحدة التي أراد أن تمحوها. وكان هذا صعب الشرح صعوبة مفرطة. من الشنيع أن تكابد ألما يكاد يكون بلا اسم. طوبى لأولئك المصابين بأمراض يمكن تصنيفها فحسب! طوبى للفقراء، المرضى، والذين نبذهم أحباؤهم، فعلى الأقل يعلم الناس بحالهم ويصغون بشفقة إلى شكاواهم. لكن هل يفهم ألم المنفى أولئك الذين لم يقاسوه؟ ظلت إليزابيث تشاهده في ذهابه وإيابه، وهو يدخل بؤرة ضوء القمر الذي جعل معطفه الحرير فضيا، ويخرج منها. كان قلبها لا يزال يخفق من أثر القبلة، لكن هامت أفكارها وهو يتكلم. هل ينوي أن يطلب منها الزواج؟ لشد ما يتباطأ في هذا الأمر! كانت مدركة إدراكا طفيفا أنه كان يقول شيئا عن الوحدة. آه، بالطبع! كان يحدثها عن الوحدة التي سيكون عليها أن تحتملها في الغابة حين يتزوجان. ما كان عليه أن يقلق. ربما تشعر حقا بشيء من الوحدة في الغابة أحيانا. وأنت على بعد أميال من كل شيء، بلا سينمات، أو حفلات راقصة، ولا أحد لتبادله الحديث سوى مبادلة أحدنا الآخر، وليس لديك شيء لتفعله في المساء سوى القراءة؛ إنه شيء مضجر بعض الشيء. لكن يمكن امتلاك جرامافون. كم ستختلف الحياة حين تتاح أجهزة الراديو المحمولة الجديدة تلك في بورما! كانت على وشك أن تقول هذا حين أضاف: «هل أوضحت لك مرادي على الإطلاق؟ هل صار لديك تصور للحياة التي نعيشها هنا؟ الغربة والوحدة والشجن! أشجار غريبة وزهور غريبة ومناظر غريبة ووجوه غريبة. كل هذا غريب كأنه كوكب مختلف. لكن لتعلمي - وهذا هو ما أريد بشدة أن تفهميه - لتعلمي أن العيش على كوكب مختلف قد لا يكون شيئا بالغ السوء، بل قد يكون أمتع شيء يخطر على البال، إذا كان لديك ولو شخص واحد لتقاسميه إياه. شخص واحد يستطيع أن يراه بعينين تشبهان عينيك. كان هذا البلد بمثابة جحيم من العزلة لي - إنه كذلك لغالبيتنا - إلا أنني أؤكد لك أنه قد يكون نعيما إذا لم يكن المرء وحيدا . هل يبدو كل ما أقوله بلا أي معنى؟»
توقف بجانب المنضدة، والتقط يدها. لم يستطع أن يرى في الظلام الجزئي سوى وجهها بيضاويا باهتا، مثل زهرة، لكن من ملمس يدها عرف في الحال أنها لم تفهم كلمة مما كان يقول. بالطبع كيف لها أن تفهم؟ كان هذا الحديث ذو الشجون بلا جدوى على الإطلاق! سيقول لها على الفور: هلا تزوجتني؟ ألا يوجد عمر لنتحدث فيه. هكذا أمسك يدها الأخرى وأنهضها برفق. «سامحيني على كل هذا الهراء الذي تحدثت به.»
فهمست بصوت خافت، متوقعة أنه على وشك أن يقبلها: «لا بأس.» «لا، إن الحديث هكذا من قبيل اللغو. فبعض الأشياء تقال بالكلمات وأشياء أخرى تأبى ذلك. كما أنه كان من الوقاحة أن أسترسل في الشكوى من حالي. لكنني كنت أحاول أن أمهد الطريق لشيء. فلتسمعيني، هذا ما أردت قوله. هل ...» «إليزابيث!»
كان ذلك صوت السيدة لاكرستين الكئيب العالي النبرة، ينادي من داخل النادي. «إليزابيث؟ أين أنت يا إليزابيث؟»
كان واضحا أنها كانت قريبة من الباب الأمامي، وستكون في الشرفة في بحر لحظة. ضم فلوري إليزابيث إليه، وتبادلا القبل على عجل. ثم أطلقها، مبقيا على يديها في يديه. «سريعا، الوقت يداهمنا. أجيبي على سؤالي. هل ...»
لكن لم تتم تلك الجملة قط عن ذلك؛ إذ وقع شيء استثنائي في نفس اللحظة تحت قدميه. راحت الأرض تمور وتتمايل مثل البحر؛ فأخذ يترنح ثم سقط وقد أصابه دوار، مرتطما بالأرض بساعده عند اندفاعه إليها. وحيث استلقى وجد نفسه يرج بعنف ذات اليمين وذات اليسار كأن وحشا ضخما ما تحت الأرض كان يؤرجح المبنى بأكمله على ظهره.
Неизвестная страница