ومنذ ذاك الوقت، ووحدته ووجده يزدادان كل عام عن العام الذي سبقه. كان الشيء الذي تركز في خواطره كلها الآن، والذي سمم كل شيء، شعور بالكراهية لا ينفك يزداد مرارة إزاء جو الإمبريالية الذي عاش فيه. فمع نمو عقله - لا يمكنك أن تمنع عقلك من النمو، وإنها لأحد مآسي أنصاف المتعلمين أن نموهم يأتي متأخرا، بعد أن يكونوا قد التزموا بالفعل بسبيل خطأ في الحياة - أدرك حقيقة الإنجليز وإمبراطوريتهم. إمبراطورية الهند البريطانية هي إمبراطورية مستبدة؛ خيرية لا شك، لكن تظل مستبدة وهدفها النهائي هو السرقة. أما إنجليز الشرق، السادة البيض، فقد صار فلوري يبغضهم لعيشهم في عالمهم، حتى إنه لم يكن قادرا بتاتا على أن ينظر إليهم بعدل. فلم يكن الأوغاد المساكين على أي حال أسوأ من أي شخص آخر. إذ كانوا يعيشون حياة لا يحسدون عليها؛ فإنها صفقة خاسرة أن تقضي ثلاثين عاما، بأجر بخس، في بلد غريب، ثم تعود إلى الوطن بكبد مدمر وكفل مثل قشرة ثمرة الأناناس من الجلوس على مقاعد من الخيزران، ليستقر به الحال شخصا مملا في أحد نوادي الدرجة الثانية. لكن من ناحية أخرى لا يمكن اعتبار السادة الأوروبيين في الشرق مثاليين. ثمة فكرة شائعة تفيد بأن الرجال الذين يعملون في «مواقع خارجية للإمبراطورية» هم رجال أكفاء ومجتهدون على أقل تقدير. وهذا وهم؛ فلا يوجد حاجة ماسة إلى مسئول بريطاني يؤدي عمله بكفاءة في الهند، خارج حدود الخدمات العلمية؛ إدارة الغابات وإدارة الأشغال العامة وما شابههما. والقليل منهم يعمل بنفس قدر اجتهاد مدير مكتب بريد إقليمي في إنجلترا أو بنفس فطنته. ويضطلع بالعمل الإداري الحقيقي في أكثره مرءوسون من مواطني البلد؛ العماد الحقيقي للاستبداد والطغيان ليسوا المسئولين وإنما الجيش. مع وجود الجيش يستطيع المسئولون ورجال الأعمال تدبر أمورهم بأمان حتى إذا كانوا حمقى، وإن أغلبهم لحمقى. شعب بليد مهذب يرعى بلادته ويدعمها من وراء ربع مليون حربة.
إنه عالم خانق باعث على الخمول لمن يحيا فيه؛ عالم تخضع فيه كل كلمة وكل فكرة للرقابة. إنه من الصعب حتى تخيل مثل ذلك الجو في إنجلترا. فالجميع أحرار في إنجلترا؛ نتنازل عن أرواحنا في العلن ونستردها في السر بين أصدقائنا. لكن حتى الصداقة يشق أن توجد وكل رجل أبيض هو ترس في آلة الاستبداد. حرية التعبير أمر محال، لكن كل أشكال الحرية الأخرى متاحة. لك حرية أن تكون سكيرا أو متعطلا أو رعديدا أو نماما أو زانيا؛ لكن ليس لك حرية التفكير لنفسك. رأيك في أي موضوع له أي قدر من الأهمية يمليه عليك قانون السادة البيض.
في نهاية المطاف يسممك تمردك السري مثل مرض مستتر. وتصير حياتك بأسرها حياة من الأكاذيب. عام تلو الآخر وأنت جالس في نواد صغيرة تسكنها روح كيبلينج، الويسكي إلى يمينك، والصحيفة الرياضية إلى يسارك، مصغيا للكولونيل بودجر وهو يصل إلى نظريته القائلة بضرورة غلي أولئك الوطنيين الملاعين في الزيت. وتسمع أصدقاءك الشرقيين وهم يدعون «أشخاص تافهون لزجون.» وتقر بأنهم أشخاص تافهون لزجون. وترى أجلافا أنهوا دراستهم للتو وهم يركلون خدما غزا المشيب شعرهم. ثم تأتي اللحظة التي تكتوي فيها بكراهيتك لأهل بلدك، حين تتوق لانتفاضة وطنية تغرق إمبراطوريتهم في الدم. وليس في هذا ما هو جدير بالاحترام، بل وبالكاد أي إخلاص. فلم تكترث في الأساس لاستبداد الإمبراطورية البريطانية، أو التنمر على الهنود واستغلالهم؟ إنك لا تكترث إلا لأنك محروم من الحق في حرية التعبير. إنك كائن قوامه الاستبداد، سيد أبيض، يربطك بنظام لا ينكسر من المحظورات، قيد أشد من الذي يربط الرهبان أو الهمج.
مر الزمن وفي كل عام يقل شعور فلوري بالألفة في عالم السادة البيض، ويصير أكثر عرضة للوقوع في المشكلات عند التحدث بجدية في أي موضوع أيا كان. ومن ثم فقد تعلم أن يعيش في باطنه، سرا، في الكتب والأفكار المضمرة التي لا يمكن التفوه بها. حتى في أحاديثه مع الطبيب كان نوعا ما يتحدث مع نفسه؛ فالطبيب، وهو رجل طيب، كان يفهم القليل مما يقال له. بيد أنه مما يفسد الإنسان أن يعيش حياته الحقيقية سرا. فلا بد للمرء أن يسير مع تيار الحياة، لا ضده. فمن الأفضل أن تكون من أبلد الأوروبيين في الهند الذين ارتادوا المدارس العامة وتأثروا وهم يرددون نشيد المدرسة بدلا من العيش صامتا وحيدا، تعزي نفسك في عوالم خفية عقيمة.
لم يعد فلوري لدياره في إنجلترا قط. أما السبب فلم يكن يستطيع شرحه مع أنه كان يعرفه جيدا. في البداية منعته الأحداث؛ في الأول كانت الحرب، وبعد الحرب عانت شركته من نقص شديد في المساعدين المدربين حتى إنها لم تسمح له بالسفر طيلة عامين. وأخيرا أعد العدة للسفر؛ كان يتوق إلى إنجلترا، مع أنه كان يتهيب مواجهتها، كما يتهيب الشخص مواجهة فتاة جميلة وهو بقميص من دون ياقة وبذقن غير حليقة. حين غادر الديار كان صبيا، صبيا واعدا ووسيما رغم وحمته؛ أما الآن، بعد عشر سنوات، فقد صار شاحبا ونحيلا وسكيرا، يكاد يكون كهلا سواء في عاداته أو في مظهره. لكنه كان يتوق إلى إنجلترا. مضت السفينة غربا وسط الخلاء في بحر مثل فضة لم يكمل الصائغ صقلها، من خلفها رياح الشتاء التجارية. ومع الطعام الطيب ورائحة البحر تدفقت دماء فلوري السقيمة سريعا في عروقه. وخطر له شيء كان قد نسيه فعلا في هواء بورما الراكد؛ أنه ما زال شابا ليبدأ من جديد. سوف يعيش عاما في مجتمع متحضر، وسوف يجد فتاة لا تبالي بوحمته؛ فتاة متحضرة، لا إحدى السيدات الأوروبيات اللواتي يعشن في الهند، وسوف يتزوجها ويصبران عشرة أو خمسة عشر عاما أخرى في بورما. وبعد ذلك سوف يتقاعدان، ربما ستقدر ثروته باثني عشر أو خمسة عشر ألف جنيه عند تقاعده. وسوف يشتريان كوخا في الريف، ويحيطان نفسيهما بالأصدقاء وأطفالهم والحيوانات. سيتحرران من رائحة السادة الأوروبيين في الهند إلى الأبد. وسوف ينسى بورما، البلد البشع الذي كاد أن يقضي عليه.
وحين بلغ كولومبو وجد برقية في انتظاره. كان ثلاثة رجال من شركته قد ماتوا بحمى البول الأسود. كانت الشركة آسفة، لكنها سألته أن يتفضل بالعودة إلى رانجون في الحال. فكان لا بد أن يستأذن ويغادر في أقرب فرصة ممكنة.
ركب فلوري القارب التالي إلى رانجون، وهو يلعن حظه، وأخذ القطار إلى مقره. لم يكن مقيما في كياوكتادا آنذاك، ولكن في بلدة أخرى في بورما العليا. كان كل الخدم في انتظاره على الرصيف. كان قد عهد بهم جميعا لخليفته في العمل، الذي مات. كان من العجيب جدا أن يرى سحناتهم المألوفة مجددا! من عشرة أيام فقط كان يحث المسير إلى إنجلترا، يكاد يشعر أنه في إنجلترا بالفعل؛ والآن عاد إلى المشهد الرتيب القديم، حيث العمال السود العرايا يتشاجرون على المتاع، ورجل بورمي يصيح في ثيرانه على الطريق.
تزاحم الخدم حوله، دائرة من الوجوه السمراء السمحة، يقدمون الهدايا. كان كو سلا قد أحضر جلد غزال السامبار، والهنود جاءوا بحلويات وإكليل من زهور القطيفة، وأهداه با بي، الذي كان صبيا صغيرا حينذاك سنجابا في قفص من الخوص. كان هناك عربات تجرها الثيران في انتظار الحقائب. سار فلوري إلى منزل، وقد بدا سخيفا والإكليل يتدلى حول عنقه. كان ضوء المساء البارد أصفر ورقيقا. وعند البوابة كان ثمة عجوز هندي يقطع الحشائش بمنجل صغير. وكانت زوجتا الطاهي والبواب جاثيتين على ركبتيهما أمام مساكن الخدم تطحنان معجون الكاري على لوح حجر.
طرأ شيء في قلب فلوري؛ كانت واحدة من تلك اللحظات التي يصير فيها المرء واعيا للتغير والتدهور الهائلين في حياته. فقد أدرك فجأة أنه كان سعيدا في أعماقه بعودته. فقد صار هذا البلد الذي أبغضه بلده الأصلي. لقد عاش هنا عشرة أعوام، وكانت كل ذرة في جسده ممزوجة بتراب بورما. كانت هذه المشاهد - الضوء الشاحب للمساء، والهندي العجوز وهو يقص الحشائش، وصرير عجلات العربات، وطيور البلشون المتدفقة - وما على غرارها أقرب إليه من إنجلترا. لقد ضرب بجذوره عميقا، ربما لأقصى درجة، في بلد أجنبي.
ومنذ ذلك الحين لم يتقدم حتى بطلب إجازة لزيارة الوطن. ومات أبوه، ثم أمه، وتزوجت أخواته، النساء الكريهات الشبيهات بالخيل اللواتي لم يحبهن قط، وقد فقد الاتصال بهن تقريبا. والآن لا يربطه بأوروبا رابط، ما عدا رابط الكتب؛ إذ كان قد أدرك أن مجرد العودة إلى إنجلترا ليس دواء لوحدته؛ فقد وعى الطبيعة الخاصة للجحيم المحفوظ للإنجليز الذين عاشوا في الهند. آه على المساكين! أولئك المحطمين الهرمين المتكلفين في حديثهم في باث وتشيلتنام! دور الإقامة تلك الشبيهة بالقبور التي يتناثر فيها الإنجليز الذين عاشوا في الهند وقد بلغوا درجات مختلفة من التحلل، يتحدثون ويتحدثون جميعا عما حدث في عام ثمانية وثمانين في إقليم بوجلي والا! يا لهم من أوغاد مساكين؛ فإنهم يدركون معنى أن تترك قلبك في بلد غريب ومكروه! وحينذاك، تراءى له جليا أن ثمة مفرا واحدا. وهو أن يعثر على شخص يقاسمه حياته في بورما، لكن يقاسمها عن حق، يقاسمه حياته السرية الداخلية، ويرحل من بورما حاملا نفس الذكريات التي يحملها. شخص يحب بورما كما أحبها ويمقتها كما مقتها. شخص يعينه على العيش من دون أن يخفي شيئا، أو لا يعبر عنه. شخص يفهمه؛ انتهى الأمر إلى أن يكون هذا الشخص صديقا.
Неизвестная страница