هتف الطبيب بحمية شديدة: «كلا، كلا، يا صديقي، لا، لا! لا يمكن أن تكون على معرفة به. فلا يمكن أن يعرفه إلا الشرقيون. فلا يمكنك، وأنت سيد إنجليزي، أن تنحدر بعقليتك لمستوى عقلية يو بو كين. إنه أكثر من مجرد وغد، إنه ... ماذا أقول؟ الكلمات تتوه مني. إنه يذكرني بتمساح في شكل إنسان. فهو لديه خبث التمساح، وقسوته ووحشيته. لو عرفت تاريخ ذلك الرجل! الفظائع التي ارتكبها! ما جناه من جرائم الابتزاز والرشاوى! الفتيات اللواتي أرداهن، باغتصابهن أمام عيون أمهاتهن! لا يمكن للسيد الإنجليزي النبيل أن يتخيل تلك الشخصية. وهذا هو الرجل الذي أقسم أن يدمرني.»
قال فلوري: «لقد سمعت الكثير عن يو بو كين من مصادر متعددة. يبدو نموذجا للقاضي البورمي. أخبرني أحد البورميين أن يو بو كين كان يجند الأفراد أثناء الحرب، وأنه كون كتيبة من أبنائه غير الشرعيين، هل هذا صحيح؟»
قال الطبيب: «هذا أمر مستبعد، فلم تكن أعمارهم مناسبة آنذاك. لكن ما من شك في خسته. أما الآن فقد عقد العزم على تدميري، فهو يكرهني لأنني أعرف عنه الكثير جدا، من ناحية؛ كما أنه غريم أي شخص نزيه سوي. وسوف يلجأ - كما هي عادة أولئك الرجال - إلى الافتراء. سوف ينشر عني التقارير، تقارير بتفاصيل بالغة الفظاعة والكذب. لقد شرع في الأمر بالفعل.» «لكن هل من الممكن أن يصدق أي أحد شخصا مثله ضدك؟ فليس سوى قاض دنيء. أما أنت فمسئول كبير.» «إنك لا تفهم المكر الشرقي يا سيد فلوري. لقد قضى يو بو كين على مسئولين أعلى مني شأنا. سوف يجد سبلا لجعل الناس تصدقه. ولهذا ... آآ! إنها مسألة مستعصية!»
ذرع الطبيب الشرفة جيئة وذهابا مرة أو مرتين، وهو يمسح نظارته بمنديله. بدا جليا أن ثمة شيئا آخر منعته اللياقة من قوله. للحظة بدا اضطراب شديد على سلوكه حتى إن فلوري ود أن يسأل ما إذا كان بمقدوره المساعدة بطريقة ما، لكنه لم يسأل، فقد كان يعلم عدم جدوى التدخل في نزاعات الشرق. فلم يسبق لأي أوروبي قط أن سبر أغوار هذه النزاعات؛ إذ إن هناك دائما شيئا مستغلقا على العقل الأوروبي، مؤامرة خلف المؤامرة، وخطة خلف الخطة. كما أن الابتعاد عن نزاعات أهل البلد هو واحد من المبادئ العشرة لأي سيد أوروبي في الشرق. هكذا قال فلوري بريبة: «ما هي المسألة المستعصية؟» «إنني فقط أخشى أنك ستضحك مني يا صديقي. لكن هذا ما في الأمر؛ لو كنت عضوا في النادي الأوروبي! ليتني كذلك! كم كان سيختلف موقفي حينئذ!» «النادي؟ كيف لهذا أن ينقذ موقفك؟» «الوجاهة هي أهم شيء في هذه الأمور يا صديقي. فلن يجاهر يو بو كين بالهجوم علي؛ لن يجرؤ على ذلك أبدا؛ لكنه سيقدح في ويغتابني. وما إذا كانت الناس ستصدقه أم لا هو أمر يتوقف بالكامل على موقفي مع الأوروبيين. هكذا تجري الأمور في الهند. إذا كان موقفنا جيدا نعلو؛ وإن كان سيئا نسقط. يمكن لإيماءة وغمزة إنجاز أكثر ما لا يمكن لألف تقرير رسمي إنجازه. وأنت لا تعلم الوجاهة التي يكتسبها الهندي بأن يكون عضوا في نادي أوروبي. فهو يصبح أوروبيا فعليا في النادي. لا يمكن لأي افتراء أن يمسه؛ فعضو النادي له قدسية.»
رنا فلوري ببصره بعيدا من فوق سور الشرفة، وكان قد نهض كأنه سيرحل. كان دائما ما يشعر بالخجل والضيق عند الاضطرار للاعتراف بينهما بأنه لا يمكن قبول الطبيب في النادي، بسبب لونه الأسود. إنه لأمر كريه أن يكون صديقك المقرب غير مكافئ لك اجتماعيا؛ لكنه شيء أصيل في هواء الهند نفسه.
قال: «ربما يختارونك في الجمعية العمومية التالية. لا أقول إنهم سيفعلون، لكنه ليس مستحيلا.» «أرجو يا سيد فلوري ألا تظن أنني أسألك أن ترشحني للنادي. حاشا لله! أعرف أن الأمر مستحيل عليك. إنما كنت أشير لأنني لو كنت عضوا في النادي، لكنت صرت في الحال حصينا.»
أمال فلوري قبعته دون إحكام على رأسه وغمز بعصاه فلو التي كانت نائمة أسفل المقعد. انتاب فلوري ضيق شديد؛ إذ كان يعلم أن بإمكانه في الغالب ضمان اختيار الدكتور فيراسوامي في النادي لو كان لديه الشجاعة لمواجهة بضع مشاحنات مع إليس. كما أن الطبيب كان صديقه على أي حال، بل يكاد يكون صديقه الوحيد في بورما. فقد دارت بينهما الأحاديث والمجادلات مائة مرة، وتناول الطبيب عشاءه في منزله، بل واقترح تقديم فلوري إلى زوجته، لكنها رفضت في ذعر، لكونها هندوسية ملتزمة. كما ذهبا في رحلات صيد معا؛ حيث تسلح الطبيب بأحزمة عريضة لحمل الطلقات وسكاكين صيد، وتسلق لاهثا التلال التي جعلتها أوراق الخيزران زلقة، وهو يطلق مسدسه على أي شيء. كان من الواجب عليه من باب اللياقة أن يدعم الطبيب. لكنه كان يعلم كذلك أن الطبيب لن يطلب منه أي دعم أبدا، وأن التحاق أي شرقي بالنادي سيسبقه مشاحنة كريهة. لا، إنه لا يستطيع خوض تلك المشاحنة! لم يكن الأمر يستحق. هكذا قال: «لأقول لك الحقيقة، لقد جرى حديث عن هذا الشأن. كانوا يتناقشون فيه هذا الصباح، وكان الشيطان الصغير إليس يدلي بعظته المعتادة عن «الزنجي النجس»؛ إذ كان ماكجريجور قد اقترح اختيار عضو من أهل البلد. أعتقد أنه تلقى أوامر بذلك.» «أجل، لقد سمعت بالأمر، تصلنا كل هذه الأخبار، وهذا ما وضع الفكرة في رأسي.» «من المقرر أن يطرح الأمر في الجمعية العمومية في يونيو. لا أعلم ماذا سيحصل، لكنه يتوقف على ماكجريجور، على ما أعتقد. سوف أعطيك صوتي، لكن لا أستطيع أن أفعل أكثر من ذلك. آسف، لكنني لا أستطيع فحسب. فلا تعلم المشاحنة التي ستنشأ. من المحتمل جدا أن يختاروك، لكنهم سيفعلون ذلك كواجب مكروه، رغم أنفهم . فلديهم هوس شديد بالحفاظ على هذا النادي أبيض تماما، حسب قولهم.» «بالطبع، بالطبع يا صديقي! أدرك ذلك تماما. حاشا لله أن تقع في مشكلة مع أصدقائك الأوروبيين بسببي. أرجوك، أرجوك ألا تتورط! مجرد معرفة كونك صديقي تفيدني أكثر مما تتخيل. الوجاهة يا سيد فلوري، إنها مثل البارومتر. في كل مرة ترى أثناء دخولك منزلي يرتفع الزئبق نصف درجة.» «حسنا، لا بد أن نحاول الحفاظ عليه مستقرا. أخشى أن هذا كل ما أستطيع أن أقدمه لك.» «حتى هذا كثير يا صديقي. ولذلك، ثمة شيء آخر سأحذرك منه، رغم أنك ستضحك، على ما أخشى. أنت نفسك لا بد أن تحذر من يو بو كين. احذر من التمساح! فمن المؤكد أنه سيهاجمك حين يعلم أنك تصادقني.» «حسنا يا دكتور. سآخذ حذري من التمساح. ولو أنني لا أعتقد أن باستطاعته أن يلحق بي أذى حقيقيا.» «سوف يحاول على الأقل، فأنا أعرفه. سيلجأ إلى تجريدي من أصدقائي. ومن المحتمل حتى أن يتجاسر على نشر افتراءاته عنك أيضا.» «عني؟ يا للعجب، لن يصدق أحد أي شيء يقال ضدي. إنني مواطن روماني. إنني رجل إنجليزي، فوق مستوى الشبهات تماما.» «رغم ذلك خذ حذرك من افتراءاته يا صديقي. لا تستهن به. فسوف يعرف السبيل لمهاجمتك. إنه تمساح، ومثل التمساح - ضم الطبيب سبابته وإبهامه متأثرا؛ إذ تختلط عليه التشبيهات أحيانا - مثل التمساح، يهاجم نقاط الضعف!» «هل تهاجم التماسيح نقاط الضعف دائما يا دكتور؟»
ضحك الرجلان، كانت الألفة بينهما قوية بما يسمح بالضحك أحيانا على إنجليزية الطبيب الغريبة. ربما كان الطبيب في أعماق قلبه محبطا قليلا أن فلوري لم يعده بترشيحه للنادي، لكنه كان يفضل الهلاك على البوح بذلك. وكان فلوري سعيدا لترك الموضوع، فهو موضوع مزعج لدرجة أنه تمنى لو أنه لم يثر قط. «حسنا، لا بد أن أذهب حقا يا دكتور. أودعك في حالة لم أرك مرة أخرى. أرجو أن تسير الأمور على ما يرام في الجمعية العمومية. ليس ماكجريجور شخصا سيئا، وأعتقد أنه سيصر على أن يختاروك .» «لنتمن هذا يا صديقي. فبهذا أستطيع مواجهة مائة يو بو كين، بل ألفا! إلى اللقاء يا صديقي، إلى اللقاء.»
عدل فلوري وضع قبعته على رأسه ومضى إلى منزله عبر الميدان الملتهب، لتناول إفطاره، الذي قضى الصباح الطويل من الشرب والتدخين والحديث على شهيته له.
الفصل الرابع
Неизвестная страница