بدت الأجواء هادئة جدا في الكنيسة حين سحباها أخيرا بعيدا عن مجال السمع. كان المشهد شديد الثورة، وشديد الحقارة، حتى إنه أثار استياء الكل. حتى إليس بدا مشمئزا. لم يستطع فلوري كلاما أو حركة. إنما جلس يحدق متسمرا في المذبح، بوجه جامد شديد الشحوب، حتى إن وحمته بدت فيه كأنها بقعة طلاء أزرق لامع. نظرت إليه إليزابيث عبر الممر، فكاد شعورها بالاشمئزاز أن يصيبها بالغثيان. لم تكن قد فهمت كلمة مما قالته ما هلا ماي، لكن كان مغزى المشهد واضحا تماما. محض التفكير في أنه كان حبيب تلك المخلوقة المخبولة الرمادية الوجه جعل فرائصها ترتعد. لكن ما كان أسوأ من ذلك، وأسوأ من أي شيء، هو دمامته في هذه اللحظة. فقد روعها وجهه؛ إذ كان شديد الشحوب والتجهم والهرم. لم يبد فيه شيء حيا سوى الوحمة. عندئذ كرهته من أجل وحمته. لم تكن حتى هذه اللحظة قد أدركت كم هي شيء مخز، ولا يغتفر.
مثل التمساح، هاجم يو بو كين نقطة الضعف. فغني عن القول أن هذه الفضيحة كانت من تدبير يو بو كين. كان قد رأى فرصته كالعادة، ولقن ما هلا ماي دورها باهتمام. أنهى الكاهن عظته في الحال تقريبا. وبمجرد انتهائها هرع فلوري إلى الخارج، دون أن ينظر إلى أي من الآخرين. كان الظلام قد حل، حمدا لله. على بعد خمسين ياردة من الكنيسة توقف، وأخذ يراقب الآخرين وهم يقصدون النادي أزواجا. بدا له أنهم يسارعون في الذهاب. لا بد لهم من ذلك، بالطبع! فسيكون هناك شيء ليتحدثوا عنه في النادي الليلة! انقلبت فلو على ظهرها قبالة كاحليه، طالبة اللهو. فقال لها: «ابتعدي أيتها الحيوانة اللعينة!» وركلها. توقفت إليزابيث عند باب الكنيسة. بدا أن السيد ماكجريجور كان، لحسن الحظ، سيعرفها على الكاهن. بعد قليل ذهب الرجلان في اتجاه منزل السيد ماكجريجور؛ حيث كان الكاهن سيبيت الليلة، واتبعت إليزابيث الآخرين، فكانت على بعد ثلاثين ياردة خلفهم. ركض فلوري خلفها ولحق بها قرب بوابة النادي. «إليزابيث!»
التفتت، ورأته، فبهت لونها، وكانت ستمضي مسرعة دون أن تنبس بكلمة. لكنه كان في جزع مفرط، فقبض على معصمها. «إليزابيث! يجب علي أن أتحدث معك!» «اتركني أمضي، إذا سمحت!»
بدآ يقاومان، ثم توقفا سريعا. كان اثنان من المسيحيين الكارين الذين خرجوا من الكنيسة، واقفين على بعد خمسين ياردة، ويحدقان فيهما في الظلام الجزئي باهتمام شديد. بدأ فلوري يتحدث ثانية بنبرة أخفض: «أعلم يا إليزابيث أنه ليس من حقي أن أوقفك هكذا. لكن لا بد أن أتحدث إليك، لا بد! أرجوك أن تسمعي ما لدي لأقوله. لا تهربي مني، أرجوك!» «ماذا تفعل؟ لماذا تمسك بذراعي؟ دعني أذهب في الحال!» «سوف أتركك تذهبين، مهلا! لكن أصغي إلي، أرجوك! أجيبي على هذا السؤال. هل بإمكانك أن تسامحيني على الإطلاق، بعد ما حدث؟» «أسامحك؟ ماذا تقصد بأن أسامحك؟» «أعلم أنني في حال من الخزي. كان موقفا غاية في الوضاعة! لكنه بشكل ما ليس ذنبي. سوف تدركين ذلك حين تهدئين. هل تعتقدين - ليس الآن، فقد كان موقفا رديئا للغاية، لكن لاحقا - هل تعتقدين أن بإمكانك نسيانه؟» «لا أعلم حقا ما الذي تتحدث عنه. أنساه؟ ما دخلي بالأمر. أعتقد أنه شيء مقزز جدا، لكنه ليس من شأني. لا أفهم لماذا تستجوبني هكذا على الإطلاق.»
عند ذاك كاد اليأس أن يتملكه. فقد كانت نبرتها بل وكلماتها هي بالضبط نفسها التي استخدمتها في شجارهما السابق. كانت هي الحركة ذاتها مجددا. بدلا من سماعه للنهاية كانت ستتهرب منه وتثني عزيمته، تزدريه بدعوى أنه ليس له حكم عليها. «إليزابيث! أجيبيني أرجوك. أرجوك كوني منصفة معي! الأمر جاد هذه المرة. لا أتوقع أن تعودي إلي في الحال. لا يمكنك هذا بعد أن فضحت علانية هكذا. لكنك رغم كل هذا، كدت تعدينني أن نتزوج ...» «ماذا! وعدت بأن أتزوجك؟ متى وعدت بأن أتزوجك؟» «أعلم أنه لم يكن بالكلمات. لكنه كان شيئا متفقا عليه بيننا .» «لم يكن بيننا اتفاق على شيء من هذا القبيل! أعتقد أنك تتصرف بطريقة في غاية البشاعة. سوف أمضي إلى النادي في الحال. عمت مساء!» «إليزابيث! إليزابيث! اسمعيني. ليس من العدل أن تدينيني دون أن تسمعي دفاعي. كنت تعلمين من قبل بما فعلته، وتعلمين أنني صرت أعيش حياة مختلفة منذ التقيت بك. ما حدث هذا المساء كان محض صدفة. تلك المرأة الحقيرة، التي أقر بأنها كانت في السابق ... حسنا.» «لن أصغي، لن أصغي إلى تلك الأشياء! إنني ذاهبة!»
أمسك معصميها مجددا، وضمها هذه المرة. فقد كان المسيحيان الكارين قد اختفيا لحسن الحظ. «كلا، كلا، سوف تسمعينني! أفضل أن أكدرك كدرا بالغا عن أن تتركيني لهذه الحيرة. لقد مر أسبوع تلو الآخر، وشهر تلو الآخر، دون أن يتسنى لي الحديث معك مباشرة ولو مرة. ولا يبدو أنك تعلمين أو تأبهين لمقدار ما تسببينه لي من عذاب. لكن هذه المرة يجب أن تجيبيني.»
راحت تقاوم قبضته، وكانت قوية لدرجة مدهشة. كان وجهها أشد حنقا مما رآه أو تخيله قط. كانت تبغضه لدرجة أنها كانت ستضربه لو كانت يداها سائبتين. «دعني أذهب! أيها الحيوان، دعني أذهب أيها الحيوان!» «يا إلهي، يا إلهي، ويحي أن نتعارك هكذا! لكن ماذا في يدي؟ لا يمكنني أن أتركك تذهبين دون أن تسمعيني. يجب أن تسمعيني يا إليزابيث!» «لن أسمعك! لن أناقش الأمر! بأي حق تطرح علي الأسئلة؟ اتركني أذهب!» «سامحيني، سامحيني! أجيبي على هذا السؤال الوحيد. هل تقبلين - ليس الآن، لكن لاحقا، حين ينسى هذا الموضوع المشين - هل تقبلين الزواج مني؟» «لا، أبدا، أبدا!» «لا تجيبي هكذا! لا تجعليه نهائيا. قولي لا للوقت الحاضر كما تريدين، لكن بعد شهر، سنة، خمس سنوات ...» «ألم أقل لا؟ لماذا تصر على الإلحاح؟» «أصغي إلي يا إليزابيث. لقد حاولت مرارا وتكرارا أن أخبرك ماذا تعنين لي! آه، لا فائدة من الكلام في الأمر! لكن فلتحاولي أن تفهمي. ألم أخبرك شيئا عن الحياة التي نعيشها هنا؟ ذلك النوع البشع من الموت أحياء! التردي ، الوحدة، الحسرة على الذات؟ حاولي أن تفهمي معنى ذلك، وأنك الشخص الوحيد في الكون الذي يستطيع إنقاذي منه.» «هلا تركتني أذهب؟ لماذا تصر على افتعال هذه الفضيحة القبيحة؟» «ألا يعني لك أي شيء أن أقول لك أني أحبك؟ لا أعتقد أنك أدركت قط ما الذي أريده منك. إذا أردت سوف أتزوجك وأعدك ألا أمسك حتى أبدا. لن آبه لذلك حتى، ما دمت معي. لكنني لا أستطيع أن أمضي في حياتي وحيدا، وحيدا دائما. ألا يمكنك أن تحملي نفسك على أن تسامحيني أبدا؟» «أبدا، أبدا! لن أتزوجك حتى لو كنت الرجل الأخير على وجه الأرض. أفضل أن أتزوج ال... الكناس!»
ثم أجهشت بالبكاء. فأدرك أنها كانت تقصد ما قالته، وصعدت الدموع إلى عينيه. قال مرة أخرى: «للمرة الأخيرة. تذكري أنه شيء مهم أن يكون لديك شخص واحد يحبك. تذكري أنه رغم أنك ستجدين رجالا أكثر ثراء وشبابا وأفضل مني في كل شيء فإنك لن تجدي أحدا يهتم بك بقدر ما أهتم أنا. ومع أنني لست ثريا فعلى الأقل أستطيع أن أوفر لك منزلا. هناك معيشة متحضرة ومحترمة.»
قالت بهدوء أكثر: «ألم تقل ما يكفي؟ هلا تركتني أذهب قبل أن يأتي أحد؟»
أرخى قبضته حول معصميها. لقد خسرها، كان ذلك أكيدا. مرة أخرى راودته رؤية منزلهما كما كان قد تخيله، مثل هلوسة، جلية إلى حد مؤلم؛ رأى حديقتهما، وإليزابيث وهي تطعم نيرو والحمام على الممر لدى زهور الفلوكس الصفراء كالكبريت التي ارتفعت حتى بلغت كتفيها؛ والصالون، بألوان الماء على الجدران، وزهور البلسم في الوعاء الخزف وقد انعكست على الطاولة، ورفوف الكتب، والبيانو الأسود. البيانو الخرافي المستحيل؛ رمز لكل شيء أودى به ذلك الموقف التافه!
Неизвестная страница