كان فلوري ينتبه لكن انتباها متقطعا. كان بالكاد واعيا بالوقوف والركوع والتمتمة «آمين» على الصلوات اللامتناهية، وبإليس وهو يلكزه ويهمس بسباب المقدسات من خلف كتاب التراتيل. لكنه كان في غاية السعادة لدرجة العجز عن لملمة أفكاره. فقد رد الجحيم يوريديس. كان الضوء الأصفر يفيض من خلال الباب المفتوح، ويطلي بالذهب الظهر العريض لمعطف السيد ماكجريجور الحرير كأنه قماش منسوج من الذهب. كانت إليزابيث، وهي على الجانب الآخر من الممر الضيق، قريبة جدا من فلوري حتى إنه استطاع سماع كل حفيف لفستانها ويشعر، كما هيئ له، بدفء جسدها؛ إلا أنه لم يجرؤ على النظر إليها ولو مرة، خيفة أن يلاحظ الآخرون. راح الهارمونيوم يطلق أنغاما متهدجة كالمصاب بالتهاب الشعب الهوائية والسيدة لاكرستين تحاول جاهدة أن تضخ إليه هواء كافيا بالدواسة الوحيدة السليمة. وكان الغناء جلبة متنافرة غريبة؛ صدحا جادا من السيد ماكجريجور، ونوعا من الهمهمة الخجلانة من سائر الأوروبيين، ومن الخلف خوار مرتفع بلا كلمات؛ فقد كان المسيحيون الكارين يحفظون ألحان التراتيل لكن من دون الكلمات.
شرعوا يجثون مرة أخرى. فهمس إليس قائلا: «المزيد من الجثو اللعين.» ساد الجو عتمة، وتردد نقر خفيف من سقوط المطر على السطح؛ اهتزت الأشجار بالخارج مصدرة أصوات خشخشة، ودارت سحابة من أوراق الشجر الصفراء خارج النافذة. شاهدها فلوري من خلال فتحات أصابعه. منذ عشرين عاما، في أيام الآحاد في الشتاء، وهو جالس على مقعده في كنيسة الرعية في الوطن، كان من دأبه أن يشاهد الأوراق الصفراء، كما يفعل في هذه اللحظة، وهي تنجرف وتخفق في السماوات الرمادية. هل من الممكن، الآن، أن يبدأ من جديد كأن تلك السنوات الدنسة لم تمسه قط؟ رمق إليزابيث بنظرة مواربة من خلال أصابعه، وهي جاثية وقد أحنت رأسها واختفى وجهها وراء يديها المبقعتين. حين يتزوجان، حين يتزوجان، أي متعة سيحظيان بها معا في هذه الأرض الأجنبية لكن الطيبة! تخيل إليزابيث في معسكره، وهي تستقبله عند عودته متعبا من العمل وكو سلا وهو يأتي مسرعا من الخيمة بزجاجة جعة؛ رآها وهي تسير معه في الغابة، وتشاهد طيور أبو قرن على أشجار التين المجوسي وتقطف زهورا مجهولة الأسماء، ورآها وهي تخوض بخطوات ثقيلة وسط ضباب الجو البارد تطارد طيور الشنقب والبط البري في المراعي السبخة. رأى منزله كما ستتولى تجديده. رأى صالونه ولم يعد مهملا ومثل بيوت العزاب، بأثاث جديد من رانجون، ووعاء زهور بلسم وردية مثل البراعم على الطاولة، وكتب وألوان مائية وبيانو أسود. البيانو قبل أي شيء! لبث يتأمل البيانو في ذهنه؛ فهو رمز للحياة المتحضرة والمستقرة، ربما لأنه لم يكن ماهرا في الموسيقى. لقد انعتق إلى الأبد من شبه الحياة التي عاشها العقد الماضي، بمجونها وأكاذيبها وألم المنفى والوحدة والتعامل مع العاهرات والمرابين والسادة البيض.
تقدم الكاهن من منصة القراءة الصغيرة التي كانت تستخدم أيضا كمنبر، ونزع الرباط عن لفافة بورق العظة، وسعل، وأعلن عن النص الذي سيقرؤه. «باسم الآب والابن والروح القدس. آمين.»
همس إليس قائلا: «فلتختصر كلامك، بحق المسيح.»
لم يلحظ فلوري كم دقيقة مرت؛ فقد انسابت كلمات العظة إلى رأسه هادئة، همهمة غير واضحة، تكاد تكون غير مسموعة. كان لا يزال يتخيل حياتهما حين يتزوجان، حين يتزوجان ...
مهلا! ماذا حدث؟
توقف الكاهن دون أن يكمل الكلمة. وخلع نظارته الأنفية وراح يلوح بها في قلق لشخص في المدخل. كان هناك صراخ صاخب مخيف. «بايك-سان باي-لايك! بايك-سان باي-لايك!»
هب الكل في مقاعدهم والتفتوا. كانت ما هلا ماي. مع التفاتهم دخلت الكنيسة ودفعت ماتو العجوز جانبا. ثم لوحت بقبضتها لفلوري. «بايك-سان باي-لايك! بايك-سان باي-لايك! هذا هو الذي أقصده، فلوري، فلوري! (نطقته بورلي.) ذلك الشخص الجالس في المقدمة هناك، ذو الشعر الأسود! استدر وواجهني يا أيها الجبان! أين النقود التي وعدتني بها؟»
كانت تصرخ مثل المجنونة، والناس يحدقون فيها بأفواه مفتوحة، وقد منعهم فرط الذهول من الحركة أو الكلام. كان وجهها رماديا من البودرة، وشعرها الملبد مشعثا، وطرف إزارها متآكلا. بدت مثل شمطاوات البازار في صراخهن. كأن باطن فلوري قد تحول إلى جليد. يا إلهي، يا إلهي! هل سيعلمون ... هل ستعلم إليزابيث ... أن تلك هي المرأة التي كانت عشيقته؟ لكن لم يكن ثمة أمل، ولا ذرة أمل، في أي التباس. لقد صرخت باسمه مرارا وتكرارا. حين سمعت فلو الصوت المألوف، تملصت من أسفل المقعد، وسارت في الممر وهزت ذيلها لما هلا ماي. كانت المرأة الخسيسة تصيح بحكاية مفصلة لما فعله بها فلوري. «انظروا إلي، أيها الرجال البيض، والنساء كذلك، انظرن إلي! انظروا كيف قضى علي! انظروا إلى هذه الأسمال التي أرتديها! وهو جالس هناك، الكاذب، الجبان، يتظاهر بأنه لا يراني! إنه يتركني أتضور جوعا عند بوابته مثل الكلب الضال. آه، لكنني سوف أفضحك! استدر وانظر إلي! انظر إلى الجسم الذي قبلته ألف مرة، انظر، انظر ...»
وبدأت تمزق ثيابها فعلا؛ آخر البذاءات التي تقوم بها النساء البورميات الوضيعات النشأة. صدر صرير عن الهارمونيوم إذ تشنجت السيدة لاكرستين. كان الناس قد استعادوا وعيهم وطفقوا يتحركون. استعاد الكاهن صوته، بعد أن ظل يهمهم دون جدوى، وقال بحدة: «أخرجوا تلك المرأة!» كسا وجه فلوري الشحوب. كان بعد اللحظة الأولى قد أشاح برأسه عن الباب وجز على أسنانه في جهد يائس ليبدو غير مكترث. لكن دون جدوى، دون جدوى مطلقا. كان وجهه شاحبا مثل العظم، والعرق يلمع على جبينه. أقدم فرانسيس وصامويل على أول فعل مفيد في حياتهما ربما، فهبا عن مقعديهما فجأة، وأمسكا ذراعي ما هلا ماي وجرجراها إلى الخارج، وهي لا تزال تصرخ.
Неизвестная страница