Мои страницы... Моя жизнь (часть первая)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
Жанры
كان «منعم» يتصور أنني سعيدة داخل هذا البيت، لم يكن يرى تعاستي، أنا أيضا كنت أتصور أن سكان «جاردن سيتي» سعداء، يأكلون أنواعا من الفاكهة لا نأكلها مثل التفاح والكريز، لم أكن أعرف ما هو الكريز وتلك الأسماء الأخرى التي لم ترد في القرآن الكريم، لم يكن لسكان الجنة في كتاب الله إلا عناقيد العنب والنخيل (البلح). كان أبي يشتري لنا البلح والعنب، إلا أن التفاح كان غالبا لا يأكله إلا الأغنياء، أما الكريز فلم أسمع عنه إلا في جاردن سيتي. كنت أمر بالفكهاني الأنيق يعرض الثمار اليانعة بألوانها الزاهية، يهبط الخدم من القصور ويشترون، يترامى إلى سمعي «الكريز» وكلمات أخرى لا أعرفها، أنواع مأكولات أو فواكه ربما تزرع في أرض أخرى، يسمونها «بلاد برة»، وكل شيء يأتي من «بلاد برة» كانوا يقولون عنه أفضل وأرقى، سواء كان مأكولات أم شهادات. «بلاد برة»، يسمونها «الغرب»، وبلادنا يسمونها «الشرق»، يقولون إن الشرق روحاني، يحرم لذائذ الدنيا وأولها لذة الجسد أو الجنس، سوف تتوافر هذه اللذة بإذن الله في جنة عدن، وكم شعرنا بالفخر في أول الشباب لانتمائنا إلى الأرض المقدسة الطاهرة، مهبط الأنبياء والأديان، الناس فيها يعيشون على الغذاء الروحي لأنهم تجاوزوا مشكلة الجسد.
ذات يوم في خريف 1957، بعد أن وقعنا قسيمة الطلاق وأنهينا قصة الحب التي دامت ست سنوات، كنا نتمشى على شاطئ النيل بجوار القصر العيني، حين سألني أحمد فجأة: أتعرفين يا نوال ماذا تفعل القاهرة بالحب؟ قلت: ماذا تفعل؟ قال: القاهرة تفعل بالحب ما يفعله وابور الطحين؛ الخارج من تحته إما أن يكون رجلا مسحوقا مجروحا بعمق في رجولته، أو روحا طاهرة تعاني الوحدة، يعني نبيا.
كانت ورقة الطلاق تعني الفراق بين الزوج وزوجته، إلا أننا كنا نلتقي، يدور بيننا حوار أجمل من العلاقات الزوجية، أدركنا أن «الزواج» يفسد الحوار بين الرجل والمرأة، يفسد الصداقة والحب، يدمر الأشياء، يسحقها، يطحنها مثل وابور الطحين، يعيدها إلى ما كانت عليه في العصور القديمة، زمن العبودية.
كان «أحمد» طالبا في كلية الطب في السنة الرابعة وأنا في السنة الأولى، عرفته لأول مرة في المظاهرة الصامتة الكبرى، ست سنوات عاشت قصة الحب، تبدو لي من بعد المكان والزمان كأنما لم تكن إلا رواية قرأتها أو قصة في حياة امرأة أخرى، لم يبق منها إلا الخيال وصور في الذاكرة أستعيدها.
الشمس كانت ساطعة ذلك اليوم من نوفمبر 1951م، الأشعة تنساب فوق رأسي من خلال عطر الياسمين، الهواء مشحون بتراب الأرض، التراب ممزوج بمياه النيل له رائحة منعشة، تراب الأرصفة وشوارع القاهرة وقد أطفئت برذاذ الماء، سحابات الخريف الخفيفة الندية تقترب من الأرض، لا تحمل الأمطار وإنما الرذاذ القليل النادر ندرة التفاح والكريز، ينتشر اللون الرمادي أو الأزرق المغبر، والأرجواني الصحراوي الجيري أو الترابي والقرمزي، فوق كل هذا تسطع الشمس بقرصها المتوهج القادر على تمزيق السحب، تصبغ مياه النيل بالوهج البرتقالي الأخضر، ورطوبة المطر المختنق تكسب الهواء لمعانا، ونكهة الأرض العطشى تتلقى الرذاذ مهدية سماوية من عند الإله.
تحت كل ذلك تقبع مدينة القاهرة تحت غطاء شفاف من الحزن يشبه الشبورة، هواء الخريف دافئ يحمل بقايا سخونة الصيف، يلهب الجسد خلال الرداء القطني الخفيف، يعالج الجسد وقد عادت إليه الروح أو ربما هي الروح عاد إليها الجسد، قضبان سجني أحسها تتخلل وأنا أمشي في المظاهرة الصامتة، بلا هتاف، تتساقط بين قدمي الأغلال رغم الصمت، مدينة القاهرة ممدودة أمامي عارية عن الزيف، حبلى بالأمل، كالمرأة تسير نحو الحب، نحو الحرية، نحو المستقبل المجهول، رغم ضوء النهار الساطع.
كانت الهتافات ممنوعة، لكن الآلاف كانت تتنفس في نفس واحد، يشق عنان السماء، تمشي بخطوة واحدة ترتج لها الأرض، في مدينة واحدة هي القاهرة، تنشر شذراتها صامتة كأوراق الزهر، وفي هذه اللحظة التقت عيوننا أنا وأحمد، ألحان خفيفة غير منطوقة تهز القلب، أجسادنا وسط آلاف الشباب تدوس شوارع المدينة باحثين عن الاستقلال، عن الانعتاق، عن التحرر من العبودية.
كان زعماء الطلبة يسيرون بين الصفوف، أحدهم كان «أحمد»، كان مملوءا بالحلم الطفولي مثلي، وكنت مثله أمشي في شوارع المدينة، يخيم عليها كآبة الحكم الأجنبي، وكآبة الحكم المحلي، يسمونه «الملكية السامية»، طنين عربات الترام وهي تنتفض فوق قضبانها الحديدية في شارع قصر العيني، تفوح منه رائحة المشرحة والفورمالين، وجروح المرضى الغارقة في الدم والصديد، ولون صبغة اليود في الجو، والسرادقات الطويلة داخل المستشفى، هنا كثيرا ما التقينا. في المستشفى كان هناك مساحة من الأرض لملاعب الطلبة، كانت توجد دكة خشبية عند ملعب التنس، رصت عليها أكواب الشاي بالنعناع الذي كنا نشربه، أو زجاجات الكازوزة المثلجة في أيام الحر، يحملها إلينا «عم محمود» صاحب البوفيه، غرفة معتمة بجوار غرفة تغيير الملابس، يغلي فيها الشاي على وابور جاز، يرص ألواح الثلج الطويلة داخل صندوق خشبي يسميه الثلاجة، فوق طاولة خشبية مشققة يقطع الرغيف الفينو نصفين، يدس في كل نصف شريحة من الجبن الرومي وقطعة من مخلل الخيار ويسميه «ساندوتش».
لكن كل شيء كان يسبح في ضوء غريب، من أين كان يأتي الضوء؟ عيناه بلون العسل المصفى كانت تشع هذا الضوء، لم أكن أرى منه إلا هذا الضوء في العينين، كطفلة العاشرة في حبها الأول ، لا يمكن أن تهبط عيناها إلى ما تحت العينين.
فقط نتبادل النظرات في صفاء الأرواح السامية، هؤلاء الذين ينكرون رغبات الجسد، كان ممتعا أن نجلس فوق الدكة مرتبكين خجلين متلعثمين، تتلاحق أنفاسنا في اضطراب، ماذا كان يفزعنا؟ هل كنا ندرك ما ننكره؟ هل كنا نطرق إلى الأرض خجلا مما يراودنا في خيالنا؟ لكن الرسائل كانت تمضي بيننا، من وراء وعينا، خلال عيوننا المتسعة المندهشة، والكازوزة المثلجة أو الشاي المنعنع ، والدكة الخشبية المنزوعة القشرة، نجلس عليها لا نحس العالم من حولنا. نرشف على مهل من الكوب الزجاجي، نرشف المدينة بكل ما فيها، حتى المستشفى القديم المفعم برائحة الفورمالين، وصبغة اليود تسري إلى صدورنا منعشة كزهر الياسمين.
Неизвестная страница