ثمن الكتابة
هكذا جئت إلى الدنيا
حادث ختان
من الإسكندرية إلى منوف
الحلم
الحب الأول
العروسة والعريس
من نبوية موسى إلى مدرسة السنية
لقيط في دورة المياه
سنة أولى سياسة
مظاهرات البنات
هواجس الشك ويقين الإيمان
ألفة الموت
الحب والموت فوق منضدة واحدة
أوراقي ... حياتي
ثمن الكتابة
هكذا جئت إلى الدنيا
حادث ختان
من الإسكندرية إلى منوف
الحلم
الحب الأول
العروسة والعريس
من نبوية موسى إلى مدرسة السنية
لقيط في دورة المياه
سنة أولى سياسة
مظاهرات البنات
هواجس الشك ويقين الإيمان
ألفة الموت
الحب والموت فوق منضدة واحدة
أوراقي ... حياتي
أوراقي ... حياتي (الجزء الأول)
أوراقي ... حياتي (الجزء الأول)
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
هكذا جئت إلى الدنيا
منذ يناير 1993م، وأنا في هذا البيت الصغير المطل على غابة «ديوك»، كتل من شجر الأرز والصنبور والبلوط، الأشجار الطويلة الكثيفة، فيضان من الخضرة.
منظر غير مألوف لي، كلمة غابة في حد ذاتها غير مألوفة لأذن امرأة عاشت حياتها في مصر «وادي» النيل النهر الهادئ، تتناقص مياهه بلا فيض أو فيضان، الشريط الأخضر المنبسط من المزارع وسط الرمال، تتناقص مساحته، تزحف الصحراء والجدران الإسمنت.
كانت هناك شجرة أمام بيتي في الجيزة، كلمة «الجيزة» ترتبط في أذهان السياح (وعلماء المصريات) بصورة الهرم، وأبو الهول، ومقبرة توت عنخ أمون، والجمال يركبونها، أو الحمير يجرها أولاد البلد الظرفاء ذوو الوجوه الضامرة المحروقة بالشمس، والكعوب السوداء المشققة، ترمقها بانبهار عيونهم النهمة إلى التحديق فيما يسمى اختلاف الأجناس أو الثقافات. كنت أفتح النافذة، وأطل على هذه الشجرة الخضراء الوحيدة، عيناي تتجذبان إلى الخضرة، أتنفسها مع الهواء، يتحول اللون الأخضر في صدري إلى أكسجين.
قضيت طفولتي وصباي في الريف وسط الدلتا، بين قريتي «كفر طحلة» في محافظة القليوبية، وبلدة «منوف » في محافظة المنوفية، عيناي تعودتا رؤيا المزارع والحقول، صدري كان يتسع مع اتساع المساحات الخضراء أمام عيني.
فتحت نافذتي ذات يوم عام 1977م، لم أجد الشجرة الوحيدة اليتيمة، جاء «البلدوزر» فاجتثها من جذورها، أصبح جداران من الإسمنت يرتفعان حتى حجبا الشمس عن نافذتي.
فوق جدار ارتفعت مئذنة طويلة لجامع جديد تحوطها لمبات النيون، فوق الجدار الآخر ارتفعت لوحة «ماكدونالد» تعلوها أيضا دائرة متحركة من اللمبات النيون، في الطابق السفلي دائرة أخرى لشيء جديد اسمه «أنديسكوكلوب.»
كنت أغلق نافذتي بالزجاج والشيش ليل نهار، لكن الأصوات العالية مع الأضواء المتحركة تنفذ إلى جسدي، تختلط فيها رائحة «الهامبرجر» بدقات الديسكو بالتكبير وحي على الصلاة.
في ليالي الأرق المؤلمة فكرت، أهناك اتفاق بين «المؤذن» و«مكدونالد» على طرد النوم من عيني أو طردي من بيتي!
غابة «ديوك» مساحة من الأشجار الخضراء الباسقة، عيناي مشدودتان إلى الخضرة مثل الأرض الجافة تحن إلى الماء، الشمس تنفذ إلى نافذتي، وأنا جالسة أكتب، عامان قضيتهما في هذا المكان البعيد، يبعد عن مصر حوالي عشرة آلاف ميل، غابة «ديوك» هي جزء من الجامعة في تلك البلدة الصغيرة الشبيهة بالقرية، اسمها «ديرهام» في ولاية نورث كارولينا، على الشاطئ الشرقي للمحيط الأطلنطي.
أرفع رأسي من فوق الورقة، أترك القلم لحظة، لماذا أكتب سيرة حياتي اليوم؟ ألحنين إلى عمري الذي مضى؟ هل مضى؟! أم في العمر بقية؟ أتكون الكلمات هي الملاذ الأخير للإمساك بما فات قبل أن يفوت؟ تثبت الصور في الذاكرة قبل أن تتلاشى؟ مقاومة الفناء من أجل البقاء في الوجود أو الخلود؟
كلمة «الخلود» في طفولتي وصباي كان سحر الآلهة، اليوم لم يعد هناك سحر، الكلمة في حد ذاتها تبعث على الضجر، الاستمرار الدائم لأي شيء يؤدي إلى الملل، لولا الموت لأصبحت الحياة أمرا غير محتمل.
أهي محاولة كشف المخبوء في أعماق نفسي؟ تعرية المستور بالخوف من الله، أو الأب، أو الزوج، أو الأستاذ، أو الصديق، أو الصديقة من رفاق الزمالة أو الحب أو الوطن؟
من الطبيعي أن نغضب ونثور على من نكرههم، لكن إذا تحول الغضب أو الثورة إلى من نحبهم، فكيف تكون الكلمات المكتوبة؟
كلمة «الوطن» كنت أتغنى بها في طفولتي وشبابي، كيف تحولت إلى «سجن» أو «رجل بوليس» يطاردني في اليقظة والنوم، يضع فوق رأسه طربوشا أو طاقية أو عمامة أو قبعة، يتكلم اللغة الإنكليزية أو العربية الفصحى أو الدارجة أو الخليجية؟
كلمة «الحب»! كنت أنشدها مع البنات، لا نكف عن الغناء في ضوء القمر، فكيف تحولت إلى أربعة جدران سوداء داخل مطبخ في بيت آيل للسقوط «بيت الزوجية»؟ «الطب» أيضا كان مثل كلمة العلم والفن والأدب، أحلم بها مثل عصفورة تحلم بالطيران، كيف تحولت إلى ما يشبه السلاسل تشدني إلى الأرض أو تحت الأرض؟
منذ ولدت حتى بلغت الستين من عمري، وأنا أعيش في مصر، أحاول أن أتذكر يوم مولدي، لا أذكر شيئا سوى أنني ولدت «أنثى».
فسمعت من الناس أن الله هو الذي يخلق الأنثى والذكر، سمعت أنه قبل زمن طويل كانت البنت تدفن في القبر وهي طفلة، ثم نزلت آية في القرآن تقول:
وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت .
كان يمكن أن أكون ضمن هؤلاء الموءودات لو أنني ولدت في ذلك الزمان، هكذا سمعت من الناس وأنا في الرابعة من العمر.
الزمان الذي ولدت فيه كان أفضل، لم يكن يحدث شيء حين تولد الأنثى؛ فقد يصيب الناس الحزن، لكن الحزن أخف من الوأد؛ فقد ينطوي الحزن على رغبة مخبوءة في الوأد، إلا أنه يظل حزنا لا غير، يظل شيئا طافحا فوق الوجوه، لونا قاتما يخفي الشيء الكظيم.
في أول أيام الولادة لا تشهد المولودة هذا الحزن، عيناها المفتوحتان لأول مرة على العالم بريئتان صغيرتان عاجزتان عن رؤية المخبوء.
كنت أنا واحدة من هؤلاء البنات المولودات، لم أر المشهد بعيني رأسي، ضاعت الصورة الأصلية من ذاكرتي، أسترجعها عن طريق الخيال، أجمع في خيالي الكلمات التي سمعتها من جدتي وأنا في الخامسة من العمر لأرسم المشهد الحزين لأول مرة خرجت فيها من بطن أمي ... •••
أول خيوط الفجر تلك الليلة من أكتوبر، قبل أن تخرج الشمس إلى الأرض المحددة على الخريطة بنقطة صغيرة لا تراها العين، فوق الخط الرفيع كالشعرة يشق الصحراء من الجنوب إلى الشمال تحت اسم النيل، ومع الدقة الرابعة المتحشرجة كالنفس الأخير لساعة الحائط، انطلقت الصرخة من فوق السرير النحاسي الأصفر ذي الأعمدة الأربعة، صرخة واحدة لامرأة في المخاض، تبعها صمت طويل ثقيل كأنما ماتت الأم والمولود معا.
توقفت الأنفاس في حلوق الحشد المجتمع في الصالة الخارجية، عائلة شكري بيه سليلة المجد حتى طلعت باشا في إسطنبول، وعائلة السعداوي من «كفر طحلة» بالوجوه الكالحة المتربة، والأقدام الحافية المشققة، رائحة العرق والطين في الجلاليب البالية تختلط برائحة العطور الفرنسية في الفساتين الحريرية الهفهافة، والبدل الإفرنجية من الصوف الإنجليزي تفوح برائحة الويسكي أو الدخان المتصاعد من البايب.
توقفت أنفاسهم داخل الصالة الضيقة، وتوقفت معها أنفاس الفجر المترددة بين الإقبال والإدبار، وأنفاس الساعة المتهالكة العتيقة منذ الخديو إسماعيل، وقرص الشمس أيضا توقف وانحشر في بطن الأرض يرفض الخروج.
ربما تبدو هذه اللحظة بعيدة عن الواقع، لكن هذا ما حدث كما حكت لي جدتي الحاجة مبروكة أم أبي، وكنا نسميها «ستي الحاجة»، هي أيضا توقفت أنفاسها في حلقها حين دب الصمت بعد الصرخة الأولى والأخيرة، أطلت من الباب الموارب لترى الرأس الصغير محشورا في فرج الأم يرفض الخروج إلى الدنيا، رأس ناشف، عنيد، صلب، مثل الحجر، أسود بلون الليل، مستدير «مثل الكرة الأرضية»، متوقف في الفرج المتسع على شكل دائرة بحجم قرص شمس حمراء بلون الدم.
مع الصرخة القوية المنطلقة من بطن الأم خرج الرأس الأسود الصلب، توقف عند منتصف العنق مترددا بين الخروج والدخول، وهنا انقبضت من حوله عضلات الفرج حتى اختنق، لم يكن أمامه لإنقاذ نفسه إلا الاندفاع إلى الخارج.
خرج مثل الكرة، ملفوفا حول نفسه كالقنفذ، ذراعاه وساقاه مضمومة حول جسده، تلقفاه الكفان الكبيرتان بأصابعهما الطويلة المعروقة تفتح الفخذين بحركة أسرع من البرق، أصابع خشنة صلبة مثل المسامير الصدئة، مدربة في مهنة الدايات منذ الاحتلال التركي .
كانت الفخذان الصغيرتان مضمومتين بقوة خارقة للعادة، كأنما بينهما شيء يستوجب الخزي، لكن الأصابع الحديدية أبعدت الفخذ عن الأخرى، كأنهما فخذا دجاجة، لتكشف عما بينهما من خير أو شر، ولتكون أول من يطلق الزغرودة، إذا ما سقطت عيناها فوق القضيب، العضو الغالي المبجل شبه المقدس الممنوح للمذكر فحسب، أو تكون أول من تنكس الرأس بوجه كظيم، وتصمت صمت الموتى، إذا لم يكن هناك إلا الشق، الفرج التعيس الملعون منذ حواء.
لم تنطق الزغرودة من فم أم محمد الداية، ولم تفتح الأم الوالدة جفونها لترى ماذا ولدت، وكنت «أنا» بالمصادفة ذلك الشيء المولود، قلبته أم محمد الداية بين يديها، ممصمصة شفتيها في حسرة، ثم ألقت به داخل طشت الماء ليغرق.
لم تمتد أي يد من عائلة شكري بيه أو آل السعداوي لتنقذني، أغلب الظن أنهم اختفوا جميعا، وأصبحت حياتي بين يدي أم محمد، الداية المدربة منذ قرون على حل الأزمات والمصائب. لها قرون استشعار تفهم العيون دون الكلام، تعيش المولودة أو تموت، كله بإرادة الله، وهي على علاقة طيبة بالله.
لم تفتح أمي جفونها وتركتني داخل الطشت أرفس ... لا أعرف كيف تغلبت على الموت في اللحظات الأولى من حياتي، ربما هي إرادة شيطانية ركبتني، لم أكن أعرف حينئذ ما هو الشيطان، ثم عرفت في الخامسة من عمري أن اسمه إبليس، إنه الوحيد الذي امتلك القوة ليرفض أمر الله ويرفع راية العصيان.
ربما فتحت أمي نصف عين (بعد انصراف الداية أم محمد)، رأت بشرتي الزرقاء الداكنة السمرة مثل آل السعداوي الفلاحين، فأطبقت جفونها كأنما إلى الأبد، شفتاها انطبقتا مزمومتين بلون أزرق، الصمت أصبح ثقيلا أثقل من وزن الأرض، امتد من البيت الصغير إلى القرية كلها تحت جسر النيل، من القرية امتد إلى المدينة العاصمة، القاهرة لأهلها منذ عصر العبيد، المقهورة تحت بنادق الغزاة من الفراعنة حتى الاحتلال الإنجليزي عام 1882م، الواقعة أسفل جبل المقطم، أسفل الأهرامات ومقبرة فرعون، أسفل قدمي «أبي الهول» الإله الحجري الأكبر.
أغمضت الأم عينيها وتكورت حول نفسها كالجنين، تضم فخذيها السمينتين البيضاوين حول الفرج المفتوح النازف، لم تمتد ذراعيها لتضمني إلى صدرها، تركتني أرتجف إلى جوارها في السرير داخل خرقة بالية تلتف حول صدري وبطني حتى الاختناق، مددت ذراعي نحوها، والتفت أصابعي الخمسة حول يدها، فانقبضت أصابعها الخمسة حول يدي، ثم راحت أمي فيما يشبه النعاس أو حمى النفاس، عاد بها الألم والنزيف إلى ليلة الزفاف، تسير بخطوة ثقيلة بطيئة مع دقات الطبول، قدماها تتأرجحان فوق الكعب العالي المدبب، تتعثران في ذيل الثوب الطويل ذي الكرانيش والكشاكيش، الطبل يدق في أذنيها كالشواكيش ... فخذاها ترتجفان، تضمهما بقوة حول الفرج المنزوع الشعر والكرامة، عمرها خمسة عشر ربيعا، أخرجها أبوها من المدرسة بالقوة والعصا، عريسها يكبرها بستة عشر عاما، لم تره إلا من ظهره من وراء ثقوب الشيش، وجهها تحت مسحوق البودرة ابيض بلون الطباشير، تشوبه صفرة مرتعشة تحت أضواء الكهرباء، خداها عظامهما بارزة مصبوغان بلون أحمر مثل عرائس المولد، عيناها العسليتان يكسوهما بريق طفولي، يدور «النني» حول نفسه كالفأر في المصيدة يبحث عن ثقب للفرار، اسمها مطبوع فوق بطاقة الدعوة بحبر أسود:
الآنسة المهذبة زينب هانم شكري، كريمة صاحب العزة محمود بك شكري مدير القرعة العسكرية.
تزف إلى السيد أفندي السعداوي، المدرس بوزارة المعارف العمومية.
يقام حفل الزفاف في السابعة مساء 25 مارس 1929م، بفيلا شكري بك رقم 6 بشارع الزيتون، عزبة الزيتون، ضاحية مدينة القاهرة.
تسمرت ذاكرتها مع قدميها فوق عتبة غرفة النوم، كان هناك السرير النحاسي الأصفر بأعمدته الأربعة، ورجل عريض طويل منتصب مثل عمود السرير، لم تره من الوجه أبدا، من وراء شقوق الشيش، لم تكن ترى إلا قفاه، غليظا محلوقا بالموسى، ملفوفا بعمامة مثل الفقيه في المقابر يقرأ القرآن على أرواح الموتى، ويتلقى بعض الفطائر، ستكون بعد دقائق قليلة فوق السرير بين ذراعي هذا الرجل مغمضة تحبل بطفلها الأول دون أن تخلع ملابسها، دون أن تفتح عينيها، تلده بعد تسعة شهور كاملة، ثم تحبل من جديد قبل أن تفطم طفلها الأول، دون أن تخلع ملابسها أيضا ، في الظلمة الدامسة دون أن تدوس على النور أو تفتح عينيها لترى وجه الرجل الذي يمتطيها العام بعد العام.
وهكذا في ظلمة الليل حملت أمي عشر مرات، ولدت تسعة من الأطفال، أجهضت الحمل العاشر، قبل أن تبلغ الثلاثين من العمر، دون أن تعرف ذلك الشيء الذي اسمه لذة الجنس، ثم ماتت في ريعان الشباب ممسكة يدها في يدي، عيناها العسليتان الطفوليتان تتطلعان نحوي في اندهاش، تكتشف لأول مرة في حياتها أنها تمسك يدي، أصابعها الخمسة تلتف حول يدي كما التفت أصابعي الخمسة حول يدها وأنا أرقد بجوارها ليلة مولدي.
في المرآة أرى وجهي شاحبا طويلا يشبه وجه أمي حين ماتت، كانت في ريعان الشباب، وأنا تجاوزت الستين، ثلاثون عاما مرت من حياتي دون أن أدري، أجزاء من عمري سقطت في العدم، أحاول أن أستعديها، أن أشدها من براثن الماضي ... لحظات تريد الفرار والاختفاء بعيدا عن الذاكرة وأعين الناس، لحظات الألم واليأس والضعف والانحدار حين كنت أنسى اليوم والساعة والمكان الذي أنا فيه، أنسى اسمي واسم أمي وأبي ومسقط رأسي، لحظات الغضب تتملكني فأود الإقدام على جريمة قتل، أرى نفسي أمشي في الشارع بلا هدف، ألمح وجهي داخل مرآة أو زجاج، شاحب أسمر حزين، ينظر إلى الدنيا بعين سواء داكنة السواد مثل عين الليل.
كنت أغمض عين أحوال الهروب من وجهي، أستعيد وجه أمي حين كانت تضحك، لا أعرف كم كان عمري حين سمعتها تضحك لأول مرة، كانت لها ضحكة مميزة خاصة بها لا تشبه أي ضحكة في العالم، ترى في البيت تجاوز الجدران إلى الشارع إلى الكون كله، أسمعها وأنا أمشي في الطريق بجوار أبي، لها رنين في أذني عجيب مثل رنين الماء الرائق العذب المقطر داخل إبريق من الفضة أو البلور، أسمعها قبل أن أدخل إلى البيت، أنفلت من يد أبي وأجري إلى أمي تحملني فوق صدرها وتطعمني، رائحة أمي لا تزال في أنفي كأنما هي رائحة جسدي، ومعها رائحة اللبن الطازج والخبز الساخن والشوربة يتصاعد منها الدخان في الشتاء البارد.
رقدت أمي عامين اثنين في فراش المرض، في السرير النحاسي الأصفر ذي الأعمدة الأربعة الذي رقدت فوقه ليلة زفافها، الذي حبلت فيه بأطفالها، ثلاثة من الذكور وست من البنات، أحمل أمي من فراش الموت فوق صدري وأطعمها، لم يحملها فوق صدره أحد من الذكور.
في المرآة ألمح نفسي وأندهش، كيف مرت السنون وأصبحت أطعم الأم التي كانت تطعمني، في المرأة أرى الملعقة في يدي أقربها من فمها ورأسها فوق صدري كما كنت أضع رأسي فوق صدرها أهمس لها بأحلامي، هي التي تهمس هذه اللحظة بأحلامها، صوتها متقطع، أنفاسها خافتة، الكلمات مبتورة ممزقة، أرهف أذني، أستجمع حواسي كلها في حاسة واحدة هي السمع، أستمهل الزمن، أستوقف عقارب الساعة لتكمل أمي النطق، ألصق أذني بفمها، أستنطق الصمت، أساعدها على العثور على الكلمات كما كانت تعلمني الكلام، تفتح فمها تحاول النطق، لكن الكلمات تفلت منها، الزمن يفلت، كل شيء يفلت، يروح في العدم.
في المرآة أرى وجهي، والقلم في يدي أحركه فوق الورق، الساعة العاشرة صباحا، المكان هو مدينة ديرهام بأمريكا الشمالية، وجهي أصبح أكثر طولا، بشرتي أكثر سمرة وشحوبا، عيناي السوداوان أقل بريقا، في أعماقي لحظات تولد من العدم، أطرد بيدي شبح الموت كأنما هو ذبابة، ألمح فوق مكتبي مظروفا أبيض عليه اسمي: الدكتورة السعداوي، الأستاذة في جامعة «ديوك»، كلمة «ديوك» ترن في أذني غريبة، أغرب منها اسم «السعداوي»، من هو صاحب الاسم؟ قالت جدتي: إنه رجل مجهول الأصل، حملته مياه النيل من الحبشة أو الجنوب داخل قارب من القش أو الجريد، يشبه القارب الذي رقد فيه سيدنا موسى بعد أن ولدته أمه وتركته لمصيره يسبح مع مياه النيل.
كنت في السادسة من العمر حين كنت أجلس إلى جوار ستي الحاجة فوق عتبة الدار في قريتنا «كفر طحلة»، تفرش أمامها الحصيرة من فوقها الأرز أو القمح أو الغلة، تلتقط من بينها الحصى بأصابعها الكبيرة المشققة، كل من يمر أمامها في الطريق من الفلاحين أو الفلاحات يقول:
العواف يا أم السيد أفندي.
تمد ستي الحاجة عنقها القوي العضلات من طول حمل الزكائب أو زلع الماء، تشمخ بأنفها المرتفع حين تسمع كلمة «الأفندي»، ترد التحية مضاعفة:
يا اخويا، العوافين عليكي يا أختي.
ثم تعود إلى التنقية بأصابعها السمراء المحروقة بالشمس، تكمل حكاية السعداوي، الجد الأكبر لأبي، لم يكن يذكر من أهله في الحبشة أو الجنوب إلا أمه «حبشية».
أستمع إلى حكاية جدتي، فمي مفتوح، خيالي يسبح مع قارب القش أو الجريد فوق مياه النيل، صوتها يسري في أذني كأنما من عالم مسحور:
أمه كان اسمها حبشية، ماكانش له أب، تمام زي سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما السلام، كان يحكي عن أمه حبشية كأنها ستنا مريم، شلاه يا ست، ويقول: أمي حبشية كانت من الأشراف في الحبشة، عندها الأملاك والعبيد ولا الملكة بلقيس في زمانها، وكان أهل الكفر يصدقونه إلا المرحومة أمي كانت تقول لي: «إذا كانت أمه حبشية من الأشراف بصحيح، ليه ربنا ماجابش سيرتها في القرآن؟ لازم أمه حبشية كانت جارية من الجواري أو واحدة من عبيد السلطات.» كانت المرحومة أمي تكره السعداوي كره العمى، وتقول: إنه «شيطان ابن شيطان»، عينيه في الليل تطق شرار، ويغيب طول الصيف ماحدش يعرف له قرار، وفي الشتا يرجع يرقد فوق الفرن، ويزعق على واحدة من نسوانه، كان يتجوز ويطلق، ويتجوز على كيفه، وما حدش يعرف عدد نساوينه، يدخل الدار ويخرج ولباسه على كتفه، وماكانشي يحفظ من القرآن إلا:
فانكحوا ما طاب لكم من النساء .
وكان له ابن كشر غلس زيه تمام، اسمه حبش، سماه على اسم امه حبشية، وجوزه لواحدة من الكفر ماتت بعدما جابت له ولدين، وكنت أنا عيلة صغيرة ألعب مع العيال وبزازي ماطلعوش والعادة ماجاتنيش، ويالا هوب مسكوني وجوزوني حبش، وأنا أصرخ وأقول: يامه، انتي فين؟ لكن الولية اللي ماتتسماش، أم محمد، الداية الآرحة بنت الغازية مسكتني هي وأربعة من النساوين وكتفوني زي الفرخة، وخبوا رأسي بالطرحة وفتحوا فخادي عشان أم محمود تاخد وشي، وقريت الفاتحة على روحي، وقلت: أشهد أنا لا إله إلا الله ، محمد رسول الله.
شفت الموت، وأم محمود بتاخد وشي بصباعها زي المسمار يشق لحمي زي النار، والطبل بيدق في وداني زي الشواكيش وقلت لنفسي: خلاص يا بت يا مبروكة، روحك طلعت ودي جنازتك مش جوازتك، أي والله يا بنت ابني، الجوازة في بلدنا زي الجنازة بصحيح.
تتوقف ستي الحاجة عن الكلام وتضحك فجأة، وينتفض جسدها الطويل الضامر داخل الجلباب الأسود شهقات مكتومة متقطعة كالنسيج، تشد طرف الطرحة وتخفي فمها وأنفها تحاول أن تحبس الضحك حتى تختنق وتطفر الدموع من عينيها تمسحها بطرف طرحتها السوداء. •••
لم أكن أعرف في طفولتي إن كانت جدتي تضحك أم تبكي، أغلب الظن أنها كانت تضحك، عيناها بعد أن تمسحها تلمعان فجأة، يكسوهما بريق غريب، يعودها الضحك حتى تختنق مرة أخرى، تخفي فمها وأنفها بالطرحة السوداء، وتقول: «اللهم اجعله خير يا رب.»
تضحك من جديد وعيناها تغرقان في الدموع.
اسمي الرباعي في السجلات الرسمية: «نوال السيد حبش السعداوي»، سقط اسم «حبش» من شهادة ميلادي وشهاداتي المدرسية وبطاقتي الشخصية حتى نسيته تماما، لكنه ظل موجودا في سجلات السجون أو وزارة الداخلية، لم أكن أعرف ذلك حتى عام 1981م، حين أصبحت السجينة رقم 1536 في سجن النساء بالقناطر، وأنا في الخمسين من العمر، سألني الضابط فجأة عن اسمي الرباعي، فلم أذكر اسم حبش، بادرني الضباط بالاسم، أخرجه من دفتر قديم عتيق، كأنما يخرجه من القبر معه جثة جدي حبش الذي مات قبل أن أولد، وجثة أبيه السعداوي الرجل الغريب المجهول الذي انحفر اسمه فوق جسدي منذ ولدت، وفوق كراريسي في المدرسة، وشهادات نجاحي وتفوقي، وفوق أغلفة كتبي التي كتبتها بقلمي، بالعرق والدم في ليالي البرد والحر، في الليل والنهار على مدى أربعين عاما من عمري.
على مكتبي المظروف الأبيض عليه اسمي ولقبي: الدكتورة الأستاذة بجامعة ديوك، من هو «ديوك»؟ كان رجلا من أصحاب الملايين في أمريكا الشمالية، لحظة الموت اكتشف فجأة أنه لن يأخذ ماله إلى القبر، لاحت له الفكرة قبل أن يلفظ النفس الأخيرة أن يحفر اسمه فوق جدار أو تمثال، ويدفع من أجل ذلك كل ماله، لم يشأ أن يأخذ اسمه معه إلى العدم.
لكن اسم أمي ذهب معها إلى العدم، لم تكن تملك شيئا، أطفالها التسعة وأنا منهم كانوا من أملاك زوجها بحسب القانون وشرع الله، ولم أحمل اسم أمي، دفن اسمها مع جسمها في القبر، واندثرت في التاريخ.
منذ أمسكت القلم بين أصابعي وأنا أقاوم هذا التاريخ، أقاوم هذا التزييف في السجلات الرسمية، أود لو شطب اسم جدي وأضع مكانه اسم «زينب»، وهي التي علمتني الحروف: «أ، ب، ج، د» حتى «ه، و، ي»، تمسك يدي تحت يدها، وتجلعني أكتب اسمي من أربعة حروف: «ن و ل»، وأسمع صوتها مثل تغريد عصفورة: نوال ... يا نوال.
صوتها يناديني، فأنفلت من يد أبي، أجري إليها لتحملني فوق صدرها، الشمس ساطعة في سناء ديرهام الزرقاء، يسمونها هنا «كارولينا بلو»، تشبه زرقة السماء في قريتي «كفر طحلة» بدلتا النيل، رائحة الهواء تشبه نسمة القاهرة في الليل، لحظات الماضي تذوب في الحاضر، كلاهما لحظة واحدة ممدودة منذ أن ولدت، طفلة تحبو وتمشي فوق الأرض، جسمي يذكر رائحة التراب، ملمس الأرض فوق البحار آلاف الأميال، واجتازت المحيط الأطلسي حتى مدينة ديرهام، مضت الأعوام، أكثر من نصف قرن، لكن الرائحة تملأ أنفي، والضوء القوي يجعلني أغمض عيني، وصوت أمي يغزوني من جميع مسام جسدي، ومعه أشعة الشمس، أترك نفسي لطغيان هذا الضوء وهذا الصوت وهذه الرائحة.
يحملني الثلاثة معا إلى طفولتي الأولى حين كنت أجري مثل الفراشة بين المساحات الممدودة من الخضرة تحت سماء زرقاء، ثم تهبط الشمس وراء الأفق، تهبط برفق، السماء تشتعل بألوان حمراء برتقالية، كل شيء يتغير لحظة بعد لحظة، يزول اللونان الأحمر والبرتقالي، تصبح السحب رمادية، الهواء يبرد فوق ذراعي وساقي العارية، الأرض لا تزال تحتفظ بأثر قدمي فوق التراب، أرتعش بالبرد مع مجيء الظلام، لكن الأرض لا تزال دافئة تحت قدمي، جسمي يشعر بالتعب فأغمض عيني وأتمدد فوق الأرض وأنام، أفتح عيني، أرى النجوم وصوت ستي الحاجة لا يزال يحكي عن ليلة الدخلة، الدم المدبب، حملتها الحمارة من بيت أبيها إلى بيت زوجها، أغرق الدم بردعة الحمارة وهي تسير من خلفها الطبول، في بيت العريس رقدت فوق الحصيرة تنكمش داخل جلبابها الجديد المزركش ببقع الدم، جاء العريس ناداها بصوت غليظ: قومي يا بت حضري العشا، تأخرت في النهوض، فانهالت عليها العصا الخيزران التي يقود بها حمارته. «قومي يا بت قامت قيامتك.»
كان هذا هو التقليد في القرية، لا بد للعريس أن يضرب عروسه ليلة الدخلة قبل أي شيء آخر، لتذوق طعم العصا قبل أن تذوق طعامه، لتعرف أن الله فوق وهو تحت، ليس هناك إلا الضرب إن لم تسمع الكلام.
تلك الليلة كانت ستي الحاجة في العاشرة من العمر، لم يدركها الحيض بعد، رقد حبش فوقها وهي تدس الطرحة في فمها تكتم الصراخ، لم يكن للعروس أن تصرخ وإلا لسعتها الخيزرانة، أو ألسنة الجيران، فلا يعود لها أو لأبيها وجه في القرية.
بعد بضعة أعوام، ثلاثة أو أربعة، كما حكت ستي الحاجة، ارتفع بطنها بالحمل، ثم ولدت أبي، تأكدت من العضو بين فخذيه قبل أن تطلق الزغرودة، صارعت حمى النفاس وغلبتها من شدة الفرح، بعد أن انقطع الدم توضأت وسجدت لله شكرا لأنه لم يخذلها ورزقها بالولد.
عاشت ستي الحاجة مع زوجها حبش ثمانية عشر عاما قبل أن يموت، لم يكن لديها سرير نحاسي له أعمدة أربعة، الحصيرة فوق الأرض التراب، حبلت فوقها خمس عشرة مرة، أربعة ذكور وإحدى عشرة بنتا، مات ثلاثة من أبنائها ولم يبق إلا أبي، مات ست من بناتها ولم يبق إلا عماتي الخمس: فاطمة وبهية ورقية وزينب، وأصغرهن نفيسة، كانت ترضع ثدي أمها حين مات أبوها حبش وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، مات بالبلهارسيا كأبيه، ينزف الدم مع البول، مرض الفلاحين منذ الفراعنة وعصور العبيد ... بلاء من عند الله كما كانت ستي الحاجة تقول: البلاء الأعظم في نظرها كانت الإحدى عشر بنتا، لم تمت منهن لسوء حظها إلا ست فقط.
تضم أصابعها الخمسة في قبضة قوية تهزها في عين العدو أو الشيطان: خمس بنات، كبة بنات.
حين ولدت ابنتها الحادية عشرة مات حبش من الكمد، حملوه إلى القبر داخل صندوق من الخشب يسمونه التابوت، لم تذرف عليه ستي الحاجة دمعة واحدة، انتظرت حتى توارى جسده في بطن الأرض، فنهضت سخنت صفيحة من الماء واغتسلت، سجدت لله شكرا لأنه خلصها من الزوج، أصبحت أرملة وهي في الثامنة والعشرين من عمرها، ربطت رأسها بمنديل أسود وأقسمت ألا يقربها رجل حتى الموت، كانت قد كرهت جنس الرجال منذ ليلة الدخلة، بل من قبل ليلة الدخلة بأربع سنوات، وهي في السادسة من العمر، حين جاءت الداية أم محمود.
وتتلاشى صورة ستي الحاجة من ذاكرتي، صوتها يسري في أذني من بعيد كأنما من بطن الأرض: «كنت يادوب عرفت أمشي وأروح الغيط وألعب مع العيال لما جاءت الولية اللي ماتتسماش أم محمود الداية الآرحة بنت الغازية، ومسكتني وكتفتني زي الفرخة هي وأربع نساوين، وقالت لي: اسمعي يا بت يا مبروكة، أنا حأقطع لك ظنبورك عشان تبقي طاهرة ونظيفة ليلة الدخلة والعريس ما يقرفش منك، وعشان يا بت ما تجريش ورا الرجالة، ومسكت أم محمود الموسى وسنته على الحجر لما بقى حامي زي اللهلوب، وقلت: خلاص جالك الموت يا بت يا مبروكة، ورقدت فوق الحصير أنزف الدم زي الحنفية لغاية أمي اتشهدت وقرت الفاتحة على روحي ثلاث مرات، وبعد كام يوم ربنا خد بيدي وقمت زي العفريت، أصل البنات زي القطط بسبع أرواح يا بنت ابني، الولد روحه خفيفة والناس تحسده مش زي البنت، وكنت ألبس أبوكي جلاليب البنات عشان ماحدش يحسده، وأعلق في صدره خمسة وخميسة، وكل ليلة أبخره وأرقيه وأقرأ عليه سورة «يس».
وكنت أخبي له الأكل في الجورة جوه الحيطة، وأحلب له اللبن من بز الجاموسة، وأملأ له الصحن قشطة، وفي الفجر قبل ما الشمس تطلع أصحي البنات ونروح ع الغيط مع البهايم نشتغل لغاية الشمس ما تغيب، ونرجع شايلين الزكايب ، ويوم السبت أروح السوق أبيع اللي أقدر عليه، وأحط القرش على القرش لغاية ما يكون عندي في آخر السنة ثلاثة جنيه، ثلاثة كاملين، كل جنيه ينطح أخوه، أخبيهم في صدري لغاية ما يرجع ابني السيد، أناوله الثلاث ورقات صحاح وأقوله: خد يا ضنايا ثلاثة جنيه كاملين أهم، ادفع يا عين أمك تذكرة القطر من بنها لمصر، وادفع مصاريف المدرسة والكتب والكراريس وإيجار الأوضة في القلعة، واشتري لك يا ضنايا جزمة جديدة بدل القديمة المقطعة دي، أيوة أمال، كان لازم أبوكي يلبس جزمة جديدة، ويمشي رافع رأسه، ويدخل الأزهر ودار العلوم كمان، كان لازم يدخل أحسن مدرسة في مصر ويبقى أكبر رأس في البلد، ولا يمكن أبدا يكون فلاح زي أبوه، ولا يموت بالبلهارسيا، ويعيش ويتعلم ويبقى السيد أفندي على سن ورمح، والسيد بيه كمان زي شكري بيه، وليه، وهي البطن اللي ولدت شكري بيه مش زي بطنك يا بت يا مبروكة؟!
وحلفت اليمين وقلت: وحياة ربنا، وحياة النبي محمد، وحياة سيدنا الحسين، والإمام الشافعي، وستنا مريم، لازم ابنك يا مبروكة يا بنت الغزاوية يكون له نصيب في واحدة من بنات شكري بيه، ولا يمكن تموتي يا بت يا مبروكة قبل ما ترقصي في فرح ابنك وليلة دخلته على واحدة من بنات البهاوات أو البشاوات في مصر، وليه لا، ويعني هي البطن اللي ولدت البهوات والبشوات مش زي بطنك يا مبروكة؟»
صوت ستي الحاجة في ذاكرتي رغم مرور السنين، وقامتها الطويلة المديدة الشامخة وهي تمشي في الكفر، تدب على الأرض بقدميها الكبيرتين داخل البلغة الجديدة، وتدق بكفها الكبيرة المشققة المحروقة بالشمس باب العمدة وهي تصيح: «اطلع يا عمدة، كلمني، أنا مبروكة بنت الغزاوية، ورأسي برأس أكبر راجل في البلد.»
مهما حاولت، لا أتذكر ملامح آمنة «أم أمي»، كل ما أذكره منها العينين، بياض العينين كان رمادي اللون، سواد العين أو «النني» لم يكن موجودا! ... كنت أسأل أمي: أين راح «النني» في عين جدتي؟ هل اختفى تحت الجفن أم ذاب في بياض العين؟ كنت أظن أنها عمياء ، لكنها كانت ترى كل شيء وهي جالسة فوق الكنبة في الصالة الكبيرة، رأسها ملفوف بطرحة حريرية بيضاء، بين يديها سبحة صفراء، تتمتم بآيات القرآن، لا تكلم أحدا ولا أحد يكلمها إلا حينما يأتي الخادم يناديها لتتناول الطعام، أو ابنتها فهيمة «الأستاذة فهيمة شكري» حين تعود من العمل ساعة الظهر، تجلس إلى جوارها بضع لحظات، يدور بينهما حوار أشبه بالصمت: إزيك يا نينة النهاردة؟ - نحمده يا بنتي. - أيوة يا نينة نحمده. - نحمده على كل شيء يا فهيمة. - نحمده يا نينة، ولا يحمد على مكروه سواه. - أيوة يا بنتي، لا يحمد على مكروه سواه.
كنت أسمع هذه العبارة «لا يحمد على مكروه سواه» تتردد على لسان جدتي آمنة وخالتي فهيمة، كانت «طنط فهيمة» تدرس للبنات في مدرسة المعلمات، وأسألها: «مين اللي لا يحمد على مكروه سواه؟»
تتنهد طنط فهيمة تنهيدة طويلة، عيناها الجاحظتان من وراء النظارة البيضاء تزدادان جحوظا، وتقول بغضب: «حيكون مين يعني غير ربنا؟» ثم تنتفض واقفة كأنما لدغها عقرب متمتمة: «أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.» وتمشي فوق الأرض تدب بكعب حذائها الحديدي، تدق الأرض، تخرق الأرض بكعب حذائها، تنادي الخادم أو الخادمة بصوت حاد: «هات كباية مية يا ولد»، «هاتي الشبشب بتاعي يا بنت»، لا تكف من إعطاء الأوامر للخدم، صوتها في جميع أنحاء البيت، تتقمص شخصية أبيها «شكري بيه»، فإذا ظهر أبوها عند عتبة الباب الخارجي انخفض صوتها إلى حد الهمس، وانكمش جسمها إلى حد الاختفاء في غرفتها وإغلاق الباب.
بيت جدي كان فيللا من دورين في ضاحية الزيتون في مدينة القاهرة، تحوطه حديقة كبيرة لها سور عال، نصفه الأسفل حجر، والنصف الأعلى من الحديد على شكل أعمدة لها نهايات مدببة مثل السكاكين، نمت عليها أشجار «البوجانفيليا» بزهورها الحمراء والبنفسجية، وأشجار الياسمين ذات الزهور البيضاء الصغيرة الفواحة بعطر الياسمين، وأشجار الورد البلدي الأحمر والأبيض برائحتها القوية البنفسجية، وعباد الشمس، الزهور الصفراء الكبيرة، تتحرك أوراقها إذا لامسها شعاع الصبح، تدور معه ويدور حولها كما تدور الأرض حول الشمس. •••
كان هناك جرس معلق أعلى الباب الخارجي الحديدي، يصلصل بدقات عالية إذا انفتح الباب أو انغلق، مع الصلصلة ينطلق الكلب الوولف يجري نحو الباب في نباح حاد، العيون داخل البيت تتطلع من الذي جاء أو من الذي خرج.
حين يخرج جدي تتنفس جدتي آمنة الصعداء، تزحف قدماها داخل «البانتوفلي» الأسود من غرفة نومها إلى الصالة، رأسها ملفوف بالطرحة البيضاء، وجهها أبيض خال من الدم، عيناها رماديتان منطفئتان بلا قطرة ضوء، كالميت يخرج من القبر، تجلس في مكانها المعتاد فوق الكنبة بين يديها السبحة تتمتم بآيات من القرآن.
خالتي نعمات تفتح باب غرفتها وتخرج هي الأخرى شاحبة الوجه مثل أهل الكهف، جفونها متورمة كأنما تبكي طول الليل، ترمقني من بعيد بنظرات صفراء كأنما أنا السبب في تعاستها.
كنت في السادسة من عمري، لا أعرف معنى التعاسة، فوق جسدي أحسها مثل قشعريرة البرد، مثل ملمس الجدران الحجرية، رمادية اللون مثل عيني جدتي آمنة، مثل الصمت الذي يملأ هذا البيت، لا أسمع فيه إلا طرقعات الأوامر الصادرة إلى الخدم، أو قرقعة الريح تضرب النوافذ، أو نباح الكلب مع صلصلة الجرس.
حين تعود خالتي فهيمة من المدرسة تدب في البيت حركة، يدق حذاؤها الأرض، يرتفع صوتها وهي تتشاجر مع أختها نعمات، أختان شقيقتان من أم واحدة وأب واحد، لكن الواحدة منهما تختلف عن الأخرى في كل شيء، لا شيء يجمعهما إلا الكراهية، تتخاصمان فلا تنظر الواحدة إلى الأخرى، فإذا انتهى الخصام بدأ الشجار بلا سبب أو لأقل سبب، مجرد الهواء تحركه واحدة منهما حين تمشي بالقرب من الأخرى، أو ربما هي نظرة من بعيد صفراوية اللون ترشق بها نعمات أختها فهيمة.
طنط نعمات تبتلع على الريق كنكة من القهوة السادة السوداء، تربط رأسها بمنديل أسود، وتجلس على الكنبة الأخرى في مواجهة أمها، وتحملق حولها بالنظرات صفراء من بين الجفون المتورمة.
قد يصدف في هذه اللحظة أن تمر أختها فهيمة أمامها في طريقها إلى الصالة الداخلية، تسقط واحدة من هذه النظرات فوقها، فإذا بها تتوقف، قبل أن تتوقف تدب بكعب حذائها الأرض مثل الجندي في الجيش، تشد قامتها القصيرة وتنفر العروق في عنقها، تضع يدها في خصرها وعيناها جاحظتان من وراء النظارة. - بتبصيلي كدة ليه يا نعمات؟ مش عاجباكي؟ - أيوة مش عاجباني يا فهيمة. - ليه يا أختي؟ مش أحسن منك واللا إيه؟ - أحسن مني في إيه يا أم شنب يا عانس. - العانس أحسن من المطلقات يا نعمات. - فشر، ع الأقل لقيت حد يجوزني ويطلقني، لكن انتي يا حسرة لا حد بيجوزك ولا يطلقك.
وتخرج خالتي نعمات لسانها الطويل وهي تصحن قبضة يدها اليمنى في كفها الأيسر، ترشق أختها فهيمة بنظراتها مرددة: يا عانس! وتدق الأستاذة فهيمة شكري بكعب حذائها الأرض، ترفع ذراعها عاليا، يدها اليمنى مضمومة الأصابع إلا أصبع السبابة منتصب مدبب كالسهم في اتجاه أختها نعمات، يكاد يدخل في عينها، مرددة بصوتها الحاد: يا مطلقة ياللي مش لاقية حد يلمك. - يا عانس ياللي مش لاقية حد يجوزك.
لم أكن أعرف معنى كلمة مطلقة أو عانس، حين أسأل أمي تمط شفتيها وتقول: الاثنتان أسخم من بعض، كانت أمي في الرابعة والعشرين من عمرها، من حولها أطفالها الخمسة، بطنها مرتفع بالحمل السادس، تعد على أصابعها الأيام الباقية من الإجازة لتعود إلى بيتنا، كانت مثلي تكره هذا البيت وكل من فيه حتى أمها، تلك الصامتة طول الوقت، الغائبة في عالم آخر من التمتمات والتسبيحات، لا شيء يعيدها إلى عالمنا إلا صلصلة الجرس، صلصلة معينة غير الصلصلات الأخرى، تعرفها بأذنيها وإن كانت غائبة في الملكوت الآخر.
تنتصب أذناها في انتباه مفاجئ كالقطة تعرف أنه زوجها «شكري بيه» الذي فتح الباب، تسمع وقع قدميه فوق الممر الحجري بين الباب والسلم، خطوته البطيئة يدوس بكل قدمه على الأرض، قصير القامة نحيف الجسم، داخل بدلة من الصوف الداكن، ياقة القميص بيضاء منشاة، تحوطها ربطة عنق من الحرير اللامع، رأسه كبير بالنسبة لجسمه داخل طربوشه الأحمر يميل قليلا ناحية أذنه اليمين، وتطل من تحته شعره الأبيض كبير الحجم، الأنف أبرز ملامح الوجه، كبير له غضروف مقوس قليلا، تحت الأنف شارب طويل غزير الشعر، أبيض اللون، يمتد فوق الصدغ، يكاد يصل إلى طرف الأذن، كنت أقف في الصالة أرقب جدي وهو يصعد السلالم الرخامية العريضة، يضع قدمه على درجة السلم رافعا رأسه، عنقه يلتوي قليلا إلى الوراء مثل عنق الديك الرومي، طربوشه أحمر بلون عرف الديك، يتنحنح بصوت عال معلنا عن حضوره، يدق بلاط الفرندة بعصاه السوداء من خشب الأبنوس، ثم يدخل الصالة وهو يرد بصوت خشن وقور: يا إلهي، أنت جاهي.
كانت فهيمة ونعمات قد اختفت كل منهما داخل غرفتها وأغلقت الباب، جدتي آمنة ترمقهما بنوع من الحسد، لم يكن لها غرفة مستقلة تغلقها على نفسها، ولا بد أن تنهض لتستقبل هذا الرجل الغريب الذي يشاركها السرير منذ خمسة وثلاثين عاما.
كانت جدتي آمنة في الرابعة والأربعين من عمرها، لكنها تبدو في السبعين داخل جسمها المنكمش، وبشرتها الخالية من الدم المليئة بالكرانيش، وساقيها المتورمتين داخل جورب سميك من الصوف، وملامح وجهها المتهدلة، جفونها الساقطة فوق عينين رماديتين وغاب عنهما «النني» ولم يبق منهما إلا ماء متجمد.
كنت أسأل أمي: ما الذي حدث لجدتي آمنة حتى تفقد سواد عينيها؟ تضع أمي يدها فوق فمي، تكتم السؤال، تهمس في أذني لأسكت، إن جدي في البيت، وحين يكون في البيت فالكل يسكت، دون أن تنطق أمي عرفت كل شيء، المعرفة كانت تسري في جسدي على شكل القشعريرة، عرفت أنه جدي، وأن جدي هو زوج جدتي، وتزوجها وهي في الرابعة عشرة، وأنجب منها ستة من الأولاد والبنات: (نعمات وفهيمة وزينب وهانم ويحيى وزكريا)، كان يكبرها بثمانية عشر عاما، ولم يجمعهما شيء إلا ورقة «الجواز». «الجواز»: كلمة غامضة تحوطها الأسرار، ما إن ترن في الجو حتى يشحب وجه خالتي نعمات، تمط خالتي فهيمة شفتيها في ازدراء، تطفو فوق ملامح أمي سحابة شفقة من الحزن الغامض، أما جدتي آمنة فهي تكف عن التمتمة، تتوقف حركة السبحة الصفراء بين يديها، عيناها الرماديتان تتجمدان ، يتعكر لونهما مثل ماء البركة الراد، يصبح قاتما معتما لا يطل منه بصيص ضوء، أسمعها تهمس: «نحمده، ولا يحمد على مكروه سواه»، ترد عليها خالتي فهيمة من فوق الكنبة الأخرى قائلة: «أيوة يا نينة، نحمده على كل شيء»، من غرفتها أسمع خالتي نعمات تتنهد وتقول: «النصيب والمقدر والمكتوب على الجبين، كله من عند ربنا، نحمده.»
بدأت أدرك أن ضمير الغائب في كلمة «نحمده» يعود إلى «ربنا»، وأن جميع المصائب في هذا البيت جاءت من عند «ربنا»، لم أكن أعرف معنى كلمة «ربنا»، لكنها ارتبطت في ذهني بكلمة أخرى هي «المصائب»، وهذه الكلمة ارتبطت بكلمة أخرى هي «الجواز»، منذ السادسة من عمري وأنا أحفظ هذه الكلمات الثلاث عن ظهر قلب في عبارة واحدة: «ربنا، المصائب، الجواز.»
بعد تسعة أشهر من ليلة زفافها ولدت أمي طفلها الأول، لم أكن أنا جئت إلى الدنيا بعد، سمعت ستي الحاجة تقول: إن أبواب السماء كانت مفتوحة حين رفعت يديها ودعت ربنا أن يرزق ابنها «السيد أفندي» بولد يرفع رأس أبيه في الدنيا والآخرة وتسميه «محمد» على اسم النبي محمد
صلى الله عليه وسلم .
تقبل الله دعوة ستي الحاجة وجاء أخي الأكبر، بشرته بيضاء مثل بشرة امه وأهلها من عائلة شكري بيه، كانوا جميعا نساء ورجالا من ذوي البشرة البيضاء مثل الأتراك، عيونهم عسلية، الأنف روماني يتسق مع ملامح الوجه البيضاوي، عيب واحد موروث عن أسلاف شكري بيه، الأسنان الأمامية الكبيرة التي كانت تسميها عمتي رقية «الضب»، أسمعها تهمس حين تغضب على أمي قائلة عنها: «أم ضب»، لم تكن أمي تسمعها طبعا، وتنهرها ستي الحاجة: «عيب يا بت رقية، دي مرات أخوكي السيد أفندي.»
أصبح أخي الأكبر المدلل لدى عائلة أمي وأبي، الكل يقول عنه طفل جميل، ورث ملامح أخواله، لكن جدتي الحاجة مبروكة لم تكن تبتهج بهذه الملامح، كانت تريد لحفيدها الأول أن يرث البشرة السمراء الملوحة بالشمس علامة الرجولة، والعينين السوداوين ذات البريق، يشع مثل قطعة من الحجر الأسود الكريم في الحرم الشريف، أطلقت عليه اسم «محمد» على اسم النبي، شكري بيه أراد أن يسميه على اسم جده الأكبر طلعت باشا الذي دفن في مقبرة بإسطنبول. «مالنا ومال الراجل التركي الغريب دا؟ لازم نسميه على اسم النبي بتاعنا يا ابني»، همست الحاجة مبروكة في أذن ابنها السيد أفندي، لم يشأ السيد أفندي أن يغضب أمه، ولا أن يغضب حماه، فكتب اسم أخي الأكبر في شهادة الميلاد: «محمد طلعت»، اسم مركب من اسمين، كان شائعا في المملكة المصرية رغم سقوط الإمبراطورية العثمانية، كانت الطبقة البرجوازية في مصر لا تزال تتجه في أحلامها نحو الآستانة وأسلافها من الأتراك، عائلة شكري بيه رغم إفلاسها مع الأزمة العالمية (وانهيار البورصات وأسعار القطن) تتمسك ببعض أمجاد الماضي ومظاهر الطبقة العليا المنحدرة إلى الطبقة الوسطى.
عائلة السعداوي تتطلع إلى المستقبلة والصعود من طبقة الفلاحين الفقراء إلى طبقة الموظفين في الحكومة، أبي هو أول رجل في القرية يحصل على الشهادة العليا من دار العلوم، أول من يخلع الجلباب أو الجبة والقفطان ويرتدي البدلة والكرافتة والطربوش، وأصبح أهل الكفر ينادون ستي الحاجة: أم السيد أفندي.
حين حصل أبي على وظيفة «مفتش للتعليم» في محافظة المنوفية، منحته أمه لقب «السيد بيه»، وأصبح أهل القرية ينادونها: «أم البيه»، تجلس على عتبة دارها داخل جلبابها الحريري الأسود، شامخة برأسها داخل الطرحة الشفافة من الشيفون الأسود، تفرق ساقيها أمامها ليرى الناس البلغة الجلدية في قدميها، بلغة من الجلد الحقيقي اشتراها لها ابنه «السيد بيه» في العيد الكبير، ومعها الجلباب من الحرير الطبيعي، والطرحة من الشيفون.
كل من يمر بها وهي جالسة يحييها قائلا: العواف يا أم البيه.
كلمة «العواف» تعني العافية والصحة، كنت أجلس إلى جوار ستي الحاجة فوق عتبة الدار، عمتي فاطمة تحمل الكرسي الخيزران من قاعة المندرة تقدمه لي لأجلس عليه وهي تقول: «بنت السيد بيه مش ممكن تقعد على الأرض زي الفلاحين.»
ولدتني أمي بعد مولد أخي بعام واحد، كنت أسمع ستي الحاجة تقول: خرجت واقفة على حيلك زي الشياطين، وسألت أمي فقالت إنها ولدتني بسهولة دون ألم ، ولادة أخي الأكبر كانت عسيرة، لم يشأ أن يخرج من الرحم بسرعة، كان يستعذب الراحة والدفء في بطن أمه، حين تغضب عليه عمتي رقية تقول إنه ابن أمه، حين تغضب خالتي نعمات علي تقول: إنني بنت الفلاحين، وأطلقت علي اسم: «جارية ورور» على اسم جارية من عبيد جدها الأكبر في إسطنبول.
ترمقني ستي الحاجة في صمت، بشرتي السمراء كأنما لوحتها شمس داخل الرحم، العينان سوداوان تشعان البريق قطعة من الحجر الكريم في الحرم الشريف، تخفي ستي الحاجة فمها بالطرحة السوداء وتهمس في أذن ابنتها رقية: «كلها شبه أبوها»، ثم تمصمص شفتيها في حسرة قائلة: «يا ريتها كانت ولد!»
وترفع عمتي رقية كفيها نحو السماء تدعو الله أن يقلبني ولدا، أسمعها تقول: «ربنا قادر على كل شيء»، وترد عليها ستي الحاجة: «من بقك لباب السما يا بنتي.»
كنت أتطلع نحو السماء بعينين مشدوهتين، أخشى أن يكون باب السماء مفتوحا وأن الدعوة سوف تنطلق من فم عمتي مباشرة إلى أذن الله، وأنني سأصحو في الصباح لأجد الشق (أو الفرج) بين فخذي مسدودا، وقد نبت مكانه العضو الذي عند أخي.
في الصباح أدخل الحمام أختلس النظر إلى جسدي، لا أستطيع النظر بين ساقي، أخشى أن تتسع المسافة بينهما أكثر من اللازم، لا أقوى على النظر إلى تلك المنطقة المحرمة المحوطة بالخزي والخوف والخشية من قدرة الله.
كنت في السادسة من العمر، لا أستطيع التأكد من قدرة الله، عيناي تختلسان النظر إلى حيث تصورت أن قدرة الله يمكن أن تحدث، لم أكن أرى شيئا إلى تلك المنطقة المختفية بين الفخذين في العمق، تتراءى لي من وراء الخوف والخزي كالضباب الكثيف، لا أقوى على أن أمد بصري إليها، فما بال أن أمد يدي لألمسها أو فحصها لأتأكد من قدرة الله.
في أعماقي العميقة كنت أتمنى ألا يملك الله القدرة ليقلبني ذكرا مثل أخي، لم أكن أحب أخي، كان يبدو كبيرا جدا، يضربني على يدي ويشد مني العروسة، يخلع عنها ثوبها الحرير الأبيض، يخلع قميصها الداخلي وسروالها الصغير المشغول بالدانتيلا، يخلع عنها كل شيء حتى تصبح عارية تماما، يفتح ساقيها كأنما يبحث عن شيء، لم يكن هناك شيء، يخلع عنها ساقيها وذراعيها ورأسها وعنقها، تصبح العروسة أشلاء ممزقة، حين يرى الدموع يضحك ساخرا ويقول: «يا عبيطة، دي عروسة مش بني آدم!»
في العيد كان أبي يشتري لي العرائس لألعب بها، يشتري لأخي طيارة لها زنبلك أو سفينة لها شراع، أو مسدسا يطرقع به فينطلق الشرار، كنت أكره تلك الدمى الصامتة الميتة التي لا تتحرك من مكانها كما تتحرك السفينة أو الطائرة، ولا يصدر عنها أي صوت أو ضوء مثل المسدس، وحين أمسك المسدس تشده خالتي نعمات من يدي، تمط شفتيها وهي تقول: «البنات الحلوين يلعبوا بالعرايس مش بالمسدسات زي الصبيان.»
خالتي نعمات قصيرة بدينة الجسم، صدرها كبير ممتلئ باللحم، ساقاها بيضاوان سمينتان عاريتان تحت الفستان القصير حتى الركبتين، وجهها مستدير أبيض تفوح منه رائحة البودرة أو العطر أو الروج الأحمر، تمضغ بين أسنانها لبانة كبيرة تخرجها أحيانا على طرف شفتيها تمطها أو تنفخها، ثم تلويها بطرف لسانها إلى داخل فمها، تلوكها من جديد بين فكيها، وهي جالسة فوق الكرسي العالي ممدودة الساقين، قدماها داخل طشت من الماء الدافئ، أظافرها حمراء مصبوغة بالمانيكير، ناعمة بضة، تدلكها عمتي رقية الجالسة فوق الأرض، بأصابعها الكبيرة المحروقة بالشمس مشققة بلون الأرض، تدلك الأصابيع الناعمة البضة وهي تقول: «صوابعك يا نعمات هانم حلوين ومدملكين، الله يجحمه الراجل الحمار اللي اسمه محمد الشامي.»
تمصمص طنط نعمات شفتيها بحسرة وتقول: «النصيب، والمكتوب ع الجبين لازم تشوفه العين، من يوم ما اتولدت ربنا كاتب علي الشقا، حظي مهبب والعياذ بالله، ربنا رزقني بمحمد أفندي الشامي، لا دخل علي ولا حاجة، يدوبك كتب الكتاب، وليلة الدخلة لا دخلة ولا يحزنون، وجتني ورقة الطلاق في البوستة.»
تتوقف أصابع عمتي رقية داخل الطشت، ترفع عينيها الذابلتين نحو طنط نعمات وهي تشهق: «يا خبر يا نعمات هانم! يعني انتي لسة بنت بنوت؟ ربنا يجحمه مطرح ما راح، وكله يتعوض يا نعمات هانم، كله من عند ربنا، وبكره ربنا يرزقك بعريس يسوا عمر محمد الشامي وعمر اللي خلفوه كمان.»
تخرج طنط نعمات من صدرها منديلا حريريا أبيض، تمسح الدموع في عينيها، تخفي وجهها وراء المنديل حتى لا أرى دموعها، وتمسح عمتي رقية عينيها بطرف طرحتها السوداء، تخفي فمها وراء الطرحة وتهمس: «عشت مع متعوس الرجا أربعتاشر سنة، وراني المر، وكان يضربني كل ليلة قبل ما يتعشى السم الهاري، وياما درت على المشايخ عشان الخلف، لكن أعمل إيه يا نعمات هانم، ده نصيب ومكتوب، وكله من عند ربنا، نحمدك يا رب ع الحلوة وع المرة، وكله من عندك يا رب.»
طنط نعمات ترمقني بعيني حمراوين صفراوين من وراء منديلها الأبيض، وأسمعها تقول: «البنات الصغيرين مش مفروض يقعدوا مع الكبار.»
لم أحس أنني بنت صغيرة، منذ السادسة من العمر وأنا أحس أنني كبيرة، أسمع ستي الحاجة تقول: إنني كبرت وجسمي يفور، أصبحت قامتي أطول من أخي الأكبر، أسبقه في الجري حين نلعب مع أطفال الجيران، وفي المدرسة أتفوق عليه، لم يكن أخي يحب المدرسة، في الصباح حين تلبسه أمي المريلة يرفس بقدميه ويبكي، ويأتي أبي ويقول له: عيب يا ولد تعيط زي البنات، يرمقني أبي بطرف عينه وأنا واقفة منتصبة القامة داخل مريلة المدرسة، وحقيبتي في يدي أتعجل الانطلاق خارج البيت وليس في عيني أي دموع.
كنت ألمح في عيني أبي شيئا، وهو يرمقني من تحت حاجبيه الكثيفين بذلك «النني» الأسود داكن السواد، كأنما المفروض أن أكون أنا الباكية بالدموع وليس أخي، كأنما أبي يكره قامتي المرفوعة أو البريق في عيني المتعجل الانطلاق خارج البيت.
منذ طفولتي وأنا أود الانطلاق خارج البيت، كنت أحب المدرسة رغم العصا الخيزران يلسعني بها إسماعيل أفندي على أطراف أصابعي، وأكثر ما كنت أحب هو الانطلاق إلى الشارع أو الحقول لألعب وأجري وأسابق الريح كالعصفورة الطليقة.
في ذاكرتي منذ الطفولة حلم واحد، أن أطير بجناحين وأهرب من البيت في الكون الواسع ، أهرب إلى أين؟ لم أكن أعرف وأنا في السادسة من العمر، إحساس ثقيل أثقل من جسمي يشدني إلى الأرض، يشدني من الهواء الطلق والشمس والطيران مع الفراشات إلى البيت والجدران الأربعة والمطبخ.
في المطبخ تجعلني أمي أقف أمام النار لأتعلم كيف أطبخ وكيف أقطع البصل إلى قطع صغيرة جدا بالسكين الحاد، رائحة البصل النفاذة تلهب أنفي وعيني فتنهمر دموعي كأنها السيل، لم يكن أخي أو أبي يدخلان المطبخ أو يقشران البصل أو يغسلان الصحون، أصبح المطبخ هو المكان الذي أحس فيه بالمهانة وكوني أنثى.
في حوش المدرسة ألعب مع البنات، نجري فوق الرمل الساخن بحرارة الشمس، نجلس فوق الدكك الخشبية، نختبئ تحتها حين نلعب المساكة، نجري نتسابق، نلعب الثعلب فات فات وفي ديله سبع لفات، أو جمل جمالك فين، أو حبة ملح عند الجارة، وأكثر ما كنت أحب هو نط الحبل، لا أكف عن اللعب حتى يقرصني الجوع، فأفتح السلة الصغيرة تفوح منها رائحة الخبز المحمص، كأنها هي رائحة أمي. •••
الحنين إلى أمي يزداد كلما تقدمت في العمر، تجاوزت الستين عاما وأصبحت أمي تتراءى لي في الأحلام، أحس يدها تمسك يدي، وفمها مفتوح تحاول النطق، ثم تموت دون أن تقول شيئا، وأحيانا أراها واقفة داخل فستانها الحريري الأصفر ذي الحمالات الرفيعة تضحك الضحكة الخاصة بها وحدها، وتغني معي: «دي، تي، تسا، دي، تي، تسا، ...»
لا أعرف معنى هذه الكلمات أو الحروف، أمي قالت إنني كنت أغني لنفسي هذه الأغنية قبل أن أتعلم النطق، كان رأسي يهتز حين تجلسني فوق الكنبة، ربما كان رأسي أثقل من جسمي، تحوطني بالوسائد من كل جانب، وتجلسني. كنت طفلة هادئة، أجلس بالساعات، لا أبكي ولا أصرخ (كما كان أخي يفعل)، كل ما كنت أفعله هو أن أهز رأسي وأغني لنفسي: دي، تي، تسا، دي، تي، تسا ...
وجدتني أهز رأسي وأنا جالسة في مكتبة «بيركينز»، أدندن لنفسي باللحن القديم: دي، تي، تسا، دي، تي، تسا ... وأدق بأصابعي على مفاتيح الكمبيوتر كأنما البيانو، أغمض عيني وأحلم بأي كتاب، كنت أطوف المكتبات أبحث عن الكتب فلا أجدها، إنها هنا تحت الكمبيوتر جزء من الحقيقة وجزء من الخيال، عرفت سر المفاتيح، أدق حروف اسمي الأخير «السعداوي»، وأرى فوق الشاشة عناوين كتبي كلها (العربية والإنجليزية). تحت ضلوعي أحس الخفقات مثل قلب الطفلة، يغمرني الفرح، فأعود أدق فوق المفاتيح وأدندن: دي، تي، تسا، دي، تي، تسا ...
يبدو أن صوتي كان مسموعا، رأيت بعض العيون تتجه نحوي، كنت جالسة في قاعة القراءة إلى جواري أستاذ أميركي ذو لحية طويلة صفراء حمراء محروقة بالشمس، رأيته يرمقني بعين جاحظة من وراء عدسة بيضاء تشبه نظرة خالتي فهيمة، النظرة الصامتة المؤنبة تسلبني الفرح إذا فرحت، تسلبني الطفولة، وتنقلني فجأة إلى الشيخوخة، يعود إلى ذاكرتي أنني تجاوزت الستين عاما، أنكمش داخل جسدي كما كنت أنكمش في المدرسة الابتدائية داخل ثوبي القديم، كنت أخجل في طفولتي من الفقر، وعمتي الفلاحة كنت أخفيها من عيون زميلاتي.
أصبحت أخجل من الشيخوخة، أخفي يدي النافرة العروق عن عيون الناس، حين يسألني أحد عن عمري أسكت لحظة، ثم أقول بصوت خافت: ستين، أنطقها بصعوبة، تتكور الحروف في حلقي مثل الغصة، أكاد أختنق، أمد عنقي نحو السماء، أرفع قامتي وأشد عضلاتي، أتحدى السنين والزمن، أرتدي حذائي الكوتش وأجري إلى غابة ديوك، لم أعد أجري كما كنت، وإنما هي الخطوة السريعة التي تشبه الجري، لا زلت أشعر بقوة عضلات الساقين، أدب بقدمي فوق الأرض، قدماي كبيرتان مثل قدمي ستي الحاجة، أدق بهما على الأرض كما كانت قامتها مرفوعة، لا أعرف حتى اليوم كيف جاءتها تلك الشمخة أو ذلك الكبرياء، كبرياء حقيقي ينبع من جسدها الممشوق، ولدت به، تسرب إليها مع الدم من أهلها أو جدتها الغزاوية، لم أكن أعرف من هي الغزاوية وماذا كانت. تمد ستي الحاجة عنقها الطويل إلى أعلها وتقول: أنا مبروكة بنت الغزاوية، تبدو لي أمها أو جدتها الغزاوية كأنما هي الإلهة نفرتيتي أو الملكة حتشبسوت.
كنت أحب ستي الحاجة أكثر من جدتي آمنة أو أي امرأة أخرى من عائلتي أبي وأمي، لكني كنت أكرهها حين تقول: «الولد الواحد بخمستاشر بنت»، أنفجر بالغضب وأضرب الأرض بقدمي: لا يا ستي الحاجة، البنت الواحدة بخمستاشر ولد، وهنا تفرد أصابعها السمراء الطويلة تهزها عدة مرات في الهواء وتردد: كبة بنات! الولد صلاة النبي عليه يرفع رأس أبوه دنيا وآخرة، يحمل اسم أبوه هو وولاده، وبيته يفضل مفتوح، لكن البنت تتجوز وتخرج من بيت أبوها، وولادها يحملوا اسم جوزها ... أضرب الأرض بقدمي وأصرخ: مش حتجوز أبدا أبدا أبدا ... وتضحك ستي الحاجة من جديد حتى تختنق بالضحك وهي تقول: الجواز مصيرك زي كل البنات، ده أمر ربنا يا بنت ابني.
صوتها يعود إلي وأنا أتصور أن العريس هو الذي تصنعه أمي من فضلات الخياطة وتحشو بطنه بالقطن أو الخرق الممزقة، وتصنع له جاكتة سوداء مثل التي يرتديها أبي أو جدي، وسرواله أسود طويل تربطه أمي حول وسطه بشريط رفيع من التفتاه، وطربوش أحمر تغطي به رأسه تصنعه بقطعة من الصوف، ثم تثبت له عينان من الخرز الأسود.
كانت أختي الصغرى «ليلى» تلعب معي بالعرائس، تمسك العروسة والعريس وتلقي بهما من النافذة إلى الشارع، وتصنع أمي لنا عرائس جديدة ... أتربع فوق السجادة على الأرض ... من حولي العرائس أحكي لأختي الحكايات، لا أذكر ما هي الحكايات، لكني أذكر أن أختي ليلى كانت تبكي بالدموع حين تموت العروسة بعد أن يضربها العريس، تغطي العروسة بالملاءة كأنما ماتت، ونمسك العريس لنعاقبه نخلع عنه الطربوش والجاكتة والسروال الأسود الطويل، لم يكن خلع السروال سهلا مثل الطربوش أو الجاكتة، فأمسك المقص وأشق السروال من الوسط حتى القدمين، كنت أظن أنني سوف أرى قطعة اللحم بين الفخذين مثل تلك التي عند أخي، والتي تسميها طنط نعمات: «العصفورة» بطرف المقص، كنت أبحث أنا وأختي عن ذلك الشيء الذي يجعل الزغاريد تنطلق من الحلوق، لم يكن هناك شيء بين الفخذين، وتقول أختي ليلى: لازم هو مخبي العصفورة في بطنه.
وأمسك المقص وأفتح بطن العريس، فلا أجد إلا خرقا من القماش أو القطن، وأرى أختى ليلة تبكي على موت العريس فتغطيه بالملاءة، فيرقد بجوار العروسة، تمسك أختي ليلى العروسة وتهزها كأنما توقظها من النوم أو الموت، وتهمس في أذنها: اصحي يا عروسة اصحي، خلاص العريس مات، وربنا هيبعت لك عريس تاني أحسن منه.
كانت أمي تغضب علينا حين ترى بطون العرائس مفتوحة، تخبئ المقص في مكان مجهول، نفتش عنه في كل مكان دون جدوى، نعثر في درج الدولاب بالمطبخ على السكين، صغير حاد، تقطع أمي به الجبن، له نصل لامع مثل المقص أو شفرة الموسي.
لم تكن الأطفال البنات من عائلة شكري بيه يفتحن بطون العرائس، تضع الواحدة منهن العروسة فوق صدرها تهدهدها كالأم، تضعها في السرير وتغطيها، تغني لها حتى تنام، وحين تصحو ترضعها من ثدي لم ينبت بعد.
لم أكن أحب اللعب مع الأطفال البنات من عائلة أمي، كنت أحب الأطفال من عائلة أبي، ونركب الحمير ونذهب إلى الحقل، نجري بين الزرع الأخضر، نتسابق مع الفراشات، نخلع ملابسنا ونسبح في الترعة أو النيل، نعجن الطين ونصنع منه بيوتا وأشجارا وأجساما لها شكل الحيوانات أو الطيور.
منذ ولدت والقرية أقرب إلي من المدينة، اسمها القاهرة، أهل قريتي يسمونها «مصر»، القرية كفر طحلة يختصرونها في كلمة واحدة «الكفر»، تقع على النيل، يسمونه البحر، فوق الخريطة اسمه فرع رشيد، يلتقي الفرعان رشيد ودمياط ليكونا نهر النيل، لم يكن لها وجود على الخريطة، لكنها موجودة وحقيقة أكثر من المدينة.
رأيت القاهرة لأول مرة وأنا طفلة صغيرة، لا أذكر كم كان عمري، رأيتها مدينة غريبة الشكل، ضخمة الحجم، كأنما هي كائن خرافي يخرج من بدن النيل، كل شيء في المدينة كان يبدو عتيقا، كأنما هو موجود قبل وجودها، قبل وجود أبي الهول أو هرم خوفو، والبيوت كلها مصنوعة من الحجر، يشبه الحجر الذي صنع منه الهرم، حجر كبير مربع، وأسوار البيوت أيضا من الحجر، لم أتصور وأنا طفلة أن وراء هذه الجدران الحجرية يمكن أن يعيش الأطفال.
في خيالي كنت أقارنها بقريتي، لم تكن السماء التي تظلل المدينة هي سماء القرية، الشمس كانت مختلفة والقمر والنجوم، تصورت أنها سماء أخرى وشمس أخرى وقمر آخر ونجوم أخرى.
بيت جدي شكري بيه كان كبيرا من الحجر الأبيض، يحوطه سور عال من الحجر، وحديقة واسعة بها كلب يشبه الذئب، متوحش يكاد يعضني، وليس مثل الكلاب الأليفة في القرية، كنت أطبق بأصابعي الخمس على يد أمي، أخشى أن تفلت يدها من يدي، وحين أمشي في الشارع أتلفت حولي كأنما أمشي فوق مدينة مسحورة، نهاية كل شارع تلتقي ببداية الشارع الآخر، وكلها متشابهة، مقسمة إلى أجزاء منتظمة كبيرة تبدو أكبر من مجموع أجزائها، مصنوعة من الأسفلت والحجر والحديد.
أكانت قاهرة أخرى تلك التي رأيتها في طفولتي؟ كانت تبدو لي غير حقيقية، والناس بشرتهم شاحبة بيضاء كأنما من الطباشير، وخدود النساء شديدة الحمرة مثل خدود العرائس، الشفاه أيضا مدهونة بلون أحمر.
كانت القرية أقرب إلي، بيوتها صغيرة متلاصقة من الطين، طين حقيقي في متناول يدي، الشوارع أزقة صغيرة أرى بدايتها ونهايتها، والتراب فوقها حقيقي، وجوه الناس حقيقية، بشرة سمراء لوحتها الشمس، جلابيبهم من القطن تفوح منها رائحة البشر، عرق وتراب وجميز وذرة وفطير وقمح، ومياه النيل تروي الزرع، وأنا أجري مع الأطفال في الحقول، نقطع من فوق الشجر التين البرشومي، والبرتقال أبو صرة، نأكل الخيار والفول الحراتي، نملأ كفنا بمياه النيل ونشرب.
كان الماء في المدينة يخرج من صنبور حديد، وله طعم معدني، وكل شيء في المدينة حتى الخضروات والفاكهة كأنما هي صناعية غير حقيقية.
كنت طفلة لا أعرف شيئا عن القرية أو المدينة، لا أعرف أنهما رغم الاختلاف في كل شيء يتفقان في شيء واحد، شيء واحد أراه يطل من العيون، شيء لا أعرفه بالضبط، أحسه فوق جسدي قشعريرة، لقد ولدت أنثى في عالم لا يريد إلا الذكور.
هذه الحقيقة كانت تسري في جسدي مثل قشعريرة البرد، أو ربما هي قشعريرة أخرى، غامضة مثل الموت، كنت أمسك القلم وأكتب الحروف، أتركها تعبر عن نفسها دون فاصل بين الحرف والحقيقة، لكن الكلمات فوق الورق لم تكن أبدا هي الحقيقة ، صراع لم يكن ينتهي بيني وبين الكلمات، بدل أن تكون الحروف أداة اتصال تصبح عازلة بيني وبين الأشياء.
أحيانا كنت أكسر القلم، أمزق الورقة، أتوقف تماما عن الكتابة، سرعان ما أعود إليها كما تعود الطفلة إلى حضن الأم، الكتابة في حياتي مثل حضن الأم، مثل الحب يحدث بلا سبب، ومع ذلك لم أكف عن البحث في السبب، لماذا أكتب؟ لماذا قضيت عمري أكتب القصص والروايات؟ وربما كنت أريد شيئا، أن أرسم للعالم من حولي صورتي الحقيقية، تلك التي طمسوها بصورة أخرى، أن أجعل الطفلة الصامتة في أعماقي تنطق، لم أكن تعلمت النطق بعد، لكن جسدي كان قادرا على الإحساس بالقشعريرة، قادرا على إدراك الصمت في العيون، قادرا على رؤية الكلام في الحملقة من حولي، كنت أريد أن أمسك شيئا له نصل حاد شفرة المقص أو الموسى أو سن القلم، وأفتح بطن العريس مع أختي الصغرى.
كنت أمسك القلم وأدوس بالسن فوق الورق، أجعل أختي الصغرى تتكلم، أجعل أخواتي البنات ينطقن رغم إرادة الجميع، أجعل الطفلة في أعماقي تنطق من خلال شخصيات فوق الورق.
كنت طفلة تتطلع حولها في انبهار، ما الذي كان يبهرني في العالم من حولي منذ ولدت؟ كانت الدنيا تبدو في عيني مثل عالم سحري، غير حقيقي، وهناك عالم آخر حقيقي يتخفى وراءه، وعلي أن أبحث عنه.
وربما كانت حياتي كلها هي هذا البحث عن الحقيقي وراء غير الحقيقي، لم أكن أعرف وأنا طفلة من أين يأتي الخداع؟ أهما عيناي؟ أم أن الناس من حولي يصورون لي كل شيء على غير حقيقته، بما في ذلك نفسي؟
أتطلع إلى نفسي في المرآة، أحاول أن أرى نفسي على حقيقتها، لم أعرف وأنا طفلة من يخدعني ويرسم لي صورة غير الأصل.
على مدى سنين العمر كنت أكتب لأجتاز هذه المسافة بين الأصل والصورة، دون جدوى، ولا يمكن للحروف فوق الورق أن تكون هي الجسد. •••
في غابة «ديوك» في الصباح الباكر أمشي سبعة من الكيلومترات، كل يوم أمشي هذه المسافة بالخطوة السريعة ، كما كنت أمشيها حول النيل في الجيزة، أشجار الغابة طويلة من نوع الصنوبر والأرز والبلوط، السماء رمادية بلا شمس ولا مطر، والهواء ساكن، وحدي أمشي بين ظلال الشجر، لا حركة ولا صوت إلا وقع قدمي فوق الأرض، القدم وراء القدم، دب، لب، دب، لب، الدقات تتعاقب في أذني تذكرني بالدقات فوق الباب. تلك الليلة من شهر يونيو عام 1992م، بعد منتصف الليل، كنت نائمة في سريري، والساعة تقترب من الثانية صباحا، الهواء شبه معدوم، صيف القاهرة كان حارا رطبا، والدقات المتعاقبة في أذني كأنما هو حلم أو كابوس.
رأيتهم واقفين وراء الباب، مسلحين ومؤدبين، مرت إحدى عشر سنة، منذ سبتمبر 1981م، حين جاءوا ودقوا الباب، ثم كسروا بأعقاب بنادقهم ودخلوا، لكنهم هذه المرة دقوا الجرس، كنت غارقة في النوم ولم أسمع صوت الجرس، حينما لم أفتح دقوا الباب.
وجوههم تتراءى لي من وراء الضباب، من وراء البحار والمحيط، من وراء الزمن الساقط في العدم، من وراء العقل إذا كان العقل جريمة.
منذ بدأت أكتب وأنا أدرك الإثم، إثم التفكير أو الإحساس أو مجرد التفكير، لكن الكتابة عندي كانت ضرورية مثل التنفس، أحاول عن طريق الكلمات أن أستعيد وجه أمي، ملامحها تضيع من ذاكرتي كأنما لم يكن لي أم، وأحيانا تتجسد أمامي قبل أن أتعلم النطق.
كنت أبكي لترفعني أمي من الفراش وتجلسني، كنت أراها أكثر وضوحا وأنا جالسة، تحوطني بالوسائد حتى لا أسقط من فوق الكنبة، تمسك رأسي وتضع من ورائي وسادة طرية، ملمس يدها كان ناعما، تفوح منها رائحة أمي، رائحة خاصة بها وحدها، تتجسد أمامي على شكل دوائر من الألوان، تتداخل الألوان وتختلط مع حاسة اللمس والشم، ألمس الألوان بيدي، أشمها بأنفي، أتذوقها بلساني، أمصها بفمي من ثدي أمي، أتطلع إلى وجهها.
كان وجهها مستديرا ناعما أبيض بلون الثدي، عيناها واسعتان مملوءتان بالضوء، دائرتان كبيرتان من اللون الأبيض، داخلهما دائرتان من اللون العسلي تشعان الدفء، ناعمتان تلامسان وجهي مثل اللبن الدافئ يسري من الثدي إلى جسدي يملؤني بالنوم، فأغمض عيني ، أطفو فوق مساحات من الضوء الأبيض، أسبح في البحر، لا أرسو على الأرض، أفتح عيني وأصحو فوق صدر أمي كالشاطئ، الشاطئ الوحيد في هذا البحر الواسع، صدر أمي الناعم أحس داخله النبض، النبض في صدرها يدق مع النبض في صدري، هي وأنا قلب واحد داخل الجسم.
فوق الشاطئ تعلمني أمي المشي، أنظر إلى الأرض، أتحسس موقع قدمي، أرفع رأسي فوق عنقي، لم يعد رأسي أثقل من جسمي، عيناي تريان البحر بلون أزرق، الزرقة غارقة في ضوء الشمس، أملأ صدري بالهواء، له رائحة أمي والشمس والعشب وملوحة البحر.
صدر أمي ناعم مثل رمال الشاطئ، أنفاسها تعلو وتهبط مع أنفاسي، تروح وتجيء بين صدرها وصدري، يتخللها الهواء ورائحة البحر، وأنا راقدة فوق الرمل داخل «المايوه» له حمالتان فوق الكتفين، لونه كان أخضر فيه خطوط بيضاء وزرقاء وحمراء، في الصورة الفوتوغرافية تحولت الألوان جميعها إلى لونين اثنين الأسود والأبيض.
لم يبق من هذه الفترة من عمري إلا صورة فوتوغرافية، التقطها مصور عابر في لحظة عابرة من تسعة وخمسين عاما، أحتفظ بهذه الصورة القديمة داخل مظروف في درج مكتبي، ورقة صغيرة انطفأت لمعتها، بهت الحبر فوق الورقة، لكن الحروف بخط يد أمي لا تزال مقروءة، ماتت أمي منذ ست وثلاثين عاما، لكن حروفها أمام عيني موجودة فوق الصورة، بلاج الشاطئ بالإسكندرية، 18 يونيو 1935م.
أرى نفسي راقدة فوق الشاطئ داخل المايوه، فيه خطوط سوداء وبيضاء، إلى جواري أمي داخل المايوه، لونه أسود وأبيض، يخفي صدرها وبطنها، له حمالتان فوق الكتفين، أختي الصغرى «ليلى» تجلس بين ساقي أمي داخل مايوه صغير يشبه الذي أرتديه، في الطرف الآخر من الصورة يجلس أبي عاري الصدر والبطن، يرتدي مايوه بلا حمالات فوق الكتفين، إلى جواره أخي عاري الصدر والبطن مثله، يرتدي مايوه صغير بلا حمالات، لا يغطي من جسمه إلا الجزء الصغير أسفل البطن.
كانت أمي تحملني فوق مياه البحر، تعلمني كيف أطفو فوق الأمواج، أضرب المياه بذراعي وساقي وأضحك، أغطس وأنا أضحك، تضحك أمي وتنشلني من الماء، صوت الضحك يعلو فوق الموجات، الأمواج تعلو ثم تهبط منكسرة على شكل رغاوي بيضاء، اللون الأبيض يذوب في زرقة البحر، والزرقة تذوب في الهواء، البحر والسماء يلتقيان في الأفق البعيد على شكل نصف دائرة، ذراعا أمي من حولي ترفعاني فوق أمواج البحر، رأسي يلامس السماء.
أمي كانت تسبح وحدها كأنما هي موجة في البحر، تصورت أنها ابنة البحر، إن البحر ولدها وهي ولدتني، أنا وهي خرجنا من هذه المياه الزرقاء الدافئة، فوق هذه الرمال الناعمة البيضاء، تحت السماء الزرقاء الصافية، ومن حولنا الأشعة الذهبية من الشمس، إنه بحرنا وشاطئنا وشمسنا وهواؤنا، أنا وأمي هذه هي أرضنا، أصواتنا حين نضحك ينقلها الهواء، تحملها الأمواج إلى أمواج أخرى، إلى بلاد أخرى، بلا نهاية، بلا نهاية، تحوطني ذراعاها فوق الأمواج، ثم تتركني أسبح وحدي، ثم تعود تمسكني وتحوطني، جسمها يصبح جسمي ثم ينفصل عني، أصبح أنا وحدي وهي جسم آخر منفصل، نلعب معا فوق الأمواج هذه اللعبة اللانهائية، الاتصال ثم الانفصال، ثم الاتصال والانفصال من جديد.
في الصورة كان أبي جالسا بعيدا عني وقريبا من أخي، أبي كان يبقى دائما بعيدا، تفصلنا هذه المسافة في الصورة، هذه المساحة فوق الشاطئ، أحيانا تمتد ذراعي في الحلم لأعانق أبي، لكن ذراعاه لا تمتدان نحوي، يحافظ دائما على هذه المسافة بيننا، يحتل مساحته بعيدا عني، جسده طويل فارع القامة، له شارب أسود مربع فوق الشفة العليا، حين يقف فوق رمال الشاطئ يحجب عني البحر والشمس، يقف طويلا عملاقا لا يقترب، ولا ينحني ليطبع فوق خدي قبلة، لم يقبلني أبي مرة واحدة في حياتي حتى مات. كان يقف، عظام ذراعيه وساقيه بارزة تحت الجلد، بشرته سمراء بلون الطمي، يغطيها شعر أسود فوق الصدر، عضلاته بارزة تحت الشعر، باردة الملمس، فيها صلابة، تعلوها قطرات من مياه البحر لها طعم الملح.
كان لجسم أبي فوق الرمال البيضاء خطوط واضحة تحدد وجوده، هذا الوجود المستقل الصلب داخل كون سائل تذوب فيه زرقة السماء في مياه البحر، هذا الوجود سيصبح هو العالم الخارجي ، عالم أبي سيصبح هو الأرض، الوطن، الدين، اللغة، الأخلاق، التاريخ، المستقبل، سيصبح هو العالم من حولي، عالم من الأجسام الذكورية أعيش فيه بجسم الأنثى.
إنه البحر المالح (الأبيض المتوسط)، وأنا راقدة فوق الشاطئ، قماش المايوه من النوع المطاط، يضغط على صدري وبطني، يمنع عنهما الهواء والشمس، أبي يقف عاري الصدر والبطن، يعرض صدره وبطنه للهواء وأشعة الشمس، أخي مثل أبي يرتدي مايوه بلا حمالات فوق الكتفين، صدره وبطنه عاريان تحت الشمس والهواء.
كنت أشد الحمالات من فوق كتفي، أكشف صدري وبطني للهواء والشمس، ترتفع يد خالتي نعمات في الهواء وتضربني، وصوتها يخرق أذني: عيب! وأصرخ: إشمعنى طلعت! يعود إلى صوتها مثل نعيق البوم: هو ولد وانتي بنت!
كانت هذه العبارة تخرق أذني منذ ولدت، تدخل فمي في مياه البحر المالح: «هو ولد وانتي بنت»، أحس الملوحة في حلقي، ملوحة غريبة، زرقة البحر تتحول إلى مسحوق من الملح، الشمس تتحول إلى شيء يحرق الجلد، الألوان الخضراء والحمراء الذهبية كلها تصبح سوداء أو رمادية.
ربما هو الغضب بدأ ينمو في أحشائي مثل عشب البحر، حشائش رفيعة سوداء كنت أراها تسبح داخل المياه الزرقاء، ترسب في القاع ثم تطفو، تلفظها الأمواج فوق الشاطئ، تجف تحت الشمس مثل الثعابين أو قراميط البحر الميتة.
كان الغضب لا يزال وليدا في أحشائي كالعود الصغير الأخضر، الخضرة تذوب في الزرقة، والزرقة تذوب في اللون الأسود، تتداخل الألوان ومعها الغضب وأحاسيس أخرى مشتقة من الغضب.
أخي يكشف صدره للهواء والشمس، وأنا أخفي صدري، صدري عورة تستوجب الإخفاء، كلمة «عورة» تخرق أذني مثل المسمار، كلمة نابية، كان صدري أملس مثل صدر أخي بلا نهدين، كنت طفلة صغيرة أصغر من أخي، لم أكن تعلمت الكلام أو الرد على الكبار مثل أبي، لكن كنت قد أصبحت داخل ذلك العالم الكبير، عالم أبي، يتحدد فيه موقعي لمجرد أنني بنت.
كان أبي يتطلع نحو السماء، في الليل قبل العشاء، يجلس في الشرفة البحرية يطل على النجوم، أمي في المطبخ تجهز الطعام، أخي إلى جوار أبي يتطلع معه إلى السماء، أبي يخاطب أخي ولا يخاطبني، يقرأ القرآن كتاب الله.
تصورت في طفولتي أن هذه السماء ونجومها من اختصاص أبي وأخي، يشير أبي بإصبعه إلى مجموعة من النجوم تلمع بعيدا في الظلمة، ويقول لأخي: هذا نهر المجرة، وهذا هو المريخ، وعطارد، والمشترى، و...
كان أبي يحكي لنا عن آدم، كيف فضله الله على الملائكة، وأمر إبليس أن يسجد له، كيف سجدت الشمس والقمر والكواكب لسيدنا يوسف، أستمع إلى أبي مفتوحة الفم متسعة العينين، أنام على صوت أبي وهو يحكي: أنزلق في النوم كأنما أغرق في البحر، أغرق حتى ألمس القاع، وأشرب الماء المملح، أمي أصبحت غائبة، ذراعان غائبتان، لا أحد ينتشلني من القاع، أصحو من النوم في حلقي طعم الملح، فوق الفراش من تحتي بلولة الماء المالح لها رائحة البول.
أنهض من السرير منكمشة في خزي، أحوط صدري بذراعي أخفي عورتي، أخفي بلولة السرير تحت الغطاء، تأتي خالتي نعمات وتكشف الغطاء، ويرتفع صوتها في جميع أنحاء البيت تعلن الفضيحة في الكون.
كانت أمي تنسحب من حياتي بالتدريج، لم أعد أراها إلا في المطبخ، لم أعد أسمعها تتكلم، تجلس معظم الوقت تستمع إلى حكايات أبي ... أبي ينتقل من الحديث عن الله وسيدنا محمد إلى الحديث عن الملك والإنجليز، بعد ذلك يتحدث عن الناظر، كنا في مدينة الإسكندرية، وأبي يشتغل مدرسا في مدرسة العباسية الثانوية ورئيس المدرسة اسمه الناظر.
المسافة بيني وبين أمي كانت تتسع، المسافة بيني وبين أبي تضيق، أصبحت أمي تجلس في الطرف الآخر من الكنبة، بعيدا عني، يزداد البعد عاما وراء عام، يمدد أبي ساقيه الطويلتين ويحتل المساحة كلها، مساحة أمي تصغر وتصغر، تنكمش حول جسمها وهي جالسة، تهدل ثدياها من كثرة الترضيع، اختفى خصرها مع ارتفاعات البطن بالحمل، تراكم عليها الشحم بلون شاحب.
أمي لم تعد تنتمي إلى العالم الذي يضم أبي وأخي وأنا، إنها تنتمي إلى عالم آخر، ما إن أتخيله حتى يقشعر جسمي ، عالم المطبخ تفوح منه رائحة الثوم مع البصل ، يملؤه الدخان أو الهباب يتصاعد عن وابور الجاز، عالم أبي كان هو الشرفة البحرية، تطل على مشتل الزهور والنجوم في الليل، والله في السماء، وسيدنا محمد، والملك والإنجليز والناظر. «اقلب دواية الحبر على تقريرك يا أستاذ!»
إنه صوت أبي يخاطب الناظر، كان صوته يدوي في الشرفة البحرية، وهو يحكي لنا، صوته يملأ الكون، تسري القشعريرة في جسدي مثل برد الشتاء، أغمض عيني، أتفادى الضوء مع أن الليل مظلم، أخفي عن أبي شيئا لا أريد أن يراه، أهما عيناي، كنت أخفيهما، أخشى أن يرى فيهما أحشائي حيث العشب الراسب في القاع بلون الحبر الأسود.
حادث ختان
في الشرفة البحرية، في بيتنا بالإسكندرية، أجلس أستمع إلى أبي، بيتنا في الدور الأرضي من عمارة عالية ... للشرفة سلالم تقود إلى حديقة خلفية صغيرة لها سور عال، من وراء السور أسمع صوت القطار يأتي من عالم آخر، قويا يرج أرض البيت وأرى الجدران تهتز، هذه الجدران سوف تسقط، أبي قال: إن العمارة كبيرة متينة، لا يمكن أن تسقط، أصدق كل ما يقوله أبي، أحفظ كلامه عن ظهر قلب، أستمع إلى حكاياته كأنما هي الحقيقة، أرمق جسده الضخم، أنا ابنة هذا الرجل القوي الذي ينتصر في كل المعارك. كان أبي يخوض معارك كثيرة، مرة مع صاحب العمارة التي نسكن فيها، ومرة مع ناظر المدرسة، ومرة مع الإنجليز أو الملك أو الألمان أو الأعداء الآخرين، لا أعرف شيئا عن هؤلاء. دخلت المدرسة في الإسكندرية، لا أذكر من المدرسة إلا اسمها، محرم بك للبنات، الشارع الذي نسكن فيه اسمه «محرم بك»، شارع طويل مخيف، يقود إلى الآخرة أو العالم الآخر، أجري من البيت إلى المدرسة، ثم أعود جريا أخشى التوقف في الشارع وإلا خطفني أحد اللصوص.
أسمع الحكايات عن اللصوص، في مدينة الإسكندرية قصة تجري على ألسنة الناس: «ريا وسكينة»، ماتت الاثنتان قبل أن أولد، قصتهما ظلت تعيش لأكثر من نصف قرن، يقبض البوليس على لص أو لصة تسرق طفلا ، فيستعيد الناس ذكرى «ريا وسكينة».
قبل أن أخرج للمدرسة تخلع أمي من أذني الحلق الذهبي الصغير: «ريا وسكينة كانوا بيسرقوا الأطفال اللي لابسين حلقان دهب.» الأطفال ليس لهم قيمة في نظر اللصوص إلا إذا كان حلق دهب في الأذن. في الليل وأنا نائمة أشد الحلق، أحاول أن أخلعه من أذني، له مسمار ذهبي رفيع وقفل صغير يغلق وراء حلمة الأذن، يحتك بالوسادة كلما حركت رأسي، أشده في الصباح ترى أمي بقعة الدم فوق وسادتي، حلمة أذني حمراء متورمة، الثقب حيث المسمار الذهبي ينزف، كنت أظن أنني ولدت بهذا الثقب في أذني، أن كل البنات يولدن بهذا الثقب من أجل أن يدخل فيه الحلق، أرمق أذن أخي بطرف عين، أذنه سليمة بلا ثقب، بلا مسمار يؤلمه في الليل.
عرفت أنها الداية «أم محمد»، المرأة التي أغرقتني في «الطشت» حين ولدت، جاءت بعد أسبوع واحد من ولادتي، بين أصابعها الغليظة الخشنة إبرة طويلة حادة، وضعتها على النار، أصبح لونها أحمر، غرزتها في حلمة أذني. هذه المرأة تكن لي العداء؟! ثأر قديم بينها وبين جنس الإناث؟ تكره نفسها إلى ذلك الحد؟ عيناها السوداوان يكسوهما بريق عجيب وهي تثقب آذان البنات أو بظورهن، مزيج من الفرح والتشفي والانتقام، جسدها السمين يترجرج داخل الجلباب الأسود، تفوح منه رائحة دم قديم وعرق عفن مع رائحة الحناء الحمراء أو السوداء، وصبغة اليود والسبرتو الأحمر واللبان الدكر والبخور والشبة.
تضفر شعرها المصبوغ بالحنة الحمراء ضفيرتين رفيعتين، تربطهما بدوبارة من صوف الماعز أو فروة الخروف، تلفهما داخل منديل أسود، تشده بكل قوتها حول رأسها، تربطه فوق جبهتها على شكل عقدة.
في الجنازات ومآتم القرية أرى النسوة يربطن رءوسهن بالمنديل الأسود، في أول أيام العيد تخرج النسوة لزيارة الموتى في القبور، رءوسهن مربوطة بالمناديل السوداء، فوق جبين كل واحدة منهن العقدة.
العقدة فوق جبين الداية أم محمد لم تكن تشبه أي واحدة أخرى، سوادها داكن، حجمها كبير، لها أربعة أطراف مشرشرة «الأوية» تهتز مع حركة رأسها، تتربع عند منتصف جبهتها مثل عقرب أسود يرمقني بعين واحدة خالية من الرموش.
كنت أسمع صوتها قبل أن تدخل من الباب الخارجي يزعق: يا أهل الدار! تهتف ستي الحاجة منتصبة: «عزرائين جه.» من هو عزرائين؟ مندوب من عند ربنا يهبط من السماء إلى الأرض ليقبض على أرواح الناس دون أن ينتبهوا.
أسمع صوتها فأختفي، منذ ولدت أراها ترمقني بالعين الواحدة المفتوحة كالدائرة لا يطرف لها جفن، تضيق عينها وهي ترمق بطني أسفل البطن، بين الفخذين، لم تكف عن النظر إلى القطعة الصغيرة من اللحم - يسمونها «الظنبور»، (وفي اللغة الفصحى «البظر») - لم تكف عن النظر إليها تستعجل بروزها، كأنما كامنة في اللحم، ما هي إلا نظرة من عينها فتبرز إلى السطح، تمسك الموسى بأصابعها الغليظة الخشنة، تحميه فوق قطعة حجر، يصبح السن أحمر كالنار، تشد البظر بإصبعين تستأصله من جذوره بسن الموسى، تدفنه في حفرة بالأرض، تردمه بالتراب، تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاث مرات، تغسل يديها من الدم في الطشت وتقرأ الفاتحة ثلاث مرات.
تلاوة القرآن على الجرح النازف كصبغة اليود تقتل الجراثيم وتطهر الجروح، التطهير، الطهارة، المرأة المطاهرة هي الداية التي تقوم بعملية «الطهارة» (الختان باللغة العربية الفصحى).
في مصر عام 1937م، في السادسة من عمري، كانت عملية «الختان» تجرى لجميع البنات قبل أن يدركهن الحيض، لم تكن واحدة منهن تفلت في القرية أو المدينة، في الطبقة العليا أو الطبقة الدنيا، لم تفلت أمي زينب هانم، لم تستطع أمي أن تنقذني أو أي واحدة من بناتها، أنقذت ابنتي، وبنات كثيرات أخريات حين بدأت أكتب منذ أربعين عاما.
في السادسة من عمري لم أستطع إنقاذ نفسي، أربع نسوة في حجم الداية أم محمد تجمعن حولي، مكتوفة الذراعين والساقين، دقوا يدي وقدمي بالمسامير كالمسيح المصلوب.
عرفت من زميلتي القبطية في المدرسة أن المسيح صلبوه، من هو المسيح؟ قال أبي: إنه سيدنا عيسى عليه السلام، وما صلبوه وما قتلوه ولكن شبه لهم؛ كما جاء في القرآن. خالتي نعمات تقول عن صديقتي القبطية: «نصرانية»، «عضمة زرقة»، رايحة جهنم. كان اسمها مريم، كانت في السادسة من عمرها ، أمسكتها الداية أيضا، قطعت من بين فخذيها البظر، لم تكن البنات المؤمنات بالمسيح يفلتن كالمؤمنات بسيدنا محمد. عمتي رقية تقول: النبي أمر بقطع بظور البنات!
لم أتصور أن النبي محمد أو النبي عيسى أو أي نبي آخر يصدر أمرا مثل هذا.
منذ طفولتي لم يلتئم الجرح العميق في جسدي.
الجرح الأعمق في النفس، الروح، لا أنسى ذلك اليوم، صيف عام 1937م، مر سبعة وخمسون عاما في ذاكرتي كأنما الأمس.
راقدة من تحتي بركة الدم، توقف النزيف بعد أيام، نظرت الداية بين فخذي وقالت: الجرح خلاص خف والحمد لله، الألم ظل كالدمل غائرا في اللحم، لم أنظر بنفسي لأعرف مكان الألم.
لا أستطيع النظر إلى جسدي العاري في المرآة أو هذه المنطقة المحرمة المحفوفة بالإثم والعار!
لم أعرف ماذا في جسدي من أشياء أخرى تستوجب القطع، في الليل أرقد مفتوحة العينين، لا أعرف ما يخبئه القضاء والقدر، الغيب لا يعلمه إلا الله، محفوف بمخاطر، جسدي مثل الآخرين أصبح ضدي يفاجئني بأشياء مفزعة.
في التاسعة من عمري رأيت النزيف الأحمر، يسمونه في العربية الفصحى «الحيض» أو «المحيض»، جاء ذكره في القرآن:
ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ، فاجأني الأذى ذلك اليوم، فتحت عيني في الصباح فوجدت سروالي غارقا في الدم، هل تسللت الداية في الليل وقطعت شيئا آخر من بين فخذي؟ عفريت من الجن، أو شيطان من الشياطين، خلقه الله في أجسام البنات، دخل من تحت عقب الباب ومزق غشاء العفة؟ هذا الغشاء يفرق البنت العذراء عن المرأة المتزوجة، الدليل الوحيد على حسن الأخلاق.
هل أراد الله أن يعاقبني؟! أصابني بمرض البلهارسيا، سوف أنزف الدم حتى أموت، مات جدي حبش وأبوه السعداوي بالبلهارسيا. اختفيت تحت الغطاء أدعو الله أن يغفر ذنوبي، أخرج من السرير لأتسلل إلى دورة المياه، أخفي الإثم والعار عن الجميع، حتى أمي، هل يستجيب الله لدعائي قبل أن يعرف أحد في البيت ؟ مغفرة الله تحدث ساعة أو نصف ساعة، أحمدك يا رب ، غفرت ذنوبي، ثم يغرق السروال مرة أخرى باللون الأحمر الداكن، أعود أغسله وأتوضأ وأصلي، أدفن وجهي في صوت سجادة الصلاة، أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم، أركع وأسجد، لا أكف عن الاستغفار.
في حركة من حركات السجود اندفع شيء بين ساقي، صنع فوق سجادة الصلاة بقعة حمراء كبيرة، السجادة المقدسة عادت بها ستي الحاجة من أرض الحجاز، سجادة عجمية صغيرة من الصوف، رمادية اللون، مرسوم عليها الكعبة الشريفة.
الدم النجس يلوث الحرم المقدس!
كانت فضيحتي بجلاجل، الجيران عرفوا الخبر، تناقلته الألسنة من عائلة أبي وأمي في القرية والمدينة.
كيف يكون الدم في جسمي نجاسة؟ كلمة «النجاسة» سمعتها أول مرة في حياتي «الحيض دم فاسد»، لا يحق للبنت خلال أيام الحيض أن تلمس مقدسا، مثل كتاب الله، لا يحق لها الصلاة، أو الصيام، أو قراءة القرآن، لسانها يصبح نجسا، يدها إذا صافحها أحد تفسد الوضوء والصلاة.
أصبحت لا أكف عن دخول الحمام، لم تكن البقعة الحمراء تتلاشى، وإن تلاشت تترك من خلفها لونا أصفر أو أسود أشبه بظلها، إن تلاشى الظل بقيت الرائحة كالروح الشريرة تحوم حول الجسد.
أصابني المرض النفسي، نوع من الهوس، لا أكف عن غسل يدي بالماء والصابون طول النهار، مرض يصيب البنات والنساء، المسلمات منهن أو القبطيات أو اليهوديات، كانت لي زميلة يهودية، في التوراة تحدث الله عن الحيض، يسميه «الطمث»: «في أيام الطمث تكون المرأة نجسة سبعة أيام، كل شيء مقدس لا يمس، وإلى المقدس لا تجيء حتى تكمل أيام تطهيرها، إن حبلت المرأة وولدت ذكرا لا تطهرها تأتي بخروف وفرخ حمامة أو يمامة ذبيحة تقدمها لربها، فيكفر عن ذنوبها وتطهر من دمها.»
في القرآن لم يكن الحيض «أو المحيض» إلا «أذى» فقط، كلمة «أذى» بدت لي بريئة إلى جوار الكلمات الأخرى في التوراة، كلمة «حيض» بدت أفضل من كلمة «طمث». تتضاعف نجاسة الدم حين تكون المولودة أنثى! تطهير الدم النجس يكون بتقديم فرخة أو خروف مشوي للرب! لم يطلب الله من النساء في القرآن أي فرخة أو خروف مقابل الطهارة، شكرت الله كثيرا لأنه خلق أبي مسلما وليس يهوديا. كنت أظن أن المسلمين يؤمنون بالقرآن فقط، أبي قال: إن التوراة والإنجيل كليهما «مثل القرآن»، أنزلهما الله إلى الناس هدى ونورا، على المسلمين أن يؤمنوا بكتب الله الثلاثة.
وكأنما ألقى أبي فوق رأسي كوز ماء صاقع في ليلة شتوية.
كنت أصدق ما يقوله أبي، في الشرفة البحرية في الإسكندرية يجلس ونحن الأطفال حوله، ينظر إلى أخي «طلعت» وهو يتحدث، يخصه بالحديث، لم يكن يتجه نحوي إلا حين يشعر بالعطش، أو يجف حلقه: هاتي كباية مية يا نوال.
وحين تنهض أمي لإعداد مائدة العشاء: قومي ساعدي مامتك يا نوال.
لم أكن أنهض من مكاني، أود الاستماع إلى حكاياته، خاصة حكاية سعد زغلول وثورة 1919م. شارك فيها أبي، كان شابا في العشرين من عمره، طالبا في كلية دار العلوم بالقاهرة، خرج مع الطلاب يهتف ضد الإنجليز، يلقي عليهم الطوب والحجارة، ثم بدأ الرصاص يتطاير في الجو، أصابته شظية في قدمه، حمله زملاؤه إلى نقطة إسعاف، عاد إلى كفر طحلة فوق عربة كارو تجرها حمارة، استقبلته أمه ومن خلفها النساء بالزغاريد، أصبح في نظر أهل القرية بطلا مثل سعد زغلول.
كلمة «بطل» ينطقها أبي، عيناه تلمعان بالبريق، منذ الطفولة يحلم بأنه يحمل سيفا يضرب به الأعداء، يحرر الوطن. يسمع أمه تغني مع نساء القرية: يا عزيز يا عزيز، كبة تأخذ الإنجليز، كانت طفلة في الثانية حين دخل الإنجليز مصر عام 1882م.
يحكي أبي عن جدته الغزاوية، ماتت قبل أن يولد، سمع حكاياتها من أمه ونساء القرية، كانت طويلة فارعة القامة، تخرج من الفجر، فأسها على كتفها، وتعود عند الغروب، لم تكن أجيرة لأحد، تملك قطعة أرض صغيرة ورثتها عن أمها، لم يرها أحد راقدة في الدار، تلد طفلها وهي تعمل في الحقل، تحمله في القفة وتعود إلى الدار، حين دخل الإنجليز إلى مصر تجمع أهل القرية، الرجال والنساء ، ومنهم الغزاوية، حاملين الفئوس مستعدين للقتال حتى الموت، حياتهم كان أشبه بالموت .
يحكي أبي عن: حادث دنشواي، ثورة عرابي، قبل الاحتلال البريطاني، الخديو والملك فؤاد، أول دستور مصري عام 1923م، أول انتخابات عام 1924م، أصبح سعد زغلول رئيسا للوزارة، خلفه النحاس، ثم جاء إسماعيل صدقي عام 1930م، اشتد الجوع بالفلاحين والعمال، بدأت المظاهرات والإضرابات، آخر إضراب قام به عمال السكة الحديد، أعلن إسماعيل صدقي الأحكام العرفية وأمر الجيش بإطلاق الرصاص على العمال، عاد حزب الوفد إلى الحكم، أصبح النحاس رئيسا للوزارة، ودخل في مفاوضات مع الإنجليز، وقع معاهدة 1936م، والمظاهرات والإضرابات لم تكن تكف.
كان يزورنا في الإسكندرية أقارب أبي من الفلاحين، بعضهم هجر القرية من شدة الجوع، أصبحوا عمالا في شركة النسيج بالمحلة الكبرى، في مصانع شبرا الخيمة في القاهرة، وفي شركة الترامواي بالإسكندرية، يتقاضى الواحد في اليوم ثلاثة قروش، يشاركون في الإضرابات مطالبين برفع الأجور، ويهتفون مع الطلبة ضد الحكومة والإنجليز.
في إحدى المظاهرات تجمع طلبة مدرسة العباسية الثانوية في الفناء الواسع، يرددون الهتافات ضد الحكومة، خرج الناظر إلى التلاميذ، هزءوا به هاتفين: يسقط الناظر، عاد إلى مكتبه عقد اجتماعا عاجلا للمدرسين، قال الناظر لأبي: يا سيد أفندي، أنت محبوب من الطلبة، ممكن يسمعوا كلامك ونخلص من الشغب ده. - يا حضرة الناظر، دي مظاهرة وطنية مش شغب. - يا سيد أفندي، لازم الطلبة يرجعوا الفصول. - يا حضرة الناظر، البلد كلها خرجت مظاهرات، حتى العمال والفلاحين، ليه نمنع الطلبة؟ - يا سيد أفندي، ده مش وقت نقاش، لازم تخرج حالا للطلبة في الحوش وترجعهم الفصول.
أطاع أبي الناظر وخرج إلى الطلاب في فناء المدرسة، أحاطوا به يهتفون: يحيا السعداوي، حملوه فوق الأعناق، خرجوا إلى الشارع، وجد نفسه يهتف معهم: يسقط الإنجليز، تسقط الحكومة، تحيا مصر حرة!
وعمل إيه الناظر يا بابا؟ نسأله نحن الأطفال في نفس واحد، وأنفاسنا تلهث، الضربات تحت ضلوعنا تصعد وتهبط.
يكون أبي قد نهض واقفا يصور لنا كيف كتب الناظر تقريرا ضده، ألقاه أمامه فوق المكتب، أبي أمسك التقرير وألقى به فوق مكتب الناظر. «اقلب دواية الحبر على تقريرك يا حضرة الناظر.»
في ركن الشرفة البحرية كنت أجلس، أرمق أبي الفارع القامة، عيناه تلمعان بالزهو، أنا ابنة هذا الرجل الوطني الشجاع، لا يخاف أحدا، لا الناظر ولا الملك ولا الحكومة ولا الإنجليز ولا العمدة في كفر طحلة، «لا أخاف إلى الله سبحانه وتعالى.» هكذا كان أبي يقول ... ويردد دائما: أنا مش باخاف لا من النزرا ولا من الوزرا (يعني النظراء والوزراء).
عام 1938م، وأنا في السابعة من العمر انحفر صوت أبي في ذاكرتي، أصبحت لا أخاف أحدا إلا الله، إن هددني أحد بكتابة تقرير ضدي أقول بصوت أبي: اقلب دواية الحبر على تقريرك.
كم من التقارير كتبت ضدي بعد أن اشتغلت في الحكومة! تقارير سرية بحسب القانون، يكتبها الرؤساء ضد المرءوسين في الوزارات والإدارات، في كل وزارة أيضا جهاز بوليس يسمونه «مكتب الأمن»، يكتب التقارير، يرفعها إلى وزير الداخلية أو رئيس الدولة، العمدة كان في طفولتي كأنما رئيس الدولة، أهل القرية يقولون إنه أكبر رأس في البلد، يمشي من بعيد فوق الجسر حوله الرجال، جدران بيته عالية تعلو فوق الجسر تطل على النيل، ثلاثة أدوار بالطوب الأحمر يسمونه «الدوار»، يعلوها البرج له نوافذ مستديرة صغيرة أعلى من منارة الجامع، شرفتها صغيرة من الطين النيئ، يقف عليها الشيخ مرزوق ليؤذن.
بيوت القرية مثل الجامع مبنية بالطوب النيئ، الطين الممزوج بالتبن، زريبة الحيوانات جزء من البيت، الأرض ترابية عارية من الأثاث، حصيرة من القش، زير مملوء بالماء من النيل الذي يسمونه البحر، صندوق خشبي مزركش الألوان مركون إلى الجدار الطيني، داخله بعض الجلابيب الجديدة أو القديمة، ومنها جلباب العروس المشجر، المبقع بالدم منذ ليلة الزفاف.
لم يكن البيت يزيد على دورين، يسمونه «الدار»، بينهما سلم من الطين أو الخشب، يصعد إلى السطح، حيث أكوام من عيدان الذرة أو القطن الجافية، أقراص «الجلة» - روث البهائم المجفف تحت الشمس - زلع الجبنة الحادقة والمخلل، يتلوى داخلهما دود أبيض صغير «دود المش».
كان الجسر عاليا أعلى من البيوت، يمتد من كفر طحلة إلى قرية أخرى اسمها طحلة، تفصلهما مسافة كيلومتر ، تتلاصق بيوت الفلاحين، تتساند بعضها إلى بعض، راقدة في حضن الجسر بلون الطين الأسود.
أتمشى فوق الجسر مع زينب ابنة عمتي بهية، عمرها من عمري، تتطلع بعينيها إلى بيت أعلى من بيت العمدة وتقول: «دوار علما باشا، أغنى عيلة في طحلة، عندهم ألف فدان وخمسون عبدا، جدك شكري بيه أبو مامتك أبوه الشيخ الطحلاوي الكبير، كان عنده أرض وعبيد زي علما باشا، لكن الأرض راحت منهم والعبيد راحوا، ومابقاش لهم في الكفر إلا الدوار.»
كان دوار جدي شكري بيه لا يزال قائما، بيت ضخم من دورين، مبني بالطوب الأحمر، له حوش واسع من الداخل، شرفات ومشربيات من الخشب المزدوج، مغلق طول الوقت، لم يكن أحد من عائلة أمي يزور القرية إلا وقت الحرب، يهاجر أهل المدينة إلى الريف.
حين تزوجت طنط هانم (شقيقة أمي) من زوجها التاجر في الموسكي، جاءت به إلى القرية في زيارة يومين، أرادت له أن يرى أثرا عريقا من مآثر العائلة الكريمة.
كان هناك بعض دوارات قليلة، أربعة أو خمسة، يملكها أصحاب العزب الكبيرة، لهم أراضي وحقول تمتد مع امتداد الجسر حتى طحلة والرملة أو «بنها» عاصمة القليوبية.
العمدة كان صاحب السلطة بلا أملاك كبيرة، له أعوان من الرجال، يرأسهم شيخ الخفر.
مصر كانت تعيش عصر الإقطاع، كبار الملاك في القرية يملكون 98٪ من الأراضي، بقية الأرض 2٪ يملكها 80٪ من الفلاحين (لا تزيد ملكية الواحد منهم على ثلاثة أفدنة)، بقية أهل القرية 20٪ لا يملكون شيئا على الإطلاق، يعملون في أراضي تحت اسم «الأجراء»، بعضهم لا يشتغل إلا في موسم الحصاد أو جمع القطن.
كانت «ستي الحاجة» تنتمي إلى طبقة صغار الفلاحين ... تمتلك قطعة من الأرض، ثلاثة أفدنة، ورثتها عن أمها الغزاوية، ثلاثة ملايين من الفلاحين مثل ستي الحاجة، إنهم أحسن حالا من الأجراء؛ لم يكن أطفالهم يموتون من الجوع، يموتون من الإسهال أو النزلات المعوية فقط، طعامهم ليس الخبز الحاف بدون غموس، إنهم يغمسون بالجبنة الحادقة مع مخلل الخيار أو الليمون الأخضر الصغير.
سعر الأرض يرتفع على الدوام ، دخل الفلاح ينخفض العام بعد العام، المضاربات في بورصة القطن لصالح الإنجليز وكبار الملاك، المضاربات بالأراضي الزراعية يربح منها الإقطاعيون عن طريق رفع الإيجارات.
اشتغلت ستي الحاجة في أرضها عشرين عاما متصلة دون أن تدخر شيئا إلا مصاريف أبي ليتعلم، كان يمكن أن تشتري فدانا من الأرض. «الأرض تزيد فدانا أو تنقص فدانا، ولا حاجة تتغير في عيشة الفلاحين المرة يا بنت ابني، لكن التعليم للولد حلو، يخليه يتوظف في الحكومة، ويبقى راجل ملو هدومه.»
كانت امرأة لا تعرف القراءة، لم تقرأ في حياتها كتابا واحدا، لم تقرأ القرآن كتاب الله، تقول للعمدة: أنا عارفة ربنا أكثر منك يا عمدة! ربنا هو العدل، عرفوه بالعقل!
أخذتني ستي الحاجة معها إلى العمدة ذات يوم، كنت في السابعة من عمري وهي في الخمسين، قوية الجسم، فارعة القوام، العمدة إلى جوارها قصير سمين مترهل، بشرته بيضاء لم تعرف الشمس، مد يده وصافحني، بضة ناعمة صغيرة بالنسبة ليد جدتي الكبيرة الخشنة، لم تلمس أنامله الفأس ... بين أصابعه سبحة صفراء حباتها تلمع، في يده الأخرى مصحف حروفه منقوشة بماء الذهب.
كان جالسا فوق مقعد له مسند عال، يرتدي قفطانا أسود اللون، حوافه مطرزة بخيوط ذهبية، كانت ستي الحاجة واقفة أمامه داخل جلبابها الأسود المترب، من خلفها الفلاحون والفلاحات وجوههم ضامرة ممصوصة حتى آخر قطرة، بشرتهم مشققة كالأرض «البور».
لم يكن وجه ستي الحاجة ضامرا، يدها كانت مثل أياديهم، مشققة كبيرة الحجم، لكنها مرفوعة تشوح بها في وجه العمدة: الكلمة شرف يا عمدة! فين كلمتك؟
امرأة فلاحة قوية بالفطرة، مالكة أرضها، ليست أجيرة لأحد، كاملة الأهلية بعد أن مات زوجها حبش.
لم تكن ستي الحاجة الأرملة الوحيدة في القرية، كان هناك أرامل كثيرات، فلماذا هي أكثرهن قوة؟ «ستك الحاجة ورثت أمها الغزاوية.»
بعد موت زوجها أصبحت ستي الحاجة تشتغل بفأسها في أرضها من طلوع الشمس، تأتيها آلام الولادة في الحقل، تتربع فوق الأرض، تنفتح ساقاها، ترى الرأس بشعره الأسود محشورا بين عظمتي الفخذ، تملأ صدرها بالهواء في شهيق عميق، تفرغه بكل قوتها ضاغطة بكفها على بطنها، يندفع الجنين خارجا مفترشا الأرض، تمد ذراعها الطويلة لتمسك الفأس، بخبطة واحدة تقطع الحبل السري، بخبطة ثانية تقطع طرف الدوبارة من سروالها، تعقدها حول «السرة»، تلف المولود في جلبابها القديم، تتكئ بذراعيها في زفير طويل، تضغط بطنها بكفها الكبيرة ... تندفع المشيمة كرغيف من الدم المتجمد، تردمها في التراب، تمسح الدم عن فخذيها بورق الذرة الجافة، ترتدي سروالها الواسع من الدمور، تشده حول وسطها بالدوبارة، تفرش القفة بالعشب الناعم، وتضع مولودها، تغطيه بورق الذرة الأخضر ... تعود إلى دارها حاملة القفة على رأسها، من خلفها الجاموسة.
في يوم من الأيام دخل عليها ابنها السيد (أبي)، عمره عشر سنوات، ينزف من أنفه، ضربه شيخ الخفر، مسحت الدم من أنفه بخرقة قديمة، شدت طرحتها السوداء من فوق مشنة الخبز، لفت بها رأسها، انطلقت كالنمرة الغاضبة، شيخ الخفر كان واقفا من حوله الرجال ... رفعت كفها الكبيرة المشققة في الهواء: ما انخلق اللي يضرب ابني!
في الليل أصبح حديث القرية هذه الحكاية، مبروكة بنت الغزاوية ضربت شيخ الخفر، يتهامس الرجال والنساء، جدعة بنت جدعة، امرأة تساوي عشرين رجلا، لم يحدث في تاريخ القرية أن صفعت امرأة شيخ الخفر، أصبح لها هيبة ... الكل يلجأ إليها.
الغزاوية أم ستي الحاجة كانت لها سمعة أخرى في القرية، شتمت العمدة أمام بيته من حوله الخفراء، أرسل إليها في الليل رجلا يلف رأسه بعمامة كبيرة، في قدميه صندل من جلد الماعز، يمسك في يده عصا صفراء مقسمة بدوائر سوداء، في الصباح وجدوا باب دارها مفتوحا، في المدخل يرقد كلبها مرزوق رأسها معوج، فوق التراب في الزريبة رآها راقدة، عيناها مفتوحتان شاخصتان إلى السماء، حملوها فوق رءوسهم، ساروا بها في الطريق الترابي، نساء ورجال أقدامهم حافية تلامس الأرض بلا صوت، يسيرون الصف وراء الصف بجلابيبهم البالية، عند مدخل القرية حفروا لها المقبرة، فرشوها بورق الذرة الأخضر، بنوا فوقها مقاما بالحجر والإسمنت.
كل خميس كانت النساء تزورها، الرجال يمرون عليها في الأعياد، يتطلع العمدة إلى ضريحها يسأل الناس من بناه؟ لا أحد يعرف من بناه، يبنون بيوتهم بالطوب النيئ، لا أحد يعرف الإسمنت، ليس في القرية حجر أبيض. •••
حكايات كثيرة أسمعها عن ستي الحاجة وأمها الغزاوية، للنساء تاريخ غير مكتوب، تتناقله الألسنة جيلا بعد جيل، أجلس إلى جوار ستي الحاجة أستمع إلى الحكايات، أمسك ذيل جلبابها إذا ذهبت إلى الحقل، أعود معها إلى الدار، أدخل معها إلى غرفة خلفية تسميها «قاعة الخزين» مملوءة بالقمح حتى السقف.
لم تعد تزرع القمح بيدها، تنقيه من الحصى فوق الحصيرة من القش، تحمله واحدة من عماتي فوق رأسها إلى الطاحونة ليصبح دقيقا ناعما أبيض، تعجنه ستي الحاجة في وعاء كبير من الفخار اسمه «الماجور»، تقطعه على شكل كرات صغيرة ... تلقيها داخل الفرن المحمي بالنار ... يخرج على شكل أرغفة كبيرة من الخبز.
لم أعرف أن ستي الحاجة امرأة فقيرة، كانت تبدو غنية، من فوهة الفرن تخرج أرغفة بلا عدد، أقضمها بأسناني تذوب في فمي.
في حياتي كلها ألم آكل خبزا مثل خبزها، لم أعرف للخبز طعما أو رائحة منذ أرغفتها تطقطق داخل الفرن، تتلقاها ساخنة كالنار فوق كفها الكبيرة.
لم أشهد في حياتي مثل هذه الكف الكبيرة، أكبر من كف العمدة أو الملك، أكبر من كف أبي.
في السابعة من عمري علمني أبي الصلاة، بدأت اسمع منه حكايات الأنبياء ... سيدنا إبراهيم الذي أمسك الفأس وحطم الأصنام التي يعبدها قومه ... سيدنا موسى الذي تحولت عصاه إلى ثعبان كبير ابتلع ثعابين سحرة فرعون ... سيدنا يوسف رماه إخوته في البئر، وعادوا إلى أبيهم يقولون الذئب أكله، ستنا مريم العذراء ولدت سيدنا عيسى بروح من عند الله، ناداها مولودها لتهز النخلة وتأكل منها البلح الرطب، سيدنا محمد هبط إليه سيدنا جبريل في غار حراء:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم .
عاد سيدنا محمد إلى زوجته خديجة يرتعد: «دثروني، دثروني .»
في الركن من الشرفة البحرية أجلس ... خيالي يسرح مع حكايات أبي ... أحملق في السماء ... أتصور الله من وراء السحب، إلى جواره: سيدنا محمد، سيدنا موسى، سيدنا عيسى، ستنا مريم.
لم أكن أرى البحر من الشرفة البحرية، أشم رائحته فقط، حين يهب الهواء أول الصباح في أيام الصيف نذهب إلى الشاطئ، تسميه أمي «البلاج».
نركب العربة الحنطور، أتنافس أنا وأخي طلعت للجلوس بجوار السائق فوق المقعد العلوي، أمسك لجام الحصان، أرى الشارع الطويل حتى نهايته، اسمه شارع كوم الدكة، نمر أمام مدرسة أخي، اسمها «مدرسة كوم الدكة»، الحديقة الواسعة المرتفعة فوق الهضبة، يلهث الحصان وهو يصعد، تطرقع حوافره فرحا هين يهبط إلى كورنيش البحر، أشهق معه، أملأ صدري بهواء البحر، ينفتح الأفق عن عالم واسع من المياه الزرقاء الممدودة حتى السماء.
قبل أن أولد (في حياة أخرى) كنت سمكة تعيش داخل هذه المياه، شدوني خارج المياه رغم إرادتي بالسنارة، منذ رأيت البحر لأول مرة في حياتي، وإذا رأيت البحر في أي مكان من العالم ينتابني هذا الفرح، هذه الرغبة للعودة إلى حضن المياه الزرقاء، حضن الأم.
كان لنا في «بلاج الشاطئ» كابينة صغيرة من الخشب، نخلع فيها ملابسنا، نرتدي «المايوه»، لم تكن سعدية (الخادمة) تخلع جلبابها، تجلس على الرمل تحت الشمسية تحرس الحقيبة المنتفخة بالطعام. - ليه «سعدية» مش بتعوم معانا في البحر يا ماما؟ - ماعندهاش مايوه يا نوال.
رد أمي يبدو مقنعا، سعدية لا يمكن أن تسبح في البحر بدون «مايوه»، تصورت أن «المايوه» لا يشترى من السوق، شيء يهبه الله للأطفال الذين لهم أب وأم.
في الليل أنام في سريري تحت الأغطية، سعدية تنام فوق الأرض على الحصيرة أو سجادة قديمة، فتحت عيني رأيتها تبكي، كانت طفلة تكبرني ببضع سنوات قليلة ... لم يكن أحد يراها طفلة.
تصورت أنها ليست مثل الأطفال، ليس لها أب أو أم. - عاوزة أشوف أمي يا ست نوال. - عندك أم يا سعدية؟ - طبعا يا ست نوال. - وهي فين؟ - في بلدنا. - وبلدكم فين؟ - مش عارفة. - اسمها إيه ؟ - كفر الشيخ.
بدأت أفكر في سعدية، كيف يكون لها أم؟ كيف تتركها أمها تعيش في بيت مع الغرباء؟ سعدية تقف أمام الحوض لتغسل الصحون بعد أن نأكل، تلتهب أصابعها من الصابون والصودا الكاوية، في ركن المطبخ تجلس داخل جلبابها تحرس طعامنا، تتصلب عرقا، نحن في المياه الزرقاء نسبح ونلعب.
في يوم جلست إلى جوارها فوق الرمل وبدأنا نلعب معا، بنينا بيتا كبيرا من الرمل على شكل الهرم، كلما سقط البيت على ما فيه تضحك سعدية، تلمع عيناها بالفرح، تتلاشى اللمعة في لحظة، ترمق الشاطئ بنظرة تشبه نظرة جدتي آمنة: الناس قالوا لو مشيت على الشط ده على طول على طول، أكون وصلت كفر الشيخ على آخر النهار. - يا عبيطة يا سعدية، الشط ده يوديكي إيطاليا مش كفر الشيخ. سمعت أمي وأبي يقولان إن وراء هذا البحر بلدا اسمها إيطاليا، سعدية لم تكن تصدق شيئا مما يقوله أبي أو أمي، تؤكد لي أن بلدها كفر الشيخ توجد على امتداد الشاطئ على مسيرة نهار واحد.
صحونا في الصباح فلم نجد سعدية ... خرج أبي يبحث عنها ... قبل أن ينتهي النهار عثر عليها خفراء البحر سائرة على الشاطئ في طريقها إلى بلدها.
عادت سعدية إلينا مطرقة الرأس ... رفعت رأسها والتقت عيناها بعيني ... أدركت لأول مرة في حياتي معنى الحزن ... لم يكن في عينها دموع، الجفاف التام، اليأس التام.
أنظر في المرآة فأرى عيني سعدية تطلان علي، هما عيناي في لحظات الحزن أو اليأس ... لحظات الندم والإحساس بالإثم ... السؤال كان يدور في رأسي: كيف لم أنقذ سعدية؟
صحونا ذات صباح فلم نجدها، مرت الأشهر لم يعثر عليها البوليس ... تاهت على الشاطئ اللانهائي، أسرقتها واحدة من مثيلات ريا وسكينة؟ كان في أذنها حلق صغير له مسمار وقفل كالحلق في أذني، من الصفيح وليس من الذهب.
في السابعة من عمري رأيت أول مظاهرة وطنية في حياتي، كنت عائدة من المدرسة وحدي ... شارع محرم بك انقلب بحرا من الأجساد، آلاف السيقان الطويلة داخل السراويل ... كلهم رجال ... أصواتهم تدوي كالرعد ... يدبون بكعوب أحذيتهم الجلدية على الأسفلت ... سقطت وأنا أجري تحت الأقدام ... كيف نهضت؟ انتشلتني بعض الأيدي ... ضاعت حقيقة المدرسة ... دون أن التفت ورائي، كنت أجري حتى وصلت البيت.
أمي كانت واقفة عند الباب ... تلقفتني بين ذراعيها، كنت أبكي. - الشنطة راحت يا ماما. - الشنطة مش مهمة، المهم إنك سليمة.
تتطلع أمي إلى الشارع واقفة عند الباب، عيناها لا تكفان عن الحركة، تبحثان في وجوه الناس عن أبي. «ربنا يرجعه بالسلامة.»
تأخر أبي، نمت قبل أن يعود، في الحلم رأيته غارقا في بحر من الأجساد، تحمله الأمواج إلى السماء، يهتف: «تسقط الحكومة»، تهبط به أسفل، تدوسه الأقدام وتنطلق رصاصة في صدره، يحملونه إلى أمي ينزف دما، يموت بين يديها، فتشهق بالبكاء، تحمل طفلها الرضيع «أخي الأصغر» فوق صدرها، أختي الصغرى «ليلى» تحملها فوق كتف، أخي الأوسط تحمله فوق الكتف الأخرى، أنا وأخي الأكبر «طلعت» نمشي وراءها نمسك ذيل فستانها، ملابسنا ممزقة مثل الشحاذين.
أهب من النوم مذعورة، أبي مات، قتله الإنجليز أو الحكومة، أمي أيضا غرقت في بحر الأجساد، حاملة إخوتي وأخواتي، أصبحت وحدي أمشي على الشاطئ اللانهائي، أتوه كما تاهت سعدية.
من الإسكندرية إلى منوف
ذات يوم من عام 1938م استيقظت من النوم لأجد أبي وأمي يحزمان الحقائب، الحكومة أصدرت قرارا ضد أبي، النقل إلى مكان أخرى يسميه أبي «منفى»، أو «منوف»، قرية أو بلدة صغيرة مجهولة، لا تظهر فوق الخريطة، عشنا فيها عشر سنوات (من 1938م حتى 1948م)، لم يحصل فيها أبي على ترقية أو علاوة، اندرج اسمه تحت القائمة السوداء، تحت بند «الموظفون المنسيون» في وزارة المعارف العمومية.
من الإسكندرية عروس البحر إلى بلدة مظلمة صامتة، مدارسها الأولية الإلزامية يذهب إليها أطفال الفقراء بقوة القانون (الإلزام).
أصبح أبي مفتشا على هذه المدارس في محافظة المنوفية، يسير بقامته الفارعة في الشارع والناس تشير إليه: البيه المفتش!
في الإسكندرية لم يكن أحد في الشارع يشير إلى أبي، لم يكن يحمل إلا لقب «أفندي»، أهل منوف منحوه لقب «البيه»، أصبحت بنت البيه المفتش، زارتنا ستي الحاجة ثم عادت إلى كفر طحلة تحمل لقب «أم البيه».
أبي أصبح يردد هذا البيت من الشعر:
عش في القرى رأسا
ولا تعش مع الأذناب مدنا
وكنت أسأل أبي: مين هم الأذناب يا بابا؟ ويرد أبي: الأذناب هم النزرا والوزرا يا بنتي، وأعود أسأله: الوزرا يعني إيه يا بابا؟
ويقول أبي: «الوزرا يعني الوزر، والوزر يعني الذنب، والجمع ذنوب»، ويضحك أبي طويلا، ثم يشرح لي الفرق بين الذنب والذنب، يعني الذيل والجمع ذيول أو أذناب ...
لم تكن منوف قرية مثل كفر طحلة، لم يكن لها عمدة، «المأمور» أكبر رأس في البلد، مركز البوليس، الجامع، الكنيسة، المدرسة، المحكمة، مكتب الصحة، محطة القطار، صهاريج المياه، حارة اليهود، والصاغة، أجزاخانة «يني»، مقهى «جرامينو»، بقالة زخاري، خمارة مخالي، مقلة الفول السوداني واللب، دكانة ألف صنف وصنف.
بيتنا في الدور الأول، يطل على الحقول الواسعة الممدودة حتى القبور.
لم أكن أرى القبور من الشرفة الخارجية، تسميها أمي «الفرندة»، القبور مختبئة وراء المزارع، بعد أن يقطع الفلاحون أعواد الذرة تظهر القبور من بعيد، رءوس العفاريت البيضاء متربصة وراء السحب.
صاحب البيت اسمه الحاج محمود، لم يكمل بناء الدور الثاني حيث يسكن هو وزوجته «أم محمد»، وأولاده الأحد عشر، ستة من الصبيان وخمس بنات، يرقدون في غرف بلا نوافذ ولا أبواب، في الشتاء يتكومون في غرفة واحدة على الأرض التراب، يسدون الباب والنافذة بالجلاليب القديمة، يدقونها بالمسامير في الجدران.
الحاج محمود تاجر أقمشة بدون دكان، يتجول في الأسواق فوق حمارته العجوز.
جسمها نحيف ضامر، منحولة الوبر، عظامها بارزة تحت الجلد، تعلوه آثار جروح لم تلتئم، علامات حمراء على شكل كرابيج، فوق ظهرها هرم من الأقمشة الملفوفة أسطوانات طويلة، من فوقها يتربع الحاج محمود مدليا بساقيه، يلكزها بركبتيه البارزتين كالخشب، يشدها من الحبل في عنقها، يلسعها على ظهرها بالعصا الخيزران، يسعل، يبصق، يتمخط على الأرض. «شدي حيلك يا عزيزة.
شيه ... شيه.»
كان نحيفا مثل حمارته، شعر رأسه منحول مثل شعرها، رمادي اللون مثل لونها ، جلبابه طويل واسع من الجبردين، طاقيته فوق راسه ذات خروم «شباك النبي»، عاد بها من الحجاز.
كل صباح أسمع سعاله من تحت سور الفرندة، أطل عليهما يخرجان من الممر الضيق بين السور والحقول متشابهين توءمين، أنفاسها ترسم في الشتاء دوائر من الشبورة، الريح الباردة تلفح أنفيهما بدرجة واحدة، يسعلان بصوت مشابه، يشتد سعال الحمارة، يصبح نهيقا متقطع الأنفاس، يضربها على مؤخرتها ببوز العصا، تسرع الخطى، تلهث، فتحات أنفها، فمها، أذنبها، يسيل منها لعاب أبيض مثل زبد البحر، تتعثر أقدامها، تسقط فيسقط معها، يلعنها وأمها: «يا بنت القحبة»، تسبقه في الجري فيجري وراءها، يضع ذيل جلبابه بين أسنانه، يلهث، يلعن، يسيل من فمه وأنفه لعاب أبيض. يتحشرج نهيقا في حلقها، تشهق، دموع بيضاء تسيل من عينيها، يربت على عنقها بيده المعروقة، يقرب فمه من أذنها الكبيرة المنتصبة. «معلهش، حقك علي يا عزيزة، معلهش! شي! شي.»
تهز الحمارة رأسها، تشهق بصوت متحشرج يشبه صوته: ش! ش! ش! معلهش!
ابنة الحاج محمود اسمها خديجة، تذهب معي إلى المدرسة الابتدائية، نلعب معا أمام البيت «السيجة»، ننط الحبل، نجري في الحقول وراء الفراشات، أعطيها قطعة من اللبانة في فمي، قطعة من العسلية المصاصة «الكرميلا».
في العيد الكبير مكافأتي مليم، يسمونها «العيدية»، كان «المليم» له قيمة كبيرة، عرفت في المدرسة أن الجنيه يساوي مائة قرش، والقرش يساوي عشرة مليمات.
أطبق بأصابعي الخمس حول هذا المليم العظيم، قرص أحمر اللون يلمع تحت الشمس ... عليه صورة الملك، أتلفت حولي خوفا من اللصوص، أجري إلى المقلة، دكان ألف صنف وصنف، أشتري البالونات، الزمامير، البمب، املأ جيوبي باللب الأبيض والأسمر، الفول السوداني المقشر، الحمص، الخروب.
أول يوم العيد في الفجر، الجزار يأتي، يذبح الخروف الضحية، يحكي لنا أبي الحكاية، أراد الله أن يمتحن «سيدنا إبراهيم»، فأمره أن يذبح ابنه «سيدنا إسماعيل»، وضع الأب السكين على عنق الابن ليذبحه لولا أن هبط الخروف من السماء.
أنام وأحلم أن الله أراد أن يمتحن أبي، الخروف لم ينزل من السماء، قطعت السكين رقبتي ، أهب من النوم مذعورة، أتحسس عنقي، همست لأمي بأحلامي فقالت تطمئنني: ده كان زمان يا نوال، لكن الحمد لله دلوقتي ربنا يعرف كل حاجة في قلوب الناس من غير امتحانات.
كلمة «امتحانات» تفزعني، لا أصدق كل ما تقوله أمي عن الله، لا أراها تقرأ القرآن، لا تعرف الحكايات التي يحكيها أبي عن الأنبياء، لا تؤدي الصلوات الخمس كل يوم، تصوم شهر رمضان فقط.
العيد الصغير يأتي بعد شهر رمضان، أفرح بالعيد الصغير أكثر من العيد الكبير، لا خروف يذبح، لا ضحية، لا امتحانات، «الكعك» اللذيذ، البسكوت، تنقشه أمي على شكل العصافير لها أجنحة، «الغريبة» أضعها في فمي تذوب في حلقي مثل قطعة السكر.
في الأعياد يمتلئ بيتنا بالأقارب والزوار، على رأسهم ستي الحاجة، تتربع فوق الكنبة البلدي في الصالة، الملاليم الحمراء تخشخش في حجر جلبابها الواسع، تصطك بعضها بالبعض برنين الموسيقى، نتجمع حولها نحن الأطفال نتنافس على «العيدية.»
تبدأ بإخواتي الصبيان الثلاثة، تعطي كلا منهم مليمين، نحن البنات تعطي الواحدة منا مليما واحدا، ألقيه في حجرها بغضب، فتقول: ربنا قال البنت نص الولد يا عين أمك.
يرمقني أخي الأكبر «طلعت» بعين تلمع بالزهو، تفوقي عليه في المدرسة يصيبه بالإحباط، لا تخففه إلا آية في القرآن، ينطقها بصوت أبي:
لللذكر مثل حظ الأنثيين . في غرفتي، في سريري، أدفن وجهي، وأبكي.
أخي يلعب طول السنة ويسقط في الامتحانات، أشتغل في المدرسة وفي البيت بلا إجازات، لا ينوبني في النهاية إلا مليم واحد وهو يأخذ مليمين؟!
أنزوي في غرفتي بعيدا عن الأعين، في الصالحة يضحكون ويفرحون بالعيد، في غرفتي أكتم الغضب والحزن، غرفتي الصغيرة بجوار المطبخ، لها نافذة ذات أعمدة حديدية صدئة، من خلال القضبان أرى حمارة الحاج محمود راقدة في بير السلم، ترمقني بعينين دامعتين حزينتين، الوحيدة في الكون تشاركني الحزن في العيد.
أتسلل من غرفتي إلى الحمام، أغسل وجهي، ألمح الخادمة منكفئة فوق بلاط المطبخ تدعكه بالفرشة، كانت من عمري، اسمها زينب، أمي أيضا اسمها زينب، لم يكن للخادمة أن تحمل اسم ست البيت الكبيرة، أصبح اسمها «سعدية» على اسم الخادمة السابقة.
رفعت سعدية عينيها من فوق البلاط، دامعتان حزينتان مثل عيني حمارة الحاج محمود، هناك من هم أكثر تعاسة مني في الأعياد، الخادمات والحمارات. •••
السؤال عن عدالة الله كان يؤرقني، ينتابني الإحساس بالذنب، «ربنا هو العادل، عرفوه بالعقل»، فلماذا يتميز أخي طلعت دون وجه حق؟! - ربنا عادل يا ماما؟ - طبعا يا نوال.
أكدت أمي أن الله عادل، اطمأن قلبي.
لا أريد لأمي أن ترى دموعي في العيد، في الصالة تضحك بصوتها المرح، عيناها العسليتان يكسوهما بريق الفرح، لم أر الدموع في عينيها إلا مرة واحدة.
دخلت إلى غرفتها في يوم العيد، لمحتني في المرآة، مسحت عينيها بالمنديل. - انتي بتعيطي يا ماما؟ - لا أبدا. - عينيكي حمرا يا ماما. - كنت باحط فيها قطرة.
لم يكن في يدها زجاجة قطرة، لا شيء في يدها، إنها تخفي عني شيئا، هذا الشيء يجعل جسدي يقشعر، أتشك أمي في عدالة الله؟ أتسأله لماذا يفضل الذكور؟
كأن الله يختفي في الظلمة، أخفي رأسي تحت الغطاء؟ أنهض من السرير مذعورة، أتوضأ، أصلي، أدفن وجهي في سجادة الصلاة: «أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.» هذه العبارة أرددها المرة وراء المرة حتى يجف حلقي.
أصبحت المثل الأعلى للصلاح والتقوى بين البنات في عائلة أبي وأمي، ابتهج الجميع بالإيمان الهابط من السماء، أكثرهم ابتهاجا ستي الحاجة، تراني راكعة فوق سجادة الصلاة، دافنة وجهي في الأرض، فتقول إنني بلغت سن الرشد، إنني عرفت الله، إنني استويت مثل التينة البرشومي. إن الله سيرسل إلي عريسا من السماء، يقطفني مثل الثمرة من فوق الشجرة، وإلا سقطت إلى الأرض وأصابني العطب.
لم تكن أمي تفكر في العريس، كانت مشغولة طول الوقت، بطنها يرتفع، تأتي الحكيمة وأسمع صراخ أمي، المولود يخرج من بطن أمي، لم أعرف كيف يدخل.
إذا سألت السؤال تنهرني العيون، حياة النساء غريبة تحوطها الأسرار، بطونهن المرتفعة تبدو لي مخيفة.
كان أبي يؤمن بالتعليم مثل ستي الحاجة، تعليم البنات والأولاد، هي تؤمن بتعليم الصبيان فقط، علمت ابنها، وابن زوجها من امرأة أخرى، لم تعلم بنتا واحدة من بناتها الخمس، بقين معها في القرية فلاحات، إلا عمتي الصغيرة نفيسة، أرسلت بناتها إلى المدارس مثل الأولاد.
لم يكن في منوف إلا المدارس الأولية والإلزامية، وبعض المدارس الابتدائية الحكومية، ومدرسة التجارة المتوسطة والصنايع، ومدرسة ثانوية واحدة للبنين. القادرون على دفع المصروفات كانت لهم مدارسهم الخاصة. في الفرندة المطلة على الحقول، يجلس أبي ونحن الأطفال حوله، يحكي لنا عن معاركه الجديدة، الصراع يدور بين الأحزاب وداخل الحكومة، النواب في البرلمان يعارضون التعليم الإلزامي، صاح أحد الباشوات واسمه «البدراوي عاشور»: «أيها السادة، هذا التعليم المجاني يؤدي إلى أن يتحول أصحاب الجلابيب الزرقاء إلى أصحاب جلابيب مكوية! سوف يتعلم أولاد الفلاحين ويصبح من الصعب عليهم أن يمسكوا الفأس بعد ذلك.» أحد الباشوات الآخرين، اسمه وهيب دوس، قال: «تعليم أولاد الفقراء خطر اجتماعي هائل يؤدي إلى ثورات نفسية.» باشا آخر اسمه «طلعت حرب باشا» قال: «التعليم يؤدي إلى تفتيح الأذهان، وهذا خطر على الحكومة.»
أبي يقف في الفرندة كما كان يقف في الشرفة البحرية في الإسكندرية، يحكي لنا عن الصراعات في مجلس النواب بين حزب الوفد وأحزاب الأقلية، الصراع داخل حزب الوفد بين النحاس باشا وأحمد ماهر باشا، يوجه أبي الحديث إلى إخوتي الصبيان: «تصوروا هذا الباشا من الأحرار الدستوريين مش عاوز الفقراء يأكلون العيش الحاف، عاوزهم يموتوا من الجوع! يتهم النحاس وحكومة الوفد أنها أغدقت النعم على الفلاحين والعمال والموظفين، فين النعم دي يا باشا؟! الأسعار بتزيد يوم ورا يوم، والماهية هي هي، وإن زادت شوية ملاليم يبقى خير من عند ربنا.»
في عام 1940م قدمت حكومة الوفد إلى مجلس النواب قانونا ينص على عدم الحجز على بيت الفلاح المفلس العاجز عن دفع الضرائب، صاح الباشوات من النواب: هذه بلشفية!
سألت أبي: يعني إيه بلشفية؟ فقال: يعني شيوعية، يعني إيه شيوعية؟ يعني كل حاجة تبقى على «المشاع». لم أفهم ما معنى كلمة «المشاع»، ستي الحاجة فهمتها، قالت وهي تشوح بيدها الكبيرة المشققة: أهو الباشا ده زي العمدة في كفر طحلة، لا يمكن يرتاح إلا لما الفلاحين يموتوا من الجوع ، لكن ربنا مع الفقرا دايما.
في الأعياد يتجمع في الفرندة أقارب أمي وأبي، تتزعم عائلة السعداوي ستي الحاجة أو عمتي رقية بلسانها السليط، تتزعم عائلة شكري بيه خالتي هانم أو فهيمة أو خالي يحيى أو زكريا.
صراع يدور في الفرندة أشبه بالصراع في مجلس النواب، ينضم الفلاحون من عائلة أبي إلى حكومة الوفد والنحاس، وتنضم عائلة شكري بيه إلى الباشوات من أمثال أحمد ماهر والنقراشي وأحزاب الأقلية.
لم يكن أبي عضوا في حزب الوفد، أو أي حزب آخر، يقول: إن الأحزاب تتلاعب بالشعب تحت اسم الدستور والنظام الديمقراطي. مشايخ الأزهر والإخوان المسلمين يتلاعبون باسم «الشيخ أبو دقن». «تصوروا الشيخ أبو دقن يتعاون مع الملك والإنجليز تحت اسم الإسلام، ويقول لنا: «وأطيعوا أولي الأمر منكم»، ويقول للملك فاروق: الله معك، يرد عليه الملك يقول له: نعم الله معنا. دي شعوذة مش إسلام يا شيخ مراغي!»
كانت طنط هانم تحب الملك فاروق، تؤمن أن الله معه فعلا، عمتي رقية ترى أن الله مع النحاس، يتوتر الجو بين أقارب أبي وأمي، ترمق طنط هانم جلباب عمتي رقية بازدراء، يضع خالي زكريا ساقه فوق الساق الأخرى ويقول بطرف أنفه المرتفع: الله مع الملك طبعا.
تشوح ستي الحاجة بيدها المعروقة في وجه خالي زكريا: وماله ياخويا، خليه معاه، لكن النحاس معاه كل الناس!
ينفجر الجميع في الضحك، ستي الحاجة تضحك حتى تدمع عيناها، تمسحهما بطرف الطرحة السوداء وهي تهمس: «أستغفر الله العظيم، اللهم اجعله خير يا رب.» •••
الحرب العالمية الثانية قامت، أجبر الإنجليز الفلاحين في مصر على زراعة مساحات أكبر من القمح والحبوب لإطعام جيوش الحلفاء، تدهور إنتاج القطن، زادت المضاربات في البورصة لصالح الإنجليز والباشوات، حالت ظروف الحرب دون نقل الأسمدة، ارتفعت الأسعار، حدد الإنجليز أسعارا تعسفية للقطن المصري تقل عن السعر العالمي؛ بحجة أن رفع سعر القطن لا يفيد إلا الباشوات، غضب الباشوات في حزب الوفد والأحزاب الأخرى، أعلنوا أن الإنجليز يزرعون الحقد بين الطبقات في مصر، يشجعون الشيوعية والإلحاد، انتهز الملك الفرصة ليضرب حزب الوفد والنحاس، أقدم الملك على ما يشبه الانقلاب الدستوري، أعلن توليه زمام الأمور، لا أحد يستطيع أن يؤثر عليه إذا تبين له صواب لأمر، يعمل لصالح شعبه، واثقا من نفسه، متوكلا على الله الذي يلهمه، الله دائما معه.
كان الملك فاروق شابا من حوله من الباشوات ومشايخ الأزهر، أشاروا عليه باستمالة الشباب؛ شاب اسمه «أحمد حسين» يتزعم حزبا اسمه مصر الفتاة (تصورت أن أعضاءه كلهم فتيات) أصبح مؤيدا للملك، يستخدم كلمة «الله» كشعار، بدأ الصراع بين النحاس وأحمد حسين، قال له النحاس: «أنت دسيسة، كلمة الله التي وضعتها في أول شعارك شعوذة؛ لأن وضع كلمة الله في برنامج سياسي هو شعوذة.»
كان الإنجليز يتعاونون مع الملك والأحزاب الأخرى ضد النحاس، في أبريل 1940م اتهم النحاس الإنجليز بمساندة الانقلاب الدستوري، طالب بجلاء القوات البريطانية بعد انتهاء الحرب مباشرة. •••
كنت في التاسعة من عمري عام 1940م، في الثانية ابتدائي، لم يدخلني أبي مدرسة حكومية من المدارس التي يفتش عليها. وزارة المعارف تحشر الأطفال في الفصول مثل السردين في العلب، تعين لهم أكثر المدرسين جهلا وقسوة، يجهلون مبادئ التعليم، يضربون الأطفال بالعصا الغليظة.
أبي يعقد الاجتماعات في الفرندة لهؤلاء المدرسين، يلقنهم مبادئ التعليم واللغة والنحو والإعراب، يهددهم بخصم يوم أو يومين من المرتب إذا لم يعملوا التلاميذ على النحو الصحيح.
أجلس في الركن أستمع إلى الدرس، أستوعب ما يشرحه أبي، إذا سأل سؤالا أرفع لهم إصبعي: تلميذة في ثانية ابتدائي تعرف أكثر منكم؟!
يجلسون في الفرندة فوق الكراسي من القش، فوق رءوسهم طرابيش حمراء مكرمشة، عيونهم نصف مغمضة، وجوههم ناحلة، سراويلهم متهدلة، مرتب الواحد منهم في الشهر جنيهان أو ثلاثة، تدرج وزارة أسماءهم تحت بند: «المدرسون يعلمون النشء الجديد مستقبل الأمة الباهر.»
أبي يسخر من وزارة «المعارف»، يسميها وزارة «المقارف» (جمع كلمة قرف). المدرسون هم «قاع مقرف»، لا يعرف الواحد منهم الألف من كوز الذرة، الجنة تحت أقدام هؤلاء المدرسين، يعلمون النشء الجديد مستقبل الأمة المظلم بإذن الله.
في الأعياد، يطوف هؤلاء المدرسون على رؤسائهم من النظار أو المفتشين حاملين الهدايا، أقفاص من البيض، البرتقال، التين البرشومي، أو ذبائح من الوز، والبط، والفراخ، تشبه القرابين التي كانت تقدم لإله يهوه في التوراة، يتشمم الرؤساء رائحة الشواء فيروق المزاج، فيكتبون تقارير سرية بدرجة «ممتاز يستحق الترقية.»
كان أبي يطردهم مع أقفاصهم وذبائحهم. - النبي قبل الهدية يا سيد بيه. - الهدية رشوة يا أفندية!
لم يكن في منوف إلا مدرسة واحدة ابتدائية للبنات غير تابعة للحكومة، هي المدرسة الإنجليزية، كانت تشمل المقررات والمناهج الحكومية، بالإضافة إلى تعليم اللغة الإنجليزية.
منذ الاحتلال البريطاني عام 1882م بدأت المدارس الإنجليزية الخاصة تنتشر في مصر، بعضها مدارس الإرسالية، وبعضها مدارس عادية تابعة النظام المصري، لا تخضع لتفتيش الحكومة، الإجازة فيها يوما السبت والأحد (بدلا من يوم الجمعة)، يدرس الدين الإسلامي واللغة العربية مثل المدارس الحكومية، بالإضافة إلى تدريس الدين المسيحي لأطفال الأقباط، والدين اليهودي لأطفال اليهود.
كانت منوف «مركزا» بلدة صغيرة، لا هي قرية مثل كفر طحلة، ولا هي مدينة مثل القاهرة أو الإسكندرية، تقع على خط سكة حديد شبين الكوم، القطارات السريعة لا تقف عندها، أغلبها حقول ومزارعون، فيها بعض المصانع، أشهرها مصانع الدخان والسجائر، تملكها عائلة الدفراوي، اشتهر منها بعض رجال السياسة والأحزاب؛ منهم صبري أبو علم في عهد النحاس باشا، ولبيب شقير أصبح رئيسا لمجلس الشعب في عهد جمال عبد الناصر. شارع الكنيسة من الشوارع الكبيرة، يسكنه عدد من العائلات القبطية، في نهايته كنيسة ضخمة يصلصل جرسها يوم الأحد أو حين يموت أحد المسيحيين، حارة اليهود توازي شارع الكنيسة، تمتلئ بالمحلات الصغيرة وتجار الصاغة، وفي نهايتها الخمارة.
شارع المحطة أكبر الشوارع، يمتد من محطة القطار والسوق الكبير إلى الميدان الصغير (حيث مكتب البريد وصهاريج الماء)، يجتاز الكوبري (شارع الترعة)، ثم يزدحم بالناس والمحلات من كل الأنواع: الدخان والسجائر، عرائس مولد النبي، الكنافة، اللب، الكراريس ، زمامير العيد، الباعة الجائلون ينادون على بضائعهم راكبي الحمير أو عربات الكارو، المتاجرون في القطن أو البرسيم، عازفو الموسيقى في الأعياد والمواسم، الضاربون على الدف والطبول، الحواة يرقصون القرود ويبتلعون النار، المنادون المداحون، الندابات النداهات الغوازي العالمات الراقصات في الحفلات والحانات، بيوت البغاء، والبوليس، والشحاذون، وذوو العاهات.
كنت أمشي كل يوم في هذا الشارع الرئيسي لأذهب إلى المدرسة، أغرق في البحر الخضم، المياه العميقة المتحركة تطفو عليها وجوه بشر كالأعشاب السابحة، تنقلب إلى أمواج عالية، الشمس قوية ساطعة طول العام، بلا رعد ولا برق ولا مطر، ما عدا بعض الأيام في الشتاء، يصبح المطر مثل الفاكهة النادرة، أتلقى رذاذ المطر فوق وجهي كما يتلقاه الزرع الأخضر، عيون الفلاحين تتجه نحو السماء، تشكر الله على نعمته. يشتد الجفاف، تمتنع السماء عن المطر، يتجمع الناس في الجامع الكبير، يؤمهم الإمام الشيخ، يرفعون أيديهم، يدعون الله أن يأمر السحب لتتجمع، والسماء أن تنفجر بالرعد والبرق والمطر، إذا انخفضت مياه النيل يركعون لله، يطلبون منه المغفرة وإطلاق مياه النيل بالفيضان.
كنت أمشي في الشارع تحت إبطي حقيبة المدرسة، الشارع الرئيسي ينتهي إلى ميدان كبير، فيه أجزخانة يني، مقهى «جرانيمو»، ومكتبة صغيرة يملكها رجل اسمه «شقير»، يقف وراء طاولة خشبية يبيع الأقلام والكراريس ودوايات الحبر. «لبيب شقير» يقف بدل أبيه وراء الطاولة، يبيع لي سن القلم الحبر بنصف مليم، قال لي: أنا زميل أخوك «طلعت» في المدرسة، خرجت من المكتبة دون أن أرد عليه، كانت أمي تحذرني من الرد على الصبيان الغرباء.
أصبح الأب «شقير» من التجار الأثرياء في منوف، يجمع نصف المليم على نصف المليم ويصنع الملايين، هكذا يقول أبي، لم يكن أبي ينظر إلى مهنة التجارة باحترام، أهل منوف (المنوفية كلها) اشتهروا بالبخل، «المنوفي لا يلوفي ولو أكلته لحم الخروفي» عبارة تجري على كل لسان.
كان «لبيب شقير» تلميذا مجدا، يتفوق على أخي وأبناء المتعلمين والموظفين، يرسب أخي في الامتحان، فيقول له أبي: ابن مفتش التعليم يسقط وابن بياع الكراريس والقراطيس ينجح بتفوق ؟!
منذ مكتبة شقير في منوف لم ألتق بلبيب إلا عام 1980م (أربعون عاما تقريبا)، التقينا في أحد المؤتمرات الدولية في بيروت، دعاني إلى الغداء في مطعم طل على «الروشة»، قال لي: «فاكرة منوف؟! كنتي تركبي البسكليتة في شارع الترعة، وكان الصبيان يجروا وراكي ويقولوا: شوفو البنت راكبة عجلة! وكنا احنا شباب منوف نتجمع عند الكوبري في شارع الترعة عشان نشوف بنت البيه المفتش وهي راكبة العجلة، وكل واحد فينا يحلم بيها ويقول لنفسه: لازم أنجح بسرعة عشان أتقدم لأبوها.»
كانت المرة الأخيرة التي رأيت فيها الدكتور لبيب شقير، سمعت أنه مات، لم أعرف عنه إلا القليل، في 15 مايو 1971م ضرب السادات رجال عبد الناصر فيما أسماه «ثورة التصحيح» للقضاء على مراكز القوى، كان الدكتور لبيب شقير (رئيس مجلس الشعب) واحدا من هؤلاء، لم يدخل السجن مثل وزير الداخلية «شعراوي جمعة» أو غيره من الوزراء السابقين، كان من الأساتذة في القانون، تخرج في كلية الحقوق بدرجة الامتياز، انجذب إلى السياسة والحكم. •••
ناظرة المدرسة الإنجليزية اسمها «مس هيمر»، تمر علينا في طابور الصباح في يدها مسطرة طويلة تضرب بها البنات على أطراف أصابعهن.
تفتش عن الأظافر غير المقصوصة، تنظر بعينيها الزرقاوين من وراء النظارة البيضاء بين الأصابع أو تحت الأظافر، بطرف المسطرة تفلق شعر الرأس، عيناها الضيقتان تبحثان عن القملة الصغيرة، مثل رأس دبوس الإبرة، أو بيضة القملة «السبانة» الأصغر حجما من القملة، تدس أنفها الطويل (المقوس الأحمر) تحت المريلة، تتشمم ملابس البنت الداخلية، ترفع طرف المريلة ببوز المسطرة تكشف عن القميص الداخلي أو السروال.
كان معنا في الفصل تلميذة اسمها «فاطمة» بنت المأمور، تقف في أول الطابور، تبتسم مس هيمر في وجهها وتقول لها: جود مورننج فاتيما. - جود مورننج مس هيمر.
تمر علينا دون أن تفتشها، لم تفتش تلميذة أخرى اسمها إيزيس ابنة الدكتور مفتش الصحة، ولم تفتش «سارة» ابنة كوهين صاحب محلات الصاغة، وتفتش خديجة ابنة الحاج محمود وغيرها من التلميذات الفقيرات، تلسعهن على أصابعهن بالمسطرة، أو تخرجهن من الطابور .
فوق وجهي تمر عيناها الزرقاوان في برود وصمت، لم تبتسم لي أو تقول لي جود مورننج، لم تفتشني أيضا (لأني بنت المفتش)، لم يكن أبي يفتش على هذه المدرسة، يأتي إلى مكتب الناظرة أحيانا، شكاوى في جيبه من أولياء الأمور عن الإهمال في تعليم اللغة العربية أو الدين الإسلامي، بعض الشكاوى لآباء يخشون على بناتهم المسلمات من قراءة الإنجيل في طابور الصباح.
قبل أن تنصرف الطوابير كانت مس هيمر تصعد إلى المنصة العريضة العالية، تمسك بين يديها الإنجيل (باللغة الإنجليزية)، تقرأ هذه الآيات والتلميذات والمدرسات يرددن وراءها:
Our Father Which are in Heaven, Hallowed be gouy name.
The kingdom come, The will be done in earth as it is in heaven, Give us this day our daily bread, Forgive us our debtors as we forgive our debtors, And not lead us into temptation, but deliver us from evil: for thine is the kingdom, and the glory, forever, Amen.
وتهبط مس هيمر من فوق المنصة، تصعد مكانها واحدة من المدرسات، تقرأ هذه الفقرة من الإنجيل باللغة العربية والتلميذات يرددن وراءها:
أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك. ليأت ملكوتك. لتكن مشيئتك في السماء كذلك على الأرض. خبزنا كفانا، أعطنا اليوم. واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا. ولا تدخلنا في تجربة. لكن نجنا من الشر. لأن لك الملك والمجد إلى الأبد. آمين.
لم يكن أبي مثل غيره من الآباء في منوف، لم يكن يرى أن قراءة الإنجيل فها ضرر، بل إنها واجب، الإنجيل واحد من كتب الله الثلاثة، الإنجيل والتوراة فيهما هدى للناس ونور، هكذا قال الله في القرآن.
لم يكن أبي أيضا ضد تعلم اللغة الإنجليزية، يقول لنا: تعلموا لغة الأعداء لتنتصروا عليهم.
أحب اللغة الإنجليزية، أحب اللغة العربية أكثر، أبي يدرس لنا الأدب العربي في البيت، يقرأ معنا أبيات الشعر لأبي العلاء المعري أو غيره من الشعراء.
لأبي مكتبة في الصالة، تضم كتبا عربية قديمة وحديثة، المعلقات ولسان العرب، الجاحظ وسيبويه والرازي والأصفهاني وكتابه الأغاني، أبو العلاء وأبو نواس وجرير والفرزدق وابن المقفع، ديوان الخنساء، دنانير، بثينة، أم جعفر الهاشمية، خديجة، عائشة، تراجم النساء في بيت النبوة، المازني والمنفلوطي وطه حسين وعباس محمود العقاد وديوان حافظ وشوقي والبارودي، وغير ذلك من الكتب.
أبي كان مغرما بأبي العلاء المعري، يردد دائما قولته المشهورة حين ينقد الشيخ المراغي أو غيره من مشايخ الأزهر: «سكان الأرض قسمان؛ قسم عندهم عقول وليس عندهم دين، وقسم عندهم دين وليس عندهم عقول.»
أبي كان يشجعني على القراءة والتفكير، جعلني أحب الأدب منذ الطفولة، لم أتعلم الكثير في المدرسة، مدرس اللغة العربية والدين يشبه المدرسين في المدارس الإلزامية، يرتدي طربوشا مكرمشا وبدلة مكرمشة، يهرش رأسه وما بين فخذية، يلسعنا على أردافنا بالعصا الخيزران، نطلق عليه اسم «بعبع أفندي»، له عين أصغر من العين الأخرى، يختفي سوادها تحت الجفن، فوق شفته العليا شارب أسود كثيف الشعر، تعلوه دائما ذرات مخاط أبيض، يمسحه بمنديل كبير فيه مربعات زرقاء، يقرأ من القرآن بصوت عال وهو جالس القرفصاء فوق الكرسي، يتجمع اللعاب الأبيض عند زاويتي فمه، يتناثر الرذاذ في الجو.
كانت مس هيمر تفتش على المدرسين والمدرسات، في قدميها حذاء له كعب سميك من الكريب أو الكاوتش، تمشي بلا صوت، تفتح باب الفصل بلا صوت، تدخل فجأة فينتفض إسماعيل أفندي واقفا، رافعا يده اليمنى حتى يلمس إبهامه جبهته (التحية العسكرية منذ الاحتلال التركي)، يمسح فمه بالمنديل: جود مورننج مس هيمر. - جود مورننج مستر إسمائيل.
لم تكن مس هيمر تعرف اللغة العربية، لا تستطيع أن تنطق حرف العين، تقلبه إلى ألف أو ياء. لم يكن إسماعيل أفندي ينطق كلمة «مورننج» يقلبها إلى «مورجن»، نكتم الضحك نحن التلميذات.
تقف مس هيمر في مؤخرة الفصل، يعود إسماعيل أفندي إلى الجلوس والقراءة من القرآن، يبلل إصبعه بطرف لسانه، يفر الصفحة الواحدة وراء الأخرى، حتى يعثر على بعض الآيات المناسبة:
إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ...
وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ...
قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء ...
قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين .
لم تكن «مس هيمر» تفهم شيئا من هذا، أو ربما كان تتفهم، لم أكن أعرف، كنت أظن أنها لا تعرف اللغة العربية، فما بال أن تفهم كلام الله في القرآن!
في النوم أفكر، هل ستدخل مس هيمر النار أو الجنة، في الحلم أراها تدخل الجنة بلا صوت كما تدخل الفصل، تصورت أنها لن تدخل النار، تصورت أن إبليس لا يعرف إلا اللغة العربية، مس هيمر لن تفهمه حين يوسوس لها.
كنت أظن أن مس هيمر لا تحيض مثل النساء المصريات، لا تبول أيضا، ترتدي دائما ملابس حريرية نظيفة مكوية، الياقة منشأة، شعرها الأصفر ملفوف بعناية لا يمكن للريح أن تطير شعرة واحدة من رأسها، وجهها متورد مشرب بحمرة الدم مثل الإنجليز.
كنت أظن أن مس هيمر أغنى من المأمور أو حتى الملك فاروق، سمعت من إسماعيل أفندي أن الله هو الذي يخلق الغني والفقير، تصورت أن الله يحب مس هيمر والإنجليز أكثر مما يحب ستي الحاجة والمسلمين؛ لأن الإنجليز أغنياء والمسلمين فقراء.
كانت معي في الفصل زميلة اسمها «حميدة» من عائلة الشقنقيري، ركبت في العيد عربة كارو، وراحت تغني مع الأطفال، كانت العربة تجتاز المزلقان، وجاء القطار، سقطت «حميدة» تحت العجلات، فقدت ساقيها الاثنتين، أصبحت تمشي على عكازين من الخشب، في حصة الألعاب الرياضية تجلس على الدكة في الفناء، تتطلع إلينا ونحن نجري، تغمض عينيها تتحسس ساقيها، تتصور أنهما من لحم ودم.
كنت أرى عكازيها مركونين إلى جواري في الفصل، القشعريرة تسري في جسدي، لم يكن في مقدوري النظر إلى جسد أصابه التشوه، كنت أتطلع إلى الأجسام الصحيحة الموفورة الصحة والحيوية.
لم أحب في المدرسة إلا حصة الموسيقى والألعاب الرياضية؛ تأخذنا «مس إيفون» إلى الفناء الواسع في الهواء الطلق والشمس، نلعب الباسكيت بول والفولي بول والبنج بونج. «مس إيفون» شابة مصرية، من الصعيد، بشرتها سمراء بلون بشرتي، قامتها تقترب من قامتي، ترتدي فستانا قصيرا فوق الركبتين، تلف خصرها النحيف بحزام جلدي عريض، شعرها قصير مجعد تلفه بشريط عريض من التافتاه، حذاؤها من الجلد المطاط بدون كعب، خطوتها سريعة تشبه القفز، شفتاها منفرجتان عن ابتسامة عريضة تكشف عن أسنان بيضاء كبيرة تشبه أسنان أمي.
غرفة الموسيقى كانت في مؤخرة الفناء، يتربع البيانو الأسود الكبير ذو المفاتيح البيضاء، تجلس «مس إيفون» على المقعد الصغير «بدون ظهر » أمامها النوتة، أجلس إلى جوارها أتعلم العزف وأغني:
دو، ري، مي، فا، صول، لا، سي، دو.
تسري الموسيقى في جسدي مثل تيار الدم، تصعد إلى عنقي ورأسي، ثم تهبط إلى صدري وقلبي، أحس الخفقات تحت أضلعي، أكان هو الحب؟ هل أحببت الموسيقى أم مس إيفون؟
كنت أسمع الموسيقى والأغاني في الراديو، كلها أغاني الحب، حب الرجل للمرأة، أو حب المرأة للرجل، لم يكن من حولي رجل واحد يخفق له قلبي، كان يكفي أن أمشي في الشارع لأكره كل الرجال وكل الصبيان.
يرمقون جسدي بتلك النظرة المحملقة مثل السهم ينطلق ويصيب صدري، النهدان الصغيران أخفيهما تحت الحقيبة، أنطلق إلى المدرسة أجري، عيونهم تطاردني من أبواب المقاهي والحوانيت أو فتحات الأزقة والحواري.
يلمحني أبي وهو جالس في مقهى «جرامينو»، يشرب القهوة، يلعب الطاولة مع الرجال، ينادي علي لأذهب إليه أسلم على أصدقائه: تعالي يا نوال سلمي على الدكتور مفتش الصحة، دي بنتي نوال، أكبر بناتي، تلميذة شاطرة عند مس هيمر وعاوزة تطلع دكتورة.
كلمة «دكتورة» ترن في أذني مثل السحر، تنتشلني من عيون الرجال إلى السماء، أطير بجناحين، كنت أكره الدكاترة، خاصة الدكتور مفتش الصحة، له أصابع غليظة يقبض بها على ذراعي يغرز الإبرة في اللحم، أنفاسه لها رائحة السبرتو، أسنانه صفراء بلون الدخان، يفحص صدري بالسماعة ويضغط بإصبعه على ثديي، لم يكن لي ثدي بعد، مجرد برعم صغير مثل الدمل له بوز مدبب يؤلمني لأقل لمسة، فما بال أن يضغط عليه مثل ذلك الإصبع؟
في الحلم لم أكن أرى نفسي دكتورة تمسك بإبرة طويلة تغرزها في أذرع الناس، كنت أرى نفسي جالسة إلى البيانو أعزف الألحان، أغني وأرقص، أدب بقدمي فوق الأرض حاملة فوق رأسي قرص الشمس مثل الإلهة إيزيس.
في آخر العام كان هناك الاحتفال الكبير، اختارتني مس إيفون من بين البنات لألعب دور إيزيس فوق خشبة المسرح، حفظت الدور عن ظهر قلب، تعزف مس إيفون على البيانو من وراء الستار، أنا واقفة داخل الفستان الحريري الطويل، أبيض اللون، الضوء الملائكي الإلهي، حول رأسي تاج على شكل قرص الشمس تشع منه ملايين النجوم، أغني وأبكي على موت الإله أوزوريس، يبكي معي الجمهور الجالس في الفناء، منهم أبي وأمي وإخوتي وأخواتي وزميلاتي في المدرسة، ثم تحدث المعجزة، الإلهة إيزيس تلامس بيدها لجسد الميت، تدب فيه الحياة من الجديد، أدب بقدمي فوق خشبة المسرح، أرفع رأسي عاليا في السماء، أرقص على دقات البيانو أغنية النصر، يدب الجمهور الجالس في الفناء بأقدامه فوق الأرض، يهتفون في نفس واحد: برافو إيزيس، يقذفوني بالورد، بالفل والياسمين، يبتسمون حين يرونني أمشي في الشارع، يشاورون علي: «إيزيس أهه!»
الحلم
«نوال موهوبة، يمكن تبقى فنانة ممتازة يا زينب هانم.»
هذه العبارة تقولها مس إيفون لأمي حين تزورنا في البيت، قلبي يخفق حين أسمعها تنطق «نوال»، يصبح اسمي غير الأسماء، أسمعه لأول مرة، كلمة «موهوبة» ترفعني فوق السحب.
مس هيمر تزورنا في البيت أحيانا ومعها مس إيفون، أو تأتي مس إيفون وحدها، تفتح أمي الصالون، الغرفة المقدسة في البيت، مغلقة طول العام، النوافذ والأبواب، لا تفتح إلا للضيوف الغرباء، مقاعدها من الخشب الزان، مكسوة بالحرير الأحمر له ملمس القطيفة، مساندها ذهبية، يسمونها «الطقم المدهب»، الكرسي فيها يحمل لقب «الفوتيه»، له غطاء أبيض يحميه من الهواء والضوء. فوق الأرض سجادة عجمية كبيرة زاهية الألوان، دخلت بها أمي مع جهاز العروس ليلة زفافها.
لم يكن مسموحا لنا نحن الأطفال أن ندخل إلى الضيوف الغرباء، وتسأل مس إيفون: فين نوال؟ أسمع صوت أمي يناديني: يا نوال، تعالي سلمي على مس إيفون، أكون واقفة وراء الباب أنتظر هذه اللحظة، أرهف السمع لما يدور، أندفع إلى الصالون مثل الصاروخ.
في الصالون لم تكن أمي هي المرأة التي أراها في المطبخ، ترتدي مع ثوبها الحريري وجها آخر وجسدا آخر، ينسدل شعرها الذهبي الطويل فوق كتفيها العاريتين البيضاوين، عنقها يبدو أطول مما كان، يشع ضوءا ناعما كالرخام، يحوطه العقد «الألماظ» الماسي، تنعكس على فصوصه الأضواء، في أذنيها يتدلى الحلق الألماظ، يهتز مع رأسها، تشع فصوصه كالنجوم ، فستانها الحريري الأصفر، له حمالتان رفيعتان فوق الكتفين، يكشف عن الجزء الأعلى من صدرها حتى بداية الشق بين النهدين، يتربع «البروش» فوق صدر الفستان أعلى النهد الأيسر مثل قرص الشمس، حول معصمها الأيسر ساعة حريمي صغيرة لا يمكن رؤية أرقامها الدقيقة، محلاة بفصوص من الألماظ، حول إصبعها الخنصر خاتم الزواج الذهب، محفور عليه اسم زوجها «السيد السعداوي»، حول معصمها الأيمن الإسورة ذات الفصوص المشعة، وهي الشبكة التي قدمها أبي لأبيها يوم الخطبة.
في الصالون أمي تبدو مثل الملكة أو واحدة من الأميرات، صوتها يرن متألقا صافيا كالماء العذب، ضحكتها لها رنين الفضة، تلقي رأسها إلى الوراء مع شعرها، تضحك كاشفة عن أسنانها البيضاء، يدها صغيرة بضة تتحرك برقة في الهواء وهي تتكلم، أو تسكن في حجرها وهي صامتة، تتشابك أصابعها مع اليد الثانية، ينامان فوق فخذيها مثل توءم يمامتين.
إلى جوارها تبدو مس إيفون، تنطق أمي كلمة «إن شاء الله» بهذا الصوت، فأدرك أن الله لن يشاء أبدا، وأن البيانو لن يدخل بيتنا في حياتي.
أبي يدخل إلى الصالون ليسلم على مس إيفون، في كل مرة تسأله عن البيانو، في إحدى المرات قال لها أبي: بيانو إيه يا مس إيفون، الغلاء بيزيد يوم ورا يوم، وماهية الحكومة بتنقص!
انكمشت داخل جسدي من شدة الخزي، أصبح أبي في نظري رجلا فقيرا، داخل جلباب البيت أو البيجاما من الزفير المقلم، قدماه الكبيرتان السمراوان داخل شبشب قديم يشبه شبشب ستي الحاجة، أطرق برأسي إلى الأرض، أخفي كعب حذائي المتآكل تحت المقعد، السجادة العجمية تبدو كالحة الألوان منحولة الوبر يعلوها ثقب صغير أخفيه بقدمي.
كنت في التاسعة من العمر، أحلم كل ليلة بالبيانو، مئات الليالي، آلاف الليالي، أحلم أن البيانو هبط من السماء ودخل إلى غرفتي من النافذة، ستة وعشرون عاما أحلم بهذا البيانو حتى بلغت ابنتي «منى » العاشرة من عمرها، اشتريت لها بيانو من أحد المزادات في القاهرة، ثمنه خمسة وستون جنيها، ادخرتها من راتبي منذ تخرجت في كلية الطب، أحد عشر عاما أدخرها الشهر وراء الشهر. كنت أسكن وابنتي في شقتي في الدور الخامس «في الجيزة»، فتحت عيني في الصباح ورأيت البيانو يدخل من النافذة مربوطا بالحبال، بدت اللحظات خيال من طول ما رأيت هذا المشهد في النوم، الليلة، ستة وعشرون عاما، بدت الحقيقة هي الحلم. •••
لبيتنا في منوف غرفة واسعة تحت الأرض يسمونها «البدروم»، تخزن فيها أمي بعض الأشياء القديمة، أخي «طلعت» جعل منها عشا للحمام الزاجل، ومسكنا لكلبه الكبير «فاتي» من نوع الوولف، يشبه الذئب، تفزع منه البنات المتجمعات حول طرمبة المياه يملآن الجرار. يبتسم أخي ويمد عنقه مثل الديك الرومي. يربت على رأس الكلب كأنما هو البطل مروض الأسود. ترمقه البنات بطرف عين، تمتلئ عيونهن بالإعجاب، يتلكأن في ملء الجرار، يتضاحكن، يتغامزن، يطلقن القفشات والنكات، تطل عليهن من النافذة «أم محمد» (زوجة الحاج محمود)، فيسود الصمت، تختفي الواحدة وراء الأخرى. «بنات آخر زمن، مايستحوش!»
هذه العبارة، «أم محمد» ترددها كل يوم، كلمة «مايستحوش» تعني البنات بدون حياء أو خجل، البنات في زمن «أم محمد» كان عندهن حياء، تطرق الواحدة برأسها حين تمشي، لا يمكن أن ترفع عينها في عين رجل، لا يمكن أن يخرج منها صوت أو تضحك بصوت مسموع مثل هؤلاء الفاجرات. - في أيامنا كانت البنات مؤدبة يا أم محمد. - أيوة يا ست زينب هانم، كانت البنت قطة مغمضة، لكن النهاردة في الزمن الأغبر ده البنت من دول ماتستحيش، عينها مفتوحة، يندب فيها رصاصة يا ست زينب هانم.
هكذا يدور الحوار بين أمي وأم محمد، حين تأتي لزيارتنا، تنضم إليهما طنط نعمات (إذا جاءتنا في زيارة)، أو ستي الحاجة أو واحدة أخرى من الخالات أو العمات الزائرات. يجلسن في الصالة الواسعة على الكنب البلدي، يشربن القهوة أو المغات، تقرأ «أم محمد» لهن الفنجان، يلعبن الكوتشينة «بصرة» أو «كونكان»، تقرأ لهن طنط هانم البخت في ورق الكوتشينة، يطرقعن باللبان الدكر أو النتاية. تطرقع ضحكة طنط نعمات وهي تصيح: انا باحب الدكر أكثر من النتاية، ترتفع الضحكات النسوية الناعمة الممطوطة أو المكتومة كالشهقات، تخفي عمتي رقية نصف وجهها بطرف طرحتها السوداء وتقول: يسلم بقك يا نعمات هانم، تمط طنط فهيمة شفتيها في امتعاض: النتاية طعمها أحسن إذا كانت من الوراور، تضحك ستي الحاجة حتى تدمع عيناها تقول: الوراور مافيش زيهم، تنهض أم محمد وتعد «الحمام» أو «البخور» أو «الحلاوة». تدندن أمي بأغنية سيد درويش: «فيك عشرة كوتشينة في البلكونة»، وأغنية «يا حاير يا داير يا جوز الضراير.» - البيضة تقول للسمرة. - مين زيك عندي يا جارية. - والسمرة تقول للبيضة. - الجير كتير على الحيطاني. - واللفت بأرخص الأتماني. - وجوزي ما يحب إلا أني. - وأكثر لياليكي برة.
صوت أمي وهي تغني يترامى لي من الصالة وأنا في غرفتي الصغيرة، من وراء باب الحمام المغلق أسمع صوت صرخات طنط نعمات أو طنط هانم أو فهيمة، أدرك أن أم محمد تنزع الشعر من أجسادهن «بالحلاوة»؛ عجينة من السكر والليمون تطهى على النار حتى تصبح مطاطة، تنزع بها النساء الشعر من فوق أجسادهن، الذراعين، الساقين، تحت الإبط، أسفل البطن وبين الفخذين.
الواحدة منهن تخرج من الحمام مثل الأرنب المسلوخ، وجهها أحمر بلون الدم، ذراعاها وساقاها وعيناها، حاجباها منتوفان، وجفونها حمراء متورمة.
ترمقني الواحدة منهن بعين غاضبة، كأنما كشفت عن عورتها أو عن منبع ذلها وهوانها، تمتد يد الواحدة منهن فتلزمني في كتفي بإصبع حاد مثل الإبرة، تقرصني من خدي أو أذني أو ثديي، قرصة مؤلمة تشبه قرصة العقرب، لم أكن أعرف لماذا يفعلن ذلك، هل كانت مداعبات أم عقوبات؟ أصابع قوية مدببة متصلبة محرومة من شيء ما، تعوض عن حرماتها بأن تغرز نفسها في لحم الأطفال.
أكثرهن غضبا مني كانت طنط نعمات وعمتي رقية، امرأتان تنتميان إلى طبقتين مختلفتين، من عمر واحد تقريبا، بدون زوج «مطلقتان»، من البعد متشابهتان، عند الاقتراب يظهر بينهما التناقض؛ اليدان الكبيرتان المشققتان لإحداهما تعلوهما آثار مقبض الفأس، اليدان البيضاوان الأخريان ناعمتان من البطالة واللاعمل. الاثنتان تؤمنان بالله والرسول، تخافان من نار جهنم، تخضعان لقانون الزواج والطلاق، تقرءان الغيب في الفنجان والودع، تحضران الزار وجلسات تحضير الأرواح، تعلقان حول عنقيهما «حجابا» يبطل مفعول الحسد والسحر، ماتت الاثنتان في صمت دون أن يدري أحد، مهجورتين بلا بيت ولا أطفال.
من مكاني في «دير هام» على بعد السنين وآلاف الأميال، أراهما تسيران عبر فرجة في السحب، المرأتان الفانيتان، تحملان فوق ظهريهما صليبيها وتسيران، تلقيان بأنفسهما في النار، طاعة لله وتكفيرا عن الذنب منذ أمهما حواء.
لم أنجذب إلى حياة النسوة هؤلاء، لم أتخيل نفسي واحدة منهن، أفتح الكوتشينة لأعرف مستقبلي، أو أنزع الشعر من فوق جسدي بالحلاوة وأبكي من الألم.
حياة النساء كانت تبدو مليئة بالألم، تفوح منها رائحة البصل والثوم، أو الشبة والبخور، أو العطور الممزوجة بالعرق أو الكسل والخمول.
لم أتخيل نفسي مثل طنط نعمات أو أمي، كنت أتخيل نفسي مثل أبي، ورثت عنه حلم طفولته، أسمعه يناديني: نوال، عاوزة تشوفي السيرك؟ - أيوة يا بابا!
أبي ينتمي إلى جيل ثورة 19، من أبناء الفلاحين الذين تعلموا وحصلوا على شهادات عليا، تعلم قليلا من الكلمات الفرنسية بالجهد الذاتي، منها عبارة: «أنا أحبك
Je t’aime »، يكتبها لأمي فوق قصاصة ورق أيام الخطبة، يسمي نفسه «درعمي مودرن» (درعمي تعني المتخرج في دار العلوم)، يدخل معارك ضد فساد الحكومة، كان يمكن أن يكون وزيرا للمعارف لو أنه صادق صبري أو علم أو أحمد ماهر أو النقراشي، يلتقي بهؤلاء أحيانا في الاجتماعات، يقف على المنصة ويعلن رأيه، حاول بعضهم استمالته لدخول الحزب أو تأييد أحدهم في الانتخابات مقابل التصعيد في سلم الوزارة، كان محصنا ضد الرشوة بالفطرة والطبيعة والخوف من عقاب الله، يحلم بوطن مستقل، لا يحكمه الأجانب، نظام عادل ينصف الفقراء، نوع آخر من التعليم في الأزهر والمدارس، نوع آخر من المشايخ، يردد عبارة أمه: ربنا هو العدل، عرفوه بالعقل.
فتح مدرسة نموذجية في الجيزة للأطفال، عقد اجتماعا لرجال التعليم من جيله في الجيزة ، وضعوا خطة إقامة المدرسة، وجمعوا في عام واحد من الأموال ما يكفي، أقاموا المدرسة بجهودهم الخاصة، أقاموها في تواضع وصمت.
كان أبي يكتب الشعر ولا يسعى إلى النشر، يقرؤه لنا في الفرندة، يهز رأسه مع اللحن أو القافية، يقرأ علينا أشعار المعري وأبي نواس وبشار بن برد. أبو نواس الذي عشق الخمر والفجور. الشاعر الديب، الذي قال عن نفسه:
كأني حائط كتبوا عليه
هنا يا أيها المزنوق طرطر
أشعر بالسعادة وأنا أستمع إلى أبي، سعادتي تتضاعف حين يأخذنا نحن الأطفال معه إلى السينما أو المسرح أو السيرك.
لم يكن في منوف إلا سينما واحدة تعرض أفلام عبد الوهاب، منها فيلم «دموع الحب»، لا أذكر منه إلا أغنية: «ياما بنيت قصر الأماني»، أو عبارة واحدة من الأغنية، هي: «يا نوال فين عيونك.»
لم يكن المسرح مثل السينما، كان يأتي في المواسم أو الأعياد، مثل السيرك، الفتاة من عمري، لاعبة السيرك، تركب فوق الأسد والنمر، تمشي على الحبال، ترقص، تغني، تقفز في الهواء مثل العصفورة، جسمها الرشيق مرن بغير عظام، تحركه كما تشاء.
صورتها محفورة في ذاكرتي، صوتها يغني، حركتها الخفيفة كالريشة، أسمعها، أراها موجودة أمامي بلحمها ودمها، أنا جالسة في السيرك، صوتها السوبرانو يتجاوز جدران الخيمة الكبيرة في الميدان، مئات العيون تتطلع إليها وهي تمشي فوق الحبل، أمسك أنفاسي والجالسون إلى جواري يمسكون أنفاسهم (بمن فيهم أبي وإخوتي)، تقفز من فوق الحبل المعلق بين السماء والأرض، يصيبني الإغماء، تنفرج شفتي عن الشهقة، صورة وجهها الجانبية نحتت من الحجر المقدس، يكسوها ضوء مسحور.
السيرك يأتي في إجازة العيد، أرى الخيمة منصوبة، فأتعجب أبي للذهاب، كان أبي يتلكأ دائما، ينتظر الأقارب أو زوار العيد، هؤلاء العمات أو الخالات، لم يكن في العيد أثقل من الزوار، يتجمد قلبي وأنزوي في غرفتي، ماذا أفعل لأنقذ فرحة العيد من الضياع؟
أنتظر في غرفتي أقضم أظافري، أرهف أذني لأسمع صوت أبي يناديني: نوال، تعالي سلمي على عمتك رقية وطنط نعمات.
تظلم الدنيا في عيني، تصبح عمتي رقية وطنط نعمات أقبح وجوه في الكون، أخرج من غرفتي وأسلم عليهما، أطيع أبي ليرضي عني.
كان السيرك يبدأ أول أيام العيد، ويبقى حتى آخر اليوم، لم يكن أبي يأخذنا إلا في اليوم الأخير، منذ بداية النهار أرتدي ملابسي وأستعد، أبي يتحرك في بطء، يفرغ صبري، لا أطيق الانتظار. - يا بابا! السيرك! - سيرك إيه وكلام فارغ إيه، خليكي هنا مع مامتك ساعديها في المطبخ!
هذا هو صوت طنط نعمات أو عمتي رقية أو واحدة أخرى من النسوة، يسقط قلبي في قاع قدمي، أنظر إلى أبي، إنه متردد، سيأخذ أخي ويتركني، يشفق على أمي من التعب.
صوت أمي ينقذني: خذ نوال معاكم يا سيد، أنا مش عاوزة مساعدة.
أبي يحاول التقرب إلى أمي على حسابي، يقول لها بصوت حنون: خليها هنا تساعدك يا زينب، والشغل كتير عليكي في العيد.
يغوص قلبي مرة أخرى إلى قدمي، أتجمد واقفة في الصالة، أحملق في وجه أبي وأمي، يتبادلان الابتسامات، يغمز أبي لأمي بطرف عينه مؤكدا: خليها معاكي في المطبخ يا زينب.
أتلفت حولي، أنظر في العيون، أحاول أن أعرف الحقيقة، هل يقول أبي ذلك من باب الدعابة أو الفكاهة، كان يعرف أنني لا أطيق كلمة «المطبخ».
أخيرا بعد أن يتصبب مني العرق أرى أبي يبتسم لي ويقول: سماح المرة دي، تعالي معانا.
أقفز حتى يخبط رأسي السقف، أكاد أعانق أبي، عاش أبي ومات دون أن يعانقني أو أعانقه، لم يكن العناق جزءا من التقاليد في تلك العائلات المتوسطة، جدتي الفلاحة كانت تعانقني وتغمرني بالقبلات، «أمي» زينب هانم ابنة شكري بيه عاشت وماتت دون أن تعانقني أو تقبلني قبلة واحدة.
أعبر عن الفرح بالقفز في الهواء، أنطلق خارج البيت قبل أبي، أحرك ذراعي وساقي بقوة، قلبي مملوء بالفرح، والقلق يلازم الفرح، الوساوس تدور في رأسي: هل تأخرنا عن الموعد وانتهى السيرك من الوجود؟ أيمكن أن يغير أبي رأيه؟ يأمرني بالعودة إلى البيت لأساعد أمي؟
أبي يدرك ما أنا فيه، يتسلى أحيانا بإغاظتي، يتوقف فجأة في الطريق ، يقول: يا خبر! إحنا سايبين ماما لوحدها في المطبخ، إيه رأيك يا نوال؟
يبطئ السير أو يسلم على أحد أصدقائه في الشارع، يشتري علبة سجائر، يقف يتحدث مع البائع عن الحرب العالمية الثانية.
يا رب! أنادي على الرب وأنا واقفة أضرب بقدمي، أخي طلعت أيضا كان يضرب الأرض بقدمه، هيهات لمن ينادي، استبد بنا القلق، يشد أخي يد أبي ويقول: بابا، اتأخرنا، وأنا أصيح بدوري: السيرك خلاص راح، يا خسارة!
ينظر إلى الساعة فوق معصمه ويقول: لسة بدري أوي، يا للهول! أكره أبي إلى حد الموت، غليظ القلب، يهوى تحطيم قلوبنا، ينقلب الكره إلى حب جارف حين يمسك أخي من يد ويمسكني من اليد الأخرى وينطلق بنا إلى السيرك.
أسمع زئير الأسد أو صهيل الخيول أو النمور قبل أن نصل إلى الخيمة الكبيرة، على الباب الزحام شديد، لم نكن نلحق إلا بمقاعد فوق الدكك الخشبية العلوية «الترسو»، فاتنا بعض الألعاب البهلوانية أو رقصة الخيول أو الأسد أو الفيل أو النمر، الفتاة الراقصة تمشي على الحبال، كانت النمرة الأخيرة لحسن الحظ، قلبي لا يكف عن الخفقان، أنفاسي تصعد وتهبط، أحرك ذراعي وساقي، أرقص معها، في آخر النمرة تنحني الراقصة للجماهير، يلهبون أكفهم بالتصفيق، يصيحون، يصفرون، تمر على الصفوف في يدها الدف، تصبح على بعد صفين أو ثلاثة من مقاعدنا، أشعر بقربها مني، فإذا رأسي يدور، سأقفز من المقعد إليها، أفكر في عمل شيء خارق للعادة، أحوطها بذراعي وأعانقها، ثم أعود إلى مقعدي في غمضة عين لأجلس بين أبي وأخي مثل المصلوبة أو المحكوم عليها بالموت، أرتعد في مكاني، أخشى أن أقفز فعلا في المقعد، أخفي وجهي بيدي وأكاد أبكي.
في طريق العودة إلى البيت أسير صامتة مطرقة الرأس، ليس أمامي إلا البيت المعتم وغرفتي المعتمة والأيام المعتمة والوجوه المعتمة من العمات والخالات، لا أمل في العودة لرؤية السيرك، بدءوا ينزعون قوائمه من الأرض، واختفت الخيمة الكبيرة، وعاد الميدان مثل الخرابة الواسعة.
قبل أن أنام همست في أذن أخي: عاوزة أقول لك حاجة مهمة أوي! - إيه هي؟ - إوعى تقولها لبابا أو ماما أو أي حد. - إيه هي؟ - احلف بربنا إنك مش حتقولها لحد. - إيه هي بس؟ - احلف بربنا الأول. - والله العظيم مش حقولها لحد. - احلف ثلاث مرات. - مرة واحدة كفاية. - يا تلات مرات يا بلاش. - بلاش.
في الصباح رأيت الحاج محمود واقفا مع أبي في الصالة، جاء يستدين مبلغا من المال حتى أول الشهر، ناوله أبي المبلغ داخل مظروف صغير. «أول الشهر يا سيد بيه المبلغ كله حيكون عند سعادتك.»
قال الحاج محمود هذه العبارة وهو يمد يده لأبي بإيصال، أمسك أبي الورقة بين يديه ثم مزقها. «مش معقول، أمسك عليك ورقة يا حاج محمود، كلمتك عندي كفاية، الكلمة شرف.»
الخادمة أحضرت صينية القهوة، مع البسكويت أو الكعك. أمام البيت الحمارة واقفة فوق ظهرها أكوام من القماش، أخي طلعت يعاكسها، يناديها: يا عزيزة، معلهش معلهش ... شيه! شيه! مقلدا صوت الحاج محمود. يأتي الكلب الوولف جريا نحو أخي، يربت على رأسه، يرمق البنات المتجمعات حول الطرمبة.
رآني أخي، فاقترب وهمس في أذني: إيه بقة السر بتاع امبارح؟ - احلف بربنا ثلاث مرات ما تقوله لحد.
أخيرا يستسلم أخي، يقسم بالله العظيم ثلاث مرات، أقرب فمي من أذنه وأهمس له بالسر: أنا قررت حابقى إيه لما أكبر؟ - حتبقي إيه؟ - رقاصة زي البنت اللي في السيرك.
رمقني أخي طلعت بعينين يملؤهما البريق، قرب فمه من أذني وهمس: أنا حاضرب مزيكه على العود، وانتي ترقصي، ونعمل فيلم دموع الحب زي عبد الوهاب!
ربط هذا السر بيني وبين أخي، بدأت صداقتنا تنمو.
أخي «طلعت» متعدد الهوايات، ينتقل من هواية إلى هواية.
يشركني في بعض هواياته، علمني العزف على العود والغناء، ولغة الحمام الزاجل، يربط الرسالة في ساق الحمامة، يقرب فمه من منقارها ويهمس بشيء، تطير الحمامة في الجو ثم تعود إليه وفي ساقها رسالة أخرى.
لأخي صديقة اسمها «إيلينا» ابنة «زخاري» اليوناني صاحب البقالة في شارع الكنيسة، هي الأخرى تهوى الحمام الزاجل، تجلس إلى جواري في المدرسة وتقول إنها تفهم لغة الحمام.
حاولت أن أفهم لغة الحمام دون جدوى، أرهف أذني لصوت الحمامة وهي تقرب منقارها من منقار الحمامة الأخرى، لا أسمع إلا زغونة بلا حروف ولا كلمات، تصورت أن إيلينا وأخي طلعت أكثر ذكاء مني.
أخي من النوع الكتوم، لا يبوح بأسراره لأحد، يغلق على نفسه باب غرفته، يفتح نافذته المطلة على الطرمبة، يرمق البنات وهن يملأن الجرار، في يوم رأيت واحدة منهن تتشعبط فوق الجدار، تمسك بقضبان النافذة وتأخذ منه شيئا، ماذا كان أخي يعطي البنات؟ في يوم رأيته يعلق شرائط سوداء فوق نافذته، تصورت أن واحدة من صديقاته ماتت، كانت أمي تقول له: باين عليك ورثت خالك يحيى في الجري ورا البنات.
قبل أن تنام كانت أمي تغلق الباب على الخادمة سعدية حتى لا يدخل إليها أخي في الليل، في الإجازة الصيفية اشتركت مع أخي في هواية جديدة، هي نشر الخشب الأبلاكاش، قضينا شهور الصيف ننشر الخشب بمنشار طويل رفيع، صنعنا من الخشب أشكالا كثيرة من الطيور والحيوانات والناس، صنعنا سيركا فيه أسد ونمر وفيلة وخيول، جعلنا الراقصة رشيقة واقفة على إصبع قدم واحد، صنعنا رجلا يشبه إسماعيل أفندي في يده عصا من الخيزران، ومس هيمر بحذائها ذي الكعب السميك، وطنط نعمات، وعمتي رقية، وأم محمد، والحاج محمود فوق حمارته.
أقمنا معرضا كبيرا في البدروم، وضعنا التماثيل الخشبية منتصبة فوق قواعدها، دعونا أبي وأمي لافتتاح المعرض، مضى على هذا اليوم ثلاثة وخمسون عاما، الصورة محفورة في ذاكرتي، هبط أبي وأمي فوق السلالم على نغمات اللحن الافتتاحي، عزفه أخي على العود، قص أبي الشريط، ورفعنا الستار، ملاءة كبيرة بيضاء، جلست أمي إلى جوار أبي في الصف الأول، جلس الإخوة والأخوات وجمهور صغير من الأقارب والجيران، زملاؤنا وزميلاتنا في المدرسة.
أمسك في يدي عصا خشبية رفيعة، أحركها في الهواء على نغمات العود، أنا «المايسترو»، بطرف العصا أشير إلى الشخصيات الخشبية، أحكي عنهم قصصا من تأليفي، رأيت العيون مشدودة إلى حركة يدي، الحياة تدب في التماثيل لمجرد لمسة من طرف العصا، أشخاص حقيقيون يلعبون أدوارهم في قصص حقيقية، الحمام الزاجل يتكلم بلغة الناس، حمارة الحاج محمود أيضا نطقت وبدأت تغني مع اللحن الذي يعزفه أخي على العود: الصبح بدري أشيل فوق ضهري القماش ... - توب فوق توب فوق توب ... - يدلدل رجليه ... - أدور بيه في الحواري طول اليوم ... - آخر النهار نرجع ... - أنا ماشية وهو راكب ... - معلهش يا عزيزة! شيه! شيه!
يغني أخي طلعت معي المقطع الأخير، نردد معا مع دقات العود الراقصة: معلهش يا عزيزة! شيه! شيه! - شيه! شيه! - شيه! شيه!
المدعوون يدقون الأرض بأقدامهم ويغنون معنا، الحمام الزاجل انطلق في الهواء يتراقص مع اللحن، تتدلى من ساق الحمامة رسالة حب بيضاء ترفرف في الجو مثل العلم.
الأسد والنمر والفيلة والخيول ترقص هي الأخرى فوق قواعدها الخشبية، راقصة السيرك تقفز في الهواء، إسماعيل أفندي يضربها على ردفها بالعصا وطربوشه يقع، مس هيمر تدب بكعب حذائها على الأرض، طنط نعمات تمط الحلاوة وتنزع الشعر عن ساقيها، عمتي رقية ترقص في الزار وتنكش شعرها، «أم محمد» تهش البنات عن الطرمبة وتقول: بنات فاجرة آخر الزمن!
في نهاية العرض عزف أخي اللحن الختامي، سمعنا التصفيق يدوي في البدروم، أبي وأمي واقفان في الصف الأول يصفقان، عيونهما تلمع، تقدم أبي نحو أخي وصافحه لأول مرة في حياته، يضحك ويقول له: إذا فشلت في الدراسة اشتغل مزيكاتي زي عبد الوهاب، صافحني أبي أيضا لأول مرة في حياتي، وقال: خيالك واسع في حكاية القصص، أمي تضحك وتقول: إذا فصلوا أبوكم من الحكومة نعمل فرقة في المسرح زي بتاعة الريحاني.
بدأت أثق في خيالي وقدراتي على حكاية القصص، أصبح البدروم هو أجمل بقعة في الكون، كل شيء فيه يتراقص، حتى العنكبوت في السقف يرقص داخل خيوطه الرفيعة، بيديه ورجليه يصفق، للتصفيق في أذني دوي، حركة اليدين وهما تصفقان، أيدي أبي وأمي، عيونهما تلمع بالدموع، في أعماقي طاقة محبوسة تود الانطلاق، لا أعرف كيف. •••
الطاقة الحبيسة في جسدي أحسها تحت القلب مباشرة، في الخندق العميق تحت الضلوع، ما هي؟ الفرح، الحزن، الغضب، الحلم بالحرية والطيران خارج جدران المطبخ والبيت والمدرسة؟ إلى أين؟
الحلم يتجمع تحت ضلوعي، حلم قديم، أقدم من الذاكرة والتاريخ، أصدق حلم هو حلم الطفولة، ينفصل عن زمانه ومكانه، يصبح أكثر صدقا وأكثر نقاء، يتوالد مع الزمن.
أحتضن الحلم وأنا نائمة، أهدهده، إنه طفلي المقدس، تحوطه هالة من البراءة، يتحول في النوم إلى الجسد الدافئ، ذراعاه تلتفان حولي كذراعي أمي، إن هجرني تتسرب مني قوتي، يتملكني الحنين إليه، كأنما هو حرارة القلب، الطاقة المحركة لجسدي، إن زاد علي الحد يصبح شلالا هادرا من الغضب يكتسحني، يدمرني وأنا نائمة في الليل، يهدأ الشلال نهرا وادعا حنونا أو شعاعا دافئا من الشمس.
في الصبح أفتح عيني وأنظر في عيني أختي «ليلى» أو أخواتي الأخريات، أبحث في عيونهم عن ذلك الشيء أو الحلم الذي يؤرقني في الليل، عيونهم كانت صافية هادئة لا تكشف عن أرق أو شيء ينغص عليهم النوم، في المدرسة أيضا كنت أنظر في عيون البنات، أبحث في الجامعة، في كلية الطب، أنظر في عيون الزميلات والطبيبات، وكل من أرى من النساء، أحملق داخل عيونهم باحثة عن ذلك الحلم.
ربما خيال وليس حقيقة، الحلم يبدو لي كالحقيقة، جزءا من الحقيقة، عقلي الباطن كان يصحو في النوم، يتحرك داخل رأسي، يجعلني أطير وأحلق في السماء، في جوف البحر، في بطن الأرض، وأموات داخل القبر.
العقل الباطن مثل المخزن أو البئر، ترسب في القاع الأشياء الثقيلة على القلب، تطفو على السطح الأشياء الخفيفة، الطيران والفرح، أفتح عيني في الصباح مشرقة مثل الشمس، قلبي يخفق لليوم الجديد بدم جديد، النوم غسلني من أحزان الأمس، كيف؟ كأنما لم يكن هناك أمس.
الحب الأول
فتحت نافذتي ذلك الصباح في بداية خريف 1941م، البرودة رقيقة، أول برودة بعد قيظ الصيف، الحقول ممدودة، أمام عيني بساط أخضر، شجرة كبيرة في الحديقة المجاورة، ملونة بجميع الألوان، حمراء، زرقاء، صفراء، خضراء، برتقالية، فضية، ذهبية، ترتعش أوراقها تحت الهواء، عصافير الجنة، تتساقط إلى الأرض، ترتجف فيها بقايا الروح.
قلبي يخفق تحت ضلوعي، أنا على موعد مهم، أنتظر حدوث شيء غير عادي، هذا اليوم لا يبدو كغيره من الأيام، يوم خارق للعادة، جسدي ينتفض مع انتفاضة وريقات الشجر، عيناي متسعتان، أذناي مرهفتان، تحاولان التقاط الصوت، أي صوت؟!
أينبعث من السماء؟ كان يأتي من الفرندة العلوية في الدور الثاني، متفردا ليس أي صوت، يلامس أذني، يسري من عنقي إلى صدري، يهبط إلى قدمي، يصعد إلى رأسي مع دورة الدم.
غناء مع دقات على العود، يغني لي وحدي، ليس في الكون أذن غير أذني تلتقطه من جزيئات الهواء، حفيف أوراق الشجر يتحول مع النسمة إلى شدو غناء.
عرفت من خديجة ابنة الحاج محمود أنه قريب لهم، اسمه «فتحي»، يدرس الفنون الجميلة في مصر (القاهرة)، لا يأتي إلى منوف إلا في إجازة الصيف أو أيام العيد.
الهواء يحمل إلي صوته مع إشراقة الصباح، وعند الغروب تتورد السماء بالغسق الأحمر، تذوب الحمرة في اللون البرتقالي المتعدد الدرجات، من لون إلى لون، تنتشر الألوان فوق ذؤابات السحب البيضاء كأجنحة الفراشات.
في الفرندة أجلس وحدي أرقب السماء، أندهش لهذا الكون النابض بالحركة الخفية رغم السكون، الألوان تصبح لونا واحدا هو السواد، النجوم تظهر فجأة، تولد من بطن السماء، ملايين النجوم، ملايين العيون تطل علي يكسوها بريق حنون.
عيناي تتعلقان بنجمة وحيدة في الركن، ترمقني من بعيد، هي نجمتي، ولدت معي، تنطفئ حين أموت.
عندما يأتي المساء ونجوم الليل تنثر،
اسألوا الليل عن نجمي، متى نجمي يظهر.
كنت أسمع هذه الأغنية في الراديو، بصوت عبد الوهاب، الناس يقولون إنه أجمل الأصوات في مصر، لم يكن يحركني، أو يجعل قلبي يخفق، كان يغني لكل الناس أو لا أحد بالذات.
الصوت القادم من الفرندة العلوية يغني لي أنا بالذات، تتصاعد الضربات تحت ضلوعي مع دقاته على العود، عيناي تجوبان معه السماء، تبحثان في النجوم، عن النجم، متى نجمه يظهر؟
تصورته خيالا في الحلم، صوتا خارج الكون، رأيته لأول مرة بلحمه ودمه، تجسد أمامي واقفا أمام الحامل الخشبي وسط الزرع الأخضر، في يده فرشاة يرسم فوق اللوحة، ظهره كان ناحيتي، فلم يرني.
كان هذا الحقل أمام بيتنا، يملكه فلاح اسمه «عم صابر»، زوجته اسمها «صابرين »، لهما ابن من عمري اسمه «عبد المنعم»، ينادونه «منعم»، يشبه ابن عمتي نفيسة «جلال».
كنت أرى الزرع وألعب في الحقل مع منعم وأطفال الجيران، كما كنت ألعب مع أولاد وبنات عماتي في كفر طحلة، تبتسم «صابرين» حين تراني وتسعل بصوت عمتي بهية وتقول باللهجة نفسها: «الغيط نور يا ست نوال.» تقطع لي كوز ذرة، باذنجانة سوداء، تملأ كفي بالفول الحراتي.
منعم يرتدي جلبابا ملوثا بالطين، بشرته سمراء، عيناه سوداوان، فمه مفتوح دائما في ابتسامة عريضة، أسنانه سوداء يأكل بها الباذنجان الأسود النيئ، يتشعبط فوق الجدار، يمسك بقضبان النافذة الحديدية وينظر داخل بيتنا، يشهق: ياه! عندكم عفش حلو أوي، أحلى من بتاع الملك، ربنا أعطاكم خير كتير، احنا الفلاحين ربنا غضبان علينا يا ست نوال.
رنت الكلمة «ست نوال» في أذني، فصعد الدم إلى وجهي، كان منعم يناديني «نوال» مثل كل الأطفال، لماذا أعطاني هذا اللقب الكئيب «ست»؟ أصبحت في عينه مثل هؤلاء الستات من أمثال طنط نعمات؟ هل ستي الحاجة أفشت السر؟! لم تكن تكف منذ أدركني الحيض عن الثرثرة، نوال بلغت سن الرشد، استوت مثل التينة البرشومي في انتظار العريس.
تمنيت أن تنشق الأرض وتبتلعني، أردت أن أحرك ساقي وأجري، لم أتحرك من مكاني، قدماي مثبتتان في الأرض بالمسامير، ظهره ناحيتي وهو واقف أمام اللوحة، في يده الفرشاة يرسم «عم صابر» وهو يروي الزرع، ذراعاه وساقاه تحت المياه في القناة، رأسه ملفوف بكوفية رمادية اللون فيها نقط سوداء، عيناه غائرتان تلمعان في الضوء، تتحركان فوق اللوحة، تنظران إلي كأنهما عينا «عم صابر» الحقيقي.
استدرت لأختفي قبل أن يستدير، تحرك في تلك اللحظة حين نطق منعم «ست نوال»، اتسعت عيناه بدهشة حين رآني، كأنما يكتشف وجودي لأول مرة في الكون.
عيناي أيضا تتسعان، أكتشف أنه كائن حقيقي وليس من الخيال.
الاكتشاف الواحد جمعنا نحن الاثنين في لحظة واحدة، مثل «السر» ربط بيننا كالسحر، صوت عم صابر يقول وهو يشير إلى اللوحة: ياه، شكلي حلو كدة يا أستاذ فتحي؟!
عرفت اسمه ، الحروف الأربعة «ف، ت، ح، ي»، أسمع حرفا واحدا منها فتضطرب الدقات تحت ضلوعي، تفقد حركة الدم نظامها داخل القلب، الكون أيضا يفقد نظامه، لم يكن في مقدرتي أن أنطق اسمه كاملا، أول حروفه «ف» أصبح قادرا على إحداث الخلل كالاسم الكامل.
لم أنطق اسمه لأحد، أخاف أن تلتقط الآذان الرعشة في صوتي، الدقات تحت ضلوعي، أن تلمح العيون الدم يصعد إلى وجهي، خداي البارزان يصبحان بلون الطماطم أو الجزر الأحمر.
في العاشرة من عمري، أدركت قبل أن يدركني الوعي أن الحب حرام، كلمة «حرام» تعني أن الله هو الذي حرم الحب.
الراديو لا يكف عن أغاني الحب، أم كلثوم تغني ليل نهار: «مدام تحب بتنكر ليه، ده اللي يحب يبان في عينيه.» عبد الوهاب لا يكف عن نداء الحبيبة: «يا نوال، فين عيونك؟» فريد الأطرش ينوح بالليل والنهار على حبيبته، أسمهان بصوتها المبحوح تتغنى بالحبيب الغائب، ليلى مراد تردد: «يا حبيبي تعالى الحقني شوف اللي جرى لي.» فوق الجدران في الشوارع إعلانات عن فيلم: «يحيا الحب»، «دموع الحب»، «غرام وانتقام»، صور النساء نصف العاريات يعانقن الرجال.
أمي تغني مع أم كلثوم: «مدام تحب بتنكر ليه، ده اللي يحب يبان في عينيه.» طنط نعمات تغني للحب مع الراديو، خالتي فهيمة (الأستاذة فهيمة شكري)، أبي يسميها «خفير الدرك»، تدب بكعب حذائها الحديدي وتدندن لنفسها بصوت خافت: «مدام تحب بتنكر ليه.» ستي الحاجة وهي متكورة فوق سجادة الصلاة بجوار الراديو تغني مع أم كلثوم، يرتفع جلبابها وهي تربع ساقيها فألمح بطنها، قطعة من الجلد المتهدل تعلوه الكراميش، هل كان أبي بجسمه الضخم داخل هذا البطن الضامر؟ أمي تلد الأطفال من فتحة بين فخذيها، ستي الحاجة هل لديها هذه الفتحة؟ أم أصبحت مسدودة بالكراميش؟! «مدام تحب بتنكر ليه، ده اللي يحب يبان في عينيه.»
هذا هو صوت ستي الحاجة تغني مع الراديو بعد أن أدت الصلاة، وجهها الأسمر المكرمش ناحية النافذة، عيناها ممدودتان نحو الأفق في شرود، هناك ذكرى ما في ماضيها البعيد ، أهي ذكرى الحب؟
سألتها هل عرفت «الحب» في حياتها؟ رمقتني بعينيها الضيقتين الغائرتين، ابتسمت وامتلأت عيناها بالبريق: «طبعا حبيت يا بنت ابني، حبيت ربنا سبحانه وتعالى، وحبيت سيدنا محمد ألف صلاة عليه، وحبيت الإمام الشافعي والسيدة زينب، والسيد البدوي، وحبيت ابني السيد ربنا يحميه، وحبيت بناتي الخمس، أغلاهن هي زينب، أغلى الكل هو أبوكي ربنا يخليه ويطول عمره.» - قصدي الحب التاني يا ستي الحاجة. - الحب التاني إنهوه يا بنت ابني؟ - اللي أم كلثوم بتغني له. - ده كلام راديو يا بنت ابني، واحنا في الكفر لا عندنا راديو ولا عندنا حاجة اسمها حب من اللي بالك فيه، البنت في الكفر أول ما تبلغ ياللا هوب يجوزوها على طول، الشهر الجاي فرح زينب بنت عمتك بهية، انتي وهي مولودين في وقت واحد، ولازم عريسك جاي في السكة بإذن الله ونفرح بيكي في العيد (صوتها يرن في أذني: ونضحي بيكي في العيد). •••
الحب الأول هو أول الأسرار في حياتي، لم يعرفه أحد من الإنس أو لا الجن، في القرآن آية تؤكد وجود الجان، لم يكن لي أن أنكر وجود هذه الأرواح الخفية، أخشى أن تلمسني روح منها وأنا واقفة في الفرندة، أرمقه من بعيد وهو واقف وراء الحامل الخشبي، لم يكن لي أن أنطق حروف اسمه وأنا نائمة في الليل، هذه الأرواح يمكن أن تسمع أي شيء.
لا أذكر من شكله إلا بريق العينين، لم أعرف ما لون عينيه، أسود أو أزرق أو أخضر بلون البرسيم، لونهما يتغير مع حركة الشمس، مع تغير الألوان في السماء، قميصه الأبيض الواسع يمتلئ بالهواء يشبه الروح المحلقة فوق الزرع، بلا جسد، بلا بطن أو فخذين، أو أعضاء، خاصة «العضو» الذي يندفع منه البول في جسد أخي، لم أتخيل أنه يبول مثل أخي أو الآخرين من البشر، وأن له فتحة شرج تخرج منها فضلات الطعام أو الغازات.
كنت أنجح في المدرسة بامتياز، المدرسات والمدرسون يقولون إنني شديدة الذكاء، ذكائي كله كان يتبخر حين أراه، صوتي أيضا يضيع ، أفقد القدرة على النطق. «أهلا نوال.»
الكلمتان ينطقهما حين يراني، كلمتان عاديتان أسمعهما من الناس حولي، «أهلا» كلمة ترحيب مألوفة، ترن في أذني بصوته خارقة للعادة، غامضة، محملة بأسرار الكون. «نوال» اسمي المألوف يصبح غير مألوف، اسما جديدا تولد به فتاة أخرى، «سندريلا» تركب حصانا يطير بها في الجو مثل الحمامة.
أهو خيال الطفولة الجامح؟ أم الأغاني والروايات الوهمية عن الحب؟ أو الحب الحقيقي يحدث في سن العاشرة من العمر؟
قلبي لم يخفق بالقوة التي خفق بها وأنا طفلة في العاشرة من العمر، أصحو قبل الفجر على صوت بكاء مكتوم، لا أعرف من يبكي، صوت أنفاسي العميقة تشبه النشيج، أيكون هذا الصوت كافيا لأصحو من النوم؟ أم أنه حلم أيقظني؟ أتكور في الفراش تحت الأغطية، أفكر ماذا كنت أحلم، أحاول أن أتذكر، أستجمع عقلي وخلايا جسدي، الحلم يتسرب مني، قطرات تتسرب من ثقوب المصفاة أو سراب يتلاشى عند الاقتراب. •••
بعد شهر سافرنا إلى كفر طحلة لنحضر حفل زفاف زينب ابنة عمتي بهية، أول فرح أحضره في قريتنا ... زينب تكبرني في السن بقليل، قامتها من طول قامتي، بشرتها بلون بشرتي، تمسك القلم بين أصابعها وتكتب فوق الكراسة اسمها: زينب عبد الحليم سعداوي.
زينب كانت تحلم أن ترى نفسها أستاذة مثل خالها السيد بيه، خالها هو أبي، أبوها هو ابن عم أبي، يرتدي جلبابا طويلا باهت اللون، طاقيته فوق رأسه مخرمة، أصابع يديه مشققة، أظافره سوداء، ظفر الإبهام مكسورة بضربة فأس، يرى أبي قادما فينتفض واقفا، يناوله الكرسي ويجلس هو على الأرض.
لا يمكن أبدا حاكون زي أبويا، لازم اتعلم وأبقى أستاذة زي خالي البيه، والناس في كفرنا تشاور علي وتقول: دي الأستاذة زينب السعداوي.
دار عمتي بهية مثل كهف من الطين الأسود، في الصالة المظلمة جلست على الحصيرة فوق الأرض، البراغيث تلدغني، جمهرة من الفلاحين والفلاحات بالجلاليب السوداء تفوح منها رائحة التراب والعرق، مجموعة من البنات الصغيرة داخل الجلاليب المزركشة، تمسك كل واحدة منهن بذيل الأخرى، يرقصن ويغنين:
اتمختري يا حلوة يا زينة، يا وردة من جوة جنينة ... مبروك عليكي عريسك الخفة يا عروسة يا زينة الزفة مبروك عليكي ... يا عريس انظر حلوة جميلة وانت يا حلوة يا زينة الزفة مبروك عليكي.
من باب الزريبة رأيت البقرة واقفة مطرقة الرأس تمضغ التبن، تنظر إلي بعينين صامتتين مملوءتين بالحزن، زينب «العروسة» جالسة وسط البنات داخل جلبابها المزركش مطرقة الرأس، تمسح دموعها بكم جلبابها، تلتقي عيناها بطرف طرحتها السوداء، من تحت الابتسامات أرى الدموع الجافة في عيون النسوة، جالسة في الركن وسط النساء تسعل وتمسح عينيها بطرف طرحتها السوداء، من تحت الابتسامات أرى الدموع الجافة في عيون النسوة، جالسات واجمات، تتذكر كل منهن ليلة زفافها.
العريس هو ابن عمها، فارع الطول مثل رجال آل السعداوي، يمشي بين الرجال مزهوا بجلبابه الجديد، حوله الشباب والصبيان يدقون الطبول، يدبون على الأرض بكعوبهم، يرقصون، يلوحون بالعصي في الهواء، كالسيوف، يغنون:
خدناها من وسط الدار ...
وأبوها قاعد زعلان.
خدناها بالسيف الماضي ...
وأبوها ما كانش راضي.
الداية «أم محمد» ظهرت فجأة مثل عزرائيل الموت، أمسكت زينب من ذراعها وسارت بها إلى الغرفة الخلفية، أردت أن أدخل معها، الباب انغلق في وجهي، ارتفعت أصوات الطبول وزغاريد النسوة تغطي على الجريمة، صرخة زينب ارتفعت من وراء الباب المغلق، صرخة حادة ممدودة حتى السماء، تحشرجت في النهاية كالنفس الأخير.
تصورت أنها ماتت، الباب انفتح وخرجت «أم محمد» تزغرد رافعة البشكير الأبيض غارقا في الدم، انطلقت الزغاريد بأصوات النسوة الحادة تشبه صراخهن في المآتم، أبو زينب «عمي عبد الحليم» راح يمشي مختالا بين الرجال، نهضت أم زينب «عمتي بهية» لفت حول ردفيها طرحتها وراحت ترقص بين النساء، أمسك العريس عصاه الطويلة المدببة كالسيف، يحركها في الهواء ويرقص.
هذه العصا سوف تلسع ردفي زينب قبل أن تعد له العشاء، تذوق طعم عصاه قبل أن تذوق طعامه ، وتعرف أن الله فوق في السماء وهو تحت فوق الأرض، أن طاعة زوجها من طاعة ربها.
نمت على الحصيرة تحت الغطاء، أذناي أسدهما بيدي، صرخة زينب لا تزال، من الغرفة المجاورة سمعت صوت ستي الحاجة يهمس في أذن واحدة من عماتي: الدور الجاي على بنت ابني السيد، والعريس جاهز من مجاميعه، ابن عمها الحاج عفيفي، أبوه عنده أربعتاشر فدان، كل فدان ينطح أخوه، غير الدكان، عريس الهنا لبنت السيد بيه، ربنا يتمم على خير يا رب!
صرخة زينب طمست قدرتي على السماع أو الفهم، تصورت أن بنت السيد بيه واحدة غيري، ثم أدركت أنها أنا. إن العريس جاهز لي، من هو؟ لا أكاد أعرفه، رأيته مرة واحدة جالسا على الدكة الخشبية في دكان أبيه، فلاح نحيف الجسم، شاحب الوجه، عيناه صغيرتان غائرتان تلمعان مثل الصقر، له شارب أسود يمتد فوق شفته العليا من الأذن اليمنى إلى اليسرى، عظام وجهه بارزة مدببة، أنفه طويل مقوس يشبه منقار الحدأة، تزوج من قبل ثم ماتت زوجته وهي تلد طفلها، عيناي ظلتا مفتوحتين في الظلمة، الجدران الأربعة من حولي سوداء بلون الطين، السقف منخفض يكاد يسقط فوق رأسي، عروق غليظة من الخشب تمنع السقف من السقوط، في أركانها عشش العنكبوت، نخرها السوس، في شقوقها تراكم الدخان كالهباب الأسود، تئن تحت الزمن بصوت مسموع يشبه أنين القطط، فوق السطح تراكمت بلاليص المخلل والجبنة الحادقة أو المش، أكوام الذرة الجافة والقطن وأقراص الجلة «الروث» جففتها الشمس، تجري بينها السحالي والصراصير والخنافس، تتقافز من حولها القطط.
مضى على تلك الليلة أكثر من نصف قرن، لكنها في ذاكرتي حية، وأصوات الليل في أذني وأنا راقدة في تلك القرية الصغيرة المطلة على النيل، عواء الذئاب الجائعة في الحقول، نباح الكلاب من بعيد، أنفاس أختي «ليلى» الراقدة بجواري، فمها مفتوح، وريالتها تسيل فوق ذقنها، عيناها نصف مغمضتين، تهرش بيديها الاثنتين بطنها وظهرها، لدغات ترسم فوق بشرتها البيضاء آلاف النقط الحمراء.
أنين عروق الخشب في السقف لا يزال في أذني، ملمس الدموع في حلقي، طعمها فوق لساني مثل الملح، أبتلعها وأنا راقدة فوق الحصيرة، أكتم أنفاسي حتى لا يلحظ أحد أنني مستيقظة، أخبئ رأسي تحت الغطاء، أفكر ماذا أفعل؟ هل أستسلم لهم مثل زينب ابنة عمتي؟
في أعماقي العميقة الصوت يقول: لا يمكن أبدا أبدا! في النوم رأيت نفسي أجري في الظلمة، أختفي في بطن الجسر، ألقي نفسي في مياه النيل، يجري العريس من خلفي فاتحا فمه، يبتلعني كما ابتلع الحوت سيدنا يونس، في بطن الحوت أصنع بإصبعي المدبب ثغرة أنفذ منها إلى مياه البحر، أسبح كالسمكة أطفو على السطح، أحرك زعانفي تحت أشعة الشمس، تتحول الزعانف إلى أجنحة من الريش لأطير كالعصفورة، أحلق فوق الحقول الخضراء الممدودة حتى الأفق، أراه واقفا بين الزرع وراء الحامل الخشبي يرسمني فتاة، عيناها سوداوان يكسوهما البريق.
صوته يتسرب إلي من تحت الأغطية، قلبي يرفرف ريشة في الهواء، غناؤه يترامى من الفرندة العلوية:
عندما يأتي المساء ونجوم الليل تنثر،
اسألوا الليل عن نجمي متى نجمي يظهر.
عزفه على العود يسري تحت الغطاء، ينساب في الظلمة ناعما، له نعومة جسدي، له رائحة الزرع، أشمه من تحت الأغطية، وألمسه بيدي، بذراعي العارية تحت ضوء القمر وأنا ملفوفة بالغطاء.
أفتح عيني، فأرى عروق الخشب السوداء في السقف، أسمع طنين البعوض، «نعير» البقرة في الزريبة، شخير ستي الحاجة في الغرفة المجاورة، أغمض عيني لأعود إلى النوم، أحاول استعادة الحلم، الحلم لم يعد، وإنما هو الكابوس، الوجه الغريب بعيني الصقر وأنف الحدأة، الشارب الأسود الممدود فوق الشفة مثل خنفسة سوداء ذات أرجل رفيعة كالعنكبوت ... أكره منظر الشوارب في وجوه الرجال، لأبي شارب ليس مثل شوارب الذكور، أبي ليس ذكرا، الأبوة والذكورة لا يجتمعان في خيالي. •••
العريس الأول في حياتي هو الفلاح ذو الشارب الأسود، رأيت نفسي في الحلم مثل زينب ابنة عمتي، فلاحة مشققة القدمين واليدين، لم تعد تقرأ ولا تكتب، نسيت زينب حروف اسمها، ترقد فوق الفرن في الشتاء متورمة الساقين، تسعل بصوت أمها، تنادي على حفيدتها بصوت أمها ، تنادي على حفيدتها بصوت منكسر: يا بت يا صدفة يا بت، قومي قامت قيامتك، احلبي الجاموسة واكنسي تحت البقرة!
حفيدتها في العاشرة من عمرها، أخرجتها من المدرسة تشتغل في البيت والحقل. تعدها للزواج من ابن عمها، تفعل ببناتها وحفيداتها ما فعله أبوها فيها، أذكرها بحلمها القديم فتضحك وتقول: ده كان زمان يا دكتورة نوال، النهاردة العيشة صعبة والمدارس غالية، والشغل كتير في الدار وفي الغيط، ويعني اللي اتعلموا واتخرجوا في الجامعة عملوا ايه؟ أهم قاعدين في الكفر، لا فيه شغل ولا وظايف زي مان، حتى اللي راح ليبيا والعراق مارجعش، فيهم اللي مات في الحرب وفيهم اللي رجع عريان من غير كفن جوة الصندوق، والباقي طفش على بلد ثانية، وربنا يعلم ياما قلوبنا انكسرت على ولادنا يا دكتورة.
هذا هو صوت زينب ابنة عمتي حين زرتها في كفر طحلة في صيف عام 1991م بعد حرب الخليج.
قبل ذلك بخمسين عاما كنت أسير نحو حتفي لأتزوج ابن عمي الحاج عفيفي، سوف يبني لي بيتا من الطوب الأحمر بجوار الدكان، أمه ستعلمني الخبيز والعجين، حلب اللبن من الجاموسة، عمل الجبنة القريش فوق الحصيرة، ملء الزلعة من البحر، خلط الروث بالتبن لصنع أقراص الجلة.
أمه فشلت في هذه المهمة، تقترب مني فأهب فيها مثل الكلب المسعور.
هكذا تبخر العريس الأول في الجو، ذاب مع سحب الصيف الرقيقة ... انتشرت الشائعات في عائلة أمي وأبي حول اختفاء العريس الأول.
الأستاذة فهيمة شكري تزعمت عائلة شكري بيه، تدب بكعب حذائها فوق الأرض، تشمخ بأنفها في السماء، يشبه أنف أبيها، وتقول: معقول يا ناس بنت زينب هانم تتجوز فلاح جلنف؟!
كلمة «جلنف» ترن في أذني مثل الموسيقى، لم تكن طنط فهيمة تنطق هذه الكلمة إلا في غياب أبي وستي الحاجة.
عمتي فاطمة أكبر العمات سنا تتزعم عائلة السعداوي، تلف الطرحة السوداء حول رأسها، تخفي فمها بكفها الكبيرة المشققة وتهمس في أذن أبي: قلت له: يا واد بنت خالك السيد بيه على سن ورمح. قال لي: اسكتي يا عمة، دي بنت بندر لا تعرف تعجن ولا تخبز ولا تحلب الجاموسة. قلت له: يا واد دي بنت مدارس تعرف القراءة والكتابة. قال لي: اسكتي يا عمة، حاعمل إيه بقرايتها وكتابتها، ولا قرايتها حتوكلني ولا كتابتها حتشربني!
هذا الفلاح الفصيح كان يمكن أن يكون زوجي، لولا القراءة والكتابة أنقذتني، القراءة والكتابة أنقذتني من رجال آخرين وعرسان جاءوا من بعده حاملين الشهادات العليا من جامعة القاهرة أو السوربون أو أكسفورد، يكتشف الواحد منهم أنني أحب ملمس القلم في يدي أكثر من مغرفة الأكل أو يد المكنسة فيتبخر في الجو مع نسمة الليل الرقيقة. •••
في صيف عام 1942م حصلت على الشهادة ابتدائية بامتياز، لم يبتهج أحد من عائلة أبي أو أمي؛ الحزن على فشل أخي كان يغطي على الفرح بنجاحي، ترمق ستي الحاجة النهدين البارزين فوق صدري وتهمس في أذن أمي: «البنت كبرت يا ست زينب وخايفة عليها تبور، إلهي ربنا يرزقك يا ابني بعريس الهنا لبنتك نوال، وتجوز بناتك كلهم وأنا عايشة على ضهر الدنيا.»
لم أعد أخرج لألعب مع الأطفال أو أركب البسكلتة، إذا طلبت إذنا للخروج من أبي أو أمي لا أسمع إلا هذه الكلمات: «انتي كبرتي خلاص! البيت عاوز تنضيف! البصل في المطبخ عاوز تقشير! البلاط في الحمام عاوز دعك.»
أنكفئ فوق البلاط أدعكه حتى يلمع لأرى وجهي فيه، وجها حزينا مملوءا بالدموع، العيون من حولي يملؤها الفرح، يفرحون حين أدعك البلاط أكثر مما يفرحون بنجاحي في المدرسة.
حين ينامون وقت الظهيرة أدخل مكتبة أبي، عثرت بين الكتب على كتاب «الأيام» لطه حسين، تصورت أنني سوف أفقد بصري كما فقده طه حسين، طول البكاء في الليل، أتخطئ أمي كما أخطأت أمه وتضع في عيني بدل القطرة صبغة اليود؟
في منوف وكفر طحلة كنت أرى أطفالا فقدوا أبصارهم، عين واحدة مفتوحة والأخرى مغلقة، نقطة بيضاء تزحف فوق النني الأسود، الجفون متورمة يملؤها الصديد، والذباب يغطي وجوههم. «هش الطير من على وشك يا نوال.»
هذا صوت أمي حين تلم ذبابة فوق وجهي، الذباب اسمه «الطير»، تمسك أمي الرشاشة الحمراء المرسوم عليها ذبابة ضخمة سوداء، بطنها مملوءة «أبالتوكس»، والدموع أو محلول ال «د. د. ت»، ترش أمي البيت كله والنوافذ مغلقة، يتساقط الذباب مثل رذاذ مطر أسود، أسعل وأعطس والدموع تتساقط من عيني.
قبل أن ننام تقطر أمي في عيوننا قطرة حمراء أو بيضاء أو المرهم، أو مسحوق أبيض كالدقيق يسمونه «الششم»، يمنع الالتهاب الذي يؤدي إلى العمى.
واحدة من بنات الحاج محمود كانت عمياء، أكبر من خديجة قليلا، اسمها نعمة الله، وضعت أمها في عينيها مسحوق الشطة بدل الششم، تجلس فوق الأرض حبيسة البيت، تقرأ القرآن بصوت عال، جلبابها ممزق ملوث بالتراث، تلسعها أمها على ظهرها بالعصا: قومي يا بت قامت قيامتك اغسلي المواعين على الطرمبة.
أطل عليها من بين قضبان النافذة الحديدية، تنكفئ فوق الحلل والمواعين تدعكها بالتراب أو قطعة حجر، ظهرها ناحيتي، تستدير بوجهها كأنما تراني ... لها قرون استشعار خفية، أو حاسة جديدة ولدت في جسدها تعوضها عن حاسة البصر، تتطلع بعينيها إلى نافذتي، الرموش السوداء فوق جفونها تهتز في ذبذبات سريعة، مثل رموش عرائس المولد، تنفرج شفتاها الشاحبتان عن ابتسامة وتقول: صباح الخير يا نوال.
لا أستطيع النظر إلى عينيها دون أن يصيبني الدوار، لم أتصور أنهما لا تريان، كانتا مفتوحتين واسعتين، بياضهما صافيا، «النني» أسود يكسوه البريق، كيف فقدت بصرها، لا أستطيع أن أسالها، مسحوق الشطة أحمر اللون، مسحوق الششم أبيض، كيف تخطئ أمها؟! وضعت المسحوق في عينيها في الظلمة، لم يكن في بيتهم نور كهرباء.
هبطت إليها ذلك اليوم وفي يدي كتاب «الأيام»، أردت أن أقرأ لها بعض أجزاء، تصورت أنها يمكن أن تقهر الظلام كما قهره طه حسين.
حين اقتربت منها قربت فمها من أذني وهمست بصوت تخشى أن يسمعها أحد: «فتحي» جاي بكرة.
انتقض الكتاب وسقط من يدي، كيف عرفة نعمة الله السر؟! لم يكن يعرفه أحد إلا الله، ستي الحاجة تقول: إن الله يعطي سره لأضعف خلقه. «العرافة» في كفر طحلة امرأة عمياء انكشف عنها الغيب، يلجأ إليها الناس تقرأ لهم المستقبل. شيخ أعمى كان يعرف كل ما لا يعرفه الناس، الجنين في بطن أمه ذكرا أو أنثى، كان يعرف النساء العاقرات تزوره الواحدة منهن فتحبل، تدخل معه الأوضة الضلمة، يعلق «الحجاب» حول عنقها فيه آية من القرآن، تصورت في طفولتي أنه كلما زاد العمى عند المرأة أو الرجل زادت معرفته بالله وأسرار الغيب.
واقفة أمام «نعمة الله» أرتعد، كأنما سقطت ملابسي فجأة، أصبحت عارية تحت عينيها، اسم «فتحي» حين نطقته بصوتها أصبح مادة صاعقة قادرة على تدمير نظام الكون، إحداث خلل في دورة الأفلاك، الأرض أيضا فقدت توازنها، كانت مستقلة في مكانها أصبحت تدور حول نفسها أو حول الشمس، الكتاب في يدي أيضا ساقط على الأرض.
كنت أظن أن هذا الخلل يحدث في العالم الخارجي فقط، أدركت أنه يشملني أيضا من قمة رأسي إلى أصابع قدمي، يتصبب العرق من جسدي، يبلل ملابسي، أحسه تحت الإبطين، فوق ظهري يهبط إلى الساقين ليدخل إلى حذائي يبلل الجورب.
أخفيت وجهي في الأرض لألتقط الكتاب، تفاديت النظر ناحية نعمة، بصيرتها أشد حدة من حواس الناس الخمس، حروف الاسم الأربعة «فتحي» مكتوبة فوق جبينها تقرؤها مثل كتاب مفتوح.
عيونها مثل عيون الجان، أو الملائكة يقرءون الكتاب المكتوب فوق الجبين، كتبه الله قبل أن يولد الإنسان من بطن أمه.
كنت أجري إلى البيت، نسيت أن أعطيها الكتاب، لم أنس، أدركت أنها قهرت الظلام أكثر مما قهره طه حسين، وليست في حاجة إلى الكتب.
اختفيت في سريري تحت الغطاء، هل تسرب السر إلى الآخرين عن طريق نعمة؟
أغمضت عيني، كأنما الإغماضة تخبئني عن أعين الناس أهرب إلى النوم، لكن النوم تخلي عني أيضا، تركني وحدي أحمل العبء، أي عبء؟!
عبء الكتمان؟ هذا السر؟ أهناك سر؟! جسدي مملوء بالأسرار المكبوتة كالأثقال، الأحاسيس المكتومة غير المفهومة، الكلمات المجهولة غير المنطوقة، غير القابلة للنطق بأي لسان بأي لغة.
أهي اللغة تقف بيني وبين الحب؟ الحروف المصنوعة بألسنة الناس؟ الكلمات المكتوبة فوق الورق، أهو الخوف، أكنت مملوءة بالخوف؟!
كنت أخاف «الله»، وأخاف ألسنة الناس، ألسنة الناس يمكن أن تلوث سمعتي وسمعة أهلي. «الناس تقول علينا إيه؟»
هذه العبارة أسمعها من جميع الأفراد في عائلة أمي وأبي. خالتي فهيمة لم يمكن يهمها أن أضحك بصوت عال وحدي في غرفتي، «لا أحد يسمعني إلى الله»، تنهرني فقط حين أضحك بصوت عال أمام الناس: «الناس يقولون عليكي بنت مش مؤدبة.» خالتي نعمات لم يكن يهمها أن تلدغني القملة في فروة رأسي، كل ما يهمها «مس هيمر» تقول علينا إننا مقملين؟ حين يرسب أخي في المدرسة يقول له أبي: «الناس بيقولوا ابن مفتش التعليم فاشل في التعليم.» حين يفور اللبن وأنا أغليه على النار تقول أمي: «الناس تقول عليكي مش عارفة تغلي شوية لبن.»
تسللت من السرير في منتصف الليل، البيت كله نائم، جلست في الفرندة وحدي، ضوء القمر ينعكس فوق قناة الماء بين الزرع، شريط طويل من الفضة، البدر في السماء مكتمل الاستدارة، أبيض البشرة له عينان سوداوان تنظران إلي، والصوت يهمس مثل خفيف الهواء: «فتحي جاي بكرة.»
سرت القشعريرة في جسمي، انتصب الشعر فوق ذراعي العارية تحت الضوء الأبيض، شعر أسود دقيق كالأشواك المنتصبة، جذوره مفتوحة المسام تمتص ضوء القمر، مشدودة عيناي إلى القرص المتوهج بالأشعة الفضية، تمتصانها حتى آخر قطرة.
أصابتني رجفة، حركت رأسي بعيدا عن القمر، الحملقة في البدر بالعينين المفتوحتين تسلبهما البصر، هكذا سمعت من الناس، اشتدت الرجفة في جسدي، الخوف من فقدان البصر أم الهواء ازداد برودة؟ جالسة في مقعدي بالفرندة، مقعد من القش فوق شلتة صغيرة لها كيس أبيض.
رأيت البقعة الحمراء فوق الكيس الأبيض، غاص قلبي في قدمي، لم يمض إلا أسبوعان فقط منذ الحيض الأخير، «المفروض أن يمضي شهر أو ثلاثة أسابيع على الأقل»، علاقة ما بين دورة القمر في السماء ودورة الحيض عند النساء، هكذا سمعت من جدتي: «البدر» المتوهج بالضوء قادر على تفجير دم الحيض؟! انجذاب الدم الأحمر للقرص الفضي كما تنجذب إليه العيون؟
الدورة في جسدي لم تكن تتبع دورة القمر؛ لها نظامها الخاص الخارج عن نظام الكون، تمضي أربعة أسابيع دون أن أرى البقعة المدنسة، يخف قلبي، أشعر بالفرح ... أتصور أن الله سمع دعائي، منع عني الأذى، فأراه ماثلا في السروال كالقضاء والقدر، يتحول إلى نزيف ينخلع له القلب، يستمر يوما أو يومين أو عشرة، ينقطع ثم يعود بعد أسبوع أو أسبوعين، يشتد إذا قفزت عاليا، أو إذا سعلت أو عطست أو حزنت أو فرحت أو أصابني انفعال أكثر من المعتاد. «فتحي جاي بكرة»، الفرح يشتد ومعه الألم، في الصباح لم أنهض من السرير، آلام كثيرة تجتاح جسدي، حشرجة في قلبي وصدري مع السعال، تقلصات في الأحشاء والمعدة مع القيئ، إحساس بالدنس والمهانة، الرغبة في الاختفاء عن العيون.
أبالغ في المرض، أسعل بصوت عال حتى تسمعني أمي، تتركني راقدة لا تكلفني بعمل شيء في المطبخ، يشتد السعال فيظن أبي أنني مريضة بالسل مثل عمتي بهية، أبتلع دواء مرا رائحته نفاذة كصبغة اليود، تضع أمي فوق ظهري لبخة «الأنتوفلوجيستين»، عجينة داخل علبة من الصفيح تسخن على النار حتى تغلي، ثم تفرش فوق الجلد ... لا تفعل اللبخة شيئا إلا بعض الحروق والتسلخات ... تستبدل أمي هذه اللبخة بشيء آخر يسمونه «كاسات الهواء»، كئوس زجاجية يوضع داخلها نار لإحراق الهواء ثم تقلب فوق الظهر، ينشفط اللحم داخل الكأس ليحل مكان الهواء المفرغ، كانت الفكرة أن البرد أو المرض ينشفط أيضا خارج الجسم إلى الكأس، ويحدث الشفاء، الشفاء لم يكن يحدث، بل الآلام الشبيهة بنار جهنم والحروق في الجلد.
كنت أفضل هذه الآلام على النهوض من السرير أو غسل الصحون في الحوض أو دعك بلاط المطبخ أو المرحاض، كان سريري من الصاج الأبيض يشبه أسرة المستشفيات له ملة من الأسلاك الطويلة المستقيمة المشدودة، تضيع استقامتها، تنحني تحت ثقل جسمي. في أيام الحزن والحيض يثقل قلبي، تنحني الأسلاك أكثر، تئن من تحتي كأنين القطة المريضة، ونشيج طفلة صغيرة تشعر بالوحدة.
كان لغرفتي نافذة لها قضبان حديدية مثل النوافذ الأخرى في البيت، تصورت أن وظيفة هذه القضبان هي منع البنات من الخروج، وليس منع اللصوص من الدخول، شعاع من الضوء دخل من بين القضبان ومعه صوت يشبه الغناء: أهلا نوال.
من تحت النافذة رأيته واقفا، لم أر منه شيئا إلا هو ... الحضور المفاجئ، التجسد لشيء كنت أظنه خيالا، لم أكن أرى إلا نصفه الأعلى أو هما العينان فقط ... هاتان العينان لا أرى منهما إلا البريق أو الضوء، الشمس تنعكس في عيني، فلا أرى شيئا، أو ربما هو حضوره المفاجئ يجعلني لا أرى شيئا حتى حضوره ذاته.
كنت أستحضر هذا الحضور تحت الغطاء في سريري أحاول أن أجسده، غيابه كان أكثر عذوبة، أكثر تألقا، كنت قادرة على تجسيده على النحو الذي أريد، أختفي حين أراه لأتخيل حضوره وهو غائب، أصبح الخيال أجمل من الواقع. - أهلا يا نوال. - أهلا يا ...
لم أنطق اسمه، رأيته يبتسم، أشرق وجهه، تألق البريق في عينيه كالضوء القوي، لا يمكن للعين أن تحملق فيه. مضى في طريقه ممسكا حقيبة جلدية سوداء، وفي يده الأخرى العود داخل كيس من الدمور، يضربه الهواء الذي هب فجأة، واحتجب الشعاع وراء السحب.
كنت واقفة وراء النافذة أمسك القضبان الحديدة بيدي الاثنتين، الحديد الصدئ يخدش بطن اليدين، أمسكه بقوة لا أتركه، الشيء الصلب المتزن في كون غير متزن، اختفيت وراء النافذة، أخفي وجهي، خداي ساخنتان، يداي باردتان خشنتان، الخدوش فوقهما تزيدهما خشونة، تمسكان بشرتي الملتهبة، أكنت مريضة بالحمى أو السل الرئوي؟
المرض تلاشى في غمضة عين، كيف؟ وجدتني أنطلق خارج غرفتي، صاروخ قاطرة يدفعها البخار المضغوط، أستطيع أن أفعل أي شيء، أهد بيد جدران البيت، ألوي القضبان الحديدية بيد واحدة، أكسر الباب الخارجي بضربة واحدة من قدمي، أخرج إلى الشارع وألحق به قبل أن يصل إلى شارع المحطة. توقفت في الفرندة لحظة لألتقط أنفاسي، الأشجار تتمايل تحت ضربات الريح، ريح قوية حارة كالصهد، محملة برمال الصحراء، الكون لونه أصفر، السحب بلون الرمال، السماء ترعد، رذاذ المطر يتساقط فوق الأرض الترابية تحت الفرندة .
قفزت السلالم في خطوة واحدة، في أعماقي قوة تدفعني إلى الانطلاق، قوة غريبة لم أعرف مصدرها، أهي السماء الصفراء، أم حركة الريح، أم صوت الرعد؟ دقات المطر فوق التراب ؟ الرائحة النفاذة للطين بالماء؟ فتحت الباب الخارجي بيد واحدة، نظرت إلى الخارج، المطر تحول إلى سيل هاطل، امتلأت الحفرات في الأرض الترابية بالماء كالبرك الصغيرة، وقفت على العتب ممسكة بالباب ... تساقط جسدي فوق العتبة، وجلست أشعر بالتعب، المرض، الذهول، لماذا انطلقت نحو الباب؟ هل أنوي الخروج؟ إلى أين؟!
بعد لحظات استعدت هدوئي، عاد الكون إلى اتزانه، لم تعد بي رغبة في الخروج، لم أعرف لماذا، هل أصبح الخروج غير ضروري؟ غير منطقي؟
صعدت درجات السلم عائدة إلى الفرندة، إلى الصالة، ورأيت أمي تضع فوق المائدة مفرشا جديدا بالإبرة الكروشيه، غرفة الصالون بابها مفتوح، دخلت إلى غرفتي واختفيت تحت الغطاء، لم أكن أتمارض، هو المرض الحقيقي، وجع في القلب، الندم أو تأنيب الضمير. كنت أنوي اللحاق به قبل أن يسافر، المطر أغرق الشارع، لم يكن لي أن أغوص في البرك والوحل ... أكان ذلك كل شيء؟
في اليوم التالي، أشرقت الشمس، غسل المطر أوراق الشجر من رمال عاصفة الأمس، فتحت عيني في الصباح على صوت أم كلثوم يغني في الراديو: «يا ليلة العيد آنستينا، وجددتي الأمل فينا، يا ليلة العيد.» إنه اليوم الأخير في العيد، أو اليوم بعد الأخير، الصالة في بيتنا لا تزال تمتلئ بالأقارب من عائلة أبي وأمي.
غرفة الصالون مفتوحة، فيها ضيوف ... الراديو مفتوح على أعلى درجة صوت؛ ليعرف الجيران أن عندنا راديو.
كان صوت أم كلثوم مثل صوت عبد الوهاب لا يهزني. يبعث بعض الطرب لا يهز الأعماق، صوت محايد يغني لكل الناس.
أستشعر الخواء أو الفراغ في كلمة «الكل»، أريد أن أكون شيئا، لم أتخيل أنني أعيش وأموت «مثل الكل» دون أن يحدث شيء، ما هو؟ إحساس غامض، يتملكني صوت في أعماقي يقول: لم أكون مثل كل البنات؟ لن أكون مثل أمي أو جدتي أو خالاتي أو عماتي أو غيرهن.
لن أكون أيضا مثل جدي أو أبي أو أخي أو أخوالي أو أعمامي أو غيرهم من الرجال.
مثل القنفذ أتكور في سريري، أستجمع حواسي في حاسة واحدة «السمع»، أحاول التقاط شيء مما يدور في الصالة، تجمعت النسوة من عائلة أمي وأبي، الهمس يدور بينهن مثل هسيس الريح، هناك شيء يدبر في الخفاء، شيء يتعلق بي أنا بالذات، شيء خطير يمكن أن يحطم حياتي أو أحلامي. ••• «البسي الفستان الحرير الجديد عشان تقدمي القهوة للضيوف في الصالون.»
هذا هو صوت أمي ذلك اليوم، في عينيها نظرة غريبة لا تشبه أمي، عيناها ليستا هما عينيها، هما عينا طنط نعمات أو فهيمة أو هانم، النظرة المزدوجة، ظاهرها الفرح باطنها الحزن، الصدق الكذب، الكره الحب.
كنت أدخل إلى الضيوف دائما حاملة الصينية، من فوقها فناجين القهوة وأكواب الماء، منذ أدركني البلوغ أو الحيض أصبحت أختي الأصغر «ليلى» هي التي تقدم القهوة، أو الخادمة سعدية.
العروسة والعريس
هذا الضيف غير عادي، لماذا أقدم له القهوة وليست أختي ليلى أو الخادمة؟ إذا كانوا قد دبروا خطة ما فسوف أفسدها، لن تنتصر علي هؤلاء النسوة المجتمعات في الصالة، ضحكاتهن ترن في أذني، ماذا يضحكهن بهذا الشكل الوقح؟ لماذا تكركر بضحكة أنثوية ماجنة ممطوطة، لم أسمع ضحكة أمي بين هذه الضحكات، شعرت بنوع من الطمأنينة، أتقف أمي بجانبي؟!
الضحكات تنقطع فجأة وأسمع الهمس أو الهسيس يرن في أذني أكثر وقاحة من الضحك، أراهن من شق الباب جالسات متكئات متلاصقات فوق الكراسي والكنب البلدي، يرن صوت أبي أو رجل في غرفة الصالون، فينتفضن كالدجاجات المذعورات يطاردهن ديك في عشة الفراخ يبغي اغتصابهن، يتنافسن عليه، تشده الواحدة منهن إليها بيدها، وتطرده بعيدا عنها باليد الأخرى.
أهو الانفصام أو الحلم بالاغتصاب؟ تخفيه الواحدة منهن في الأحشاء كالجنين السفاح، تحوطه بذراعيها حين تغيب في النوم، يطل في عينيها حين تصحو مثل جذوة نار مغطاة بالتراب في حفرة أرض. تحت عيونهم الرمادية الصفراوية الباردة أرى شعيرات دموية متفجرة بلون أحمر. عيناي، أيمكن أن يصبح لهما هذا اللون أو هذه النظرة المزدوجة؟ احتراق تحت السطح، وقناع أبيض فوق الوجه من مسحوق البودرة، يشبه الجير أو الجبس المذاب في الماء؟
كنت أهرب من عيونهن، لا أطيق النظر فيها، وفيها مرض معد مثل الجذام، ما إن تلامسني نظراتهن حتى ينتقل إلي المرض.
الليلة السابقة لمجيء هذا الضيف لم أذق طعم النوم من الهسيس، التقطت كلمة «العريس»، جلست في الفرندة وحدي طوال الليل.
وجهي محتقن بالدم، يداي فوق خدي ملمسها خشن، خدش القضبان الحديدي فوقهما، صورته أمامي واقفا تحت نافذتي، صوته يسري في أذني: أهلا نوال. صوته في الغياب أكثر عذوبة ورقة، الحزن على الغياب ينقيه من الشوائب كلها، ومنها الحزن ذاته، رقيق شفاف مثل رذاذ المطر، ينتشر في السماء، ملايين الذرات الضوئية تنقي الهواء من الرمل والتراب المتطاير.
نسمة الليل الناعمة، أنامل حانية تلامسني، يزحف الحزن إلى جسدي، يذكرني الحنان بغياب الحنان، تتعلق عيناي بنجمة بعيدة وحيدة تلمع عيناها بالدموع، ضوءها ثابت قوي، لا ترتعش كالنجوم الأخرى، أتكون هي نجمتي؟! كان أبي يشير إليها ويقول: «كوكب الزهرة.» كانت عند العرب قبل الإسلام واحدة من الإلهات اسمها «العزى»، تحولت إلى امرأة عاهرة منكوشة الشعر شبيهة «بالوحش»، قادرة على إغواء الرجال، على إخراج الله من قلوبهم، أغوت رجلين هما هاروت وماروت، بعد أن أغوتهما أرادت الصعود إلى السماء، الله منعها من الصعود، أوقفها في منتصف الطريق بين الأرض والسماء، أصبحت هذه النجمة الوحيدة بلا حول ولا قوة، تحمل اسما آخر غير اسمها الأول. السماء في الليل مخيفة، محاطة بالأسرار، عيون الله تراني جالسة في الفرندة، وعيون الجان، الذين ورد ذكرهم في القرآن.
كنت أخاف من الجلوس وحدي في الظلام، أخشى أن تنقض علي روح من تلك الأرواح الخفية، جلست تلك الليلة وحدي في الظلمة، كنت أفكر في شيء خطير أنساني الجان والعفاريت، هل أتسلل في الليل وأهرب من البيت قبل أن يأتي الصبح؟
كانت الفكرة تسيطر على عقلي إلى حد الرعدة، هل أمشي في الظلمة وحدي؟ تفترسني الذئاب التي تعوي طوال الليل، يسرقني اللصوص الذين يخرجون إلى الشوارع بعد أن ينام الناس؟
أنتفض جالسة فوق الشلتة في المقعد القش، المخاطر كلها تضاءلت إلى جوار الخطر القادم في الساعة السادسة والنصف مساء الغد ...
الجميع يرتبون لهذا الموعد من وراء ظهري، أشياء جديدة كانت تأتي، فناجين قهوة مزركشة لم أرها من قبل، أكواب تلمع مثل الكريستال، مفارش فوق المناضد، ستائر فوق النوافذ، البياضات فوق الكراسي، كلها انغسلت وانضغطت تحت المكواة الحديدية. السجادة العجمية الكبيرة في الصالون خرجت فوق سور الفرندة تحت الشمس، بالمضرب الخيزران ضربتها أمي وثلاث من النسوة حتى آخر ذرة تراب، تحت الضربات كانت السجادة تحتك بالسور الحجري، يصدر عنها صوت كأنين إنسان من لحم ودم.
هذه السجادة العجمية رافقت أمي من ليلة زفافها حتى ليلة موتها، تنتقل معنا من بيت إلى بيت، ومن بلد إلى بلد، حيث يحلو للحكومة أن ترسل أبي، داست فوقها الأقدام من الضيوف والزوار، شهدت مولدي ومولد إخوتي التسعة، ألوانها الزاهية بهتت مع السنين، يتراكم التراب في ثناياها مع الحزن، وهبوب الرياح، ينحل وبرها في برد الشتاء إلى حد وجود ثقب تراه العيون.
أمي حين تضرب السجادة تغلق جفونها وتزم شفتيها، ترفع المضرب الخيزران عاليا ينطح السماء، تهبط فوق السجادة بكل قوتها، كأنما تضرب مخلوقا حيا ليلفظ النفس الأخير، تبدو أمي امرأة أخرى ليست أمي، ليست المرأة الرقيقة ذات الصوت الناعم، البشرة الحريرية والعيون العسلية.
كل شيء فيها يتغير حتى لون عينيها، تكسوهما طبقة رمادية معتمة كعيني أمها، تضرب الخادمة بالمضرب الخيزران نفسه، بكل قوتها تضربها، بالغضب المخزون في جسدها منذ ولدتها أمها.
لم تشترك طنط نعمات ذلك اليوم في ضرب السجادة، كان لها دور آخر مع عمتي رقية، قبضت علي الاثنتان داخل الحمام، واحدة أمسكت يدي الاثنتين، الثانية فرشت «الحلاوة» فوق ذراعي كما تفرش لبخة الأنتوفلوجستين، ثم راحت تنزع الشعر عن الجلد ... صراخي كان يرتفع من وراء باب الحمام، أرفسهما بقدمي وركبتي، جاءت ستي الحاجة وربتت على كتفي: كله لمصلحتك يا عين أمك.
ما هي مصلحتي في نزع الشعر عن جسدي؟ أدرك بالفطرة أن الشعر فوق الجسد نوع من القوة، الكرامة؟
أي مصلحة في البشرة المسلوخة الملساء مثل جلد الثعبان ؟ أي نوع من العرسان ينجذب لهذه البشرة؟ أي نوع من الرغبة أو الشهوة تثيرها هذه البشرة إلا شهوة الاغتصاب والإذلال؟!
أقسمت وأنا جالسة في الفرندة أن أهرب قبل أن يطلع الفجر، هبطت السلالم على أطراف أصابعي، فتحت الباب الخارجي، نظرت في الظلمة الممدودة أمامي، أغمضت عيني، ألقيت نفسي فيها، أقفز في بحر أسود أغرق فيه حتى الموت.
عدت إلى مكاني فوق المقعد في الفرندة ألهث، قطع الشريان فوق معصمي أسهل من الخروج إلى الشارع المظلم. دخلت إلى الحمام معي الموسى الذي أبري به القلم الرصاص، كان أبي يحلق به ذقنه، قربت الموسى من معصمي، يدي ترتعش تكاد تقطع إصبعي بدل الشريان، رأيت الدم ينزف من إصبعي، انتفضت كالفأرة المذعورة، عاجزة عن التنفس، الهواء لم يعد هواء، مياه سوداء تغرقني. عدت إلى مكاني في الفرندة، الليل كان طويلا يتسع لكل شيء ... للهرب ... للانتحار، للقفز من سور الفرندة وكسر عظامي، أصرخ بأعلى صوت، أشعل عود كبريت في صفيحة الجاز أحرق البيت، جلست في مكاني عاجزة عن فعل أي شيء.
بدت هذه الأشياء نوعا من الجبن، حياتي بدت أعز من أن أفقدها، عظامي أثمن من أن أكسرها، لم يكن سور الفرندة عاليا بالقدر الذي يساعد على الموت، ربما أفقد عظام ساقي وأعيش على عكازين من الخشب مثل زميلتي حميدة، ولماذا أحرق البيت بكل ما فيه؟ النار ستزحف إلى غرفة أخواتي الصغيرات، بريئات بلا ذئب، وأختي الصغرى الرضيعة، لماذا أحرقها مثل الآخرين؟ أليس هو الجبن بعينه؟
الدم من إصبعي المجروح توقف عن النزف، البعوض يرن في أذني، بعوضة فوق ذراعي المنزوعة الشعر، بشرتي بيضاء ملساء تشبه ذراع أمي أو طنط نعمات، البعوضة كبيرة الحجم (بالنسبة للبعوض البريء يلدغ دون أن يسبب المرض)، ساقاها الخلفيتان أطول من الساقين الأماميتين، مؤخرتها عالية، رأسها منخفض يخرج من فمها خرطوم طويل يشبه الإبرة، تغرسه في لحمي وتمص الدم.
لم أشعر بالألم، بل هي اللذة، تمنيت أن تفرغ البعوضة عروقي من الدم، تنفث سمومها كلها في جسدي.
البعوضة تمتلئ بالدم، انتفخ بطنها مثل الأنثى الحامل، لم تعد قادرة على الطيران، التصقت بذراعي ونامت، دمي كان مسمما، مصته البعوضة حتى آخر قطرة، حلاق الصحة في كفر طحلة يضع دودة طويلة وراء أذن المريض لتمص الدم الفاسد، شعرت بالراحة كأنما شفيت، بدأ النوم يداعبني.
خيوط الفجر تولد من بطن الأفق، وضعت نفسي في السرير، لذة الشفاء بعد المرض، لذة الراحة بعد الليلة المرهقة، الاستسلام الكامل للقضاء والقدر، التحرر من الخوف من القضاء والقدر، الانتباه إلى شيء آخر، عاد الصفاء إلى عقلي مع وميض الضوء، فكرت في خطة أنقذ بها نفسي، كانت فكرة بسيطة، أبسط من فكرة الانتحار. ••• «ياللا يا نوال، البسي الفستان الجديد.»
تظاهرت بالطاعة العمياء، نهضت من السرير، امتدت أذرع النسوة بالفستان، أولها ذراع طنط هانم، يدها تسوي الكشاكيش فوق صدري، بأصابعها قرصت ثديي، تبعتها يد طنط نعمات، قرصتني في الثدي الآخر وهي تصيح: عشان ربنا يرزقني بالعريس على طول، أصابتني قرصتها بألم في حلمة الثدي، لدغة عقرب أو ثعبان.
فكرة شائعة تقول: إن قرص العروسة من ثديها أو فخذها أو ذراعها يجلب العرسان لغيرها من البنات، يدر اللبن في الأثداء الجافة، ويؤدي إلى الحبل عند النساء العقيمات.
انقضت علي النسوة من عائلتي أمي وأبي، العانسات منهن والعاقرات والمطلقات والأرامل والبائرات والعاجزات عن الحبل أو الزواج أو العثور على رجل يطفئ اللهيب تحت السطح البارد ... أصبحت قطعة لحم فريسة لأصابعهن الصلبة المتصلبة المصرة على اغتصاب اللذة المكبوتة المحرومة المدفونة في القاع، في بطن الأرض «البور» المتعطشة حتى التشقق.
وقفت مستسلمة للأيادي، الأصابع تقرصني في بطني، في ثديي، في فخذي، في عنقي، في أي مكان من جسدي، استسلام كامل دون مقاومة، أختزن طاقتي لتنفيذ خطتي السرية، في الليل وأنا نائمة في الحلم، كنت أرقد عارية الجسد تنهشني أصابع مدببة كأسنان الكماشة الحديدية ، أحاول النهوض لأهرب، لا أستطيع الحركة، ذراعاي وساقاي مربوطة في الأرض والأبواب كلها مقفولة.
كان ضمن طقوس تجميلي (في عين العريس) هو دعك أسناني بمسحوق الملح، تصبح بيضاء لامعة ، قامت بهذا الدور طنط فهيمة، أسناني ليست بيضاء بالقدر الكافي، أحب أكل الباذنجان الأسود من الحقل، أقضمه بأسناني دون طهي مثل منعم، يترك فوقها طبقة سوداء لا تغسل بفرشاة الأسنان العادية.
أمسكتني طنط فهيمة وهي تقول: «العريس يطفش على طول لو شاف سنانك السودة دي!» وراحت تدعك أسناني بمسحوق الملح وأنا أصرخ، في المرآة رأيت اللثة حمراء متورمة، تنزف الدم لأقل لمسة بطرف إصبعي.
شعري أيضا لم يكن يعجب هؤلاء النسوة من الخالات، لم يكن مرسلا ناعما مثل شعورهن، فيه تموجات طبيعية، طنط نعمات تراه نوعا من القبح، «العريس يطفش على طول لو شاف شعرك المجعد ده يا جارية ورور!» راحت تكوي شعري بالمكواة الحديدية، تسخنها على النار حتى يصبح حديدها أحمر، تلف بها خصلات شعري، في أنفي رائحة الشياط، الدخان المتصاعد من شعري المحترق يكتم أنفاسي، لسعتني بطرف المكواة في طرف أذني.
في مدخل الصالون شماعة من الخيزران لها مرآة مستطيلة، ينظر فيها الضيوف، يخلعون الطرابيش، المعاطف، الكوفيات، يعلقونها على أذرع الشماعة قبل الدخول.
الشماعة في ممر صغير مربع، أمر به حاملة صينية القهوة قبل أن أدخل إلى العريس، تحت رف الشماعة السفلى باذنجانة بشرتها سوداء، بلون وجه إبليس، توقفت أمام المرآة أنظر إلى نفسي، فتاة غيري داخل فستان حريري يكشف عن ذراعين بيضاوين مسلوختين، شعرها ناعم مرسل فوق كتفيها، شفتاها حمراوان، خداها حمراوان، عيناها حمراوان، يعلوهما حاجبان رفيعان مقوسان نتف شعرهما بالملقط، قدماها مقوستان تتأرجحان فوق كعبين رفيعين.
وضعت الصينية فوق الأرض، مسحت اللون الأحمر من شفتي بكفي، قضمت الباذنجان بأسناني، نكشت شعري بأصابعي، حملت الصينية ودخلت بلا صوت، رأسي مطرق إلى الأرض مثل البنات المؤدبات، جفوني مسدلة مثل القطط المغمضة قبل أن أدخل وقفت وراء الباب الموارب، أصغيت لحظة قبل أن ألقى نظرة دائرية في الغرفة الشديدة الإضاءة ، أسمع صوت أبي، كان منهمكا في الحديث مع العريس، الحرب العالمية، الإنجليز، الألمان، الملك، النحاس.
لم ترتفع عيناه نحوي من شدة الانهماك. - الملك باين عليه مع الألمان، والنحاس لازم يكون مع الإنجليز، والإنجليز عاوزين مصر تدخل الحرب معاهم، لكن احنا مالنا، نحارب ليه مع الإنجليز والحلفاء، بقه بذمتك دول حلفاء؟ معايا يا عبد المقصود أفندي؟ - إيوه معك يا سيد بيه.
العريس (عبد المقصود أفندي) رآني في اللحظة التي دخلت فيها، تقدمت نحوه معطية ظهري لأبي، أخفي وجهي في الصينية، سرت بخطوة بطيئة متأرجحة، أول مرة في حياتي أرتدي الكعب العالي المدبب، يرمقني العريس بعينين ضيقتين مثل عيني الصقر، فوق رأسه طربوش أحمر مائل على جنب له شراشيب سوداء تهتز فوق أذانه، يرتدي بدلة ضيقة داكنة اللون، ربطة عنق حمراء مشدودة حول عنقه، صديري ضيق، في يده منشة، يغطس جسده داخل «الفوتيه»، شفتاه منفرجتان فقدتا القدرة على الانطباق.
عند زاوية فمه شيء من اللعاب الأبيض مثل إسماعيل أفندي، اقتربت منه أزم شفتي، أمطهما في غضب، ثم فتحت فمي عن آخره في ابتسامة عريضة ليرى أسناني. سمعته يعطس بصوت عال: «أطس!» انتقلت إلي العدوى، عطست أنا أيضا: «أطس»، فاهتزت الصينية من يدي، انسكب «وش» القهوة في الصحن. بذلت أمي الجهد لتجعل للقهوة هذا «الوش». في أنفي رائحة البن مع الحبهان والباذنجان، خليط يؤدي إلى العطس لا شك، عطست مرة أخرى، واهتزت الصينية أكثر، انسكب مزيد من القهوة في الصحن. العرق يسيل مثل الماء البارد تحت الفستان، يرشح العرق من جسدي كأنما أنا نائمة، العرق يغرقني، جو الغرفة مشبع برائحة العرق. كنت أتحرك بخطوة بطيئة، جسدي متخشب، مطوق، مربوط بشيء ما، أبي الذي يعرفني جيدا كان يمكن ألا يعرفني في تلك اللحظة، كان مستغرقا في الحديث، لم يرني من الوجه، أكان الاستغراق في الحديث محاولة للانسحاب من الموقف دون مسئولية؟! تركني أبي وحدي أواجه حتفي، أدرك أنه ليس من الحكمة أن تلتقي عيناه بعيني لحسن حظي. العريس كان يرمقني بنظرة فاحصة، عيناه الضيقتان ترمقان صدري بنظرة جانبية محدبة، المصباح الكهربائي يعطي ضوءا قويا، لعب الضوء الكهربائي دوره في الكشف عن آثار الباذنجان الأسود، ثم انتبه أبي إلى وجودي، سمعته بقول للعريس: دي نوال! أكبر بناتي. - ما شاء الل ... (أطس) ... ما شاء الله ... (أطس).
العريس يعطس وهو يكرر كلمة: «ما شاء الله» ... أيخفي الصدمة في العطس؟! تقدمت نحوه أكثر، انحنيت أمامه بالصينية، دب الصمت بصوت مفزع، لم أسمع إلا صرير طاحونة الدقيق في شارع المحطة، صرير أشبه بصراخ إنسان حي، اهتزت يداي لسماع الصوت، كعب حذائي العالي الرفيع تعثر في ثقب السجادة، وأنا أنحني، انقلبت الصينية بكل ما عليها من فناجين قهوة ساخنة وأكواب ماء مثلجة فوق صدر العريس.
أشبه بالكوارث تحدث، تنقلب الأشياء بفعل الزلازل والبراكين، لا يستغرق الزلازل أو البركان أكثر من بضع ثوان أو دقائق، لكن هذه الكارثة استمرت عدة أسابيع، أصابني منها علقة ساخنة، لم تكن تهمني العلقة الساخنة، لقد تبخر العريس مع سحب الصيف الرقيقة.
في اليوم التالي بدأت أكتب مذكراتي، كراسة غلافها أزرق، أخفيتها في مكان سري، كتبت فيها أول حروفي:
ما الذي حدث وأنقذني؟! صوت طاحونة الدقيق مثل صرخة إنسان حي؟! الصمت المفاجئ؟! الضوء الكهربائي القوي؟! كل شيء توقف يشهد اللحظة الخارجية عن الزمان والمكان، اللحظة المفزعة حين انتفضت الصينية وانقلبت، أكان ذلك كل شيء؟!
منوف، 30 أغسطس 1941م
في صيف 1942م حصلت على الشهادة الابتدائية، درجاتي كانت ممتازة، الوجوه حولي لا تكشف عن الفرح، الشفاه ممطوطة، الهسيس بين النسوة يدور: «إيه فايدة الشهادة إذا كان مصيرها الجواز؟ إيه فايدة الشطارة في المدرسة إذا كانت خايبانة في المطبخ وكل عريس ييجي تطفشه؟!»
لم أعد أخرج من البيت، بلغت الحادية عشرة من عمري، أصبحت عانسا بلغة طنط نعمات. كنت طويلة القامة، أطول من أخي الأكبر طلعت، النهدان فوق صدري نافران، من يراني يظن أنني في الخامسة عشرة، لم أعد ألعب مع الأطفال في الحقل، تخصصت في طبخ الملوخية، دعك البلاط ليصبح كالمرآة، من وراء جدار المرحاض تترامى لي صيحات الأطفال وهم يلعبون، ضحكاتهم تخترق أذني مثل وخز الإبر، كنت أضحك مثلهم في الماضي البعيد في حياة أخرى، من بين قضبان النافذة الحديدية أراه. «أخي طلعت» يجري ويقفز في الحقول الخضراء الواسعة، يركب البسكلتة ويطير بها في المساحات الممدودة حتى الأفق ... يستنشق الهواء الطلق تحت أشعة الشمس، أنا داخل المطبخ المظلم أبتلع الدخان المتصاعد من وابور الجاز.
وابور الجاز بيني وبينه عداء فطري، كائن غريب الأطوار، له إرادته الخاصة المعاكسة لإرادتي، مندوب لبعض القوى المجهولة في الأرض والسماء، إذا أردت له أن يشتعل ينطفئ، إذا أردت له الانطفاء يهب في وجهي، لسان من النار، يعاكسني مثل القضاء والقدر.
له رأس مربع يسمونه «الطربوش»، أسود اللون يتراكم عليه الهباب، من تحته عنق أسود، يتوسطه ثقب مثل ثقب الإبرة، مسدود بالهباب، تسلكه أمي بعد أن تضع نظارة فوق عينيها، طنط نعمات كان لديها عدسة مكبرة مستديرة تمسكها بيدها اليسرى، تقربها من عينها اليمنى، فترى الثقب الصغير في حجم عين الجمل.
منذ السابعة من عمري بدأت أمي تدربني على إشعال وابور الجاز، وبدأ أبي يدربني على الصلاة، ما العلاقة بين وابور الجاز والصلاة؟ ... حركة الجسم متشابهة، أحني ظهري لأشعل الوابور بحركة تشبه الركوع، أسلك الثقب المسدود بإبرة تلتوي تنكسر داخل الثقب، أخرجها بإبرة أخرى، أنحني، يلامس أنفي طربوش الوابور، حركة تشبه السجود.
كان الثقب ينسد دائما، ذرة دخان أو هباب أو عكارة في الجاز، في قاع الصفيحة تترسب عكارة لزجة سوداء مثل القطران أو الزفت، جاز مغشوش، بائع الجاز كان يدور على البيوت، عربة كارو فوقها برميل كبير ينادي بصوت عال: جاز! جاز! - الجاز بتاعك مغشوش يا عم عثمان! - ده أحسن جاز في الدنيا، والله العظيم! - ليه تحلف بربنا كدب يا عم عثمان؟ - ده أحسن جاز في الدنيا، علي الطلاق بالثلاثة! - عيب عليك يا راجل تحلف بالطلاق عشان شوية جاز. - أمال أحلف بإيه يا ست هانم؟ - يعني ما عندكش إلا ربنا أو مراتك، شوف حد تاني تحلف بيه!
بائع الجاز كان وجهه ضامرا يعلوه نمش أسود، عيناه تبربشان، لا يقوى على النظر في وجه أمي، تختفي أمي من النافذة، فيحملق في الخادمة سعدية بعينين مفتوحتين، يغمز لها بعين، يقرصها في ذراعها ويقول: ده جاز زي الحليب، ينشرب ع الريق يا بت!
رائحة الجاز تصيبني بالغثيان، تعثر أمي في شعري على قملة أو سبانة (بيضة القملة)، تغسل رأسي بالجاز، أقف أمام الوابور لأشعله، يندفع في وجهي لسان من اللهب، أتراجع إلى الوراء بسرعة (كما تفعل أمي) قبل أن تحرق النار أطراف شعري، تملأ أنفي رائحة جاز محروق وشياط. «خلي بالك يا نوال من الوابور، ساعات يهب كدة ويعمل حريقة.»
كالشهقة تفلت الكلمة «حريقة» من بين شفتي، في الليل وأنا أحلم أرى الوابور يهب، بيتنا يحترق، أمي تحترق تصبح قطعة فحم، مثل ابنة عمتها الكبيرة ماتت محروقة، هب فيها وابور الجاز، أجري خارج البيت، أهب من النوم أتصبب بالعرق.
تدربت على إشعال الوابور دون أن أكسر الإبرة، أسلك الثقب المسدود دون أن أنحني أو أركع، أقف أمام الوابور مستقيمة الظهر مرفوعة الرأس، كان بصري حادا أرى النجوم في عز الظهر، مثل زرقاء اليمامة رأت جيوش الأعداء قبل أن يراهم أحد. «نوال بقت شاطرة.»
أصبحت أحمل لقب «شاطرة»، الشاطرة صفة حميدة تتحلى بها البنات الماهرات في المطبخ، الغسل، دعك البلاط، توليع وابور الجاز دون كسر الإبرة، أسمعهم يقولون: «نوال شاطرة»، أشعر بالفرح والحزن، الفرح كان أكثر من الحزن، يزيد حماسي للطبخ والغسل، أدعك البلاط لأرى فيه وجهي. «نوال بقت شاطرة.»
تركت لي أمي مهمة توليع الوابور، أنام كل ليلة فأسمع صوت الوابور ينفجر، أمي داخل النار، أجري إليها أنقذها، تحترق وتموت، يضعونها داخل كفن حريري أبيض فوق السرير النحاسي الأصفر، الكفن في الحلم هو ثوب الزفاف الحريري الأبيض.
كان الحلم يتكرر بأشكال مختلفة، يلازمني في طفولتي وشبابي، لم يفارقني حتى تخرجت في كلية الطب، أصبحت طبيبة «امتياز» بمستشفى قصر العيني الجامعي، في أبريل 1955م، استلمت أول راتب شهري، تسعة جنيهات، «كل جنيه ينطح أخوه» بلغة ستي الحاجة.
في أبريل زهور الربيع تتفتح، أمشي في الشارع مرفوعة الرأس، أخفي حقيبتي تحت إبطي، عيون اللصوص قادرة على اختراق أي شيء، أنوفهم تشم ورق البنكنوت من بعد كيلومتر، دخلت المحل الكبير «شاهر» بجوار سينما ريڤولي في شارع فؤاد، كان لي هدف واحد: البوتاجاز ذو الفرن والأربع عيون (من ماركة «ماستر فليم»
Master Flame ).
القسط الأول خمسة جنيهات، الأقساط كلها تنتهي بعد ستة وثلاثين شهرا.
أمي كانت مثل الزهرة، استعادت ضحكتها الطفولية، عاد البريق يكسو عينيها العسليتين، تقرأ شهادة نجاحي، صوتها يتألق بالفرح: مبروك يا نوال، يا دكتور نوال! - البركة فيكي يا ماما.
اندفعت كلمة «ماما» من بين شفتي مثل شحنة مكبوتة من الحب، التقاليد في عائلة أمي لا تسمح للحب أن يظهر، وإن كان حب الأم. تقبيل الأطفال يتوقف بعد سن الرضاع، تقاليد موروثة عن الأتراك، الطبقة العليا أو الوسطى، البرودة في المشاعر نوع من الرقي.
الأمومة كنت أراها في عيني أمي، جمرة نار مخبوءة داخل سلسلة حديدية، أفعل مثل أمي، أخفي مشاعري وراء لوح من الزجاج.
تسللت إلى البيت ذلك اليوم من أبريل 1955م، ورائي ثلاثة عمال من محل «شاهر» يحملون البوتاجاز، دخلوا على أطراف أصابعهم إلى المطبخ، وضعوه تحت النافذة إلى جوار «النملية» السلك، خرجوا على أطراف أصابعهم، شعاع شمس الأصيل يتسلل من بين جدران البيوت المتجاورة، ينفذ إلى المطبخ من بين قضبان النافذة الحديدية، يسقط فوق ظهر البوتاجاز بإرادة سماوية، سطحه أبيض لامع قادر على إشعاع الضوء.
دخلت أمي إلى المطبخ، اتسعت عيناها: من أين جاء هذا البوتاجاز؟ - هبط من السماء يا ماما.
في عينيها بريق الفرح الطفولي، كانت في طفولتها تحلم مثلي بيوم يختفي فيه وابور الجاز، رأت مثلي البوتاجاز في المحلات والدكاكين، يشتعل بلهب أزرق صاف، شكة واحدة من عود الكبريت، دون إبرة تسليك، لا دخان لا هباب، ترمق بعينيها الثمن المعلق فوق ظهره، تتنهد وتمضي في طريقها.
كنت أريد أن أحوطها بذراعي، أضع رأسي فوق صدرها وأبكي، أطلق سراح الدموع المكبوتة منذ ولدت، كانت هي الأخرى تريد أن تحوطني بذراعيها، تطلق سراح أمومتها الحبيسة. وقفت أمامي وأنا وقفت، عاجزتان عن العناق، عاجزتان عن تبادل قبلة واحدة، واقفتان ... بيننا مسافة من الهواء لا تزيد على طول الإصبع، كانت مثل البحر الواسع أو ألف سنة من الزمان لا يمكن اجتيازها.
عاشت أمي بعد ذلك اليوم أربعة وثلاثين شهرا، ماتت قبل أن أسدد ثمن الأقساط بشهرين اثنين. •••
عبد المقصود أفندي لم يكن العريس الأخير، جاء بعده آخرون، الواحد منهم لم يكن يعود بعد أن أقدم له القهوة، لم تنقلب الصينية بعد ذلك الانقلاب الأول، شيء آخر يحدث، صوت الطاحونة، نقيق الضفادع في الحقل أو صرير الصراصير، نعيق بومة فوق الشجرة.
يكفي أن تنعق بومة واحدة حتى يتشاءم الناس وأولهم العرسان، أصبحت لي سمعة بين عائلة أمي وأبي، قادرة على تطفيش أي عريس، كيف؟ يتباحثون في هذا السر، تعددت الآراء والنظريات، البشرة السمراء، علامة الفقر، القامة الطويلة، العضلات القوية غير المطلوبة في البنات، الفم الواسع، الأسنان الأمامية البارزة في الضب. «الضب»، ورثته عن أمي وخالاتي من عائلة شكري بيه، عمتي رقية أكدت أنه السبب الوحيد وراء هروب العرسان، اختلفت معها ستي الحاجة، «عين الحسود» أصابت ابنها السيد بيه، سوف تبور ابنته الكبرى، من ورائها تبور بناته الأخريات، سوف تفقأ عين الحسود بعمل يندرج تحت «السحر».
كانت لي سمعة أخرى في المدرسة، بنت شديدة الذكاء، «الذكاء» لم يكن من الصفات الحميدة للبنات، شهادة أخي طلعت تأتي من حولها دائرة حمراء علامة السقوط، يعيش بيتنا في صمت مثل المأتم، يخرج أبي صامتا ويدخل صامتا، إن تكلم فهو يؤنب أخي: أختك البنت تنجح وانت تسقط؟! ابن التاجر بياع الكراريس ينجح وابن مفتش التعليم يسقط؟! بقه ده معقول؟!
الحزن على رسوب أخي في المدرسة يغطي على الفرح بنجاحي، في الليل أبي يهمس لأمي: يا ريتها كانت الولد وهو البنت، لازم علينا غضب من ربنا يا زينب!
ذكائي ليس إلا غضب الله على أبي وأمي، نوع من الإثم يستوجب الإخفاء مثل حذائي القديم، مثل الثقب في السجادة العجمية.
لم يكن في منوف مدرسة ثانوية للبنات، اقترح أبي على أمي أن أبقى في البيت أساعدها، أخفف عنها عبء رعاية العدد المتزايد من الأطفال، أمي رفضت هذا الاقتراح، تفوقي في المدرسة شجعها على مواصلة تعلمي، أو إدراكها أنني لن أخضع كما تخضع البنات، أنني لن أنجح في الزواج.
كانت أمي مختلفة عن إخوتها لحسن حظي، في أعماقها بذرة تمرد، ذكاؤها حين كانت تلميذة متفوقة في المدرسة، الحلم منذ طفولتها أن تعيش حياة غير أمها، السلطة المطلقة لأبيها في البيت جعلتها تنفر من السلطة على أطفالها.
لم يكن أبي مثل جدي شكري؛ لم يشرب الخمر، لم يسهر خارج البيت، لم يعرف نساء غير أمي، القانون وشرع الله يعطي أبي الحق المطلق في الطلاق والزواج بأربع نساء، لم يستخدم أبي هذا الحق. كان زوجا مخلصا لأمي، ساعدها في أعباء البيت، يتحمل وحده مسئولية الإنفاق، كان أبا نموذجيا لا يضرب أطفاله مثل الآباء الآخرين، يلعب معهم، يعطيهم مساحة للنقاش والجدل في أمور الدين.
لم يحدث أن رأيت أبي وأمي يتشاجران، مرة واحدة رأت أمي في منامها أبي مع امرأة أخرى، استيقظت أمي في الصباح حمراء العينين، غاضبة على أبي، سمعت صوت أبي عاليا لأول مرة في حياتي: يعني أنا مسئول كمان عن أحلامك يا زينب!
صوت أبي لم يرتفع عن صوت أمي ... بينهما نوع من الاحترام، كلاهما يدرك قوة الآخر، أبي العائل الوحيد للأسرة، لم يكن لأمي قوة إلا شخصيتها، رفضها الإهانة، استعدادها لحزم حقيبتها والعودة إلى بيت أبيها شكري بيه.
كانت الطبقة تلعب دورها في إحداث توازن القوى في بيتنا، أمي تدرك أنها تنتمي إلى طبقة أعلى من طبقة أبي، لم تكن تصرح بذلك، سلوكها كان يوحي أنها انحدرت من سلالة الأميرات.
أبي مثل أمي يدرك قيمة التعليم، لولا التعليم ما انتقل أبي من طبقة الفلاحين الفقراء إلى الطبقة الوسطى من المثقفين، أدرك أبي أن مستقبلي في التعليم مضمون أكثر من مستقبلي في الزواج، سأدخل المدرسة الثانوية في القاهرة، لكن أبي كان مترددا.
في الليل أسمع أبي وأمي يتهامسان: نوال حتعيش وحدها في مصر يا زينب؟ - حتعيش في بيت خالتها هانم. - بيت خالتها مش زي بين أبوها وأمها. - نوال واعية لنفسها، ماتخافش عليها يا سيد. - مصر مش زي منوف يا زينب. - نوال شاطرة، أنا عارفاها، ترميها في النار ترجع سليمة.
كلمات أمي تنتشلني، كذراعيها في طفولتي فوق الموجة العالية، أرى نفسي أمشي داخل النار دون أن أحترق، أمشي في البحر فوق الأمواج دون أن أغرق، أمي الحقيقية، أجدها بجواري حين تتأزم الأمور، يتخلى عني الجميع فأجدها، قد أكون بعيدة عنها في مكان آخر، لا تسمع صوتي إذا ناديتها، تأتي في اللحظة الحاسمة، لا أدري كيف، وتنقذني.
من نبوية موسى إلى مدرسة السنية
حملت حقيبتي إلى محطة القطار، كان معي أبي، ظل واقفا على رصيف المحطة حتى تحرك القطار، أول مرة أركب القطار وحدي، عينا أبي مملوءتان بالقلق وشيء آخر غير القلق، طبقة شفافة مثل دمعة كبيرة محبوسة يبتلعها قبل أن أراها. أردت أن أعانقه، ذراعاي لم تتحركا، وقفت في نافذة القطار أطل عليه، أخفي الدموع تحت ابتسامة عريضة، دوت صفارة في أذني، امتلأ الجو بالدخان، أمسك أبي بالنافذة، يمشي مع القطار، يجري مع القطار. «خلي بالك من نفسك، اوعي التذكرة تقع منك، اركبي تاكسي من محطة مصر لبيت طنط هانم، ابعتي لنا جواب أول ما توصلي، خلي بالك من نفسك، مع السلامة يا نوال. أردت أن أمسك يد أبي، خشيت أن يسقط تحت عجلات القطار، يفقد ساقيه ويمشي على عكازين. لم يترك أبي النافذة حتى آخر الرصيف، لوح لي بيده، يتراجع إلى الوراء مع المحطة، لوحت له بيدي وأنا أبتسم، الدموع تنهمر فوق وجهي.»
كنت أحب السفر وركوب القطار، هذا اليوم جلست في مقعدي، أمسح الدموع، بدت الرحلة طويلة موحشة، العيون ترمقني، جالسة وحدي، بنت صغيرة في الحادية عشرة من عمرها تسافر وحدها إلى مصر، حقيبة ملابسي إلى جواري، أسندها بيدي حتى لا يسرقها أحد، حقيبة المدرسة فوق ركبتي، بها كيس النقود والتذكرة وكشكول غلافه أزرق أسجل فيه مذكراتي.
في القطار أخرجت الكشكول وكتبت:
اليوم، 9 سبتمبر 1942م، أنا حزينة لفراق أمي وأبي، أشعر بالندم وتأنيب الضمير، تمنيت يوما أن يموت الاثنان لأخرج إلى الشارع بدون إذن وألعب مثل أخي، أركب البسكليتة، قلبي ينوء بالحب لأمي وأبي، الحب يولد في قلبي منذ فراقهما، أيكون الفراق هو شرط الحب؟
انتبهت إلى صوت رجل يكلمني، كان جالسا في المقعد المقابل لي، يختلس النظر إلى حقيبتي، أيسرقني أنا أم كيس الفلوس؟ «رايحة مصر لوحدك يا بنتي؟!»
لم أرد عليه، لا أكلم الغرباء في الطريق. له وجه يشبه عبد المقصود أفندي، العينان الغائرتان تتجهان مباشرة إلى صدري. أدخلت الكشكول الأزرق إلى الحقيبة وحوطتها بذراعي، من النافذة أعمدة السواري تتراجع إلى الوراء، تراجعت الحقول الخضراء، بدأت الجدران السوداء والبيوت المتهدمة الملطخة بالدخان، امرأة نحيفة شاحبة تنشر الغسيل في إحدى البلكونات، يذوب وجهها داخل دخان القطار مع غسيلها الأبيض.
وصلت محطة مصر لحظة غروب الشمس، العمارات والأبنية الباهتة قابعة تحت سماء رمادية، الدخان مثل الشبورة، أسير وحدي وسط زحام المحطة، حاملة الحقيبتين. ثوبي من الصوف الرخيص من فوقه بلوفر باهت ينفذ منه هواء بارد. وأتلفت ورائي؛ أخشى أن يتبعني الرجل الذي كان في القطار. البوابة الضخمة، ميدان باب الحديد، سقطت في خضم متلاطم من البشر، دوامة تدور فيها السيارات والترامات والموتوسيكلات، أثبت قدمي في الأرض الأسفلت، أنظر في جميع الاتجاهات، ألقي نفسي في البحر دون أن أعرف السباحة، أجتاز الميدان، كادت تدهسني سيارة، امتدت بعض الأيادي وانتشلتني.
كان هناك عدد من سيارات الأجرة التاكسي، المسافرون استولوا عليها، لم يبق إلا تاكسي واحد قديم بدون رفرف، انقض عليه رجل طويل. بدأت الدنيا تظلم وأنوار المصابيح تضاء، قررت السير على قدمي حتى بيت طنط هانم، اخترت امرأة عجوز، ملامحها توحي بالطيبة، سألتها عن شارع الضاهر، وصفت لي الطريق وهي تشير بإصبعها: شايفة الشارع اللي هناك، ده شارع الفجالة، امشي فيه على طول مع شريط الترامواي تلاقي نفسك في شارع الضاهر.
المرة الأولى أمشي في شارع الفجالة، شارع المكتبات، من وراء نوافذ المحلات الزجاجية أرى الكتب معروضة، مئات الكتب والعناوين وأسماء المؤلفين، التقطت اسم طه حسين.
عند تقاطع شارع الفجالة مع شارع الضاهر مبنى كبير مكتوب عليه: «مدرسة الفنون الطرزية للبنات». رأيت بنتا من عمري تحمل حقيبة المدرسة تمشي وحدها، تدب فوق أسفلت الشارع بحذاء جلدي قوي، خطوتها واثقة شجاعة، خجلت من نفسي، أتكون هذه الفتاة أشجع مني؟! خجلت من حذائي القديم يغطيه تراب الشارع في منوف، لم تكن الشوارع في منوف مرصوفة بالأسفلت، خبطت قدمي في الأرض، نفضت التراب عن حذائي، شددت قامتي الطويلة، سرت بخطوة قوية أدب على الأسفلت.
شارع الضاهر يتألق نظيفا لامعا تحت الأضواء، العمارات على الجانبين جديدة تبرق كأنما بنيت بالأحجار الكريمة، أبوابها شفافة من الزجاج، لها أعمدة عالية رخامية. كنت أرى هذه الأبواب الشفافة في الحلم. لافتة كبيرة فوق الباب مكتوب عليها المدرسة الثانوية للبنات، أدخل من الباب أخرج حاملة الشهادة النهائية «التوجيهية»، أدخل بها إلى الجامعة، كلمة «الجامعة» تجعل قلبي يدق، لم أكن رأيت الجامعة بعد، سمعت الكلمة، كلية الآداب في الجامعة، أتخرج أستاذة كبيرة، يضعون كتبي في نوافذ المحلات في شارع الفجالة.
شارع الضاهر كان يرمقني بعيون مملوءة بالفرح، يمتد أمامي، تحت أقدامي، أمشي فوقه، يرحب بي فخور بهذه الفتاة أستاذة المستقبل.
وصلت عمارة زوج خالتي، رأيت وجهه، تبدد الفرح، قابلتني طنط هانم، البرود العاطفي الموروث عن عائلة شكري بيه، أخذتني إلى الحمام لأخلع حذائي، رمقت الثقب في جوربي بنظرة متعالية، أجلستني في البانيو، أمسكت الليفة الخشنة راحت تدعك جسمي. شعرت بالمهانة داخل البانيو الأبيض اللامع، صحن ضخم من الكريستال أو اللؤلؤ، لم يكن في منوف بانيو، الطشت الكبير من النحاس نستحم فيه، أغرقتني طنط هانم في البانيو، ابتلعت الماء بالصابون بالمهانة، تصورت نفسي سعدية الخادمة، كانت تغرقها أمي في الطشت، تغسل لها شعرها بالجاز أو تحلقه بالموس.
لم تكن طنط هانم تشبه أمي، كانت سمراء البشرة، شعرها أسود غزير ، تستعرض على الضيوف جواهرها أو قطع الأثاث في غرفة الصالون، الغرفة الأخرى تسميها «الأنتريه»، كلمة فرنسية تعني «المدخل»، خالتي هانم تتباهى أمام الناس بأنها تعرف الفرنسية.
أراها جالسة مع الضيوف في غرفة الصالون، المقاعد المذهبة المطلية بالحرير تسميها «الأبيسون»، فستانها الحريري يكشف عن ركبتها، تضع الساق فوق الساق، تشعل سيجارة (لا تدخن حين تكون وحدها) تنادي على السفرجي: يا عم عثمان، هات لي «آن فير دو سيل فوبليه.»
عم عثمان يفهم هذه العبارة، يحضر لها كوب ماء، يتباهى هو أيضا أمام الضيوف أنه يعرف الفرنسية، معلوماته في اللغة الفرنسية مثل طنط هانم، كلمات لا تزيد على أصابع اليد الواحدة. «هند» الابنة الكبرى لطنط هانم، تصغرني قليلا، تبدو طفلة أنا أمها، غرفتها مليئة بالعرائس، سريرها لونه وردي، سيارة المدرسة (على شكل أوتوبيس أحمر)، تحملها كل صباح مع حقيبتها إلى المدرسة.
هند تجلس معي إلى مائدة الطعام في الصباح الباكر، تناولها طنط هانم كوبا كبيرا من اللبن، تسألني بصوت بارد: عاوزة لبن؟ - لا.
أحب اللبن، أقول «لأ» كأنما أكره اللبن، أبي يدفع لها ثمن اللبن ونفقاتي كلها حتى الغسيل والمكوى والكهرباء وكل شيء، الطريقة التي تسألني بها لم يكن لها إلا رد واحد: «لأ.»
تملأ الصحن لابنتها بالطعام، لا تضع في صحني إلا القليل، أغضب، أنهض دون أن آكل، يشتد بي الجوع، أشتري من مصروفي رغيفا وقطعة من الجبن أو الحلاوة الطحينية.
أنام على سرير صغير من الصاج، اشتراه أبي، وضعته طنط هانم في أحد الأركان في غرفة مهملة، اشترى لي أبي منضدة صغيرة أذاكر عليها ولمبة كهربية.
لم تكن طنط هانم تشجعني على المذاكرة، كلما رأت اللمبة مضاءة في الليل تطفئها وهي تقول: ذاكري بالنهار علشان الكهربا غالية.
في أول كل شهر يرسل إلى أبي قائمة مصروفاتي، منها الكهرباء واللبن، لم أشرب اللبن لكنها تضيفه إلى القائمة، هل أقول لأبي أو لأمي؟ كنت أخاف أن أبقى في منوف بدون مدرسة.
دخلت مدرسة نبوية موسى الثانوية في العباسية، كانت أقرب المدارس لبيت طنط هانم في شارع الضاهر، أركب الترام من أمام البيت وأهبط من الترام أمام باب المدرسة. قضيت عاما دراسيا كاملا (1943م)، لم أعرف في مدينة القاهرة إلا الطريق الذي يسلكه الترام من باب طنط هانم إلى باب نبوية موسى.
كانت التلميذات يطلقن على الناظرة نبوية موسى «بعبع أفندي». في طابور الصباح أراها تمشي بخطوة تشبه مس هيمر، ترتدي تايير أسود، جوربا طويلا أسود، تيربون أسود، عيناها سوداوان مملوءتان سوادا.
كانت تفرض علينا نحن التلميذات ارتداء هذا السواد من قمة الرأس حتى أخمص القدمين، أعطى أبي لطنط هانم مبلغا من المال، أصبح لي تايير أسود، جورب أسود طويل سميك لا يشف الساقين، شريط أسود من التفتاه لربط ضفائر الشعر.
داخل المرآة، رأيت نفسي غرابا أسود، مطت خالتي هانم شفتيها: نبوية موسى لازم عانس زي طنط فهيمة، وعاوزة كل البنات يبقوا عوانس زيها.
لم أعرف شيئا عن نبوية موسى، واحدة من رائدات تعليم البنات، أي ريادة وأي تعليم؟ لم تكن رائدتي ولا مثلي الأعلى في حياتي، عضلات وجهها دائما متقلصة في تكشيرة أشد كآبة من تكشيرة جدي، لم أرها مرة واحدة تبتسم، لم أسمعها مرة واحدة تقول صباح الخير. تقلد الناظرات الإنجليزيات، الناظرات الألمانيات في عصر هتلر، الناظرات الفرنسيات في مدارس الراهبات.
تكره البنات، تكرهني حين تلتقي عيناها بعيني، تكره نفسها أيضا داخل السواد، أصبحت المدرسة مثل المأتم، كل شيء بلون الحداد.
طنط هانم لم تحب اللون الأسود، ترتدي الفساتين الحرارية الزاهية الألوان، بيتها الأنيق بالأشياء الزاهية، السواد في المدرسة كان أكثر بهجة لي من بيت طنط هانم.
طنط هانم أصغر من أمي بعامين اثنين، أدخلها جدي مدرسة الراهبات كما فعل مع أمي، أخرجها من المدرسة، زوجها من تاجر يملك دكانة في شارع الموسكي وبعض العمارات، منها العمارة في شارع الضاهر.
في زمن الحرب ازداد ثراء التجار، منهم زوج خالتي هانم. أبي يمقت التجار، يطلق عليهم اسم أصحاب الذمة الخربة، لا ضمير عندهم إلا الربح، يضعون المليم فوق المليم، يصنعون الملايين، لا يقرءون الكتب ولا الصحف، لا يشاركون في المظاهرات الوطنية، مهما أصبحوا من الأثرياء لا تذهب عنهم صفة البخل والتقتير، تقوم المعركة بينهم بسبب نصف مليم، التاجر منهم يخشى إفراغ أمعائه، بلغة ستي الحاجة: «يخاف يشخ يجوع .» يعاني أغلبهم من الإمساك.
البخل من الأمراض المعدية، ينتقل من الزوج إلى زوجته، تتفوق الزوجة على زوجها لتحظى برضاه، لتأمن بطشه.
كانت طنط هانم تخشى زوجها، أسمع من أمي أنه ليس زوجا مخلصا، يسهر في الحانات ودور اللهو، لا يعود إلا البيت إلا قرب الفجر، تعثر طنط هانم في ملابسه على آثار نساء أخريات، روج أحمر في المنديل، عطر حريمي في السروال، ترى وتسكت، تخشى أن تفتح فمها، يددها بالطلاق، يزداد ثراء وتزداد سلطته، يعطي نفسه مزيدا من الحريات، كنت أناديه باسم: عمي عبد الحليم.
طويل القامة، مبطط الوجه، يشبه التمساح، عيناه ضيقتان غائرتان، شفتاه مزمومتان، يدخل البيت عند الفجر وأنا نائمة، يخرج عند الظهر وأنا في المدرسة، لم أكن أراه إلا يوم الأحد. يوم الإجازات يغلق فيها الدكان في الموسكي، أعود من المدرسة بعد الظهر فأراه جالسا إلى المائدة يتناول وجبة الصباح، لا يرفع وجهه عن الصحن، عيناه مغمضتان أو نصف نائم، يرمقني بطرف عين صامت، تنفرج شفتاه عن كلمة واحدة: «كويسة.» أترك له المكان، أمشي إلى غرفتي، يرمقني كأنما أمشي فوق رأسه وليس على الأرض.
في إجازة العيد سافرت إلى منوف، ركبت القطار من محطة باب الحديد (ميدان رمسيس)، قلبي يخفق بالفرح، سوف أرى أمي وأبي وإخوتي وأخواتي، المرة الأولى في حياتي أفترق فيها عنهم، استقبلوني بالفرح والبريق في العيون، لا عناق ولا قبلات، المشاعر المطلة من العيون أقوى من أي عناق، سألتني أمي: مبسوطة في بيت طنط هانم يا نوال؟ - أيوة يا ماما.
خشيت أن أقول الحقيقة، ليس هناك حل سوى أن أبقى في منوف، أحرم من مواصلة المدرسة، في يوم أرسلت طنط هانم رسالة عاجلة إلى أمي: «خذوها إلى بيت عمها.»
كان يوم أحد، بدأت أرتدي طاقم نبوية موسى الأسود لأذهب إلى المدرسة، بحثت في الغرفة عن التايير، لم يكن عندي إلا تايير واحد، كيف أذهب إلى المدرسة بدون تايير؟!
طنط هانم أخطأت، علقت التايير في الدولاب في غرفة زوجها، لا يمكن لأحد أن يفتح عليه الباب حتى يصحو وحده قرب الظهر.
جاء الأتوبيس الأحمر يأخذ بنتها هند إلى المدرسة، بقيت وحدي أفكر ماذا أفعل، هل أغيب عن المدرسة لمثل هذا السبب التافه؟ أمي تفتح الباب وأبي نائم دون أن يحدث شيء، أتخاف طنط هانم من زوجها إلى هذا الحد؟
تركتني طنط هانم أقضم أظافري من شدة الغيظ. لم يكن يهمها أن أذهب إلى المدرسة أو لا أذهب، كان تضيق من حرصي على المذاكرة، كلما رأتني أقرأ الدرس تقول لابنتها هند: شوفي بنت خالتك، بتذاكر طول الوقت وانتي بتلعبي بالعرايس!
الغضب يتجمع في صدري كالبخار المضغوط. لا أغيب عن المدرسة وإن مرضت، نظرت إلى ساعتي فوق معصمي، كل لحظة تمر عطلة إجبارية تشبه الراحة المفروضة في المرض، غضبي يشتد، يتراكم منذ ولدت. من خلال النافذة السماء خاوية بلا معنى، السيارات تمرق في الشارع بلا هدف، اللحظة الحاضرة تمتد بلا نهاية، بلا ماض ولا مستقبل، المستقبل بدا مظلما، غيابي عن المدرسة غياب عن الحياة، يفكك الأشياء في الكون، يتلفها، يدمرها، ليس يوما واحدا، بل أيام عمري كلها تضيع، ليست عطلة مؤقتة، بل عطلة أبدية، عطلة تلميذة بلا عطلة، بلا راحة منذ ولدتها أمها.
الخروج إلى المدرسة لم يكن مجرد خروج، كان الانعتاق، الحرية، الابتعاد عن الأرض، الاقتراب من السماء.
النافذة مفتوحة إلى السماء، مفتوحة إلى الأرض، إلى الشارع، ترتفع عنه مسافة ستة أدوار، قفزة واحدة وأطير كما في الحلم؟ أو أسقط ويتهشم رأسي؟
قدماي تتحركان نحو النافذة، أتوقف لا أستطيع الاقتراب، أخاف من الموت، أخاف من الغياب عن المدرسة، الخوفان يجتمعان، يرجان الأرض تحت قدمي، أتحرك مع الارتجاجة، أتجه نحو النافذة، الموت أسهل من الغياب، أسهل منهما السير نحو الباب، مشيت إلى الباب، ذلك الباب، المغلق على التايير، الخوف يتصاعد مع الاقتراب من الباب، الخوف الجديد مع الخوف القديم منذ ولدت، اندفعت نحو الباب بقوة القطار المندفع بالبخار، اندفعت بكل جسمي، فتحته بكل قوتي بكل ثقلي، دخلت إلى الغرفة المعتمة المملوءة بهواء راكد يرقد فيها تمساح ميت ، مثل الصاروخ اتجهت إلى الدولاب، فتحته بيد واحدة، أمسكت التايير باليد الأخرى، اندفعت خارجة كما دخلت بالخوف نفسه.
أنتفض، أرتدي التايير، أشد الجاكيت لأغلقه حول صدري، انقطع أحد الأزرار، عناصر الخوف كلها تجمعت داخل جسدي، داخل الهواء يملأ البيت، ترتعش له الستائر المعلقة على النوافذ، أسمع صوت اصطكاك الحرير بالجدران كالأسنان تزمجر، ريح مثل الإعصار تزأر، صوت طنط هانم؟ صوت زوجها؟ لم أسمع إلا أصوات الريح، أمسكت حقيبتي، أسرعت خارج البيت، قفزت السلالم، قفزت داخل الترام المسرع، هبطت أمام المدرسة، كادت تدهسني سيارة وأنا أجتاز الشارع، اندفعت داخل الباب قبل أن يغلق.
كان الجرس دق، دخلت التلميذات إلى الامتحانات، كان يوما من أيام الامتحانات، جلست في الفناء مطرقة الرأس، الدموع تجري فوق وجهي، غيابي من الامتحان يعني السقوط، كان أبي يحذرني من السقوط، يشير بإصبعه إلى الجردل والفرشة: «إذا سقطتي مرة واحدة مافيش إلا مسح البلاط!»
نهضت من فوق الدكة الخشبية، لاحت لي فكرة، أدخل إلى مكتب الناظرة، أحكي لها ما حدث بشأن التايير، أطلب منها أن تأذن لي بدخول الامتحان.
كانت المرة الأولى والأخيرة ألتقي وجها لوجه بالأستاذة نبوية موسى، كان لها وجه يقطع الخميرة من البيت (بلغة ستي الحاجة)، أصبحت أكره جميع الوجوه الشبيهة بوجهها، جعلتني أكره المدرسة والتعليم وكل شيء في الدنيا، أبي (إذا أراد أن يعاقبني أو يفزعني) يقول لي: لازم أبعتك تاني عند نبوية موسى!
لا أذكر من نبوية موسى إلا وجها عابسا مشدود العضلات، عيناها سوداوان واسعتان، تتسعان لما في العالم من كآبة سوداء، وقفت أمامها أرتجف، جالسة داخل مكتبها كالأسد في عرينه، متحفزة تنتظر الانقضاض، قبل أن أفتح فمي انفجرت بصوت غاضب: أنا عارفة الحجج الفارغة بتاعة البنات المايعين، لازم وقفت ساعة قصاد المراية تساوي حواجبك.
لم تكن في غرفتي مرآة، لم أكن أرى نفسي، إلا حين أفتح الباب الخارجي، كان هناك مرآة طويلة في المدخل، ألمح داخلها شبحا أسود يحمل رأسا يشبه رأسي، فتاة طويلة نحيفة شاحبة ترتدي الحداد.
لم أكن أيضا من «البنات المايعين»، أمشي مشدودة الجسم كالعسكري الأسود، طنط هانم تطلق علي اسم غفير الدورية.
نبوية موسى لم تكن تنظر إلي، عيناها مقلوبتان إلى الداخل، جاحظتان مقلوبتان إلى الخارج، تشردان بعيدا في السماء، كانت هي الأخرى غاضبة على السماء، غاضبة على جنس الإناث، الغضب تجسد فوق جبينها تكشيرة قاتمة تشبه خالتي فهيمة: امشي روحي الامتحان بسرعة، وإذا تأخرتي مرة ثانية مافيش غير الطرد النهائي من المدرسة! مفهوم؟
صوت نبوية موسى اخترق أذني، تطردني من مكتبها، أسرعت أجري إلى الامتحان، نجحت، انتقلت إلى السنة الثانية الثانوية، نقل أبي أوراقي إلى مدرسة السنية، انتقلت إلى بيت عمي الشيخ محمد السعداوي في حي العنبري بالقلعة. •••
أصبحت تلميذة في مدرسة السنية الثانوية للبنات، قضيت فيها عامين اثنين (1944م، 1945م)، كلمة «السنية» كان لها رنين في الأذن، نوع من الرهبة والأبهة، مدرسة السنية لها تاريخ في مصر، تخرجت فيها رائدات التعليم من المعلمات، أسمع طنط فهيمة تنطق كلمة «السنية» بأنف شامخ: في السنية عرفت أبلة نظيرة.
ترن كلمة «أبلة نظيرة» في أذني أكثر رهبة وأبهة من كلمة السنية، من هي أبلة نظيرة؟ واحدة من الرائدات مثل نبوية موسى، أسمع صوتها يخرج من الجهاز السحري الذي يسمونه «الراديو»، صندوق من الخشب له ثقوب مفتوحة إلى الداخل، عيون سحرية مفتوحة على العالم الآخر، تنبعث منها الأصوات قادمة من السماء.
كانت طنط فهيمة (الأستاذة فهيمة شكري) ذات أهمية أكبر من النساء والرجال في عائلة أمي وأبي، طنط فهيمة تعرف واحدة من الكائنات السحرية المتكلمة في الراديو، عرفتها في مدرسة السنية.
كنت جالسة بين أبي وأخي طلعت داخل التاكسي المنطلق بنا إلى بيت عمي الشيخ محمد، قال أبي لأخي: إنه دخل مدرسة بنبا قادق الثانوية، سيسكن معي في بيت عمي، التفت أبي ناحيتي وقال إنني دخلت مدرسة السنية.
خفقة واحدة هائلة من قلب ارتج لها التاكسي، اصطكت عجلاته بأسفلت الشارع محدثة صوتا عاليا، وارتجاجات في جسدي، في جسد أبي أيضا، طربوشه كان يخبط في سقف السيارة، أمسكه بيديه الاثنتين، سقط عن رأسه، وضعه فوق ركبتيه.
قال أبي: هذا اسمه شارع محمد علي، على جانبيه رأيت الأعمدة الحجرية الضخمة «البواكي»، المحلات، الدكاكين، الزحام، الترام يصلصل وراءنا يكاد يدهس التاكسي، تبادل سائق الترام مع سائق التاكسي اللعنات، شتم كل منهما أم الآخر وأباه حتى سابع جد، انطلق كل منهما في طريقه لاعنا الدين والدنيا وشارع محمد علي بما فيه من المومسات وبيوت البغاء.
كان بيت عمي في زقاق ضيق غير مرصوف بالأسفلت، مملوء بالحفر والمطبات وأكوام القمامة، زمجر السائق وهو يدخل الزقاق، توقف قبل أن نصل إلى البيت، بركة صغيرة من الماء والطين تفوح منها رائحة المجاري، أي فارق بين هذا الزقاق وشارع الضاهر؟ أي فارق بين عمي الشيخ محمد وبيت طنط هانم؟
عمي الشيخ محمد السعداوي يحمل لقب أستاذ الشريعة في جامعة الأزهر الشريف، تصورت أن بيته أجمل من بيت تاجر الموسكي! شقة ضيقة مظلمة في الدور الرابع، بيت قديم آيل للسقوط، له مدخل ضيق شديد الظلمة، أحمل حقيبة كبيرة، أتعثر فوق السلالم وراء أبي وأخي، كل منهما يحمل حقيبة بيد، في يده الأخرى عود كبريت مشتعل.
في كل دور يتوقف أبي ليشعل عود كبريت جديد، يلتقط أنفاسه، يواصل الصعود، أنا وأخي من خلفه نلهث بصوت مسموع.
كلمة «السنية» والأبهة تبخرت في الجو، قلبي يغوص إلى أسفل مع كل درجة أصعدها نحو بيت عمي، أبي يقول شيئا ليخفف الصدمة، يخفف عن نفسه عبء تأنيب الضمير والندم لإحضارنا إلى هنا، أو لعله وجد الفرصة سانحة ليتحدث في السياسة: حكومة فاسدة، لا تحترم العلم ولا العلماء! نظام فاسد لا يكسب فيه إلا الجهلاء وتجار الخردة في الموسكي.
انحفرت كلمات أبي في ذهني، خففت عني الإهانة، الفقر يهين كرامة الإنسان، يمتلئ الصدر برائحة المجاري كل صباح، الفول ، العدس، الأصوات تنطلق من الأمعاء داخل المرحاض؟!
باب المرحاض إلى جوار باب الغرفة التي أصبحت غرفتي (وأخي طلعت)، غرفة رطبة باردة، في الشتاء ثلاجة، وفي الصيف حارة ملتهبة، زنزانة من الصفيح داخل قرص الشمس، نافذة واحدة صغيرة تفتح على جدار أسود مسدود، تتصعد منه رائحة طبيخ حامض يغلي على النار، باب آخر صغير يفتح على السلالم الخارجية.
نعمة من عند الله هذا الباب الصغير، يعفينا من المرور في الصالة عند الخروج. الصالة مثل السرداب، كنبة بلدي يجلس عليها عمي وزوجته وأقاربها من عائلة العقباوي.
كلمة «العقباوي» ترن في أذني مع كلمات أخرى مثل: العقاد، بنبا قادق، القلعة، العنبري، روماتزم العمود الفقري، كلمات مترابطة داخل سلسلة واحدة في ذاكرتي مع الزقاق المظلم في حي العنبري قرب القلعة، الغرفة الرطبة من البلاط، أصابتني الآلام في عمودي الفقري، بنبا قادق الثانوية يسقط أخي فيها آخر العام. العقاد يتحدث عنه العقباوي مع عمي الشيخ محمد، القرآن يرتله عمي قبل أن ينام، الأذان ينطلق قبل الفجر من الجامع مثل قذائف المدفع، مدرستي الثانوية السنية تحولت إلى قلعة، سجن كبير يحوطه سور حجري قرب جامع السيدة زينب، الشحاذون وأصحاب العاهات أمام باب الجامع يلهثون: «شلاه يا ست!»
أمشي كل صباح من بيت عمي إلى المدرسة، مسافة تستغرق الساعة، أحمل حقيبة مليئة بالكتب والكراريس، جسمي أصبح مائلا على جنب، أحس الألم في مؤخرة العمود الفقري وساقي اليسرى، أجلس في منتصف الطريق لأستريح، أصل المدرسة بعد أن يضرب الجرس، أجد الباب الخشبي مغلقا، أدق الباب بقبضة يدي، بابا ضخما أسود من أبواب السجون، يحرسه بواب عملاق من الصعيد فوق جبهته تكشيرة غائرة في اللحم تشبه تكشيرة الناظرة، أصابع يدي تتورم في أيام البرد، ثقل الحقيبة محفور في بطن اليد، الألم يمتد من ذراعي إلى كتفي، يهبط عبر العمود الفقري إلى ساقي اليسرى، أدق الباب، أصابعي المتورمة تنز الدم، أبتلع الدموع واقفة في الشارع، لعاب ممزوج بالملح، طنط هانم أصبحت الملاك الأبيض في جنة مفقودة.
لا ينفتح الباب، أعود أدراجي إلى غرفتي المعتمة، أذاكر دروسي تحت الغطاء في السرير البارد من الصاج، أجلس على الكرسي الخشبي مخلخل الأرجل، أنحني بظهري فوق المنضدة المنخفضة، لمبة كهربية (20 وات) تشع ضوءا أصفر يخفت في النهار عن الليل.
إذا اشتد الدق على الباب أو إذا أراد الله الفرج، أسمع الصرير أشبه بمفاصل عظام مصابة بالروماتيزم، يطل وجهه العملاق الأسود، يضغط على أسنانه الكبيرة البيضاء تصطك، الصرير أشبه بصرير الباب: ممنوع الدخول بأمر الست الناظرة، مفهوم! - لازم أقابل الناظرة يا عم عبد الله! - ممنوع المجابلات مع الست الناظرة، ممنوع، مفهوم!
يطرقع الباب بالصرير منغلقا. •••
في إجازة العيد سافرت مع أخي إلى منوف، أسعل حين أنهض في الصباح، أمشي محنية الظهر، جسمي مائل على جنب، أخذني أبي إلى الدكتور حنا (صديقه القديم)، فحصني في غمضة عين، قرص خدي: بنتك زي الحصان يا سيد بيه، عاوزة شوية حديد وزرنيخ يجمد عضامها، طولت بسرعة أوي، بقت أطول مني، ما شاء الله!
قامتي أصبحت أطول من قامة الدكتور حنا، أطول من أخي الأكبر طلعت، أطول من كل زميلاتي في المدرسة، متى حدث هذا الطول السريع؟!
صحوت من النوم فوجدت يدي تصل إلى مفاتيح الراديو فوق الرف العالي، بالأمس لم أصل إليها، أكانت عظامي تطول في الليل حين أفرد ذراعي وساقي؟! أصبحت أنام مكورة حول نفسي كالجنين في النهار، أقوس ظهري، أنحني للأمام، في كتاب المطالعة الرشيدة: «القامة الطويلة ميزة الرجال، القامة القصيرة ميزة النساء والأنوثة.» المرأة الجميلة عظامها دقيقة هشة، يمامة كتكوتة، تتهشم في العناق.
عظامي طويلة قوية مثل الحصان، لا شيء فيها قابل للكسر، أمشي كل يوم ساعتين حاملة حقيبتي الثقيلة، أدوس على الألم وأمشي، خطوتي ليست سريعة كما كانت، أمشي ولا أتوقف حتى باب المدرسة، هذا الباب هو نجاتي، الثغرة الوحيدة في جدار حياتي، أنفذ منه إلى حياة أخرى ليست للغرفة المظلمة الشبيهة بالقبر.
اشتد بي الألم، فأخذني أبي إلى الطبيب في ميدان كبير اسمه الإسماعيلية، طنط فهيمة قالت إنه أشهر طبيب في مصر في أمراض العظام.
منذ الدكتور «حنا» في منوف أصبحت أكره الأطباء، الأصابع الصلبة تنقر فوق صدري كأنما صندوق خشبي، الأنفاس السريعة اللاهثة تفوح منها رائحة السبيرتو وصبغة اليود ومحلول اليزول، الصوت المعدني والضحكة الميكانيكية الخالية من المرح، الأنف الشامخ الخالي من الكبرياء.
للمرة الأولى أركب العلبة المربعة ذات القضبان الحديدية التي تصعد الأدوار العليا، طنط فهيمة تسميها «الأسانسير»، كلمة فرنسية تعني «المصعد»، تلاشى الألم في عظامي مع الصعود حتى الدور التاسع كأنما أركب طائرة، أصبح جسدي خفيفا، تحررت من الجاذبية الأرضية، ضحكت بصوت مسموع، أغمض عيني، أطير.
الفرح تبدد حين دخلت العيادة، صالة الانتظار الواسعة، زحام من المرضى، عكاكيز خشبية، وجوه صفراء شاحبة، عيون منكسرة، واستسلام كامل، انتظار الموت مثل انتظار مقابلة الطبيب.
سوف أصبح مثلهم، سوف أتكئ على عكاز خشبي وأقضي عمري في غرفة الانتظار، الانتظار هو الموت، لا أطيق الانتظار، أتحرك من مقعدي، أمشي في الطرقة خارج العيادة، أدب بقدمي، أعلن أنني قادرة على المشي دون عكاز، لست مريضة، لست في حاجة إلى طبيب، لست في حاجة إلى الانتظار!
جاء التومرجي مرتديا مريلة بيضاء، نظارة زجاجية تشبه نظارات الأطباء، عيناه ضيقتان غائرتان، تلمعان مثل عيني الصقر، الشارب الأسود فوق الشفة، من أين جاء التومرجي؟ كان مختبئا في غرفة جانبية يسجل في الدفتر إيراد اليوم، انقض على أبي بصوت يشبه نقيق ضفدع أو نعيق البوم: كشف مستعجل يا بيه؟
فوق الجدار لافتة معلقة، قائمة الأسعار، تشبه القائمة في دكانة ألف صنف وصنف في منوف، شهادة الدكتور من كلية الطب القصر العيني داخل برواز ذهبي، صورة التخرج والأساتذة الأطباء، بعضهم واقف على شكل صف، البعض جالس على الكراسي داخل البدل الداكنة اللون، الوجوه المشدودة العضلات، الأنوف الشامخة، الساق فوق الساق أكثر شموخا بلا كبرياء.
قبض التومرجي ثمن الكشف المستعجل، دخلنا إلى الطبيب، يشبه الدكتور حنا، الصوت وطريقة الكلام، يخلط الكلمات العربية بكلمات إنجليزية، الضحكة الميكانيكية تنم عن اليأس أكثر من المرح، كلية الطب تصك الأطباء بمطرقة واحدة، يتخرجون من تحتها مثل القروش المتشابهة!
رقدت فوق منضدة الكشف، تركني عارية أنتفض من البرد، يرد على التليفون، طالت المكالمة، نسيني فوق منضدة الكشف، عاد واضعا في فمه سيجارا سميكا أسود اللون، تسميه طنط فهيمة «البايب»، ينفث الدخان في السقف، يفحص عظامي، لوى فقرات ظهري تطقطق بصوت عال، تكسرت، فانطلقت صرخة.
لم يشفني الطبيب، أصابني بالانزلاق الغضروفي في الجزء السفلي من عمودي الفقري، عانيت منه طوال حياتي، خرجت من عيادته أعرج عاجزة عن المشي، أدوس على قدمي فأشعر بألم مثل الصاروخ في ظهري، اضطر أبي أن يسندني، وصلنا المصعد.
ميدان الإسماعيلية أوسع مما كان، محطة الترام بعيدة، أبعد مما كانت، لم أستطع السير.
جلست على الرصيف، اضطر أبي إلى استئجار «تاكسي» بدل الترام.
تأخرت عن المدرسة أسبوعا، الطبيب أعطاني بعض الأقراص أصابتني بأوجاع أكثر.
أراد أبي يأخذني معه إلى منوف، سمعة كلمة «منوف» فنهضت من الفراش واقفة منتصبة فوق قدمي، أثبت لأبي أنني قادرة على المشي، قادرة على الذهاب إلى المدرسة.
لا أريد أن أغيب يوما واحدا ... أسافر إلى منوف؟ سأغيب شهرا على الأقل، سأغيب العمر كله، سيبدأ الحصار من جديد في منوف، سيظهر عريس جديد، مؤامرة جديدة نحو المصير المحتوم على البنات.
تشبثت بالبقاء في بيت عمي حتى آخر العام الدراسي، أراد أبي أن ينقلني إلى بيت جدي تحت رعاية طنط فهيمة: مش معقول يا سيد بيه الولد والبنت يعيشوا في أوضة بالشكل ده، أنا مستعدة آخدهم معايا يعيشوا في بيت جدتهم تحت رعايتي.
نجحت وانتقلت إلى الثالثة الثانوية، أخي لم ينجح، اضطر أن يعيد السنة، أصبحنا في بيت جدي الڤيللا الكبيرة المحاطة بالحديقة في شارع الزيتون، جدي مات منذ عامين، أصابه التهاب رئوي، قضى سهرة حمراء في إحدى ليالي الشتاء، عاد إلى البيت يرتجف بالحمى، لم يكن دواء البنسلين موجودا في مصر، قرأت طنط فهيمة في الصحف عن البنسلين أنه اكتشف من مادة العفن، أصبحت آكل الخبز المعفن. آلام الظهر بدأت تخف، مات جدي بعد أسبوع من السهرة، كان يعالج الحمى بالخمر، يهذي بعبارة: «داوني بالتي كانت هي الداء.» بعد موته تنفست جدتي آمنة الصعداء، فتحت فمها المغلق وملأت صدرها بالهواء، الهواء كان محملا بجرثومة مجهولة أصابتها في حلقها، سخرية القضاء والقدر، بدأت جدتي آمنة تنطق بعد صمت السنين، نطقت فانسد حلقها بالورم الخبيث.
لا يستطيع أحد نطق كلمة «السرطان»، كلمة الموت أسهل على اللسان، يسمونه «المرض إياه»، هذا الاسم لم تسمعه جدتي آمنة، قالوا لها: «الإنفلونزا» في الحلق، والتهاب اللوز، بقيت في فراشها عاما، تراكم الألم في جسدها مع الحزن. الطبيب «أخصائي الأورام الخبيثة» رشق في عنقها «إبرة الراديوم»، أصبح عنقها مخروما بالإبرة ملفوفا بالشاش، رأسها عاجز عن الحركة، عيناها الرماديتان تدوران حولها مملوءتين بالألم المشلول، إصبعها الشاحب بلون الضباب يشير إلى موضع الإبر في عنقها، إصبع ضبابي يشير إلى كتلة ضبابية من الشاش، ماذا في عنقها؟! لا تستطيع أن تسأل، عيناها تتعلقان بالسقف، تخرقان الجدار، تنفذان إلى السماء، تسألان الله: ليه يا رب؟
أنفاسها في الليل لم أسمعها بأذني، كنت في بيت عمي، طنط نعمات كانت تصحو على صوت هامس ينادي في الليل: يا رب! أهو صوتها أو صوت أمها في الغرفة المجاورة: ليه يا رب الظلم ده؟ أنا عملت إيه؟! تورمت عين طنط نعمات من البكاء والنداء للرب في الليل، في النهار تحبس الدموع، تتراكم الدموع في حلقها كالغصة، الورم الخبيث! أهو كيس مملوء بالدموع؟!
قضيت عام 1945م في بيت جدي، أصبح اسمه المرحوم، جدتي آمنة أصبح اسمها المرحومة، أصبحت في الثالثة ثانوي، أنام في السرير العريض بجوار طنط فهيمة، أخي طلعت له غرفة مستقلة بجوار غرفة خالي زكريا، طنط نعمات لها غرفة مستقلة، غرفات أخرى في البيت، طنط فهيمة أصبحت ناظرة لإحدى مدارس البنات. لم تشأ أن تكون غرفتي وحدي، تحكم رقابتها على نومي وأحلامي، الرعاية هي الرقابة! تحمل سلسلة من المفاتيح كالسجانة، مفتاح لغرفة مكتب المرحوم، مفتاح لغرفة المرحومة، مفتاح لغرفة «الكرار» تخزن المؤن، مفتاح لغرفة «الدادة» الخادمة الصغيرة الشبيهة بسعدية، مفتاح لغرفة المخزن في الحديقة جمعت فيها الصور ذات الإطارات الذهبية، مفتاح الدولاب الكبير؛ حيث التحف الثمينة والأوراق والوثائق الهامة، ورقة قديمة باهتة بخط الخديو إسماعيل، عثرت عليها طنط فهيمة في مكتب المرحوم، تخرجها أمام الضيوف، تحملق فيها بعينيها الجاحظتين من وراء العدسات السميكة شامخة بأنفها: الخديو إسماعيل أخذ العزبة بتاعة المرحوم جدي، كان لازم يدفع ثمنها، مات من غير ما يدفع حاجة، لازم أطالب بحقنا من الحكومة.
خالي زكريا طالب في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة)، عيناه تلمعان بالأمل، العزبة سوف تعود، أيام العز والرفاهية، مثل أخي طلعت يكره الدراسة والقراءة، يفضل الذهاب إلى السينما والمسرح وسباق الخيل.
أخرج في الصباح الباكر إلى المدرسة، تدق ساعة الحائط الكبيرة في الصالة الواسعة ست دقات، تفتح طنط فهيمة عينيها: الساعة ستة، اصحي يا نوال، أرتدي ملابسي بسرعة، أخرج دون فطور، أمشي شارع الزيتون حاملة حقيبة المدرسة، أجري لألحق بالقطار، من النافذة أقرأ أسماء المحطات، محطة «سراي القبة»، السور الأحمر الضخم، سراي الملك، الحدائق الخضراء الواسعة، الزهور، المحطة بعدها «منشية الصدر»، البيوت المتهدمة، جدرانها ملطخة بالدخان الأسود، حبال الغسيل في النوافذ والبلكونات تهتز مع اهتزازات القطار، «كوبري الليمون»، أهبط في محطة كوبري الليمون، أهبط إلى ميدان باب الحديد، أجتاز الميدان؛ حيث تمثال نهضة مصر الذي نحته محمود مختار (1891م-1934م)، انتقل إلى الجيزة أمام الجامعة، انتصب مكانه رمسيس الثاني.
أركب الترام من باب الحديد حتى محطة السيدة زينب، السور الحجري «السنية»، أدخل من الباب الأسود المشقق والجرس يدق، أجري إلى الطابور.
الرحلة من البيت إلى المدرسة بالقطار والترام تستغرق ساعتين، أخرج في السادسة والنصف لأصل إلى المدرسة في الثامنة والنصف، في الشتاء يتأخر النهار، شارع الزيتون في الصباح الباكر معتم مثل الليل، أجري لا أتوقف حتى محطة القطار.
ساقاي طويلتان تساعدان في الجري، استعدت صحتي في بيت الزيتون، الشمس تدخل من كل النوافذ، الهواء محمل برائحة الورد والزهور، الغرفة المعتمة في بيت عمي سقطت في العدم، سجلتها في الكشكول الأزرق، مفكرتي السرية.
أول يناير 1945م، الأمس كان الاحتفال برأس السنة الجديدة، خالي زكريا كان في الحفل الكبير في بيت عمه طاهر بيه في شارع الملك، أخي طلعت كان معه، طنط نعمات كانت في بيت عمتها بدور هانم في حدائق القبة، طنط فهيمة كانت في حفل مع زميلاتها في المدرسة، خالي يحيى خرج مع زملائه الموظفين في مصلحة السكة الحديد.
بقيت وحدي في البيت الكبير الموحش، لم أذهب مع أخي إلى بيت جدي طاهر، لا أحب الذهاب إلى هذا البيت، طنط يلدز وطنط دولت وخالي ممدوح، لا أحب الثلاثة، طنط يلدز ترمقني بعينيها الخضراوين، تشمخ بأنفها، تنطق الكلمات الفرنسية، لا أفهم ما تقول.
طنط دولت تضع ساقا فوق ساق، تسألني من طرف أنفها عن اسمي واسم مدرستي، خالي ممدوح يفتح حقيبتي دون إذن، ينظر فيها ويقول بصوت كالفحيح: «البنات دائما يخبوا حاجات حلوة في شنطهم.» أشد منه الحقيبة، أخشى أن يأخذ منها مفكرتي السرية.
يشدها مني ويجري إلى غرفته، أجري وراءه أشدها منه، في غرفته يحاول أن يقبلني، أدفعه بعيدا بذراعين قويتين، عظامي القوية تنقذني منه.
خالي ممدوح طالب في الجامعة مثل خالي زكريا، ضعيف العظام، نحيف الجسم، عيناه ضيقتان مستديرتان غائرتان، عينا صقر ضعيف أو فأر، ليس في عينيه نظرة حب أو إعجاب، يستعرض أمامي ما يملك. الولاعة الذهبية يشعلها بخبطة واحدة، علبة السيجارة في يده يدق بها سطح العلبة، سلسلة المفاتيح من الذهب، يحركها بين أصابعه كالسبحة، مفتاح السيارة الصفراء الصغيرة يركنها أمام الباب الخارجي، يسد بها الباب، الداخلون أو الخارجون يتأكدون أنها سيارته وليست للجيران، يعجز خالي ممدوح عن إقامة حوار معي، يظن أنني كالبنات من عائلة شكري بيه أو طاهر بيه، أن السيارة تبهرني أو المقتنيات الذهبية.
كنت محصنة ضد مظاهر الثراء، ورثت عن أبي احتقاره للأثرياء، صوته في أذني: حذاء مملوء بالفلوس!
خالي ممدوح يبدو لي مثل حذاء لامع بالذهب، طالب في الجامعة، لم يسمع عن طه حسين، لا يقرأ الكتب، لا يكتب ولا يرسم، لا يعزف على العود، ليس له هوايات إلا معاكسة البنات ، هو وخالي يحيى توءمان.
دقت ساعة الحائط الثانية عشرة، لم يعد أحد من سهرة رأس السنة الجديدة، توقفت عن الكتابة جالسة وحدي في الصالة الواسعة، مسامير الصور بارزة فوق الجدران، خلعت طنط فهيمة جميع الصور، أرادت أن تنسى صورة أبيها، تنفست الصعداء بعد موته مثل جدتي آمنة.
صوت ينادي من غرفة جدتي: يا رب؟ ليه يا رب الظلم ليه؟ روح جدتي عادت من القبر، شبح أسود يتحرك وراء الباب.
تجمدت في مكاني، البيت كبير موحش مملوء بأشباح الموتى، روح جدي تدق الأرض بالعصا، صوته عال: يا إلهي أنت جاهي، جرس الباب يصلصل، لا أحد يدخل أو يخرج، الأرواح تحرك الجرس المعلق أعلى الباب.
الغرفة الصغيرة في بيت عمي أصبحت واحة الأمن، لم تكن هناك أشباح موتى إلا شبح زوجة عمي تمشي من الصالة إلى المرحاض، كانت حية، ليست ميتة مثل جدي وجدتي، كانت تبدو في العتمة مثل الروح الخارجة من القبر، تتسند على الحوائط، ساقاها مقوستان تحت جسمها السمين، تلهث، تتوقف، تأخذ نفسا طويلا، تنهيدة عميقة، تواصل خطواتها الزاحفة داخل الشبشب، كعبه يطرقع على البلاط، تدخل المرحاض فيطرقع صوتها: مين اللي سد الكنيف؟!
كلمة «الكنيف» تعني المرحاض (بيت الأدب بلغة ستي الحاجة)، تدق باب غرفتي وأخي، تسألنا بصوت الضفادع: مين فيكو اللي سد الكنيف؟!
أخي طلعت يكتم الضحك، يفتح الباب يقول لها: لازم عمي الشيخ محمد، عشان بيحب الكرنب المحشي!
كانت زوجة عمي تطبخ جالسة في غرفة نومها، تقضي النهار في حشو الكرنب والباذنجان، وعمل فتة الكوارع بالثوم، وحشو المنبار بالبصل والفلفل.
في كفر طحلة كان لعمي الشيخ محمد زوجة أخرى هي «أم فوزية»، نحيفة خفيفة، لا تكف عن الحركة وعمل السحر ضد ضرتها، (الضرة هي الزوجة الثانية)، تهمس في أذني: «مرات عمك الشيخ محمد في مصر زي الفيل أبو زلومة الخالق الناطق، مالهاش شغلة إلا حشو بطن عمك الشيخ، راجل فلاتي بتاع نسوان زي المرحوم أبوه، نعمل إيه؟ ستك الحاجة هي اللي علمته وصرفت عليه في الأزهر، وبقه لابس قفطان وعمة، تحت القبة شيخ يا شيخ محمد!»
في بيت عمي (في حي العنبري) زوجته الثانية تقول: «عمك الشيخ محمد ساب «أم فوزية» عشان مجنونة، عقلها طاقق، مالهاش شغلة غير الشبشبة والسحر عشان عمك الشيخ يرجع لها.»
قبل أن تعود طنط فهيمة من سهرة رأس السنة الجديدة، قبل أن أغلق مفكرتي بعد منتصف الليل أول يناير 1945م، كتبت: أنتظر إجازة العيد بفارغ الصبر لأسافر إلى منوف، أشعر بالحنين إلى أمي وأبي وأخواتي، أشعر بالحنين إلى الحرف «ف»، يعزف العود في هدوء الليل تنثر، سأدخل مدرسة الفنون الجميلة وألقاه. هل تخرج من المدرسة وتزوج؟ أيعيش هنا في مصر؟ هل ألتقي به مصادفة في الطريق إلى المدرسة؟!
في إجازة العيد سافرت وأخي إلى منوف، اشترى أخي كاميرا صغيرة، كان عاشقا للصور، يدخل إلى الغرفة في الحديقة حيث تخزن طنط فهيمة الصور، يقضي الساعات يتفرج على الصور، عثر على صورة لأمي وهي تلميذة في المدرسة، صورة له وهو طفل تحمله أمي فوق صدرها، وجهها يشبه الملكة نازلي تحمل طفلها الملك فاروق، أو العذراء مريم تحمل المسيح، أراد أخي أن يأخذ هذه الصور إلى منوف، طنط فهيمة رفضت. كان يحرم نفسه من الطعام، يدخر القرش على القرش، اشترى الكاميرا الصغيرة ليلتقط صورة في منوف لأمي، كنت أحب الصور مثل أخي، القراءة كنت أحبها أكثر، أقرأ القصص والروايات، في أوقات الفسحة تلعب البنات في الحوش أجلس على الدكة الخشبية وأقرأ، في حصة الألعاب الرياضية كنت أقرأ أيضا، في حقيبتي شهادة طبية مكتوبة بخط يشبه نغبشة الفراخ: مطلوب إعفاء التلميذة نوال السيد السعداوي من حصة الألعاب الرياضية؛ لإصابتها بآلام روماتيزمية في عظام الظهر والساق اليسرى.
أصبحت هذه الشهادة تلازمني في حقيبتي بعد أن تلاشت الآلام، أقدمها للناظرة حين أتأخر في الصباح أو أغيب عن المدرسة يوما أو يومين، أعطت الناظرة أمرا للبواب أن يفتح لي الباب، أبي يقول: رب ضارة نافعة.
في منوف التقط أخي طلعت كثيرا من الصور، أمي تتمشى في الحقل من حولها أخواتي الصغيرات، صورتي أجري وراء فراشة بيضاء، وضع ذراعه في ذراعي «أنكاجيه» والتقطت لنا أمي الصورة، جاء أبي التقط له أخي صورة واقفا بين الزرع في يده المنشة فوق رأسه الطربوش.
لقيط في دورة المياه
في مدرسة السنية كانت معي زميلة اسمها سعاد، تسكن في منزل مجاور لبيت عمي الشيخ محمد، بيتها أحسن حالا، تدخله الشمس، المرحاض نظيف، أزورها لمجرد الدخول إلى المرحاض، تمشي معي إلى المدرسة، تعطيني كراريسها أنقل منها ما يفوتني أيام الغياب.
سعاد سمراء البشرة نحيفة قصيرة، ووجهها طويل شاحب، شفتاها رفيعتان تشوبهما زرقة، مطبقتان بشدة الجدية والاستقامة، في المرآة شفتاي منفرجتان غير منطبقتين، هل أفتقد الجدية والاستقامة؟ أشد عضلات وجهي، أزم شفتي، مهما حدث لن أبتسم، لا شيء في الكون يبعث على الابتسام.
فجأة تنفرج شفتاي، أبتسم لأقل سبب، جرو صغير يرفع ذيله يبول فوق جدار الجامع، الناظرة ترفع أنفها بكبرياء لتسقط من فوق المنصة، أنفجر بالضحك، سعاد إلى جواري شفتاها لا تنفرجان.
أخي طلعت يشاركني الضحك، يقلد طنط فهيمة، يدق بكعب حذائه الأرض، يقلد عمي الشيخ محمد، يتنحنح بصوته الغليظ، زوجة عمي تتأوه بصوتها الناعم الممطوط.
الجمعة يوم الإجازة، أذهب مع أخي إلى حديقة الأزبكية والأندلس وحديقة الحيوان في الجيزة، نتبارى في ركوب الترام دون دفع التذكرة، أخي أكثر جرأة في التزويغ من الكمساري، يقفز من الترام قبل أن يصل إليه، أقفز خلفه، الكمساري يقفز ورائي، لم يكن مألوفا أن تقفز البنات من الترام.
ركوب الترام دون دفع التذكرة من المباهج الكبيرة التي تملأ حياتنا الصغيرة، ثمن التذكرة ستة مليمات تبدو ستة جنيهات. أخي طلعت يكبرني بعام واحد، يعرف كل شيء في مصر، سينما مترو، مسرح الريحاني، كازينو بديعة، لم يحب المدرسة أو المذاكرة، يأخذني إلى دار الكتب في باب الخلق، نجلس نقرأ الروايات، الكتب القديمة، أخي يحب الشعر، الموسيقى، العزف على العود، الغناء، التمثيل، كان يمكن أن يكون فنانا موهوبا لولا ما حدث في منوف.
كان في العاشرة من عمره، الضربة جاءته في نصف وجهه الأيسر، نصف قرن وأكثر مضى منذ الحادث، أخي طلعت لا ينساه، يراه كل يوم في المرآة، الجرح الملتئم في خده الأيسر، الجرح غير الملتئم في أعماقه. - لولا منوف يا نوال ... - كان حصل إيه يا طلعت. - كنت بقيت موسيقار كبير.
صوت أخي في أذني قبل أن أغادر مصر في صيف 1992، جاء يزورني في بيتي بالجيزة، بريق طفولي يطل من عينيه، طبقة شفافة من الدموع الجافة، سحابة رقيقة من الحزن القديم، صفرة خفيفة تطفو فوق البريق، في يده روشتة من الطبيب: ارتفاع نسبة البولينا في الدم. - ماذا في الكلية اليسرى؟ - شوية تعب.
كلمة «تعب» ترن بصوته غريبة، لم يكن أخي يشعر بالتعب، لا ينام الليل، يتدرب على العزف، يغني، يرى نفسه في المرآة موسيقارا كبيرا، يركب البسكليتة يطير بها في الهواء، يحلق فوق الزرع مثل الفراشة، بشرته بيضاء (مثل أمي) مشربة بالحمرة، ملامحه متناسقة، ممشوق الجسم، ترمقه البنات بإعجاب، يرمقه الصبيان بكراهية، أمسك أحدهم قعر زجاجة، ضربه في وجهه، جاءت الضربة في خده الأيسر، كان طفلا في العاشرة، هل نفذت الضربة إلى القلب؟ إلى الكلية اليسرى؟
أخذه أبي إلى طبيب في منوف، في القاهرة أخذه الطبيب إلى طبيب أكثر كفاءة، التأم الجرح في الخد الأيسر، ترك علامة يراها أخي كل يوم في المرآة. - لولا الجرح كنت بقيت ... - الجرح مش باين يا طلعت ...
في المرآة لا يرى أخي إلا الجرح، منذ جاءته الضربة يكتم الدموع، الرجل يتلقى الضربة دون بكاء، البكاء للبنات، أصبح أخي رجلا في العاشرة من عمره.
يبتلع الدموع إذا ضربه أبي، يضربه حين يسقط في المدرسة، حين يترك المذاكرة، لم يدرك أبي موهبة أخي. - عاوز تبقى مصوراتي؟! - عاوز تبقى مازيكاتي؟!
لم تكن الفنون محترمة، الشهادات العليا من الجامعة هي أهم شيء، من لا يدخل الجامعة لا يكون مثقفا، من لا يتخرج في الجامعة لا يكون عريسا.
كلمة «الجامعة» لها رنين ساحر، أول مرة رأيت «القبة» كنت في الرابعة عشرة من عمري، ذهبت مع أخي طلعت وزميلتي «سعاد»، دخلنا حديقة الحيوان في شارع الجيزة، خرجنا من الباب الآخر في شارع الجامعة. «القبة» لها هيبة، تلمع تحت الضوء أكبر من قرص الشمس، الساعة العالية ترن بصوت أقوى من الأسد في حديقة الحيوان، شارع الجامعة تحوطه الأشجار الباسقة، أوراق الشجر أكثر خضرة من الأشجار الأخرى، رائحة الياسمين تملأ الجو، أسفلت الشارع يلمع تحت الشمس مغسولا بالماء والصابون، طلبة الجامعة يدبون فوق الأرض بأحذية جلدية قوية، يرتدون بدلا من الصوف المتين رصاصي اللون، تتدلى من أيديهم حقائب جلدية تلمع تحت الضوء، رءوسهم شامخة، عيونهم نحو السماء، يرمقوننا باستعلاء نحن الأطفال أو التلاميذ، أيأتي يوم أدخل فيه الجامعة؟ أجلس إلى جوار هؤلاء الرجال؟ أتخرج؟ أصبح كاتبة؟ طه حسين كان طفلا فقيرا فاقد البصر، أبي ليس فقيرا مثل أبيه، وأنا لست فاقدة البصر!
شارع الجامعة وحديقة الأورمان، فرع النيل فوق كوبري بديعة (كوبري الجلاء)، والنيل الرئيسي، كوبري قصر النيل، الأسد الحجري عند مدخل الكوبري أكبر من الأسد الحقيقي في حديقة الحيوان، مياه النيل تجري تحت الكوبري، تنعكس عليها الأضواء، مياه أخرى، نيل آخر غير النيل في كفر طحلة، السيارات تمرق فوق الكوبري، يهتز من تحتنا، تهتز معه أجسامنا، أيسقط الكوبري ونحن فوقه؟!
دخلت إلى الميدان الواسع «الإسماعيلية» نسبة إلى الخديو إسماعيل، الجامعة اسمها جامعة فؤاد الأول، ميدان واسع آخر اسمه ميدان فاروق الأول، شارع الملكة ناظلي، شارع الملكة فريدة، قصر الأمير محمد علي، مدرسة الأميرة فوزية، الأميرة فوقية؛ أسماء ترن في أذني مهيبة، أسماء الآلهة في السماء، لم أعرف أنها سوف تسقط ومعها ألقاب الباشوات في بضع سنوات.
زميلتي «سعاد» مثلي تحلم بدخول الجامعة، كلية الحقوق بالذات؛ تريد أن تكون محامية لتدافع عن حقوق الفقراء. أخي طلعت يريد أن يدخل معهد الموسيقى، أريد أن أدخل الفنون الجميلة، كلية الآداب. الأدباء، أيتخرجون في كلية الآداب؟!
في أحلامي أرى نفسي أديبة أو كاتبة أو عازفة على العود، على البيانو، رسامة، أمسك الفرشاة في يدي والحامل الخشب فوقه اللوحة، الصورة في ذهني، أول حب في حياتي، أسترجعها، نائمة في الليل بجوار طنط فهيمة، عيناها الجاحظتان ترمقني، تكشف أحلامي، في غمضة عين تنام، يرتفع شخيرها في السكون، أتسلل من الفراش إلى الفرندة الواسعة، أطل على النجوم، أستكشف المستقبل، أستعيد الماضي، أدون السطور في مفكرتي.
الماضي يبدو لي ساحرا، سقوط الأشياء في العدم يكسبها الرونق ، الروث في حقل عم صابر له رائحة العطر، بركة الطين بحيرة تلمع تحت القمر، قطرات المطر فوق زجاج النافذة، أصابع تعزف على العود، نهيق حمارة الحاج محمود أكثر رقة من شخير فهيمة.
شطبت العبارة الأخيرة من مفكرتي، كارثة لو عثرت عليها طنط فهيمة، أشطب الكثير من مفكرتي، أمزق الورقة وألقي بها من نافذة القطار، أشد عليها السيفون في المرحاض، أخشى أن ألقيها في صفيحة القمامة في المطبخ، أرى طنط فهيمة تفتش في الصفيحة.
بعد موت جدي استبدلت طنط فهيمة الكلب الوولف بالقط المتنمر، في ظلمة الليل يقفز الجسد الأسود فوقي، أهب من النوم مفزعة، تأخذه طنط فهيمة في حضنها، تحوطه بذراعيها.
علاقة حب تربط طنط فهيمة بالقط المتوحش، يستكين بين ذراعيها، في غيابها يصبح هائجا متحفزا، تطلق عيناه بريقا، لسانا مثل اللهب، في الليل يموء بين ذراعيها، عشيق يحن إلى الحب، تحنو عليه طنط فهيمة أكثر من كل سكان البيت، أتفضل معاشرة الحيوان على الإنسان؟ تعطيه حق الحب وتحرمني من الحق ذاته، لم تمد يدها مرة واحدة لتربت على كتفي، لم تحطني بذراعيها مرة واحدة، لم تضع أمامي صحنا باللبن، تملأ صحن الكلب باللبن.
في الليل أجلس في الفرندة كما كنت أفعل في منوف، أمامي الحديقة، أوراق الشجر تلمع تحت ضوء القمر، عيناي تتعلقان بالنجمة البعيدة الوحيدة؛ نجمتي، ولدت معي، تموت معي، إلى جوارها نجم يلمع، يرمقها، عيناه يكسوهما البريق، يطل عليها من الفرندة العلوية، يعزف العود، يغني لها وحدها دون ملايين البشر، يعرف اسمها من بين ملايين الأسماء، «يا نوال فين عيونك؟» أغمض عيني، أتسلق السور، أصل إلى الدور الثاني، أتوقف لحظة ممسكة بسور الفرندة، كان يقف متكئا بذراعه على سور الفرندة، أسند يدي فوق السور الحجري كما يسند يده، يهب الهواء، يمتلئ قميصه الواسع بالهواء، يحلق في الجو روحا بلا جسم، يختفي وراء السحب، عيناي تدوران تبحثان، السماء والأرض خاليتان منه، يبدو غيابه مفاجئا طارئا لم يحدث من قبل، أمد يدي نحو السور الحجري، ملمس الحجر تحت أصابعي دافئ مثل بشرة حية، له رائحة الجسم، أضع يدي فوق يده، السور الحجري يلين تحت ذراعي كذراعه.
أنتفض في السرير، أصحو، تفتح طنط فهيمة عينيها ... يسقط القط بين ذراعيها يفتح عينيه هو الآخر، يرمقني في غضب، أنا غريمته في هذا الفراش، يريد أن يكون وحده في السرير؛ كالزوج لا يطيق شريكا له.
في مفكرتي السرية كتبت:
طنط فهيمة لو عرفت كم من الوقت أقضيه في الليل بين ذراعي «ف»، ماذا تقول عني؟ فتاة فاسدة؟ طنط فهيمة تقوم بأسوأ الأعمال في وضح النهار بأنف شامخ، تحرمني من شرب اللبن في الصباح، تعطيه للقط المتنمر، هل أواجهها بحقيقتها؟ هل أواجه كل الناس بحقيقتهم؟ أنام وأحلم أنني واجهت العالم بحقيقتي، ولدتني أمي في هذا العالم، هذا العالم ليس بيتي، الأرض ليست أرضي، السماء ليست سمائي، الأهل ليسوا أهلي، أنا بلا أرض، بلا سماء، بلا أهل! أنام وأحلم بالعالم كله تغير، أحلم بلحظة أكسر قشرتي الخارجية، القوقعة الصلبة تحوطني، تعجزني عن النطق، لماذا لم أنطق اسمه؟ نلتقي وجها لوجه؟ لم تنفرج شفتاي عن كلمة «أحبك»، في الحلم أهمس له بالكلمة، ينظر إلي باندهاش، أيمكن أن تنطق بنت بمثل هذه الكلمة؟ تتسع عيناه بدهشة، يبتسم بسخرية، يمضي في طريقه إلى شارع المحطة في يده الحقيبة والعود في يده الأخرى، أصحو من النوم مبللة بالعرق، بالندم طول العمر لو أن ابتسامته الساخرة لم تكن حلما، لو أن مفكرتي وقعت في يد أحد! ماذا يقولون عن التلميذة الجادة المستقيمة؟! تسترجع حبها الأول؟! تشكله، تعيد تشكيله؟! تستحضره؟ نسمة هواء في جو خانق؟ صورة جميلة في عالم يخلو من الجمال؟
جاءني أخي طلعت وهمس في أذني: عندي فكرة جهنمية! كثيرا ما تراوده تلك الأفكار الجهنمية ، رحلة إلى حديقة الحيوان في الجيزة، إلى القناطر الخيرية، إلى دار الكتب في باب الخلق، المسرح، السينما، لم تكن أي شيء من ذلك، مغامرة بدت خطيرة شاركته فيها، لماذا؟ إنه صديقي الوحيد في البيت الكبير الموحش، هل أفقد صداقته وأنا مثله أحب الصور، أكره طنط فهيمة وأود الانتقام منها.
لم يكن في البيت إلا أنا وأخي، سافر الجميع في إجازة يومين، هبط أخي طلعت إلى الغرفة في الحديقة الخلفية: «أنا جبت عربية كارو عشان نشيل الصور دي كلها.»
ارتعدت، لم يعطني فرصة للاعتراض، بدأ يحمل الصور من الغرفة إلى العربة الكارو، وجدت نفسي أساعده كالتابع المطيع. بعض الصور كبيرة ثقيلة نشترك في حملها معا، أو يحملها أخي فوق ظهري مثل حماره، الإطارات عريضة ثقيلة مصنوعة من الذهب أو ماء الذهب، صورة جدي بالبدلة الرسمية والنياشين يشبه سعد زغلول باشا، صورة الخديو إسماعيل والخديو عباس والملك فؤاد الأول، الإمبراطور هيلا سلاسي ملك الحبشة، الأستاذة فهيمة شكري تتلقى شهادة المعلمات، صورة زفاف أمي وأبي، زفاف طنط نعمات إلى محمد أفندي الشامي، ثوب الزفاف قصير من الدانتيل الأبيض، طنط هانم ثوب زفافها طويل يجرجر ذيله على الأرض، صورة بدور هانم (شقيقة جدي) تحتضن طفلها تشبه صورة الملكة نازلي تحتضن الأمير فاروق، العذراء مريم تحتضن المسيح، صورة لجدي طاهر بيه زوجته إلى جواره ترتدي اليشمك، ثلاثة من الصبية يرتدون بدلا أنيقة، خالي يحي، خالي زكريا، خالي ممدوح، محمد علي باشا أحد أسلاف شكري بيه! أمي بالفستان السواريه في حفلة رأس السنة، أمي تحمل طفلها الأول «طلعت»، الإلهة إيزيس تحمل حورس.
أمسك أخي الصورة الأخيرة، تحفة! «خسارة الصور دي تترمي في التراب كدة!»
ساعتان ننقل الصور من الغرفة إلى العربة الكارو، صعد أخي مع السائق فوق العربة ليربط الحبال، الحمارة مربوطة في العربة هزيلة بيضاء تشبه حمارة الحاج محمود في منوف، زمجر السائق، الحمل أثقل مما تصور، طالبنا بزيادة في الأجر، لم يشأ أخي أن يضيع الوقت، وافق على الفور، تأهبت العربة الكارو للحركة، فوقها الحمل الثمين، نحن من خلفها، فجأة ظهرت طنط فهيمة، انشقت عنها الأرض، رأيتها أنا وأخي في وقت واحد تدفع الباب الحديدي الخارجي بيدها لتدخل، ظهرها ناحيتنا، سمعنا الجرس المعلق فوق الباب يصلصل، ابتدرت لتغلق الباب وراءها، التقطت أذناها الصوت، النهيق، شارع الزيتون لم يكن فيه حمير، توقفت حركة رأسها مع الاستدارة لتغلق الباب، عيناها الجاحظتان من وراء العربة الكارو، الحمارة لم تتحرك بعد، الحمل ثقيل، تثبت حوافرها في الأسفلت، يرتفع نهيقها في الجو. «شيه يا عزيزة شيه!»
طنط فهيمة عيناها لم تريا العربة الكارو، الحمارة فقط رأتها، تحركت عيناها إلى العربة، أكوام الصور فوق ظهر العربة، ترددت، استدارت لتدخل، ظهرها أصبح ناحيتنا، نجونا، نجونا، حمدنا الله.
لماذا استدارت مرة أخرى؟! لمحت المرحوم جدي يتربع فوق ظهر العربة الكارو، داخل الإطار المذهب، داخل بدلة التشريفات فوق صدره النياشين. «يا دي المصيبة!» طنط فهيمة ترفع الصوت، أبوها المرحوم عاد من القبر، المصيبة تحولت إلى فضيحة، امتدت من بيت المرحوم في الزيتون إلى بيت الشيخ الأكبر في القلعة، إلى العمارة العالية في الضاهر إلى منوف إلى كفر طحلة إلى كل مكان في الكون.
عاد المرحوم (ومعه جميع الصور) إلى الخلفية في الحديقة، انطلقت الحمارة مع سائق العربة الكارو، لم يرد لأخي الثمن الذي أخذه مقدما. استأجرت طنط فهيمة نجارا، أصبح لباب الغرفة قفل لا يفتحه الجان، أخي يحاول تفسير ظهور طنط فهيمة، لغز أصعب من نظرية فيثاغورس، لو طنط فهيمة تأخرت دقيقة واحدة بس! لو الحمارة اتحركت دقيقة واحدة قبل ما طنط فهيمة توصل!
كان عنيدا يكره الفشل في هذه المغامرات أكثر من الفشل في المدرسة، حصل على هذه الصور بعد ذلك، كيف؟ دخلت إلى غرفته في منوف فرأيت الوجوه معلقة فوق الجدران، التي حملتها فوق ظهري من الغرفة الخلفية، يتوسطها المرحوم جدي داخل الإطار المذهب داخل بدلة التشريفات، النياشين فوق صدره. •••
في مدرسة السنية، في ربيع عام 1945م، وقع حادث انقلبت له الدنيا، واحدة من الفراشات اسمها دادة «أم علي» أطلقت صرخة حادة من دورة المياه، خرجت تحمل بين ذراعيها مولودا يرفس بيديه وقدميه، أعلنت الناظرة الطوارئ، إغلاق الأبواب، حظر الخروج على جميع البنات.
لم أفهم الموضوع، «دادة أم علي» (الفراشة) ولدت طفلها في دورة المياه؟ زميلتي سعاد همست في أذني بكلمة جديدة: «لقيط»، الناظرة تشبه نبوية موسى وطنط فهيمة، ترمق طوابير البنات بعينين جاحظتين، النظارة الزجاجية تدب على الأرض بكعب حذائها، أنفها من الجانب يرتعش، حركة عصبية، شامخة إلى السماء، أرستقراطية من سلالة البشوات والأمراء من عائلة محمد علي باشا.
لم تعثر الناظرة على البنت الآثمة، أصبحت كل تلميذة متهمة بالحمل السفاح، رنت كلمة السفاح في أذني مثل السفاح، سمعت من طنط هانم عن السفاح في حي السكاكيني، بجوار شارع الظاهر. «السفاح» يحمل السكين يقتل الناس، يعيش في السكاكيني، لا يسكن فيه إلا أصحاب السكاكين، يا عبيطة يا نوال، السكاكيني باشا كان عايش في الحي، عشان كدة اسمه السكاكيني! باشا يسمونه السكاينس؟ هل جمع فلوسه من بيع السكاكين يا طنط هانم؟
شرحت زميلتي سعاد الفرقة بين السفاح والسفاح، السفاح (بالكسرة) هو الحمل أو المولود بدون أب.
مولود بدون أب، سيدنا عيسى عليه السلام، أهناك غيره؟ سعاد تشرح لي، عيون المفتشين تمر علينا في الطابور، كشافات تبحث عن علامة الجريمة، الحمل السفاح مرسوم فوق وجه التلميذة؟ في بصمة يدها؟!
لم يعثروا على البنت المذنبة، أصبحت البنات كلهن مذنبات، مدرسة السنية كلها أصبحت مذنبة، مدرسة سيئة السمعة. - انتي في مدرسة إيه يا نوال؟ - السنية يا طنط. - ياه! اللي لقوا فيها ما اعرفش إيه في التواليت!
النسوة من عائلة المرحوم جدي تنتفض أجسادهن، يشهقن في نفس واحد، ياه! لا تكف الواحدة منهن عن السؤال: انتي في مدرسة إيه؟ السنية يا طنط، يا مصيبتي! في عيونهم لا أرى أي مصيبة، اللذة تتأرجح في عيونهن، أيحلمن طول الليل بالحمل السفاح؟!
طلبة المدارس يمشون وراءنا يغنون ساخرين: يا بنات السنية، مشيكم على الأرض غية (على وزن: يا بنات إسكندرية، مشيكم على البحر فيه).
أحدهم يمسك طوبة يقذفنا بها، يلقي بحقيبة كتبه فوق صدر واحدة منا، يركب معها الترام، يتبعها حتى بيتها، لا يكف عن الهسهسة بصوت قبيح، كلمات أقبح من الفحيح.
خبطني واحد منهم بكوعه في صدري، واقفة أنتظر الترام، أمسكت حقيبة كتبي وهويت بها فوق رأسه، يسقط على أسفلت الشارع فوق قضبان الترام، كادت العجلات تدهسه، تجمع زملاؤه، شدوه إلى الرصيف، لم يقترب مني أحد منهم، يرمقونني من بعيد، إذا حاول أحد منهم الاقتراب صاحوا به: اوع يا ابني رأسك! دي من عيلة طرزان!
خالي يحيى يقف في الفرندة يعاكس البنات، خالي ممدوح ينضم إليه، لكن خالي زكريا كان مهذبا، طنط فهيمة أخذت دور أبيه، تحذره من أخيه يحيى وابن عمه ممدوح، تقول له: «دول صايعين وضايعين مش لازم تكون زيهم.»
الشجار يدب بين طنط فهيمة وطنط نعمات، نعمات هي الكبرى، أخذت دور الأم لأخويها، تدلل خالي يحيى باسم «توحة»، تدلل خالي زكريا باسم «زيكة»، رجل له شارب كثيف اسمه توحة أو زيكة؟!
بقايا التقاليد في تلك العائلات، اسم توحة يوحي بطفلة ذات خدين ناعمين، ليست هي خالي يحيى، قصير نحيف، أحدب الظهر، رأسه كبير، جبهته مقوسة، شعره مجعد، يدهنه بالبريانتين، يفرقه على جنب، طربوشه أحمر فاقع مائل على جنب، عيناه من وراء النظارة مائيتان غارقتان في الدموع، لا يبكي، يضحك على نكت لا تضحك أحدا، «النني» الأسود مطفأ خال من التعبير، تشوبه زرقة بلون طلاء النوافذ أيام الحرب، الحاجبان كثيفان مقوسان إلى أعلى، مندهش دون أن يندهش، أنفه ناعم، طرفه المدبب مرفوع مثل أنف طنط فهيمة، تجري فيه دماء أرستقراطية، فتحتا الأنف واسعتان تشوبهما رعشة، يملؤهما شعر غير بشري، شفتاه رفيعتان يبللهما بطرف لسانه، يبتلع لعابه بصوت مسموع، يمص لسانه، يلعق شفتيه، يضحك فيظهر فكاه الأعلى والأسفل، اللثة حمراء، الأسنان مشرشرة صفراء بلون الدخان، يرتدي بدلة ضيقة وصديري ضاغط على صدره، يشعل السيجارة وراء السيجارة، يمسكها بين إصبعين صفراوين، يدق بها فوق مسند الكرسي، دقات قوية، أصابعه رفيعة تشوبها رعشة، لم يكمل تعليمه، اشتغل موظفا في السكة الحديد، يصلح الساعات المعلقة في المحطات.
يبدو رجلا طفلا، مثقفا جاهلا، عاليا واطيا، تفوح منه رائحة الدخان، مع عطر فواح من عطور النساء.
أبي يعتبر خالي يحيى نموذج الشباب المخنث، نتاج طبقة عالية هابطة إلى أسفل، مصيرها نحو الزوال. •••
عدت من المدرسة فرأيت طنط فهيمة تلطم خديها بيديها: يا دي المصيبة السودة؟
الخادمة شلبية متكورة وراء باب المطبخ تبكي، هل مات أحد؟
دخلت إلى غرفة طنط نعمات، هل سأراها جثة ممددة في السرير، رأيتها واقفة أمام المرآة داخل فستانها الحريري الأسود، ساقاها السمينتان البيضاوان داخل جورب شفاف أسود، شعرها ملفوف بدبوس كبير فيه فصوص لامعة، قدماها داخل حذاء أسود لامع له كعب عال رفيع، تفتح «الشفونيرة»، ترتدي الإسورة (الشبكة التي شبكها بها محمد أفندي الشامي)، ساعة اليد الصغيرة ذات الفصوص اللامعة، جلست أمام التسريحة أو «التواليت»، وضعت البودرة على وجهها، كحلت عينها بالكحل الأسود الطويل في المكحلة، تضعها بين جفونها، صبغت شفتيها الرفيعتين بإصبع الروج، قلبت الشفة العليا فوق السفلى، مطت بوزها إلى الأمام.
رأتني في المرآة عند مدخل الغرفة، بطنها مرتفع قليلا تحت الفستان الحريري الضيق، أيكون في بطنها حمل سفاح؟! - بتبصيلي كدة ليه يا جارية ورور؟ - إيه المصيبة السودة يا طنط نعمات؟ - البنت مقصوفة الرقبة اللي اسمها شلبية، ماشية مع الولد المكوجي، أنا رايحة دلوقتي حالا أشده من رقبته أجيبه هنا هو والمأذون عشان يكتب كتابها.
شلبية الخادمة الصغيرة تبدو أصغر مني، تحمل في بطنها جنينا؟! طنط نعمات تقول عنها «مأرودة». لا يقل عمرها عن «خمستاشر سنة»، نحيفة كالبوصة، بلا أثداء ولا أرداف، جلدة على عضمة، تنام على كنبة بلدي في غرفة الدادة، تغلق عليها طنط فهيمة بالمفتاح في الليل، كيف حملت شلبية؟!
طنط نعمات تتهم الولد المكوجي، أو صبي البقالة المجاورة، بائع الروبابيكيا، جامع القمامة، الزبال، ولد من الخدم، تقول عنهم: «بلا دين ولا ضمير ولا أخلاق.» طنط فهيمة لا ترى أنه واحد من الخدم، الخدم لا يملكون الجرأة لاغتصاب خادمة الأستاذة فهيمة شكري على سن ورمح، شارع الزيتون كله يعمل حسابها، الاستهانة بالخادمة هي استهانة بالمخدومة، طنط فهيمة ترى أنه واحد من البهوات الصايعين الضايعين من أمثال يحيى بيه شكري.
شلبية ملامحها تشبه زينب ابنة عمتي بهية، ترتدي جلبابا واسعا يخفي ارتفاعة البطن، متكورة حول نفسها، تمسح دموعها، تشد طرف جلبابها تغطي ركبتيها، طنط نعمات تلسعها بالعصا الخيزران: انطقي يا بنت! الولد المكوجي ولا الزبال؟ - ماعرفش وحياة ربنا يا ستي. - بتحلفي بربنا كدب، إلهي يحرقك في نار جهنم! - أنا في عرضك يا ستي! أبوس رجليكي يا ستي!
خالتي نعمات لا تلين لهذه التوسلات، قسوتها تشتد، انهالت عليها بالعصا الخيزران، تضربها على أي مكان تصل إليه، شلبية تتكور كالقنفذ، تحمي رأسها بذراعيها، ذراعان رفيعتان بلا لحم، عودان من البوص، تسقط فوقهما العصا الخيزران، يرتطم الخيزران بالبوص، شيء ينكسر، الخيزران؟ البوص؟!
طنط نعمات سمينة قصيرة، قامتي فارعة بالنسبة لها، ذراعاي قويتان أقوى من ذراعيها، ضربت الطالب الشاب على محطة الترام، أثق في قوة عضلاتي، أقوم بالتمرينات الرياضية في الحديقة الخلفية، عمودان من الحديد في الأرض، «العقلة» و«المتوازيين»، يقفز خالي زكريا عليهما، يحمل فوق كتفيه عمودا من الحديد ينتهي من كل ناحية بكرة حديدية، أتبارى مع خالي زكريا في حمل الأثقال، جسمي يزداد قوة، أمشي رافعة رأسي، خطوتي فوق الأرض تخف، قوة جديدة تحملني، قدماي لا يلمسان الأرض، هل يخف الجسم مع ازدياد قوته والروح ترق؟!
صوت شيء يتكسر في أذني، الخيزران؟ البوص؟ أمسك العصا بيدي الاثنتين، أغمض عيني، أضرب بكل قوتي، أفتح عيني، بين يدي العصا، هل أضرب طنط نعمات؟
لم أضربها رغم قسوتها، أشفق عليها، تربطني بها علاقة دم، شقيقة أمي أخذت منها العصا الخيزران، ألقيت بها في الحديقة، لا شيء أكثر من ذلك.
بقيت مشكلة شلبية دون حل، لم يتزوجها أحد من الخدم، لكل منهم زوجة على الأقل، فشلت طنط نعمات في مهمتها، في حياتها كلها، لا أحد مسئول عن فشلها إلا شلبية، شلبية هي السبب وراء المصاب، من ورقة الطلاق إلى السرطان في حلق المرحومة.
أبكي وحدي في الليل، أتذكر شلبية، طفلة مثلي، عمرها أربعة عشر عاما، أصبحت الضحية وكبش الفداء، الخروف البريء يذبح بدلا من البيه، لا دليل على أنه يترك بصمته، من يبحث عن البصمة؟! البنت ليس لها أحد في مصر، أهلها في الصعيد، الحامل سفاحا تقتل مع الجنين دون تحقيق.
انطلقت المشاعر السوداء المخبوءة تحت البشرة الملساء المنزوعة الشعر، الناعمة نعومة الثعابين، العصا الخيزران كالكرباج، تمسكها الأصابع البضة المدببة الأظافر كالمخالب، الجسد القصير الممتلئ بالغضب، بالحزن، بالإحباط، ينتفض مع انتفاضة الخادمة المضروبة، الضاربة والمضروبة جسد واحد، تفصلهما العصا الخيزران، طنط نعمات، أتضرب نفسها بنفسها؟ تنهار بعد الضرب من الإعياء، تتهاوى فوق المقعد تلهث، تنفض الهواء من صدرها، تشهق، تتشنج، تنهمر الدموع من عينيها، العرق يتصبب من جسدها، تفرغ جسدها من المياه الراكدة السوداء بلون قاع البرك.
طنط فهيمة لم تضرب شلبية، تستنفذ طاقته المخزونة في الخروج إلى المدرسة، تضرب التلميذات بحافة المسطرة، تمر عليهن في طابور الصباح، تنهال المسطرة فوق الأصابع الممدودة مثل مس هيمر ونبوية موسى وناظرة السنية وكل الناظرات، تعود طنط فهيمة من المدرسة بعد الظهر منهوكة القوى.
أمي لم تضرب الخادمة سعدية بقسوة نعمات، تنفس أمي عن طاقتها في السجادة العجمية بالمضرب الخيزران، في تخريط الملوخية بالمخرطة، فرم اللحم في المفرمة، تسعة من الأطفال وأبوهم توكلهم طول النهار، يد زوجها تربت عليها في الليل، تدفئها في ليالي البرد.
طنط نعمات عاشت وماتت، لم تحمل ولم تلد ولم يكفلها أحد، لم تملك في الحياة إلا جهاز عرسها، كراسي الصالون المذهب، السرير النحاسي الأصفر، الدولاب الكبير، الشيفونيرة، ترابيزة السفرة، البوفيه، «الدينوسوار» الدولاب الزجاجي للصيني والفضيات واثنتين من الكومدينو، التسريحة أو التواليت، قطع الأثاث الشبيه بأثاث أمي.
لم تحصل طنط نعمات على شيء من معاش أبيها، القانون يحرم المطلقات من معاش الأب، بعد الطلاق نفقة عام واحد من زوجها، أصبحت طنط نعمات بلا مورد، تطوف على بيوت الأهل في موعد الأكل، عمتي رقية في كفر طحلة مثل طنط نعمات ، الفقر في القرية أقل قسوة من المدينة، القلوب في المدينة أشد قسوة من القرية، عاشت عمتي رقية وماتت أحسن حالا من طنط نعمات.
لطنط فهيمة جزء من معاش أبيها، مع راتبها من المدرسة، تنتمي إلى طبقة أعلى من أختها نعمات، ترمقها بطرف أنفها، طنط فهيمة رفضت الزواج بعقد رسمي، لم تشأ أن تفقد معاشها من أبيها؛ الابنة المتزوجة مثل المطلقة، تحرم في القانون من معاش الأب. تزوجت طنط فهيمة بعقد «عرفي»، العقد العرفي لا يعتبر عقد زواج رسمي، احتفظت طنط فهيمة بمعاش أبيها حتى ماتت، العقد العرفي غير محترم مع أنه شرعي، الناس لا تحترم إلا العقود الرسمية.
صورة شلبية محفورة في ذهني، تمشي وراء طنط فهيمة حاملة صرة من الدمور فيها ملابسها، إلى أين تأخذها؟ تنقذها من بين يدي طنط نعمات، تنقذ سمعة العائلة الكريمة؟ لم أعرف مصير شلبية، طردتها طنط فهيمة إلى أبيها ليقتلها؟ ربما تهيم على وجهها في الشوارع تتسول طعامها؟ تبيع جسدها في سوق البغاء إذا اكتسى جسدها باللحم؟ لم أعرف مصير الطفل في بطنها، القانون يحرم الطفل من الانتساب للأم، التبني محرم في الإسلام، آية في القرآن تقول:
ادعوهم لآبائهم ، إذا كان الأب مجهولا يصبح الطفل «غير شرعي»، يتحمل عن أبيه وزر الإثم، ضحية أخرى بريئة مثل خروف العيد، لماذا لا يكون الأب المذنب هو الأب غير الشرعي؟!
كيف استطاعت طنط فهيمة أن تطرد شلبية من البيت؟ طنط نعمات اعتبرت الطرد أشد قسوة من الضرب، في أعماقها الأمومة المكبوتة، الحنان الراقد في القاع، ترمق شلبية بعينين مملوءتين بالدموع، تبتلع الدموع قبل أن يراها أحد، تسقط دمعة واحدة تمسحها بمنديلها الحريري الأبيض.
طنط نعمات تخجل من دموعها، تلطم خديها بيديها، والدموع تظل حبيسة، سمات العائلات المنحدرة من السلالات الراقية، عماتي الفلاحات الفقيرات يبكين بالدموع دون خجل، يفرحن، يزغردن بصوت عال دون حرج، يغمروننا بالقبلات بالعناق عند الاستقبال، عند الوداع تنهمر دموعهن، في المأتم يطلقن صراخا يشبه الزغاريد، يتجمعن في الحقل في الدار في السوق، يواسين بعضهن بعضا في الأحزان والمصائب، البيت بجوار البيت، النافذة تطل على النافذة والجارة، تتجمع الجارات أمام الدار، يجلسن على عتبة الباب، كل من تمر في الزقاق تجلس معهن، الواحدة منهن لا تشعر بالوحدة، لا عزلة، لا جوع، تمد يدها إلى أي حقل وتأخذ كوز ذرة.
طنط نعمات تعيش في الوحدة، البيت الكبير تحوطه حديقة واسعة وسور حديد، نوافذ الجيران بعيدة، أتجلس على عتبة الباب كما تفعل ستي الحاجة أو عمتي رقية؟ أتمد يدها لتأخذ رغيفا من أي مخبز كأنما الحقل؟
طنط فهيمة مثل طنط نعمات، تلطم خديها وتظل دموعها محبوسة، في الليل أصحو على جسدها ينتفض يرج السرير، جفونها مغلقة، وصوتها يخرج متحشرجا من بين فكين يصطكان: «أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم!» ينقطع صوتها، تكف أنفاسها عن إصدار أي صوت، ماتت؟! تشهق شهقة واحدة متحشرجة: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!» ينتفض جسدها انتفاضة واحدة، كالدجاجة المذبوحة، تهدأ، تعود أنفاسها عميقة منتظمة بالشخير الخافت.
كانت ترى في نومها الكوابيس، شبح شلبية يلوح لها في الليل! طفلة متكورة بجوار صرة ملابسها تبكي، صوت البكاء يخرق أذنيها مثل صفارة القطار، تقودها من يدها إلى القطار، ترغمها على الصعود، تدفعها في ظهرها بقبضة يدها، تتبعها داخل القطار، تجلسها على مقعد خشبي في الدرجة الثالثة مع صرة ملابسها المربوطة بالدوبارة. لم أكن مع طنط فهيمة في تلك اللحظة، تصورتها واقفة فوق رصيف المحطة، شلبية جالسة على المقعد بجوار النافذة، يدها النحيلة تمسك النافذة، يدها الثانية فوق صرة ملابسها، وجهها خال من الدم، عيناها مملوءتان بالدموع وتتسعان لدموع العالم، تتفادى طنط فهيمة النظر إليها.
تنظر إلى الناحية الأخرى، تتعلق عيناها بالسماء، عمود السواري، يتحرك القطار إلى الأمام معه شلبية، يتحرك الرصيف إلى الخلف معه طنط فهيمة، تمشي بظهرها إلى الوراء، وجهها أصبح في رأسها من الخلف، ترفع طنط فهيمة يدها لتتأكد من وجود عينيها في مكانها، تصطدم يدها بالنظارة الخارجية فتسقط على الأرض، تنكسر، يتناثر زجاجها في الجو مثل رذاذ المطر، طنط فهيمة عاجزة عن الرؤية، لا ترى شيئا بدون النظارة، كيف تعود إلى البيت؟!
عادت طنط فهيمة من محطة القطار بدون شلبية، لم تكلم أحدا في البيت، لم يكلمها أحد، تنفجر بدون سبب مثل قطها المتنمر، عادت الأمور إلى ما كانت عليه، لم يعد أحد يذكر اسم شلبية. جاء خادم عجوز في السبعين من العمر، عادت طنط فهيمة إلى طبيعتها، لكن كوابيس الليل تراودها، أصحو في الليل على انتفاضة جسدها، صوتها المتحشرج، تكلم نفسها في النوم، نشيج خافت كالبكاء المكتوم، تنفتح عيناها متسعتين جاحظتين في ذهول، تمتد يدها تحت وسادتها، تتحسس المصحف، سلسلة المفاتيح، تغمض عينيها وتغط في النوم.
تغلق الباب على الخادم العجوز، تخشى عليه من الحمل السفاح، طنط نعمات تتهكم عليها، طنط فهيمة لم تعد تأمن على شيء في البيت حتى نفسها، تغلق علينا الباب بالمفتاح في الليل، تقرأ من المصحف سورة يس، تطرد بها الجان والشياطين، «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، صوتها يشبه صوت ستي الحاجة وعمتي رقية، ملامحها أيضا تتغير، تصبح مثل طنط نعمات خائرة القوى، مستسلمة للمصير المحتوم، في الصباح تتبدل، ترتدي وجه الناظرة الشامخة، التايير الصوفي الأنيق، الحذاء الجلدي القوي، تضغط بإصبع الروج الأحمر على شفتيها، تضحك بصوت عال ملقية برأسها إلى الوراء.
هذه المرأة التي سمعت بكاء شلبية، دفعتها بقوة داخل القطار، هي نفسها المرأة التي تضحك وهي تصبغ شفتيها بالروج الأحمر؟!
في الرابعة عشرة من عمري، أنام في سرير واحد مع هذه المرأة، أخاف منها، أخاف لو امتدت يدها نحوي تغطيني فأنتفض، أتمتد يدها إلى عنقي؟ أتدفعني بقبضتها لأسقط من فوق السرير؟
سنة أولى سياسة
قضيت عاما دراسيا في هذا البيت الموحش، كان الليل طويلا، تسعى فيه الأرواح والشياطين، روح جدي الميت، روح جدتي الميتة، أرواح الموتى لا تخيفني مثل أرواح الأحياء، خالي يحي، هل ينكمش جسده ليدخل من تحت عقب الباب المغلق؟!
كانت طنط فهيمة تكره خالي يحيى؛ تقول: إنه شديد الغباء، فشل في الدراسة، أصبح «ساعاتي». في الحلم أراه أشد غباء من القط الأسود ، يتحول أيضا القط إلى روح شريرة، من تحت عقب الباب المغلق يدخل خالي يحيى على أطراف أصابعه، يقترب من الوسادة تحت رأس طنط فهيمة، يمد يده يأخذ المفتاح، في الحلم أقول لنفسي: يا سلام على الغباوة، ليه بيسرق المفتاح إذا كان دخل من غير مفتاح ؟
لا أحكي لطنط فهيمة هذه الأحلام، لا تطيق سماع هذا الكلام الفارغ، لا تنتظر مني إلا الحديث عن المدرسة والدروس، طنط نعمات مولعة بهذه الحكايات الفارغة، تأكل وقت فراغها، لا يقتل الفراغ إلا الفراغ.
حياتها كلها وقت فراغ، تملؤها بالحديث عن أي شيء، تتربع فوق الشلتة فوق السجادة في الشمس، إلى جوارها الصينية عليها وابور السبرتو الصغير من فوقه الكنكة، ترشف القهوة السادة من الفنجان المزركش رشفة رشفة، تمصمص شفتيها، تلعق بقايا القهوة، تحكي حكاياتها من أول ما ولدتها أمها. بعد أن يفرغ الماضي من الحكايات تنظر إلى المستقبل، تفرغ الفنجان فوق الصحن حتى يفرغ تماما من بقايا القهوة، ترفعه بالقرب من عينيها وتقرأ الغيب، ترى مستقبلها على شكل خطوط سوداء متعرجة مرسومة بنتوء البن. بعد أن تنتهي من المستقبل تعود وتتذكر الماضي، تحكي عن عريسها محمد الشامي ليلة العرس، تمص شفتيها وتتنهد: ماحصلش حاجة، ثم تتذكر المرحوم أباها، تدعو الله أن يغفر له ذنوب بما فيها الذنب الأكبر، إخراجها من المدرسة وهي صغيرة وتزويجها، وتتنهد تنهيدة عميقة: ربنا يسامحه ويبشبش الطوبة اللي تحت رأسه.
طنط نعمات أقرب إلي من طنط فهيمة، كانت تفلت منها لحظات من الحنان، أبكي في الليل حين أستعيد صوتها الحزين، كان هذا البيت الكبير مشبعا بالحزن.
ينتقل الحزن إلي كأنما بالعدوى، أتنفسه في الهواء الذي يتنفسه أهل البيت.
أرى خالي زكريا جالسا في الصالة يحملق في الفراغ ... أو غرفة أبيه الميت أو أمه الميتة، يشرب السيجارة وراء السيجارة حتى اصفرت أسنانه وأصابعه.
خالي يحيى رغم القهقهة العالية تجمع الحزن فوق ظهره، أصلع، له سنام الجمل، يمشي بظهره الأحدب فوق رصيف محطة القطار، يهرول بساقيه المقوستين داخل سروال متهدل، يصعد سلما طويلا رفيعا، يصل إلى الساعة الكبيرة المعلقة فوق المحطة، يحرك عقاربها المتوقفة ويغمز للبنات بطرف عين، أعاد للزمن حركته.
كان هذا الحزن منبعا من منابع الإلهام، أيقظ حاستي الأدبية وجعلني أكتب، الخادمة شلبية، أهي بطلة روايتي أغنية الأطفال الدائرية؟ خالي يحي، أهو ذلك الرجل العجوز في قصة ليست عذراء؟ عمتي رقية، أهي زكية في رواية الإله يموت في حضن النيل، أو موت الرجل الوحيد على الأرض؟ ربما طنط فهيمة هي تلك الضابطة أو الناظرة، وطنط نعمات هي تلك المقهورة المهجورة في إحدى رواياتي.
تركت هذا البيت الكبير الحزين لأدخل القسم الداخلي في مدرسة حلوان الثانوية للبنات. مرت السنون دون أن أعود إليه لألقي نظرة لأستعيد الذكرى، أحب استعادة الذكريات، الصور والأماكن القديمة، إلا هذا البيت، لم أعد إليه، الأحزان تحرق القلب، تحرق الذاكرة، أمي ترد بعبارة واحدة حين أسألها: ليه اتجوزتي يا ماما؟ تقول: علشان اهرب من بيت جدك شكري.
بيت الأحزان ... العيون تتحول إلى رماد، الموت يخطف الواحد وراء الآخر، يتراكم الحزن في كيس داخل العنق، داخل الصدر. مات خالي زكريا شابا بلا أبناء بلا بنات، لم يترك وراءه شيئا، مات خالي يحي، لم يذكره أحد، عاشت طنط فهيمة منقوعة في الحزن مع زوج يهددها بالطلاق حتى ماتت، طنط هانم ماتت لم تأخذ معها عمارة من العمارات، آخر ما رأيت منهم طنط نعمات، أهو جدي أتعس هذا البيت؟ نظامه العسكري؟ السلطة الأبوية تحطم أقرب الناس إليها؟ الطبقة البرجوازية تتهاوى مع نهاية الحرب العالمية الثانية؟ النظام الطبقي الأبوي يجري في التاريخ، السم يجري في الدم، في عروقي، في الشرايين، أتنفسه في الهواء داخل البيت الحزين.
شتاء عام 1959م، في عيادتي الطبية في ميدان الجيزة، دق جرس التليفون، جاءني صوتها عبر الأسلاك: إزيك يا دكتورة نوال. - مين؟ - مش فاكراني يا جارية ورور؟ - طنط نعمات؟! إزيك يا طنط؟ إزي صحتك؟ - نحمده، ولا يحمد على مكروه سواه. - ياه! لسة فاكرة يا طنط نعمات! - ما بقاش عندي غيره. - مين؟ - حيكون مين غير ربنا؟ - صوتك تعبان يا طنط. - تعبانة يا دكتورة.
صوتها ضعيف، رنة الحزن القديم، حشرجة صدر مملوء بالموت.
أعطتني عنوانها في حلمية الزيتون، تسكن في شقة أخيها يحيى مع زوجته وأطفاله، دخلت إلى غرفتها المعتمة بجوار المرحاض، تذكرت غرفتي في بيت عمي الشيخ، لمبة كهربية 20 وات، معلقة بين عوارض السقف الخشبية بلون الدخان، جهاز عرسها مكوم بعضه فوق بعض مثل النعش، سريرها الأصفر النحاسي في الوسط، راقدة بين الأعمدة الحديدية الأربعة كالمصلوبة، وجهها شاحب بلون ملاءة السرير، عيناها رماديتان مثل عيني جدتي آمنة، انفرجت شفتاها الجافتان: كتر خيرك اللي جيتي، فيكي الخير يا دكتورة نوال. «أنا جارية ورور يا طنط نعمات.»
سمعتها تضحك، عيناها تقاومان الظلمة، تشد جفونها، ويطل منها ببقايا بريق انطفأ في زمن قديم.
أشارت إلى ثديها الأيسر ... وضعت يدي على الورم، تجمدت في مكاني. «هو المرض إياه يا دكتورة نوال، أنا كنت عارفة إني لازم أموت بيه زي المرحومة أمك.»
خرجت من عندهم أتحسس صدري، أهناك ورم خبيث في الثدي الأيسر فوق القلب مباشرة، هل أموت خلال ثلاثة أشهر كما توقعت لطنط نعمات؟
ركبت القطار من محطة الزيتون، كنت أركب القطار كل يوم من هذه المحطة منذ أربعة عشر عاما، بدت محطة الزيتون معتمة متهدمة السلالم والجدران، رصيف القطار الذي كان طويلا لا نهائيا أصبح قصيرا، أجتازه من أوله لآخره في نصف دقيقة، كنت أجري فوق هذا الرصيف وألهث دون أن ألحق بالقطار، أنتفض في برد الشتاء وأتصبب عرقا في أيام الحر، كنت أقفز في القطار بعد أن يتحرك، كان التلاميذ من شدة الزحام يقفون على سلم القطار أو يرقدون فوق ظهره هربا من الزحام أو من دفع التذكرة، أحيانا يصعد إليهم الكمساري فوق ظهر القطار، يقفزون إلى الأرض قبل أن يمسك بهم، سقط أحد التلاميذ وبتر القطار ساقيه الاثنتين، رأيته ينزف على رصيف محطة سراي القبة، صورة الملك فاروق ترفرف فوق جسده المقسوم نصفين على عمود طولي من عواميد السواري، بركة حمراء من الدم تلوث الرصيف الأبيض اللامع كالرخام ، فردة حذاء طارت من إحدى الساقين المبتورين، بقيت الفردة الثانية في القدم الميتة، إلا أن التلميذ النازف فوق الأرض لم يكن يشعر أنه فقد ساقيه، يبتسم لمن حوله في براءة، يتساءل بصوت طفولي: فين الفردة الثانية؟! لم يكن شغله تلك اللحظة إلا البحث عن فردة حذائه المفقودة.
كان هذا التلميذ مثلي في السنة الثانية الثانوي، جاء من الريف مثلي ليدخل المدرسة، تركه أهله في المدينة الضخمة ليسكن مع بعض الأقارب، «الأقارب زرايب»؛ كما كانت زينب ابنة عمتي تقول: «المصايب من القرايب»، ربما كانت له عمة أو خالة تستولي على القروش التي يرسلها أبوه إليه، لم يكن يملك ثمن تذكرة القطار، كان يحلم بدخول الجامعة ليصبح أستاذا كبيرا مثل طه حسين.
في الليل وأنا نائمة كنت أرى نفسي تحت عجلات قطار الزيتون أو ترام السيدة، يضعون جسدي المبتور الساقين فوق الرصيف من الزحام، أبحث عن فردة حذائي دون جدوى، أمشي حافية بدون حذاء، أعرج فوق عكازين من الخشب، يلوح لي وجه حميدة الشقنقيري في مدينة منوف، أراها مقبلة نحوي تمشي على عكازيها، أهب من النوم مذعورة أتصبب بالعرق.
قطار الزيتون كان مشهورا بالحوادث الأليمة، لا أعرف لماذا؛ ربما كانت ضاحية المطرية من الضواحي الفقيرة، كان القطار يبدأ في محطة المطرية أو عين شمس وينتهي في محطة كوبري الليمون أو باب الحديد ... في المطرية كان يعيش التلاميذ الفقراء المهاجرون مع عائلاتهم من الريف ... أو المهاجرون وحدهم بحثا عن التعليم أو لقمة العيش. المدينة الضخمة تبتلعهم مثل بلاعة تشفط الصراصير، قد يأكل القطار أو الترام أطرافهم، قد يصبح الواحد منهم نشالا، يقفز بساق واحدة على سلم الترام يبيع الأمواس والأمشاط أو علب الكبريت، ثم يقفز من الناحية الأخرى بعد أن ينشل المحفظة أو كيس الفلوس، أو الساندوتش الذي تأكله واحدة من البنات في عربة «الحريم».
كان هناك عربة خاصة «للحريم» في الترامات والقطارات، أفضل الجلوس فيها عن الجلوس مع الرجال، عيونهم ترمق صدري بنظرات حادة أشبه بالسهام، تمتد يد أحدهم فوق المقعد وتقرصني في فخذي، في الزحام حين أقف بينهم قد يدس أحدهم إصبعه الصلب في ظهري، أو ذلك الشيء الآخر الذي يتصلب بين فخذيه يدسه في جنبي، أو في الإلية وأنا واقفة مصلوبة بين الأجساد، يداي مرفوعتان قابضتان على عمود علوي في سقف الترام أو القطار أو الأتوبيس .
كنت أستدير أحيانا وأصفع الواحد منهم فوق وجهه، من أين كانت تأتيني الشجاعة؟ كنت طفلة في الثانية عشرة أو الرابعة عشرة، لكن غضب الطفولة هو أقوى غضب ... أصدق غضب ... أنقى غضب ... يتراكم في الجسد منذ الولادة ... يتوالد مع الزمن ولا يلد إلا نفسه.
كيف عاشت هذه الطفلة في أعماقي حتى اليوم؟! لا أعرف ... استطاعت أن تفلت من الموت، كيف؟ لا أدري! ربما تدربت على الموت منذ الولادة فلم تعد تخشاه، ربما أصابها ذلك الشيء الذي نسميه في الطب «بالحصانة»، يحتاج الجسد دائما إلى أن يحقن بالجراثيم ليكتسب مناعة ضدها، «داوني بالتي كانت هي الداء!» أيكون هذا المثل الذي سمعته من جدي صحيحا؟ هل نحتاج إلى جرعة من الموت لنكسب مناعة ضد الموت؟ «نفي النفي إثبات.»
في حصة الجبر في السنة الثانية الثانوية عرفت هذه القاعدة؛ إذا أضفنا الناقص إلى الناقص ينقلب إلى زايد «− + − = +».
دهشت في أول حصة للجبر والهندسة، كانت تسمى «الرياضة»، كنت أظن أن الرياضة تعني الألعاب الرياضية في الفناء، أدركت رياضة أخرى؛ هي علم الحساب والجبر والهندسة أو الرياضيات. أعجبتني هذه العمليات العقلية؛ أستشعر اللذة وأنا أحل المعادلات الجبرية الصعبة، تزداد اللذة مع ازدياد الصعوبة. تبدو لي المعادلات معقدة مستحيلة الحل، تتوالد العقدة وراء العقدة، تملأ الصفحة الأقواس والمكعبات والمربعات والمثلثات والمسدسات، المعادلة مثل البناء الضخم أو الهرم يعلو ويعلو دون حل، وفجأة وأنا أضرب أخماسا في أسداس أو أنفي النفي بالإثبات، إذا بالبناء الشامخ ينهار، تحل العقدة، تنتهي المعادلة الصعبة إلى صفر.
يقفز عقلي، كأنما أنا العلامة فيثاغورس، هذه اللوغاريتمات أصبحت لعبتي، أفتح كراسة الجبر في القطار أو الترام، أتسلى بحل المعادلات، أكاد أصرخ من اللذة.
في نهاية العام بعد الامتحان الأخير سافرت إلى منوف في إجازة الصيف، جاءت شهادتي ناجحة بامتياز، ورسالة من ناظرة السنية إلى ولي أمر التلميذة نوال السيد السعداوي، كالآتي: حصلت التلميذة على الدرجات النهائية في الجبر والهندسة، ويمكنها أن تدخل إلى قسم الرياضية مع حصولها على مجانية التفوق ومكافأة شهرية، على أن تدخل معهد المعلمات بعد حصولها على شهادة التوجيهية؛ لتصبح معلمة للرياضيات في مدارس البنات الثانوية بحسب الشروط في القانون.
لم يكن في مدرسة السنية قسما داخليا، لم يكن لي أن أعود إلى بيت جدي لأغترف الحزن، كنت أيضا أكره المعلمات أو الناظرات «الشروط في القانون»، لم أكن أعرفها أيضا، قال أبي: إن وزارة المعارف كانت في حاجة إلى معلمات في مادة الرياضة، إنها تشترط على خريجات المعهد أن يشتغلن كمعلمات لمدة أربع سنوات على الأقل، ألا يتزوجن، وفي حال الإخلال بهذه الشروط ترد إلى وزارة المعارف مصاريف الدراسة كلها مع المكافأة الشهرية.
سألني أبي ماذا أختار، كان متحيرا، إلا أنني حسمت الموقف، لا يمكن أن أقبل هذه الشروط، بدت لي الشروط نوعا من العبودية، كأنما وزارة المعارف تشتريني بدفع مصاريف دراستي، ثم تسمي ذلك مجانية التفوق، إذا كنت متفوقة فمن حقي المجانية دون شروط.
نهض أبي من مقعده وصافحني، المرة الأولى التي يصافحني فيها، برافو يا نوال! أثبت اليوم أنك ابنتي فعلا، كأنما لم أكن ابنته قبل ذلك، أو أنني لم أكن أستطيع أن أفعل ذلك إلا لأنني ابنته!
نهض من مقعده وصافحني، يده الكبيرة حانية في قوتها، يستند على يدي بقوة الحنان، كان أبي شديد الحنان، عيناه السوداوان يكسوهما بريق، دمعة كبيرة يبتلعها قبل أن تظهر، أيفرح أبي بنجاحي؟!
أخي طلعت لم ينجح ذلك العام، لم يعد أبي يحزن كثيرا لسقوط أخي، يغمض عينيه ويشرد طويلا، هل بدأ يراني في أحلامه؟ أيرى ابنته معلمة مرموقة؟ أستاذة أو طبيبة ماهرة؟ أيعوضه نجاحي عن فشل أخي؟! هل أخي؟! هل تنتقل أحلامه من الولد إلى البنت؟! •••
عام 1945م نقلني إلى مرحلة أخرى من حياتي، يسمونها المراهقة ... عمري أربعة عشر عاما، قامتي تطول وأحلامي تتضاعف، أحلام جامحة محلقة في السماء بلا حدود، الفرق الوحيد بينها وبين الجنون أنها عاقلة، تهدف إلى شيء بسيط هو تغيير العالم.
في النوم أراني فوق حصان أبيض مثل جان دارك، عيناي تكشفان الحجب كزرقاء اليمامة، أردد أبيات الشعر كأنما أنا الخنساء.
لم أعد أبدد طاقتي في المعارك القديمة داخل البيت، أصبح أبي وأمي ينوبان عني في هذه المهمة، تقدم عريس من طرف طنط فهيمة يحمل «الليسانس» من كلية الحقوق، هذه الكلية كان يتخرج فيها الوزراء وكبار رجالات الدولة، كلمة «الليسانس»، تنطقها طنط فهيمة بعنق يلتوي كالديك الرومي أو العنقاء، هذا العريس تتمناه أي بنت وإن كانت بنت الملك، أيمكن أن أفلت منه؟ كان له أنف يشبه المنقار، صوته أخنف.
وقف أبي وأمي معي ضد فهيمة والقبيلتين من آل شكري والسعداوي، ابنتهما النجيبة «نوال» سوف تحصل على الليسانس أو البكالوريوس، لم يعد مستقبلها في الزواج مثل البنات البليدات الخانعات في البيوت ينتظرن العريس.
صورتي داخل فستان الزفاف تلاشت من خيال أبي وامي، حلت مكانها قامتي الفارعة داخل روب المحاماة، أو معطف الأطباء الأبيض، أو ثوب الأساتذة في الجامعة أو الأدباء الكبار.
إنه الانقلاب في حياة أبي وأمي، أخي طلعت كان حلمهما الأكبر، إلا أن رسوبه في المدرسة العام وراء العام أصابهما بالإحباط، ثم تحول الإحباط إلى أمل جديد في ابنتهما الكبرى، كنت أنا بالمصادفة هذه الابنة، وكان لا بد لي من أخ فاشل حتى أحظى بالاهتمام.
أصبحت في السنة الثالثة بمدرسة حلوان الثانوية للبنات بالقسم الداخلي، أنام في عنبر ضخم يشاركني فيه ثلاثون تلميذة، نرقد على أسرة من الصاج الأبيض تشبه أسرة المستشفيات، صفان طويلان، لكل سرير فجوة صغيرة في الحائط يسمونها دولابا، تغلق بقفل مثل الدرج في الفصل، ويثبتن اسم التلميذة بدبوس مكتب، البطاطين رصاصية اللون تشبه بطاطين الجنود في الجيش، حول المدرسة سور حجري عال كأسوار السجون، ضابطة الداخلية تفتش على أحلامنا في الليل، عيناها حمراوان ينطلق منهما الشرر، في يدها كشاف كهربائي، تظهر فجأة مثل عزرائيل الموت ثم تختفي فجأة.
إلا أنني تحررت من بيوت الأقارب، تلاشى من خيالي التمساح في بيت الضاهر، والغرفة في حي العنبري، شعرت بالحنين إلى أمي وأبي وأخواتي، في الليل كنت أخفي رأسي تحت الغطاء وأبكي، في الفصل لا أعرف اسم واحدة من التلميذات، في العنبر أدخل في السرير صامتة، كلهن غريبات عني، وأغرب منهن المكان.
إلى جوار سريري من ناحية اليمين كان سرير تلميذة اسمها فكرية، عيناها سوداوان شاردتان، شفتها السفلية ممطوطة إلى الأمام، تمطها بحركة ازدراء لكل ما في الكون، تتربع فوق سريرها، تفرش أمامها اللوحة والألوان، بعد أن يدق جرس النوم وتنطفئ الأنوار تظل جالسة في سريرها محملقة في الظلام.
من الناحية الأخرى كان سرير تلميذة اسمها سامية، نحيفة قصيرة القامة، تشبه سعاد زميلتي في السنية، بشرتها سمراء شاحبة، شفتاها مطبقتان دائما، كنت أنجذب إلى هذه الانطباقة للشفتين، لم تكن تجذبني البنات اللاهيات ذوات الشفاه الحمراء المنفرجة دائما بالثرثرة أو الهأهأة أو الهسهسة.
بعد انتهاء الحصص كنت أقضي اليوم في المكتبة، كانت غرفة مهملة في الفناء بجوار دورات المياه، رفوفها يعلوها التراب وخيوط العنكبوت، أغلفة الكتب سوداء كالحة، تفوح منها رائحة الموميات مع براز الفئران.
كنت أبحث بين الكتب عن الروايات والقصص ... سامية كانت تبحث عن كتب التاريخ والسياسة، فكرية لم تكن تحب القراءة، تمط شفتها السفلية بازدراء لكل الكتب، سامية ترمق الرواية في يدي ثم تلوي في امتعاض: روايات إيه وكلام فارغ إيه، ده كلام رومانتيكي!
كانت المرأة الأولى التي أسمع فيها كلمة «رومانتيكي»، نطقتها سامية وهي تزم شفتيها كأنها هي سبة، في يدها كتاب عن الحروب الصليبية، لم أكن أحب هذه الكتب عن الحروب وفتوحات صلاح الدين الأيوبي وعمرو بن العاص.
حصة التاريخ تبعث في نفسي الملل، لم يكن التاريخ إلا مجموعة من الغزوات القديمة نحفظها عن ظهر قلب، من غزوة أحد وبدر في عهد الرسول إلى غزوة نابليون على مصر.
مقررات التاريخ لا تشمل تاريخ مصر المعاصر، لم ندرس شيئا عن الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882م؛ لأنه كان مستمرا حتى ذلك الوقت، ولم نقرأ شيئا عن فساد الحكم الملكي أو الأحزاب السياسية.
كانت حصة التاريخ تطمس التاريخ، تصنع من أفسد الحكام أبطالا، تفصل بين العصر والعصر فلا ندرك الترابط بين العصور، نردد كالببغاء ما نحفظه في الكتب .
لم تكن فكرية تطيق الحديث عن التاريخ القديم أو المعاصر، تحكم على الحكومات كلها بالفساد، والمحكومين كلهم بالخنوع والجبن، ترسم صورة الملك فاروق على شكل خروف العيد المعد للذبح، والنحاس باشا على شكل الأراجوز الأعور في السيرك، أحمد ماهر باشا مثل زكيبة القطن المثقوبة بالرصاص.
سامية كانت غاضبة على الجميع مثل فكرية، إلا أنها تستخدم لسانها بدل فرشاة الرسم؛ أحمد ماهر يستحق ما أصابه من الرصاص، أصدر القرار بدخول مصر الحرب، النحاس باشا في رأيها مهرج يتأرجح بين الملك والإنجليز، حزب الوفد لا علاقة له بالشعب، سعد زغلول لم يكن بطل ثورة 19، إنه الشعب المصري الذي قام بالثورة، الفقراء من الشعب، العمال والفلاحون، بعد الثورة تفاوض سعد زغلول مع الإنجليز، لم يحصل العمال والفلاحون على شيء، دماء شهدائهم راحت هباء. - أبوكي من العمال يا سامية ولا من الفلاحين؟ - أبويا أستاذ محترم!
قالتها بغضب وهي تضغط بأسنانها على كلمة «محترم»، أدركت أنها لا تحترم العمال ولا الفلاحين، رغم أنها لا تكف عن الحديث عنهم. «وانتي أبوكي بيشتغل إيه يا نوال؟»
قلت لها بزهو الطاووس: إن أبي مثل أبيها أستاذ محترم، ثم حكيت لها قصة أبي في ثورة 19، كيف كان أحد أبطالها، تلقى الشظية في قدمه، نزف الدم فوق أسفلت الشارع، زمت سامية شفتيها المطبقتين، وسألتني: أبوكي اسمه إيه؟ سؤالها كان غريبا، أدركت أن اسم أبي مجهول في التاريخ، أبوكي في حزب الوفد يا نوال؟ مش عارفة! يا خبر! مش عارفة أبوكي في حزب إيه؟! «وانتي أبوكي في حزب إيه؟»
صمتت سامية طويلا ولم ترد على سؤالي، شحب وجهها أكثر مما هو، ثم همست في أذني: بابا في الحزب الشيوعي، ده حزب سري.
لأول مرة أسمع كلمة حزب سري، ولأول مرة أرى شفتي سامية المطبقتين تنفرجان عن ابتسامة أو شبح ابتسامة، بدأت تقترب مني أكثر، تحدثني عن أشياء لا أعرفها، تناولني جريدة ملفوفة على شكل أسطوانة، تتلفت حولها في حذر وتهمس: اقريها على طول ورجعيها تاني، اوعي حد يشوفها معاكي.
لم أكن أحب الهمس أو التخفي، يصيبني الشك أو النفور، كنت أظن أن اللصوص هم الذين يتخفون في الظلمة، ثم عرفت أن «الثوار» أيضا يتخفون عن أعين البوليس.
كان المرحاض هو المكان الوحيد في المدرسة الذي يمكن أن أغلق بابه علي وأقرأ الجريدة، كان اسمها «الجماهير»، تشبه الجرائد الأخرى إلا أنها أصغر حجما، أقل ورقا، لونها داكن، سطورها سوداء متلاصقة متآكلة الحروف، قد يسيح حبرها الأسود فيطمس بعض السطور أو الكلمات، أسلوبها أكثر تعقيدا من العقاد أو العقباوي أو ابن المقفع، لا أكاد أفك خطوطها أو أفهمها، من شدة الغيظ أو ربما الخوف كنت ألقيها في ثقب المرحاض وأشد عليها السيفون.
لم تكن سامية تكف عن إعطائي هذه الجريدة، تدسها لي في حقيبتي بحركة سريعة كأنما هي قنبلة زمنية، في الليل عندما تنام كل البنات في العنبر أنهض على طرف أصابعي، أخرج إلى دورة المياه تحت ضوء المصباح البعيد في الشارع أحاول أن أفك طلاسم هذه الكلمات المتلاصقة والسطور المتشابكة دون فواصل أو سواكن.
كانت هناك كلمات وعبارات تتكرر في كل صفحة: العمال، الفلاحون، الطبقات الكادحة، البروليتاريا، البرجوازية، المتآمرون، الخونة، الصراع الطبقي، الطبقات الحاكمة، الأغلبية الساحقة المسحوقة، الأقلية الانتهازية، اللصوص الذين يسرقون قوت الشعب.
في الإجازة الصيفية حين أسافر إلى منوف ترسل سامية إلي هذه الجريدة في البريد، تأتي على شكل أسطوانة ملفوفة بدوبارة، يفكها أبي بصعوبة، ينفض عنها التراب، يقرأ عناوين الصفحة الأولى مكتوبة بخط عريض أسود، ذاب الحبر مع التراب. - مين يبعت لك الجريدة دي يا نوال؟ - واحدة صاحبتي في المدرسة اسمها سامية. - دي جريدة الحزب الشيوعي. - إيه هو الحزب الشيوعي يا بابا؟
لم يكن أبي يعرف عن الحزب الشيوعي إلا ما يقرؤه في صحف الحكومة أو صحف الأحزاب السياسية؛ كالوفد أو الأحزاب الأخرى. كلمة الشيوعية، كلمة تعني عندهم الإلحاد والفساد الأخلاقي وغرس الحقد في نفوس الشعب، التآمر لقلب نظام الحكم عن طريق العنف، الخضوع لقوى خارجية في موسكو.
كان أبي يتعاطف مع حزب الوفد أو النحاس باشا حين يتصدى للإنجليز أو يصدر قرارات لصالح الموظفين والفقراء من الشعب، لم يتعاطف أبي مع الإخوان المسلمين أو زعيمهم حسن البنا، كان يراه مثل الشيخ المراغي متاجرا بالدين في حلبة السياسة. - السياسة يا نوال لعبة بدون مبادئ. - لكن انت يا بابا كنت دايما تشترك في المظاهرات. - المظاهرات الشعبية شيء آخر.
كلمات أبي تنحفر في ذهني، السياسة لعبة بدون مبادئ، الأخبار في الصحف كلها عن الحروب والمذابح والصراعات الحزبية، كنت أنجذب أكثر إلى الأدب والفن.
في المكتبة ألتهم أية رواية تقع تحت يدي، في الليل، بعد أن تنطفئ الأنوار، أخرج مفكرتي السرية، وأكتب تحت ضوء القمر، بدأت رواية طويلة الصيف الماضي تحت عنوان «مذكرات طفلة اسمها سعاد»، في النهار بعد انتهاء الحصص أجلس في الفناء فوق الدكة الخشبية، تحت شجرة الكافور بجوار ملعب التنس أحتضن القلم والكشكول.
شمس الشتاء في حلوان قوية، دافئة، تسري حرارتها في جسدي وعقلي، ملأت الكشكول بالرواية، ستون صفحة كتبتها، تنهمر دموعي مع «سعاد» بطلة القصة كأنما هي أنا.
في حصة اللغة العربية طلب المدرس أن نقدم له في الاختبار قطعة أدبية من خيالنا، قدمت له الرواية، أعادها إلي في الأسبوع التالي، راح يرمقني بعينين ضيقتين: السماء لا تكون غاشمة يا حمارة! أنت في حاجة إلى تقوية في الدين!
أعطاني صفرا في الاختبار، لم يترك صفحة من الرواية دون أن يشطب منها أو يعلم عليها بقلمه الأحمر: خيال مريض ناتج عن ضعف الإيمان! أفكار غريبة شاذة لا ترد لأية فتاة في هذا السن!
في النوم يلوح لي «الصفر» بقلمه الأحمر كأنما حكم بالإعدام، في النهار أحملق في «الصفر» حتى أحس الألم الخارق فوق بياض عيني، كانت الدموع تتجمع تحت الجفن ثم تجف تحت الشمس كالملح.
في إجازة الصيف أخذت الكشكول معي إلى منوف، خبأته بين كراريسي القديمة في الدرج، وقع في يد أمي الرواية وتأشيرات المدرس، والصفر الأحمر الضخم على شكل حبل المشنقة. «القصة حلوة يا نوال، والمدرس ده غبي.»
انتشلتني أمي من هاوية الشك في نفسي، كان الأستاذ في المدرسة مثل الإله، لا يمكن أن نشك فيه، والأسهل أن نشك في أنفسنا.
أبي أيضا قرأ الرواية، جلست إلى جواره وهو يقرأ، عيناي فوق ملامح وجهه، ألتقط ما قد يظهر عليها من أحاسيس قبل أن يدركها هو، أراقب اللمعة في عينيه حين تحوم حول شفتيه أو تنقلب إلى انقباضة في عضلات الفم.
لم يكن أبي مثلي سريعا في إبداء رأيه، إنه بطيء بالطبيعة أو عن عمد، ربما قرأ في وجهي لهفتي على سماع رأيه، فجلس صامتا فوق الكنبة مثل «أبو الهول»، أكان يستعذب تعذيبي؟ لم أنس ما كان يفعله في طفولتي أيام السيرك، إنه يهوى إضاعة الوقت في مثل هذه اللحظات الحاسمة في حياتي، ينتظر وينتظر حتى تفرغ طاقتي على الصبر وأنفجر من الغيظ، حينئذ يخرج أبو الهول عن صمته ويقول: برافو يا نوال! عندك موهبة فعلا!
كان يمكن أن أقفز في الهواء، أنقض عليه وأعانقه بذراعي الاثنتين، أغمره بالقبلات، رغم جنوني كنت عاقلة متزنة لا أستطيع تجاوز العادات أو التقاليد.
كلمة أبي «عندك موهبة» انحفرت في ذهني، مسحت الصفر الأحمر وتشطيبات المدرس، كنت أحب اللغة والحروف، لم أكره إلا مدرس اللغة والنحو والدين، هؤلاء يقتلون الموهبة في مهدها، أما الدين فلا شيء جعلني أكرهه مثل المدرسين، لم يكن يروقهم من كتاب الله إلا الآيات العسيرة على الفهم، الكلمات التي تتكور في الحلق، المعاني التي لا تناسب مرحلة العمر، والتفسيرات التي تزيد الأشياء غموضا، التهديدات بنار جهنم خالدين فيها، والتلويح بجنة أبرز ما فيها الجلوس على الأرائك. سألت المدرس مرة: أيكون في الجنة قلم لمن يريد أن يكتب وكشاكيل؟ انفجرت البنات في الضحك، وطردني المدرس من الحصة.
رغم كل شيء كنت أحب المدرسة، أكثر ما أحبه فيها هو العزلة، أدخل المكتبة لأقرأ وأكتب، كنت أحب أيضا اللعب والجري في الفناء مع البنات، نقفز الحبل ... نلعب الباسكت بول «كرة السلة» أو الفولي بول، إلا أن «التنس» كان لعبتي المفضلة، تشاركني في ذلك زميلة اسمها صفية، بيضاء مستديرة الوجه، عيناها خضراوان ، هي الوحيدة التي تلعب التنس من كل زميلاتي.
كنت أعشق حركة الجسم في الهواء الطلق تحت أشعة الشمس، أغني لنفسي وأنا أحرك ساقي، أكاد أطير في الجو، في غرفة الموسيقى أغني وأرقص مع البنات على اللحن الذي تعزفه فاطمة، تلميذة معنا في العنبر تهوى الموسيقى والغناء، تغني لأم كلثوم «هو صحيح الهوى غلاب»، و«افرح يا قلبي»، كان لصوتها بحة جميلة تهز قلوبنا بالفرح ...
قبل أن يدق جرس النوم ندخل إلى الحمامات تحت مياه الدش، أغني لنفسي: «عندما يأتي المساء ونجوم الليل تنثر، اسألوا الليل عن نجمي، متى نجمي يظهر؟!»
أسمع فاطمة من وراء الجدار تغنيها بصوتها الشجي ... تنهمر الدموع من عيني مع المياه الساقطة فوق رأسي، لم يكن ينغص علينا حياتنا إلا ضابطة الداخلية، اسمها كان «أبلة عزيزة»، مثل الشاويشة في السجون، تحمل في يدها مفاتيح غرفة التأديب، ترتدي حذاء أسود غليظا له كعب كاوتش سميك أو «كريب»، لا نسمع وقع قدميها حين تمشي مثل مس هيمر في مدرسة منوف.
كانت ليالي الجمعة في الداخلية أجمل الليالي ... تخلو المدرسة من كل ضابطة الداخلية ... تحمل حقيبة ملابسها الصفراء لقضاء نهاية الأسبوع ... نرقبها حتى تختفي وراء الباب الخارجي، فنطلق الصفافير وصيحات الفرح، نقلب عنبر النوم إلى صالة للرقص والغناء أو خشبة للمسرح.
عالم جديد كان ينفتح أمامي، الحياة المشتركة مع البنات من عمري، لم أعرف هذه السعادة من قبل، في المدرسة الخارجية لم تكن هناك فرصة لهذه الحياة الجماعية، الحصة تأتي وراء الحصة، ثم يدق جرس الانصراف فننطلق إلى بيوتنا، نخشى التأخير. في القسم الداخلي عندنا الوقت، لا نخشى التأخر عن العودة إلى البيت أو الأهل، أحببت حياتي الجديدة بلا أهل أعود إليهم ، أصبحت الزميلات من الأهل، والمدرسة عندي أفضل من أي بيت.
الفناء واسع، أجري فيه كما أشاء، وعنبر النوم تدخله الشمس من نوافذ كبيرة، ينساب ضوء القمر الفضي إلى سريري، عيون البنات يكسوها البريق، تطل من الأسرة الممتدة بطول العنبر.
في الصباح نقفز من الفراش، نجري في الطرقات الطويلة ، نتزحلق على البلاط بالشباشب والقباقيب، داخل الحمامات المفتوحة، إلا من نصف جدار، نتراشق المياه مثل الأطفال على شط البحر في الإسكندرية، أستعيد طفولتي قبل السابعة من العمر، في ذاكرتي البعيدة صورة لطفلة سعيدة تحملها أمواج البحر إلى السماء الزرقاء، إلى جوارها تسبح أمها كالسمكة، عيناها يكسوهما بريق عسلي، ذراعاها ممدودتان جاهزتان لانتشالها من الغرق.
في الليل أقف في النافذة أطل على القمر، البنات نائمات، واقفة وحدي أحملق في النجوم، أبحث عن نجمتي، يملؤني الحنين إلى حبي الأول، أستعيد ذكراه. تفتح «صفية» عينيها، تنهض من سريرها، تسير حتى النافذة وتقف إلى جواري، تحملق في ضوء القمر، حول عنقها سلسلة ذهبية يتدلى منها مصحف صغير، شيء آخر من الذهب على شكل القلب، تفتحه بأطراف أصابعها، بعض شعرات سوداء، تقربها من فمها تقبلها، تعيدها داخل القلب الذهبي، تغلقه بالقفل، حبها الأول والأخير، شعرات من رأسه هي الذكرى، تركت له خصلة من شعرها، لن تنساه مدى الحياة، لن تتزوج إلا هو، جعلتني أقسم على المصحف ألا أعلن اسمه، دموعها تجري فوق خديها تلمع في الضوء الأبيض. «هو الوحيد اللي باحبه في الدنيا يا نوال، باحبه أكثر من أبويا وأمي، حيبقى دكتور، زي القمر، أحلى واحد في الدنيا، مش ممكن أتجوز غيره.»
أقضي إجازة نهاية الأسبوع في المدرسة، مع البنات اللائي بدون أهل أو أقارب في القاهرة، لم أكن أخرج من باب المدرسة إلا لأركب القطار إلى منوف، في إجازة العيد أو إجازة الصيف في نهاية العام.
ليلة الجمعة لا يدق جرس النوم، ولا تنطفئ الأنوار، هذه هي ليلتنا الوحيدة في الأسبوع، يمكن أن نسهر حتى الصباح، يمكن أن نرقص ونغني دون أن تنقض علينا الضابطة، يمكن أن نقضي الليل في تمثيل إحدى القصص من تأليفي.
كان عنبر النوم يتحول إلى مسرح، نكوم الأسرة كلها في المؤخرة، نفسح مكانا للخشبة في المقدمة، الملاءات نصنع منها الستائر، ندعو البنات من العنابر الأخرى ليصبحن الجمهور.
في البداية كنت أقوم بالأدوار كلها، المؤلفة والمخرجة والممثلة وموزعة التذاكر، كانت التذاكر مجانية أول مرة، مربعات صغيرة من الورق مقطوعة من أحد كشاكيلي، فوق كل مربع يكتب اسم المسرحية وعنوان المسرح، عنبر ثالثة «أ»، هذا هو عنبرنا، الذي أطلقت عليه العنابر الأخرى اسم «مسرح الحرية».
إحدى المدرسات كان اسمها «مس سنية»، كانت تدرس لنا اللغة الإنجليزية، طويلة ممشوقة القامة، الوحيدة بين المدرسات التي تلعب التنس، الوحيدة بينهن التي تتحدث معنا بعد انتهاء الحصص، أو تجلس معنا في الفناء، تناقشنا في الروايات الإنجليزية المقررة علينا.
إحدى هذه الروايات كان اسمها «آدم بيد»، والبطلة تحمل سفاحا، ذكرتني بالخادمة شلبية في بيت جدي، أوحت إلي بكتابة مسرحية أعطيتها عنوان: «صرخة في الليل»، كانت إحدى العروض التي قدمها مسرح الحرية في ليلة من ليالي الجمعة.
كان العرض يبدأ بعد انتهاء العشاء وصعودنا من المطعم في الفناء، في اليوم السابق وزعنا التذاكر، لم تعد مشرشرة أو مجانية، ثمن التذكرة أصبح مليما واحدا، مررنا على العنابر بالتذاكر، زغردت البنات بالفرح، فرشنا البطاطين على الأرض ليجلس عليها الجمهور، تجمع لدينا القروش فاشترينا بها لوازم مسرحية، أقنعة من الورق الكارتون، مساحيق لدهن الوجوه والشخصيات، لب أسمر وفول سوداني محمص للقزقزة أثناء العرض.
قامت صفية بدور البطلة التي تحمل سفاحا، هربت في ظلمة الليل، ترتدي ثوبا واسعا تخفي تحته بطنها المرتفع (حشونا بطنها بالملابس)، تجلس على حافة النيل حزينة تفكر في الانتحار.
كان المسرح مظلما تماما، أطفأنا كل الأنوار، علقنا البطاطين فوق النوافذ لتحجب ضوء القمر، أو نور الكهرباء في الطرقات الخارجية، أنفاس الجمهور مكتومة، في انتظار ما يحدث، كان الجنين في بطن الأم، صرخت الأم صرخة واحدة مكتومة، ثم انطلقت من بعدها صرخات المولود الجديد.
كانت فكرة هي التي تؤدي دور المولود من وراء الستار، مزقت صرخاتها الحادة سكون الليل مثل صفارات الإنذار.
فجأة انفتح باب العنبر واندفعت أبلة عزيزة الضابطة في يدها كشاف الضوء، لسوء حظنا كانت تقضي نهاية الأسبوع في المدرسة ولم تخرج كعادتها، سمعت صراخ المولود وهي تمشي في الممر أمام غرفتها، تصورت أن واحدة من البنات قد حملت سفاحا.
مظاهرات البنات
انقلبت الدنيا في مدرسة حلوان الثانوية للبنات، كان المفروض أننا بنات عذراوات لا نعرف شيئا عن «الجنس» أو الحمل السفاح، هذه الكلمة يجب ألا ننطقها في السر أو العلن باللغة العربية، وإن كانت مقررة علينا في إحدى الروايات فيمكن النطق بها باللغة الإنجليزية فقط، وداخل الفصل فحسب، وليس في عنبر النوم.
لم يكن لنا أن نعرف كيف يمكن للحمل الطبيعي أن يحدث، فما بال الحمل السفاح! كانت هناك حصة اسمها «رعاية الطفل»، تدخل ضمن المقرر في مدارس البنات فقط، في الحصة نهبط إلى بدروم المدرسة حيث غرفة كبيرة بها حوض يشبه البانيو، يمتلئ بالماء، وطفل من البلاستيك الأصفر تمسكه أبلة حكمت من تحت إبطيه وتشرح لنا كيف نحميه دون أن يغرق في الماء، ودون أن يدخل الصابون في عينه، لم تكن تشرح لنا كيف يأتي هذا الطفل إلى العالم. أبلة «حكمت» كانت تعطينا حصة أخرى تحت عنوان «الصحة والأحياء»، تشرح لنا كيف يحدث التلقيح بين الزهور والنحل والديدان، أما التلقيح عند الإنسان فكان من المحرمات، ومحظور علينا أن نعرفه.
في مكتب الناظرة الشبيهة بنبوية موسى وقفت أرتعد، في يدها تذكرة مكتوب عليها: مسرح الحرية يقدم صرخة في الليل، تأليف نوال السعداوي، دليل الجريمة المادي تلوح به في وجهي، عيناها جاحظتان من وراء النظارة كعيني طنط فهيمة، رذاذ لعابها يتناثر فوق وجهي من شدة الغضب. - واحدة طويلة زيك طول الباب تعمل حاجة فظيعة بالشكل ده! - يا أبلة الناظرة، دي مجرد قصة خيالية. - عاوزاها تبقى حقيقة؟! أما بنت قليلة الأدب بصحيح! وأصدرت الناظرة قرارا بنقلي من القسم الداخلي إلى القسم الخارجي وخصم ثلاث درجات من السلوك والأخلاق، تدخلت مس سنية لتخفيف العقاب، قالت للناظرة إني موهوبة. «يعني إيه يا ست سنية؟ الأخلاق عندي أهم من أي حاجة، دي بنت جريئة وممكن تفسد كل بنات الداخلية!»
لم تغير الناظرة قرارها إلا بمجيء ولي الأمر؛ أي أبي. عدت إلى مكاني في القسم الداخلي، إلا أن مسرح الحرية مات ، أصبحنا نكتفي بالغناء في ليالي الجمعة، نحن واقفات في النوافذ مثل السجينات، نسهر على ضوء القمر، نسترجع الذكريات الماضية، أو نحلق في السماء مع أحلام المستقبل. نتجمع حول فاطمة وهي تغني: «هو صحيح الهوى غلاب! ماعرفش أنا»، نرد عليها في كورس جماعي، قد نهبط إلى غرفة الموسيقى، تدق فاطمة على البيانو، وتلف صفية الحزام حول وسطها وترقص، نشاركها الرقص حتى يتصبب منا العرق.
لم تكن سامية تشترك في هذه الألعاب، تمط شفتيها المطبقتين في امتعاض. «البلد في أزمة، وأنتم نازلين لعب؟!»
كانت سامية تشعرنا دائما بالإثم، كأنما نحن السبب في احتلال الإنجليز لمصر، أو فساد الملك، أو انتشار الثالوث المشهور حينئذ: «الفقر والجهل والمرض»، أطلق عليها العنبر اسم بعبع أفندي.
نمت الصداقة بيني وبين فكرية، الرسم عندها مثل الكتابة عندي، أقرأ لها ما أكتب وتريني لوحاتها، في الليل بعد أن تنطفئ الأنوار تقرب سريرها من سريري وتهمس في أذني: «حادخل كلية الفنون الجميلة وأبقى رسامة مشهورة.»
حققت فكرية النصف الأول من حلمها، بعد التوجيهية دخلت الفنون الجميلة، ثم انقطعت أخبارها عني خمسة عشر عاما، كنت أبحث عن اسمها بين الرسامات دون جدوى. في صيف عام 1961 كنت على شاطئ البحر في الإسكندرية ألعب مع طفلتي الصغيرة «منى» في المياه الزرقاء، أحملها فوق الأمواج وأسبح بها كما كانت أمي تفعل معي وأنا في الرابعة من العمر، لمحت فكرية فوق الرمال حافية القدمين تمسك حذاءها في يدها، عيناها السوداوان شاردتان، وشفتها السفلية ممطوطة إلى الأمام بازدراء لكل ما في الكون. ابتسمت حين لمحتني داخل المياه، أشرقت أسنانها البيضاء في الشمس، تعانقنها بحرارة الصداقة بعد غيبة خمسة عشر عاما، سألتها عن الرسم، انطفأت بسمتها وهربت عيناها بعيدا وهي تمط شفتها: «أصلي أنا اتجوزت.» ثم أفلتت منها ضحكة قصيرة ساخرة: «على العموم جوزي فنان كبير، وهو يرسم لنا احنا الاثنين.» ضحكت: «يعني زي غاندي؟» سألتني ما علاقة غاندي بالرسم؟ حكيت لها عن غاندي حين سافر إلى قصر ملك الإنجليز في لندن، وسأله الملك حين رآه يدخل عليه شبه عار: لماذا لم ترتد ملابسك؟ فرد عليه غاندي: أنت ترتدي لنا نحن الاثنين!
فاطمة ذات الصوت الجميل الذي كان يفرحنا ويبكينا كان لها حلم واحد، أن تصبح كوكب الشرق مثل أم كلثوم، دخلت كلية الآداب بعد الثانوية العامة، تزوجت أستاذها، يكبرها بعشرين عاما، سافرت معه إلى الكويت أو السعودية، انقطعت عني أخبارها أكثر من ربع قرن، ثم فجأة في خريف 1975 جاءني صوتها عبر أسلاك التليفون، قرأت عني شيئا في الصحف، فراحت تبحث عني حتى عرفت رقمي، صوتها كان ضعيفا حزينا؛ فهي طريحة الفراش وتطلب رؤيتي.
في مدينة الأساتذة بضاحية الدقي وجدت الفيلا الأنيقة تحوطها حديقة كبيرة، وكلب ضخم يشبه الوولف في بيت جدي شكري بيه، قادني السفرجي يرتدي قفطانا وصديريا أحمر إلى الأنتريه ثم الصالون الواسع، تبرق فيه الثريات والتحف ونباتات الظل، صعد بي عبر ممرات وسلالم رخامية إلى الدور الثاني حيث غرفة النوم.
فوق سرير يشبه سرير الملكة نازلي (رأيته في طفولتي في إحدى الصور)، رأيت فاطمة راقدة، بشرتها بيضاء بلون الملاءة، زوجها غائب في بلاد النفط يجمع المال، تزوج امرأة أخرى في الكويت أو السعودية، تراكم الحزن داخل الكيس في الثدي فوق القلب، أشارت بإصبعها الشاحب الناحل إلى الألم: «هنا يا نوال، هاتي إيدك، الدكتور قال إنه ورم ليفي حميد، لكن أنا حاسة إنه بيكدب علي، يا ريت تقولي الحقيقة.»
كان ورما سرطانيا خبيثا من الدرجة الثالثة، كذبت عليها كما كذبت على أمي وخالتي نعمات وكل المرضى بهذا الداء، لعنت اليوم الذي دخلت فيه كلية الطب وأصبحت طبيبة، لا أرى الناس إلا في لحظات المرض أو الموت، عيون منطفئة يطل منها الحزن، عيناها كانتا بلون العسل المصفى ، يتألق صوتها وهي تغني: «افرح يا قلبي»، كانت تحلم بأن تكون كوكب الشرق، لكنها تزوجت، وبنى لها زوجها مقبرة من الرخام، حفر عليها اسمه (وليس اسمها): «حرم الأستاذ الدكتور فلان.»
ماتت صديقتي فاطمة وهي في الخامسة والأربعين من عمرها كما ماتت أمي، وراح اسمها في العدم، لم تفعل بحياتها شيئا سوى الانتظار، داخل الصالون الفخم واجترار حلم ضائع، صديقتي الثالثة سامية كانت صامتة مطبقة الشفتين، ترمقنا بعين صفراء حين نتكلم على أحلامنا تحت ضوء القمر أو ذكريات الحب الأول، هي لا تؤمن بالحب أو الأحلام أو الخيال، تمط شفتها في امتعاض. «البلد في أزمة وانتم عايشين في الخيال! دي رومانتيكية طفولية!» تمط فكرية شفتها السفلية في وجهها، تخرج لها لسانها، تتغطى سامية بالبطانية من قمة رأسها إلى قدمها. «نام يا بعبع أفندي، نام واتغطى من الهوا!» تقول لها فكرية وتضحك حتى تدمع عيناها، تطل سامية من تحت الغطاء، تخرج لها لسانها ثم تتغطى من جديد، لا تترك ثغرة واحدة لدخول الهواء، لم نكن نعرف كيف تتنفس، كانت تنام بعمق طول الليل، لا تتقلب من جنب إلى جنب، تتكور كالجنين حول نفسها، في الصباح الباكر تتسلل من الفراش دون صوت، تمشي بحذر فوق الأرض، تتكلم بصوت خافت مملوء بالحذر.
في يوم ارتفع صوتها عن المعتاد وهي تقول: «بكرة فيه مظاهرة كبيرة أوي، وكل المدارس حتخرج، ولازم مدرستنا تشارك في المظاهرة الوطنية.» «المظاهرة الوطنية؟!»
هاتان الكلمتان لهما رنين في أذني بصوت أبي، الطفلة المبهورة الجالسة في الفرندة البحرية بالإسكندرية، الأب الشجاع العملاق يضرب الأعداء، رصاصة تطير في الجو وتدخل صدره، ينزف الدم الأحمر فوق أسفلت الشارع، أهب من نومي مذعورة، أمشي على أطراف أصابعي، أتوقف عند باب الغرفة حيث ينام أبي وأمي، وقد يكون الباب مواربا فأسمع شخير أبي، أدرك أنه حي، وأن الأمر لم يكن إلا حلما. أعود إلى سريري لأنام، فيعود إلي الحلم، إلا أنني أنتقم لموت أبي، أرتدي درعا لا يخترقه الرصاص، أمسك السيف وأضرب الأعداء مثل جان دارك ، السيف في يدي يشبه رشاشة «الفلت»، الأعداء يتساقطون على الأرض كالذباب، يخف جسدي ويطير في الجو كالفراشة، أحرك ذراعي بدل الجناحين، يتحول الهواء إلى مياه زرقاء، أسبح في البحر كالسمكة، ترتفع الأمواج إلى السماء ثم تهبط بي إلى القاع، تمتد ذراعا أمي نحوي وترفعني فوق السطح. «المظاهرة الوطنية بكرة يا بنات.»
هذا هو صوتي المشتعل حماسا وأنا أمر على العنابر، الدم يرتفع من صدري إلى رأسي ثم يهبط إلى قدمي، دم ساخن ملتهب، أحمل الشعلة في جسدي وأمشي حافية في الممرات البلاط، أفتح أبواب العنابر الواحد تلو الآخر، وأهتف بالبنات: «بكرة المظاهرة يا بنات.»
صوتي يشبه صوتي حين كنت أقول: «بكرة المسرحية يا بنات.» العالم يبدو في عيني كالمسرح الكبير، التذاكر أصبحت منشورات، قطع مستطيلة من ورق الكراريس كتبنا عليها بالحبر الأحمر: الجلاء بالدماء. كان في عنبرنا عشر نوافذ كبيرة على شكل صفين، صف يطل على الممر الداخلي، وصف يطل على السماء والصحراء.
تلك الليلة السابقة على المظاهرة وقفنا في النوافذ، نشتغل على ضوء القمر «البادج» قطعة مربعة من القماش الأبيض، طرزنا عليها بالخيط الحريري الأحمر حروف الكلمتين «الجلاء بالدماء»، اشتغلنا طول الليل، لم تتخلف واحدة منا إلا سامية.
إلى جواري في النافذة وقفت فكرية وفاطمة وصفية منهمكات في التطريز، نسمة الليل في حلوان دافئة حانية كأنامل الأم، يجتاحنا الحنين إلى الأهل، أضواء الشارع من بعيد تقود إلى محطة القطار، النجوم في السماء تبدو لنا أقرب من الشارع، السور الحجري العالي يحوط الفناء الواسع، الصحراء ممدودة حتى الأفق، رائحة العين الكبريتية تسري مع الهواء، ثكنات الإنجليز العسكرية وراء تلال الرمال رابضة كالوحوش تنتظر الانقضاض. الليل في حلوان صامت إلا من صوت مدفع يطلق، أو بضع رصاصات يعقبها نباح الكلاب، أو وقع أقدام الجنود الإنجليز بأحذيتهم الحديدية، في أيديهم كشافات، يسلطون الضوء على نوافذ المدرسة، يغازلون البنات بأصوات قبيحة، نهتف في نفس واحد: الجلاء بالدماء.
على مرمى البصر كانت الأشجار الباسقة، من ورائها الحديقة اليابانية، الهواء في حلوان جاف رقيق، يملأ صدورنا بالشجن العميق، تنوعه عيوننا في خضم الكون اللانهائي، نستشعر الوحشة والغربة، نسند رءوسنا فوق حافة النافذة، تتماسك أيدينا، نستأنس بوجودنا معا، بحرارة أجسامنا وتآزرنا ضد العالم المجهول، يختلط في خيالنا وجه الأم بوجه الأب بوجه الرب، يذوب الحب الأول في حب الوطن، ننشد معا: بلادي بلادي لك حبي وفؤادي. ليالي حلوان غير تلك الليلة عام 1946م، عقارب الساعة تقفز من الثانية إلى الرابعة، أوشك الفجر على الطلوع، واقفات في النوافذ نطرز تحت ضوء القمر البادج الذي سوف نعلقه في المظاهرة على صدورنا ناحية اليسار فوق القلب.
سامية هي الوحيدة في العنبر التي نامت طول الليل، لم تكن تؤمن بالسهر في ضوء القمر، عملية التطريز في نظرها عملية بطيئة، كتبت بالحبر الأحمر «الجلاء بالدماء» فوق البادج وعلقته فوق صدرها في نصف دقيقة، كانت تؤمن بالأشياء العملية والنتائج السريعة، تبدأ حديثها دائما بكلمة الواقع أو حتما، «الواقع يا بنات ان النوم أفيد من اللي انتو بتعملوه ده!» «حتما يا بنات أبلة عزيزة حتطب عليكم والليلة مش فايتة على خير.»
لم يكن لسامية صديقات في العنبر إلا أنا، كان لانطباقة شفتيها وصمتها نوع من الغموض يجذبني، ولأن سريرها كان مجاورا لسريري، أصبحنا نتبادل الحوار: «إيه فايدة الخيال يا نوال، إيه فايدة القصص الخيالية؟ البلد في أزمة وانتي نازلة قراية روايات.»
في صوتها نبرة لوم وتأنيب، كلماتها تملؤني بالإثم، كأنما أنا أخون الوطن لأني أحب الأدب والفن، وأقول لها: إن الخيال عندي ضروري كالهواء أتنفسه. تمط شفتيها دون اقتناع، لم يكن لي أن أقنعها بالكلمات، كانت اللغة كالحاجز تقف بيننا، لديها عبارات معقدة تقف في الحلق من الصعب فهمها: «لازم أشرح لك الديالكتيكية يا نوال»، كانت هذه الكلمة «الديالكتيكية» تصيبني بالاكتئاب، إن سامية عاجزة تماما عن أن تشرحها لي، حين تسمعها فكرية تنفجر بالضحك. قبل أن ننام كل ليلة تطل «صفية» علينا من سريرها وتهتف: «تصبحوا على خير يا بنات، وعلى الديالكتيكية!» نخفي رءوسنا تحت الأغطية ونشهق بالضحك، تزم سامية شفتيها بازدراء، تغطي نفسها من الرأس إلى القدمين، وهي تصيح: «الواقع يا بنات انكم جهلة، وحتما مستقبلكم ضايع!»
لم يغمض لنا جفن تلك الليلة، دق جرس الصباح، ومن بعده جرس الفطور، قفزنا فوق السلالم جريا نتسابق في الدخول إلى المطعم، نجلس على الدكة الخشبية الطويلة، نتشمم الخبز المحمص واللبن الحليب، نعود أطفالا نصرخ من الفرح.
ثم تجمعنا في الفناء الواسع، نرتدي التايير الرمادي يعلوه البادج بالحروف الحمراء البارزة: الجلاء بالدماء. انضمت إلينا تلميذات القسم الخارجي، ترامى إلينا أصوات الهتافات في الشارع من بعيد. حلوان الثانوية للبنين خرجوا، والمدارس الابتدائية أيضا، ارتفعت صيحات البنات: لازم نخرج في المظاهرة، احنا مش أقل من تلامذة الابتدائي! صعدت واحدة فوق أكتاف الأخريات، وراحت تهتف: الجلاء بالدماء! ورددت وراءها المئات من المتجمهرات في الفناء: الجلاء بالدماء! أضافت واحدة: يسقط الإنجليز! تسقط الحكومة!
أصدرت الناظرة أوامرها، انغلقت البوابة الخارجية الكبيرة بالسلسلة الحديدية والقفل، انتشرت في الفناء الضابطات في أيديهن العصا، مثل رعاة الغنم يضربن النعاج على أردافهن ليدخلن الحظيرة.
إلى أن الهتافات ألهبت الحمية الوطنية، لم تعد النعاج نعاجا، تحولت إلى بشر تفور دماؤهن، وأصواتهن تنشد:
مصر العزيزة لي وطن، وهي الحمى وهي السكن، وهي الفريدة في الزمن، وجميع ما فيها حسن. هذه الكلمات محفورة في ذاكرتهن منذ المرحلة الابتدائية.
اندفعت البنات نحو البوابة الخشبية، مئات الأجساد الفتية القوية في أول الشباب تحولت إلى جسد واحد يضرب الباب، السلسلة الحديدية ومعها مفاصل الباب تئن من تحت الثقل، مئات الأذرع تحولت إلى ذراع واحد تلوي الحديد، بالغضب المتراكم منذ الولادة تلويه، بالحلم المكبوت منذ الطفولة، والحب المحبوس بين طيات القلب، بكل الكراهية لهذه البوابة ذات السلسلة الحديدية، بكل الأمل في الحرية وبكل اليأس أيضا.
كنت واحدة من هؤلاء البنات، جسدي أصبح جزءا من جسدهن، لا شيء يفصلني عنهن وإن كان هو الموت. في هذه اللحظات ينطلق المارد الراقد تحت العقل الواعي، يسمونه «اللاوعي»، قد يكون أكثر وعيا وأقرب إلى الفطرة الطبيعية، وإلا فمن أين تأتيه هذه القوة؟ كنت أدرك تماما قوتي الجديدة، أصابعي الحديدية تلوي السلسلة الصدئة حتى انكسرت، سقط القفل الحديدي على الأرض، داسته الأقدام، مئات الأقدام، وانفتحت البوابة الضخمة على مصراعها بصوت يشبه الانفجار، وانهمرت أجساد البنات إلى الخارج مثل الشلال الهادر: الجلاء بالدماء!
في الشارع انضم إلينا التلاميذ والمارة وأصحاب الدكاكين، عند محطة القطار أو دخول السيرك أو شراء اللب والفول السوداني!
جلست بجوار النافذة والقطار ينطلق بنا دون أن يقف في المحطات، كل شيء تغير في العالم، حتى زرقة السماء وتلال الرمال في الصحراء، أصبحت الزرقة أشد زرقة من مياه البحر، والرمال بلون الذهب السائل تحت الشمس، صدري يعلو وينبض تحته قلب تضخم بفرحة الحرية، كأنما أنا أمسك حريتي بيدي كما أمسك حافة النافذة التي تطير معي، والهواء يطير شعري، أملأ به صدري، وأصوات الهتافات داخل القطار تدوي في أذني: تحيا مصر حرة، يعقبها الأناشيد: بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي، والعجلات تجري فوق القضبان بالإيقاع ذاته، والقطار أيضا يطلق صفارته كصوت المزمار الحاد أو الناي المنفرد يتمشى مع اللحن.
هبطنا من القطار في محطة باب اللوق، غرقنا في بحر من البشر، كأنما خرجت مصر كلها ذلك اليوم، حكومة وشعبا، موظفون بالبدل والطرابيش، وتلاميذ المدارس بالشورت القصير حتى الركبتين، بنات المدارس بالمرايل الدمور أو الكتان أو تيل المحلة، نساء بالملاءات اللف والجلابيب السوداء، عمال المصانع بالبدل الزرقاء، تمورجية، ممرضات بالملابس البيضاء، فلاحون بالفئوس، وأطفال تحملهم أمهاتهم فوق الصدور، مرضى فوق العكاكيز أرجلهم مربوطة بالشاش والجبس.
أنهر من البشر تصب من الحواري والشوارع الجانبية في الميادين، واكتظت النوافذ والشرفات وأسطح البيوت بالأجساد والأشجار أيضا، ثمانية وأربعون عاما مرت منذ ذلك اليوم، إلا أن الصورة محفورة في ذاكرتي، المظاهرة الوطنية الأولى في حياتي، لأول مرة أعرف معنى الوطن، يولد الحب شلالا هادرا يكتسح الحواجز بين الحلم والحقيقة، بين الجسد يتلاشى الفاصل بين الحياة والموت واللذة والألم، يحلق الإنسان في الجو، أو يسبح في جوف البحر كالأسماك، يفعل أي شيء وكل شيء.
لم أعرف من قبل هذه السعادة الجامحة المتدفقة بلا حدود، عرفتها من بعد في مظاهرات أخرى، وفي اللحظات التي التقت فيها عيني لأول مرة بعيني طفلتي أو طفلي، يتدفق الشلال المكبوت منذ العبودية، منذ أصبحت الولادة دنسا يستوجب التعميد، والوطن أرضا يملكها الأسياد دون العبيد.
كنت أتلفت حولي في ذهول، الميدان الواسع مفروش بأجساد البشر، أهو ميدان الإسماعيلية أو عابدين؟! أصوات الهتاف مثل دقات الطبل تدوي تحت ضلوعي: الجلاء بالدماء. يسقط صدقي يسقط بيفن، لم أكن أعرف من هو صدقي ومن هو بيفن؟
وقفنا صفوفا صفوفا، إلى جواري في الصف كانت فكرية وصفية وفاطمة وسامية، رأيت ثلاثة رجال يسيرون نحونا يرتدون بدلا رسمية داكنة اللون، عضلات وجوههم مشدودة، مشيتهم عسكرية، سمعنا أحدهم يقول: عاوزين مندوبة عن مدرستكم.
كانت المرة الأولى أسمع فيها كلمة مندوبة، التفت ناحية سامية؛ فهي التي تعرف معنى هذه الكلمات، لم أجدها، اختفت سامية في غمضة عين، فص ملح وذاب.
أين راحت سامية؟! كانت هنا منذ لحظة! عاوزين مندوبة عنكم، يلا اختاروا واحدة بسرعة. وحملقنا في وجوه بعضنا بعضا في صمت، لا نعرف ماذا نفعل، «نوال المندوبة بتاعتنا.» أكان صوت صفية أم فكرية أم واحدة أخرى من البنات؟ «اتفضلي معانا يا آنسة نوال.»
آنسة؟ لأول مرة يقترن اسمي بلقب آنسة، في الصحف كنت أقرأ عن الآنسة مي زيادة والآنسة سيزا نبراوي، في البريد كانت تأتي الرسائل إلى طنط فهيمة باسم: الآنسة فهيمة شكري.
كأنما كبرت في هذه اللحظة عدة سنوات، تحولت من تلميذة في ثالثة ثانوي إلى آنسة، شددت قامتي ومضيت معهم، قامتي طويلة تقارب قامتهم، يدبون بأحذيتهم فوق أسفلت الميدان، قدماي تدبان الأرض ورأسي مرفوع في زهو كأنما بلغت سن الرشد وأصبحت الآنسة المندوبة. الضربات تحت ضلوعي تؤكد أني مرعوبة، إلى أين يأخذني هؤلاء الرجال؟ فوق صدري تلمع الحروف الحمراء: الجلاء بالدماء. صوتي مبحوح من الهتاف، أفتح فمي لأسأل أين نذهب، صوتي لا يطلع كما يحدث في الأحلام، ذاب الواقع في الخيال وأنا أدخل معهم المبني الفخم، أوهو قصر الملك أم هو السجن؟ بدت اللحظة خارج الزمان والمكان، كأنما عشتها من قبل في النوم في السادسة من العمر، وجدت نفسي داخل بهو ضخم تغطيه السجاجيد الحمراء السميكة، النجف الكريستال تتدلى من السقف، الصور الذهبية فوق الجدران المنقوشة، تطل منها وجوه الملوك والسلاطين. توقفنا عند منضدة كبيرة مذهبة الحواف، من فوقها كتاب حروفه من ماء الذهب، يسمونه سجل التشريفات، طلبوا مني أن أكتب اسمي واسم أبي، تصورت أن الحكومة سوف تقبض عليه، تودعه السجن أو تضربه بالرصاص، وأنا ليس أمامي إلا الطرد من المدرسة والعودة إلى البيت في منوف، ربما كان السجن أفضل أو الرصاص، ألهذا السبب هربت سامية؟!
في قطار العودة إلى حلوان جلست مطرقة الرأس بين الزميلات نتبادل النظرات في صمت دون أن نفهم شيئا، أيتمخض الجبل فيلد فأرا؟! انتهت المظاهرة الضخمة إلى لا شيء؟! مجرد تسجيل أسمائنا في سجل التشريفات!
رأيت الدموع في عيني صفية تنشج بصوت مكتوم: «مالك يا صفية، حصل إيه؟!» أبدا يا نوال، مفيش حاجة، افتكرت أخويا الكبير، ماله أخوكي الكبير؟ أبدا ولا حاجة، هي فين سامية يا نوال؟ مش عارفة راحت فين؟ بصراحة يا نوال الفار بيلعب في عبي، يعني إيه يا صفية؟
لأول مرة أسمع عبارة: «الفار بيلعب في عبي.» تصورت أن فأرا دخل تحت ملابسها من تحت المقعد في القطار، ضحكت صفية حتى امتلأت عيناها بالدموع، ثم راحت تبكي من جديد: «انتي على نياتك أوي يا نوال، لكن سامية دي مية من تحت تبن.»
في المدرسة أصبحت أنا المتهمة الوحيدة بإحداث الشغب، كلمة الشغب بلغة الناظرة تعني المظاهرة الوطنية، سامية غابت عن المدرسة عدة أيام، لم تكتب اسمها واسم أبيها وجدها في اللوح المحفوظ، لم تمر معي في العنابر توزع المنشورات.
في مكتب الناظرة وقفت أمامها أنتفض بالخوف، وهي تنتفض بالغضب: «أنا عملت تحقيق مع البنات، وكلهم اعترفوا انك اللي حرضتيهم على الشغب!» أردت أن أفتح فمي وأقول أنها مظاهرة وطنية، لكن صوتي لم يخرج، ربما أصابني التهاب في الحنجرة من طول ما هتفت: تسقط الحكومة . ها أنا أسقط وليس الحكومة، وليست سامية المحرضة الأولى، هي التي جاءت وقالت: بكرة المظاهرة. أوقعتني سامية في الفخ ثم تركتني، وهؤلاء البنات كيف يعترفن باسمي للناظرة؟ ألم نشترك كلنا في المظاهرة؟ صوت الناظرة الغاضب يدوي: «تقدري تقوليلي من حرض البنات غيرك؟ فيه واحدة تانية حرضت البنات غيرك؟ قوليلي اسمها حالا عشان أعاقبها.»
أطبقت شفتي وأنا واقفة مطرقة الرأس، لم أنطق اسم سامية، لمحت الناظرة بطرف عين، عيناها حمراوان بلون وجوه الإنكليز، صوتها خشن كأصواتهم حين يصرخون من ثكناتهم في الليل، كنت أكره سامية في تلك اللحظة، لكن كراهيتي للناظرة كانت أشد، ربما لهذا السبب لم أعترف لها بشيء.
مدت الناظرة ذراعها الطويلة، وخلعت عن صدري البادج، داست عليه تحت قدمها، رأيت الحروف المطرزة بضوء القمر بلون الدم الأحمر تنهرس تحت حذائها، مدت ذراعها مرة أخرى وخلعت عني جاكت التايير، نفذ الهواء الصاقع من تحت القميص الأبيض، أصبحت أرتعد بالبرد والخوف معا، أمسكت المسطرة في يدها اليمنى، خدوش السلسلة الحديدية فوق أصابعي، سقطت فوقها الضربات بحافة المسطرة كالسكين.
كانت ترفع المسطرة عالية كأنما تضرب السماء ثم تهبط بها فوق أصابعي، تضغط فكيها بالغيظ وتصطك أسنانها بصوت يشبه اصطكاك المسطرة بمفاصل عظامي، أنفاسها تلهث مثل صفارة القطار أو بخار مضغوط يندفع من زجاجة مفلطحة عنقها ضيق.
كانت قصيرة القامة، مربعة الجسم، تشبه البطة المزقمة، عيناها جاحظتان من وراء النظارة البيضاء السميكة، تشبه طنط فهيمة ونبوية موسى وكل الناظرات، في كعب حذائها قطعة من الحديد على شكل حدوة الحصان تدق بها الأرض. لم تكن ترتدي السواد مثل نبوية موسى، إلا أن ملابسها كانت قاتمة اللون، وجهها قاتم، صوتها قاتم مثل كل الناظرات، ابتسامة واحدة لم أرها على وجه واحدة من هؤلاء النساء، الجبهة عريضة تتوسطها تكشيرة دائمة غائرة في اللحم.
أكان القانون يفرض عليهم هذا الشكل؟! هذا الجسم المتخشب مثل الصندوق المربع المغلق؟ رغم المكياچ أو المساحيق أو النظارة السميكة، هناك شيء يطل من فوهة الصندوق، أو الثقبين في الرأس، شيء يشبه البخار المضغوط، عاطفة ما شديدة العنف، مخزونة كالديناميت، تدمر الواحدة منهن من الداخل، وفي الخارج يظهر في عينيها بلون الدم الأحمر، يطل المكبوت من وراء النني الأسود الغارق في بياض رمادي.
صوت الناظرة يدوي في رأسي في اليقظة والنوم: «اعتبري نفسك مرفودة من المدرسة من النهاردة.» كانت المدرسة «رغم الناظرات» هي الطريق الوحيدة أمامي لتحرير نفسي، وكان تحرير نفسي أهم عندي من تحرير الوطن؛ فالوطن مجرد كلمة نهتف بها، لكن نفسي هي جسدي، هذا اللحم الحي الذي يضرب بحافة المسطرة، هذا الدم الأحمر الذي يسيل من أصابعي المتورمة، مفاصل عظامي التي تئن بالألم.
كانت الناظرة تركز الضربات فوق يدي اليمنى التي أكتب بها، ربما أرادت أن تفقدني القدرة على الكتابة، هل اعترف لها المدرس أني كتبت قصة وصفت فيها السماء بأنها غاشمة؟!
لم يكن للناظرة أن ترفدني بدون حضور ولي الأمر، جاء أبي إلى المدرسة، رأيته يدخل من الباب بقامته الفارعة ورأسه المرفوع، خطوته فوق الأرض ثابتة وقوية، وقدمه كبيرة، كانت له مشية خاصة، ينقل القدم بحركة هادئة، يعرف بالضبط أين يضع قدمه الثانية، تستقر بكل ثقلها على الأرض، كأنما لا يخشى أحدا، لا الملك ولا الحكومة ولا الناظرة، لا يخشى إلا الله.
جريت نحوه أحتمي فيه، ربت على كتفي بيده الكبيرة الحانية: «ما تخافيش يا نوال، تعالي معايا.» سرت خلفت أكاد أمسك ذيل بدلته كما كنت أمسك ذيل أمي في الطفولة، اختفيت وراء جسمه الكبير وهو يدخل إلى مكتب الناظرة.
نهضت واقفة فوق قدميها ترحب به في احترام: «أهلا سعداوي أبيه، اتفضل.» جلس أبي وملأ المقعد، أشعل سيجارة وراح يتحدث في السياسة: «معاهدة صدقي بيفن لا تحقق أي شيء، لا الجلاء ولا الاستقلال، إنها تكرس الاحتلال البريطاني يا أستاذة عزيزة.» «أيوة يا سعداوي بيه، لكن سعادتك في الوزارة وعارف إن الحكومة مانعة المظاهرات منعا باتا.» «الحكومة على وشك السقوط يا أستاذة عزيزة، بعد المظاهرة الكبيرة دي لازم حكومة صدقي تسقط، البلد كلها شاركت في المظاهرة، حتى تلاميذ الابتدائي والنساء وربات البيوت.» «لكن لازم يكون فيه نظام واحترام للقوانين، تصور يا سعداوي بيه إن بنتك دي اللي قاعدة عاملة زي القطة المغمضة حرضت البنات على كسر باب المدرسة والخروج إلى الشارع، يبقى ناقص عليهم إيه!» «دي كانت مظاهرة وطنية، ونوال بنتي أنا عارفها كويس، لا يمكن تحرض البنات على شيء سيئ، ثم إنها من التلميذات المتفوقات في المدرسة.» «لكن التفوق شيء والتحريض على الشغب شيء تاني، وأنا عندي أمر من الوزارة وعارف كل حاجة يا أستاذة عزيزة، الموظفون الكبار في الوزارة كانوا كلهم مع المظاهرة، وأنا جاي دلوقتي من عند فهمي بيه وكيل الوزارة.»
شيء كالسحر في كلمة فهمي بيه جعل وجه الناظرة يتغير، صوتها أيضا تغير وأصبح ناعما: «سعادتك تعرف فهمي بيه؟» «أيوة، كان زميلي في كلية دار العلوم، قريب السنهوري، علشان كدة رقوه قبل غيره.»
دقت الناظرة الجرس، طلبت فنجان قهوة لأبي، سألتني بصوت ناعم: تشربي إيه يا بنتي؟ حلقي جاف مشروخ، حاولت أن أطلب كوب شاي دافئ باللبن، إلا أن صوتي لم يخرج. •••
أصبحت في الخامسة الثانوية عام 1947م، إنه عام الكوليرا، في إجازة الصيف أصبح بيتنا في منوف قلعة محصنة ضد الوباء، النوافذ كلها يسدها نوع من السلك ذي الثقوب الدقيقة، لا ينفذ منها الذباب أو الناموس، صفائح قتل الحشرات تراكمت في ركن المطبخ من التوكس إلى الفلت وال (د. د. ت). زجاجات السوائل المطهرة من السبرتو الأبيض، إلى الليزول والبرمنجات.
سافر أبي إلى القرية وعاد ومعه ستي الحاجة، كانت الكوليرا تحصد الفلاحين والفلاحات كما يحصد وباء «الشوطة» الفراخ، أراد أبي أن يحمي أمه على الأقل من هذا الوباء، لم تكن ستي الحاجة تستطيع أن تنطق كلمة الكوليرا، تقول عنها «الكوريره»، نضحك عليها وتضحك معنا حتى تطفر الدموع من عينيها، تمسحها بطرف طرحتها السوداء ثم تقول بصوت مكتوم: عاوزة أرجع الكفر لبنتي زينب، خايفة عليها من الشوطة، وتسألها أمي: «اشمعنى زينب يا حجة مبروكة؟!» «علشان هي أحسن بناتي، وقلبها أطيب قلب في الدنيا، والكوريره مش بتاخد إلا الناس الطيبين.» وتعود ستي الحاجة إلى البكاء المكتوم، كأنما ابنتها زينب ماتت بالكوليرا.
قبل أن تشرق الشمس في أحد الأيام رأينا ستي الحاجة واقفة على قدميها داخل جلبابها الأسود، ما إن استيقظ أبي من النوم حتى قالت: «خدني يا ابني على الكفر، قلبي بياكلني طول الليل على زينب، خايفة يكون جرى لها حاجة!» ارتدى أبي بدلته وسافر معها إلى القرية، عاد بعد يومين شاحب الوجه أحمر العينين، أخته زينب ماتت بالكوليرا، وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة كانت تهذي بعبارة واحدة: هاتوا أمي أشوفها! وصلت ستي الحاجة بالضبط في اللحظة السابقة للنهاية، فتحت زينب جفونها ورأت وجه أمها، انفرجت شفتاها عن ابتسامة، وامتلأت عيناها بالضوء، ثم ماتت.
بكت عليها القرية الموبوءة بالكوليرا، حصد الوباء عددا من النساء والرجال في عائلة أبي، إلا أن الحزن على عمتي زينب كان أكبر حزنا؛ فهي أقرب الشقيقات إلى أبي، وأحب البنات إلى ستي الحاجة، فارعة القامة مثلها، بشرتها خمرية اللون، عيناها خضراوان بلون البرسيم، أنجبت ولدا اسمه «نجاح»، وبنتا رضيعة ماتت في حضنها وهي تموت.
تحولت ستي الحاجة فجأة إلى امرأة عجوز، لم تعد تضحك كما كانت، وامتلأ وجهها بالتجاعيد، تجلس على عتبة الدار، في حضنها «نجاح» ابن ابنتها زينب، تنظر في عينيه الخضراوين بلون عيني أمه الميتة: «يتيم يا عين أمه، ربنا ياخد الكوريره واللي جاب الكوريره.»
في منوف حصدت الكوليرا بعض الناس، أصبحت أمي مثل ضابط الجيش في البيت، تمسك الرشاشة كأنما هي مدفع تقتل الذباب، إنها الحرب أعلنتها أمي على الوباء، تغلي الماء قبل أن نشربه، تغسل الخضروات وتنقعها في محلول البرمنجات، تسخن الخبز فوق النار لتقتل الجراثيم، لا يشتري أبي شيئا دون أن تطهره أمي، لا يعود أبي من الخارج دون أن يخلعه ملابسه وتنقعها أمي في المحلول المطهر، ما إن يدخل أحد منا إلى المرحاض أكثر من مرة في اليوم حتى ينتابها الذعر.
كان الراديو يذيع التعليمات للناس، تنصت أمي إليها بانتباه أو تدونها في النوتة، أعراض الكوليرا هي: الإسهال مع القيء، إفرازات المريض شديدة العدوى. الإبلاغ فورا عن أي مريض لعزله في المستشفى.
عشنا شهورا لا نسمع إلا أنباء الموتى، بعد انتهاء الوباء لم تكف أمي عن عمليات التطهير والوقاية. حتى اليوم، ما زلت أسخن الخبز على النار كما كانت أمي تفعل في منوف منذ سبعة وأربعين عاما، وما زلت أذكر وجه أبي الشاحب وعيناه الحمراوين حين عاد من الكفر، وصوت ستي الحاجة وهي واقفة عند الباب داخل جلبابها الأسود: «قلبي بياكلني طول الليل على زينب.» كيف أحست الأم أن ابنتها تموت رغم المسافة البعيدة، ولماذا لم تذكر من بناتها الخمس إلا زينب، وهي الوحيدة فيهن التي ماتت بالكوليرا، وكأنما سمعت نداءها في الليل عبر الأثير فسافرت إليها وأدركتها قبل النفس الأخير.
كان أبي يسمي ذلك «تلبياتي»، وهي القدرة الإنسانية على الإحساس بالآخرين رغم المسافة البعيدة، كان لجدته الغزاوية هذه القدرة، وقد ورثتها ستي الحاجة عن أمها.
أصبح حفيدها «نجاح» قلبها، عينها الذابلتين من البكاء، لا تفارقها، تلحظه يلعب أمامها وهي جالسة على عتبة الدار، تحرم نفسها من الطعام لتدفع له مصاريف المدرسة كما فعلت مع أبي وعمي الشيخ محمد، ثم أرسلته ليتعلم في مصر «القاهرة» كما أرسلتهما من قبل.
دخل نجاح المدرسة الثانوية، عاش مع بعض أقاربه في عين شمس أو المطرية، كان يركب القطار كل يوم من البيت إلى المدرسة، القطار نفسه الذي كنت أستقله من محطة الزيتون حين كنت أعيش في بيت جدي، القطار نفسه الذي كان يدهس التلاميذ الفقراء تحت القضبان.
سقط نجاح وهو يجري ليلحق بالقطار كما كنت أجري وأنا تلميذة في مثل عمره، كان يرتدي حذاء جلديا اشترته له ستي الحاجة، انزلقت قدمه تحت القطار، بترت العجلات ساقيه الاثنتين، زرته في مستشفى الدمرداش، رأيته راقدا تحت الأغطية بلا ساقين، يتطلع حوله بعينيه الخضراوين الواسعتين ويتساءل في دهشة: راحت فين الجزمة الجديدة؟!
انشطر قلب ستي الحاجة من شدة الحزن ثم ماتت، قبل أن تموت قالت لابنتها الكبرى «عمتي فاطمة»: «إبعتي يا فطنة لاخوكي السيد علشان ييجي.» «ليه يا امه.» «أنا هاموت يا فطنة وعايزة أشوفه.» «تموتي إيه يا امه انتي زي الحصان، ما شاء الله.» «ابعتي يا بت لاخوكي، عاوزة اشوفه قبل ما اموت.»
هواجس الشك ويقين الإيمان
ماتت ستي الحاجة في دارها في قريتها كفر طحلة، ظل أهل الكفر يتحدثون عن موتها كما تحدثوا عن موت أمها.
لم أشهد موتها، لكنني زرت القرية بعد عامين، كانت عمتي فاطمة لا تزال تحكي الحكاية، ما إن جلست إلى جوارها حتى قربت فمها من أذني وراحت تعيد القصة من أولها لآخرها، ترددها كل يوم بلا كلل أو ملل حتى ماتت هي الأخرى، صوتها يسري في الليل كأنما سمعتها بالأمس وليس منذ أربعين عاما تقريبا. «ستك الحاجة ماتت موتة الكل يتمناها، صحيت الفجر زي عادتها، اتوضت وصلت ونادت علي، صحيت على صوتها يقول: يا فطنة، قلت عاوزة إيه يا أمه، قالت باين يا بنتي العمر خلاص، نادي على اخواتك كلهم، وابعتي حد يسافر مصر يقول لاخوكي السيد تعالى حالا، أمك عاوزة تشوفك قبل ما تموت. قلت: يا امه الشر برة وبعيد، وانتي كويسة خالص.
كانت ما شاء الله زي عادتها، قامت كنست الدار ورشت القاعة بمية الزير، ولبست الجلابية السودا، وبخرت القلة، وحطت فيها مية الزهر. وقالت: لأجل أخوكي السيد يشرب منها، أصله يا ضنايا ماكانش يشرب الميه إلا وعليها الزهر. ورقدت على الحصيرة وراسها ناحية القبلة، وقالت: عشان اموت وراسي ناحية مكة المكرمة وقبر الرسول صلاة النبي عليه ألف صلاة. يا ضنايا يا ابني لما تيجي وتشوف امك وهي بتموت، دا انت يا ابني طول عمرك قلبك حنين، لكن خلي قلبك شديد يا عين امك، ده انا رايحة الجنة حدف؛ لأجل زرت قبر النبي، وعملت الخير، وربيت خمس بنات يتامى، وأخوهم الشقيق وأخوه الشيخ محمد من الأب. قومي يا فطنة ادبحي فرخة واعملي شوية ملوخية لاخوكي السيد، ونادي على نفيسة تحمي الفرن وتعمل فطيرتين، وخلي زينب بنت بهية تروح الغيط تجيب شوية تين.
وفضلت ستك الحاجة على كدة من الصبح لغاية المغرب، وكانت تسكت شوية ونقول خلاص ماتت، وبعد شوية تصحى وتقرأ سورة يس وتكلم عزرائيل كأنه واقف قصادها، تقوله: ابعد عني يا عزرائيل لغاية ابني ما ييجي، نفسي أشوفه قبل ما اموت، لا يمكن تاخدني يا عزرائيل قبل ما اشوف ابني السيد. قومي يا فطنة شوفي اخوكي اتأخر ليه، وانت يا واد يا حسني خد البريزة دي هات باكو شاي وسكر من دكانة عمك الحاج عفيفي علشان خالك السيد بيه لما ييجي والرجالة تملا الدار. وانتي يا بت يا نعيمة هشي الدبان من على وشك عشان خالك البيه يقول عليكي نضيفة وحلوة، وانتي يا نجية خدي الزلعة امليها من البحر عشان مية الزير قربت تخلص.
وفضلت ستك الحاجة على كدة طول النهار، تموت ونتشاهد عليها وبعدين تصحى وتقول: ابعد عني يا عزرائين ربنا يخدك، هو السيد ابني لسه ماجاش؟ أنا شيفاه أهه جاي على المزلقان! قومي يا بت يا فطنة قابلي اخوكي على المزلقان! وقمت زي ما ستك الحاجة قالت لي، ولقيت ابوكي جاي ع المزلقان، كان يا عين امه وشه اصفر زي اللمونة. ركب أول قطر لغاية بنها، وبعدين ركب التاكسي وقف بيه في السكة فوق الجسر بعد طحلة بشوية، وجه ماشي لغاية المزلقان. وستك الحاجة راسها وألف سيف لا يمكن تموت ولا تخلي عزرائيل يقرب لها إلا بعد ما تشوفه. وأخذته بالحضن ع المزلقان، وقلت له امك مستنياك يا اخويا. وكانت ستك الحاجة خلاص اتشاهدوا عليها وغطوها، لكن أول لما سمعت صوت ابوكي شالت الغطا، فتحت عينيها وأخذته في حضنها زي عوايدها، وهي تقول له: اتأخرت كدة ليه يا ابني؟ قال لها التاكسي وقف في السكة يا امه، قالت له بركة اللي جيت يا ابني، وكانت دي آخر كلمة قالتها ستك الحاجة، وماتت ورأسها ناحية القبلة، ونور النبي من حواليها صلاة النبي أحسن.»
كنت أسمع إلى صوت عمتي فاطمة وأتلفت حولي في بيت ستي الحاجة، كأنما روحها لا تزال تعيش، أراها واقفة عند الباب تحوم حول الفرن، أو جالسة منتصبة فوق عتبة الباب، أو فوق الحصيرة في الليل تطرد بذراعيها عزرائيل ثم تخفي فمها بطرف الطرحة السوداء، وتضحك حتى تدمع عيناها بالضحك وتهمس: «اللهم اجعله خير يا رب.»
لم تختف روح ستي الحاجة إلا بعد أن مات أبي، ربما كانت تنتظره حيث يلحق بها في العالم الآخر، أو ربما لأني كبرت أكثر وعرفت أن الروح لا تنفصل عن الجسم ولا تعود بعد الموت. كنت قد درست الطب وقرأت الكثير خارج الطب، وتخلص عقلي من الخرافات، إلا أن روح ستي الحاجة كانت تبدو لي كأنما هي مصنوعة من مادة روحية أو ربما هي أمها أو جدتها الغزاوية وأورثتها هذه الروح عن «عشتار» أم الطبيعة والخصوبة، أو «نون» إلهة تكون الأنثى قبل ظهور الإله الذكر.
عام 1947م حصلت على شهادة «الثقافة»، ثم انتقلت إلى السنة النهائية في المرحلة الثانوية، كانوا يسمونها «التوجيهية». دخلت القسم العلمي وليس القسم الأدبي أو قسم الرياضيات، كنت أفضل دراسة الكيمياء والطبيعة والأحياء أكثر من التاريخ والجغرافيا وغيرهما من علوم الرياضة.
كانت مرحلة الثانوية في مدرسة البنين خمس سنوات وليست ست سنوات كما في مدارس البنات، سألت أبي عن سبب هذه التفرقة، قال: إن وزارة المقارف «المعارف» تتصور أن البنات ناقصات عقل ودين، يحصلن في ست سنوات ما يحصله البنون في خمس سنوات. وكانت هناك موادة إضافية تدرس للبنات فقط؛ مثل مادة رعاية الطفل، والخياطة، والتطريز، والطهي، وعمل الكحك، ودعك الزجاج والبلاط والمراحيض.
كنت أهرب من هذه الحصص بادعاء المرض، أربط رأسي بمنديل أسود مثل النساء الثكالى وألزم السرير في العنبر حتى تأتي إلي الحكيمة، كانت امرأة سمينة قصيرة تتهادى فوق الأرض بخطوة بطيئة مثل البطة، تجلس على طرف سريري، وتضع يدها البضة فوق جبهتي، أغمض عيني حتى لا ترى «النني» الأسود القابع تحت جفوني، المتأرجح بالحياة والصحة، والمشتعل بالرغبة في مواصلة الرواية التي أخفيها تحت الوسادة: «انتي سخنة شوية يا بنتي، ويلزمك راحة وإسبرين، وبكرة تبقي كويسة إن شاء الله .» تضع في كفي ثلاث حبوب بيضاء صغيرة، ألقيها في المرحاض في دورة المياه، وأعود إلى الفراش، وأواصل قراءة الرواية.
إنها رواية «جين إير» باللغة الإنجليزية، تدرسها لنا «مس سنية»، الوحيدة بين المدرسات التي تبتسم حين نلتقي، الوحيدة التي سمعتها تقول: نوال موهوبة، الوحيدة التي تشرق الشمس بظهورها وتختفي بغيابها.
بدأت الضربات تتصاعد تحت ضلوعي في حصة الأدب الإنجليزي، لم أعرف، أهو حبي للأدب أم هو مس سنية؟ كانت تشبه مس إيفون في مدرسة منوف، الخطوة الرشيقة الممشوقة ذاتها، إلا أن قامتها أطول من مس إيفون وبشرتها أقل سمرة، والخفقات تحت ضلوعي أشد قوة، تذكرني بالحب الأول وحرف «الفاء»، الروح المحلقة في السماء بلا جسم، عيناي في الحب لا يريان من الجسم إلا العينين، ولا يريان من العينين إلا البريق الخاطف بلون العسل النقي الصافي كعيني أمي. كانت تتمشى في الفصل وهي تقرأ لنا من رواية شارلوت برونتي، أو جين أوستن زو إميلي برونتي، ثلاث نساء روائيات ندرسهم في حصة الأدب الإنجليزي، لم ندرس روائية واحدة في الأدب العربي، ألم تكن هناك أديبات يكتبن باللغة العربية؟! في مكتبة المدرسة لم أعثر على امرأة أحلامي دون جدوى، لم يكن أمامي إلا طه حسين.
بدأت مس سنية تلوح في خيالي، قلبي يخفق لمرآها، عيناها العسليتان تذكرني بأمي، هل كنت أبحث عن الأم الغائبة في منوف أم الحب الأول المكبوت؟ لم أتصور أن لها جسد امرأة أو رجل، لم يكن الحب يرتبط بنوع الجنس، كان نوعا آخر من الاحتياج يرتبط بنوع الإنسان، أو الإله، الذي كنت أبحث عنه في طفولتي دون جدوى.
كانت تنطق اللغة الإنجليزية بلهجة أخرى غير الإنجليزي، كأنما هي تصنع لغتها الخاصة، وصوتها الخاص، ومشيتها الخاصة، والبريق في عينيها حين تراني ينتشلني من غربتي في الدنيا، تتبدد الوحشة وينقشع الحزن المجهول الدفين في أعماقي، أتحول فجأة إلى إنسانة مرحة، أضحك وأرقص وأغني، يجلجل صوتي في الكون، أكاد أعانق الشمس بذراعي وأنا أجري وأجري في الفناء الواسع، لا شيء يوقفني إلا السور الحجري العالي.
ولأنني لا أعرف التخفي أو السرية فقد عرفت المدرسة كلها قصة الحب، ما إن تفتح «مس سنية» باب غرفتها في قسم المدرسة الداخلي حتى تتبارى البنات في البحث عني لأترك كل شيء وأجري أطل عليها وهي تمشي في الممر لتدخل دورة المياه الخاصة بالمدرسات، أو تهبط السلم لتذهب إلى أحد الفصول أو لتذهب إلى الفناء أو أي مكان آخر في الكون.
كانت قصص الحب بين التلميذات والمدرسات أمرا عاديا أحيانا، نشترك ثلاث أو أربع بنات في حب مدرسة واحدة، تشتعل القلوب بالغيرة والتنافس، وتزداد المدرسة زهوا وفخرا بازدياد عدد الواقعات في حبها.
أكثر البنات وقعن في حب أبلة نفيسة مدرسة الرسم، لا أعرف لماذا، كانت في نظرهن أكمل المدرسات وأرشقهن وأكثرهن رونقا، إلا أنني لم أكن أنجذب إليها، كانت أشبه بالدمية أو اللوحة المرسومة بإتقان، ملامحها شديدة التناسق إلى حد فقدان الشيء المميز للجاذبية، شخصيتها أيضا كملامحها تفتقد الشيء غير العادي أو غير المألوف.
أبلة نفيسة كانت أليفة مألوفة، لا يمكن لها أن تحرك خيالي، إنها تشبه الأميرات أو زوجات الملوك والرؤساء، هذا النوع من النساء لا يظهرن إلا في كامل الزينة وفي ظل الرجل، ثم يختفين فجأة باختفائه، يطلق عليهن «حرم صاحب الجلالة أو صاحب المعالي أو السيادة»، لكن مس سنية كانت مختلفة، لا أعرف كيف؛ فهي لا تشبه واحدة من النساء، خاصة هؤلاء اللائي يمكن أن نسميهن «نساء الظل»، وهي تظهر بلا زينة ولا مكياچ، وليست جزءا من موكب الناظرة أو الوزير حين يزور المدرسة.
أحببت الأدب الإنجليزي لأنها هي التي كانت تدرسه لنا، كنت أنتظر حصتها كمن ينتظر قطرة غيث في صحراء، ألتقط كل كلمة تخرج من بين شفتيها كأنما هي درة، يستقر درسها في ذاكرتي دون مذاكرة، أحفظه عن ظهر قلب دون قراءة، مجرد السماع فحسب وأنا جالسة في حصتها عيناي شاخصتان إليها كالمغناطيس، وأذناي مفتوحتان، لا يفوتني حرف واحد، تلكزني صفية الجالسة إلى جواري فلا أحس، يشتعل حريق في الفصل فلا أنتبه إليه ؛ إن حواسي كلها مع عقلي وخيالي قد تجمعت وتركزت في هذه النقطة المحدودة من الكون حيث هي تكون.
ثم جاءت الصدمة التي ضيعت السحر ومعه الحب، كان ذلك في بداية الصيف عام 1948م، كان الامتحان النهائي على الأبواب، وتعودت مثل بنات الداخلية أن أمشي في الممرات الطويلة أمام العنابر في يدي الكتاب أراجع الدروس، كان هناك ممر يدور حول غرف النوم الخاصة بالمدرسات، وهو الممر المفضل لدى البنات لأسباب يعلمها الجميع، لم أكن أقترب من هذا الممر، أخشى أن تفتح مس سنية بابها فتراني وتدرك أني أنتظرها، ألا تعرف أني أنتظرها؟! كنت أتظاهر بالرزانة والثقل، ولست خفيفة أو شعنونة مثل البنات الأخريات.
كان اليوم الجمعة، ولم تكن مس سنية كغيرها من المدرسات تقضي يوم الجمعة في المدرسة، تحمل حقيبتها الصغيرة بعد نهاية الحصص يوم الخميس ولا تعود إلا يوم السبت صباحا. هكذا كنت أتمشى أيام الجمع في ذلك الممر دون حرج، أرفع وجهي من فوق الكتاب لأرمق باب غرفتها المغلق ثم تعود عيناي إلى الكتاب، كنت أعرف أن غرفتها خالية منها، أن المدرسة كلها خالية منها، بل إن الكون كله قد أصبح خاليا خاويا فارغ المعنى؛ لهذا كنت أتمشى في الممر وأرمق بابها، كأنما الباب قد أصبح جزءا منها، ومع شيء من الخيال يمكن أن يكون الكل ويعود للكون معناه.
فجأة انفتح الباب في اللحظة التي مررت بها أمامه، ورأيتها أمامي، تسمرت في مكاني فاقدة النطق، لكني رأيتها، كانت ترتدي قميص نوم وفوطة على كتفها وفي يدها صابونة، منظر عادي تماما، إلا أنه كان مفتوحا عند الصدر، ولمحت ذلك الشيء البارز في صدور النساء والذي يسمونه «الثدي»، بعقلي الواعي كنت أقول لنفسي: إنها امرأة، ولا بد أن يكون لها ثدي ورحم وكل شيء، إلا أنها فكرة مجردة، أما أن يصبح للفكرة لحم ودم فهذه هي الطامة الكبرى.
أصابتني الصدمة بما يشبه الغثيان، كنت أظنها من فصيلة الأرواح، وكم رأيت ثدي أمي وهي ترضع الطفل وراء الآخر، وكم رأيت من أثداء الزميلات في الداخلية، إلا أنني لم أشعر بالنفور كما حدث لي هذه المرة، لماذا؟ لم أعرف، كانت صدمتي فيها كبيرة حين اكتشفت أنها أنثى، أصابتني الفجيعة فيها كأنما هي المسئولة، أو كأنما خدعتني في الظاهر وهي في الباطن شيء آخر.
تبددت نشوة الحب مثل سحابة الصيف الرقيقة، لم يعد لوجودها في الكون السحر القديم، إلا أن علاقة خاصة ظلت تربطني بها، صورتها الأولى ظلت في خيالي بعد أن تركت المدرسة، احتفظت في درج مكتبي بصورتها وهي تلعب التنس، طويلة ممشوقة تبتسم بإشراقة الشمس. مضت أربعة أعوام أخرى ثم التقيت بها مصادفة في شارع قصر العيني، لم أتعرف عليها، تحولت في أعوام أربعة إلى امرأة عرجاء عجوز. رفعت وجهها وابتسمت، تعرفت على الابتسامة والبريق العسلي. مش معقول! مس سنية؟!
نطقت اسمها بسهولة، وكان هذا الاسم يصيبني بالخرس وقلبي تحت الضلوع يتوقف، انتي فين يا نوال؟! في كلية الطب هنا في شارع قصر العيني، يعني حتبقي دكتورة مش أديبة! وتلعثمت لم أعرف بماذا أرد، كأنما دخولي كلية الطب كان خيانة لها، «نوال، انتي موهوبة، خسارة تدخلي الطب.» «وانتي فين يا مس سنية؟» «أنا انتقلت لمعهد الموسيقى هنا في شارع قصر العيني.»
في الشارع نفسه على بعد دقيقتين بالخطوة السريعة، كنت أزورها في معهد الموسيقى، في كل مرة يتدهور بها الحال، كانت مصابة بمرض لا علاج له في الطب، يسمونه التهاب المفاصل المزمن، بالإنجليزية «روماتويد أرثرايتس».
آخر مرة رأيتها كان في عام 1955م، بعد أن تخرجت وأصبحت طبيبة امتياز في قصر العيني، أصبحت عاجزة عن تحريك مفاصل يديها أو قدميها، كان وجهها رغم ذلك يضيء حين تراني، يعود البريق إلى عينيها العسليتين، وقلبي كان يئن لماذا هي بالذات تصاب بهذا الداء، لم يكن هذا المرض يصيب إلا واحدا في المليون من البشر.
ثم ماتت قبل أن تموت أمي بعام واحد. •••
اشتهرت في مدرسة حلوان أنني عاشقة للأدب والشعر والنثر، في الحفلات المدرسية كنت أقف على المنصة وألقي كلمة من تأليفي أو قصيدة شعر ، أكبر الاحتفالات كانت بعيد ميلاد الملك أو عيد مولد النبي، كانت هجرة النبي من مكة إلى المدينة المنورة من الاحتفالات الكبيرة أيضا، يسمونها «عيد الهجرة».
عام 1948م أقامت المدرسة احتفالا كبيرا بعيد الهجرة، قبل الاحتفال بيومين جاءني المدرس وطلب مني إعداد كلمة ألقيها في الاحتفال. حبست نفسي داخل المكتبة، قرأت عن حياة النبي محمد ، ولدته أمه آمنة بنت وهب، ماتت وهو رضيع، كفله عمه عبد المطلب، أصبح راعيا للإبل في الصحراء، اشتهر بالأمانة فسماه الناس الأمين، كان محبوبا في قبيلته قريش، تزوجته السيدة خديجة من أشراف القبيلة، عهدت إليه بأموالها ليتاجر فيها، كان يعتزل في غار حراء يفكر ويتعبد، نزل إليه سيدنا جبريل بالقرآن، قال له:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم . لم يفهم النبي محمد ماذا يعني جبريل، أصابه الذعر، وعاد إلى زوجته خديجة يرتعد، أسنانه تصطك، قال لها: دثروني دثروني، هدأت السيدة خديجة من روعه وشرحت له الأمر، أرسل الله إليك جبريل يبلغك بالرسالة، أنت نبي الإسلام، انهض وبلغ الرسالة للناس.
كانت السيدة خديجة هي أول المسلمين الذين آمنوا بسيدنا محمد، من بعد ذلك دخل الناس في دين الله أفواجا، إلا أنها كانت الأولى، لولاها ما بدأ زوجها رسالته وما بدأ الإسلام. هكذا قال لي أبي، شعرت بالفخر لأنها امرأة مثلي، أتحدى بها عمي الشيخ محمد حين يقول: إن الله لم يخاطب النساء في القرآن، وأنه لم يذكر اسم امرأة واحدة في كتابه الكريم إلا مريم أم المسيح سيدنا عيسى عليه السلام.
بدأت أقرأ القرآن من الغلاف، أدركت أن كلام عمي الشيخ محمد صحيح، لم يذكر الله اسم حواء ولم يخاطبها إلا من خلال زوجها آدم، لم يرد ذكر السيدة خديجة بحرف واحد مع أنها أول من وضع الحجر الأساسي في صرح الإسلام، وهي التي وجهت زوجها نحو الطريق الذي جعله نبي المسلمين.
أسئلة كثيرة كانت تدور في رأسي، لم يكن أبي يعرف الإجابة عنها، يكتفي بقوله: هذه حكمة الله، وهناك أشياء في الدين تؤمن بها قلوبنا؛ لأن العقل البشري عاجز عن الإلمام بحكمة الله.
لم تكف الأسئلة عن الدوران داخل رأسي، أصابني صداع مزمن مجهول السبب، قالت لي حكيمة المدرسة: إنه بسبب فوران الدم في سن المراهقة، أعطتني حبوب الإسبرين وأقراصا أخرى.
كانت حرارتي تهبط لكن الألم ينتقل إلى أجزاء أخرى من جسمي، تشتد الآلام في أيام الحيض؛
ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ، ألزم الفراش في هذه الأيام وأعتزل العالم، أقول لنفسي: «بيدي لا بيد عمرو.» سأعتزل أنا العالم ولن أعطيه الفرصة كي يعتزلني، يتمرد جسدي على جسدي وتتقلص العضلات في أحشائي فيصيبني المغص الحاد، ما إن أرى الدم في ملابسي حتى أشعر بالغثيان، أكف عن الأكل وإن قرصني الجوع، وإذا أكلت تقيأت.
لا أكف عن تطهير نفسي، أغسل جسمي بالمياه الساخنة والصابون عدة مرات، أكاد أنقع نفسي في الماء المغلي والصودا الكاوية، أفتح الدش فوق رأسي وأتشهد، كما أنا في معركة أموت فيها من أجل الطهارة وابتغاء مرضاة الله، اقرأ الفاتحة والشهادة وبعض أجزاء من سورة مريم أو سورة النساء، تصورت أن هذه السور تناسب هذه الحالة النسائية أكثر من السور الأخرى.
لحسن الحظ جاء عيد الهجرة في يوم لا أعاني فيه من الأذى، كنت أخشى أن تأتي المناسبة الطاهرة في يوم لا أكون فيه طاهرة، كان المدرسون يقولون لنا: إن النساء في أيام المحيض يجب ألا يقفن بين يدي الله للصلاة، وألا يقرأن بصوت مسموع أو غير مسموع حرفا واحدا من القرآن الكريم أو أحاديث الرسول
صلى الله عليه وسلم . كنت أرتعد في الحصة حين يطلب مني قراءة شيء من هذه الكلمات المقدسة، كان الموت أهون من الإعلان في الفصل عن حالتي من حيث المحيض، منذ أدركني هذا الأذى وأنا أخفيه عن الناس جميعا بمن فيهم أمي وأفراد أسرتي في البيت، كأنما هو جريمة أو إثم عظيم أنا المسئولة عنه.
منذ أن طلب مني المدرس أن ألقي كلمة في عيد الهجرة وأنا أدعو الله أن يمنع عني الأذى ذلك اليوم، لم يكن لي أن أقف فوق المنصة أتحدث بصوت عال تسمعه الآذان عن الهجرة النبوية الكريمة، وأستشهد بآيات من القرآن والأحاديث الشريفة وأنا ملتبسة بما يستوجب اعتزال النساء حتى يتطهرن. وكنت أقترف الإثم في السر وأنا أعد كلمتي داخل المكتبة، كنت أعرف أن الله يراني ويعرف متى يأتيني المحيض، وكم عذبتني هذه الفكرة التي لم تفارقني منذ الطفولة.
حفظت كلمتي عن ظهر قلب لألقيها في الاحتفال بعيد الهجرة، كانت قبيلة قريش تؤمن بالأصنام، وهي تماثيل من الحجر لا تنفع ولا تضر، كان سيدنا محمد يدعو الناس للإيمان بالله الواحد الأحد والقرآن الكريم. استعدت قريش لقتل النبي فهرب منها في ظلام الليل، رقد في فراشه ابن عمه «علي بن أبي طالب»، في الطريق إلى المدينة المنورة اختبأ النبي وصاحبه في كهف مهجور، أرسل الله عنكبوتا فنسج خيوطا فوق الباب، هذه معجزة من معجزات الله، رأى كفار قريش خيوط العنكبوت فلم يدخلوا الكهف، قال لهم عقلهم أن لا أحد دخل الكهف وإلا تمزقت خيوط العنكبوت على الباب، مضوا في طريقهم، خرج النبي محمد وصاحبه من الكهف، وصلوا إلى المدينة المنورة سالمين، استقبلهم جموع الأنصار بالفرح والتهليل.
وقفت على المنصة في مدرسة حلوان، القاعة مليئة بالتلميذات والمدرسات والمدرسون جالسون في الصفوف الأمامية، تتوسطهم الناظرة والضيوف من وزارة المعارف، أنا واقفة مشدودة القامة مرفوعة الوجه نحو السماء، ألقي كلمتي بصوت أبي، يتهدج صوتي وأنا أنطق اسم الله تعالى، أحرك ذراعي في السماء وأنا أقول: معجزة من معجزات الله، أن يأتي العنكبوت في هذه اللحظة وينسج خيوطه فوق الباب! أضغط على مخارج الألفاظ والحروف، أمد كلمة العنكبوت من علامة التأكيد والإيمان المطلق بمعجزة الله، أحس الخفقان تحت ضلوعي والدموع تكاد تقطر من عيني. أسمع التصفيق يدوي في القاعة فأعيد المقطع عن العنكبوووووت بصوت أم كلثوم أو عبد الوهاب يغني أحد المواويل أو الشيخ محمد رفعت في الراديو يتلو القرآن باللحن البطيء الممطوط.
أصبحت لي سمعة طيبة في المدرسة، يشيرون إلي بالبنان، هذه هي التلميذة المثالية، تجمع بين العلم والإيمان، تتفوق في الكيمياء والفيزياء والبلاغة وفصاحة اللسان، تكتب النثر والشعر وتحفظ الأحاديث والقرآن.
هكذا ارتبط الأدب العربي في خيالي بالإسلام، بدأ الدين يدخل وجداني مع حبي للأدب، نسيت طفولتي، لا أعرف كيف تحولت من طفلة تشك في عدالة الله إلى فتاة رشيدة شديدة الإيمان، فقدت قدرتي الفطرية على اكتشاف التناقضات، وفي النوم لم يعد الله يتجسد أمامي بشكل آدمي أو غير آدمي، الشيطان أيضا غاب عن أحلامي، من تحت الوسادة يسري إلي صوت التصفيق الحاد يدوي في القاعة، فكاي ينفتحان عن آخرهما، أتثاءب، أشد قصة العنكبوت وأتشدق بمعجزات الله.
أفتح عيني في منتصف الليل أشعر بالإثم، أنهض إلى دورة المياه أتوضأ ثم أعود إلى العنبر على أطراف أصابعي، أفرش قطعة من ملابسي فوق البلاط كأنما هي سجادة صلاة، أتهجد لله ركعتين أو ثلاثا، أقرأ بصوت غير مسموع بعض الآيات من القرآن الكريم، كانت هي الآيات ذات الجرس الموسيقي كأنما قصيدة شعرية ذات وزن وقافية:
والنازعات غرقا * والناشطات نشطا * والسابحات سبحا * فالسابقات سبقا * فالمدبرات أمرا * يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة .
والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها * والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها .
إذا الشمس كورت * وإذا النجوم انكدرت * وإذا الجبال سيرت * وإذا العشار عطلت * وإذا الوحوش حشرت * وإذا البحار سجرت * وإذا النفوس زوجت * وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت .
كنت أتغنى بهذا المقطع الأخير كأنما أنشودة:
وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت . عيناي تدمعان وأنا أنطق كلمة الموءودة، كأنما أنا التي وئدت منذ ولدت.
كانت طفولتي في طريقها إلى الزوال الكامل، الفتاة المثالية الناضجة بدأت تسيطر على عقلي وجسدي، ذكريات الطفولة أصبحت كالإثم تستوجب الاستئصال من الذاكرة، شبح الحب الأول كأنما شبح شيطان أو الخطيئة الأولى، ثم طغى الإيمان الكامل على بقايا الشك، وبدأت أنحدر إلى اليقين بخطوة ثابتة تشبه خطوة أبي.
أصبحت المثل الأعلى للبنات في التقوى والصلاح، أواظب على الصلاة وصيام شهر رمضان العظيم، أنطق الكلمات بلغة عربية فصيحة، أدعم كلامي بآيات من كتاب الله الكريم أو أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام. •••
جاءت شهادتي «التوجيهية» ناجحة بامتياز، أردت أن أدخل كلية الآداب لأصبح أديبة، قال أبي أن كلية الآداب لا تخرج إلا الموظفين أو الكتبة وليس الأدباء، ثم ما مستقبل الأدباء يا نوال؟ يعيشون ويموتون فقراء مثل الشاعر الديب، يردد أبي بعض أبيات يسخر فيها الشاعر من فقره، ومنها ذلك البيت يقول فيه: وكأنني حائط كتبوا عليه: هنا يا أيها المزنوق طرطر! تضحك أمي وتقول: «آداب إيه يا نوال، دي الكلية اللي بيدخلها الطلبة الساقطين أو الواخدين درجات واطية، وانتي واخدة أعلى الدرجات، ادخلي كلية الطب، يمكن تبقى دكتورة مشهورة زي الدكتور علي إبراهيم، وكمان تعالجينا ببلاش!»
في أحلامي كنت أرى نفسي أديبة مثل طه حسين، فأنا أحب اللغة العربية، حروفها وكلماتها وجرسها الموسيقي في الأذن، كنت أؤمن أن الله وحده هو الذي خلق اللغة العربية، فضلها على غيرها من اللغات وأنزل بها القرآن. تصورت الإنجليزية صنعها البشر، لكن العربية لغة إلهية من صنع الله سبحانه وتعالى، والأمة العربية هي خير أمة خلقها الله. وأمشي في الشارع مرفوعة الرأس في زهو، أرمق الإنجليز من علياء، إنهم يتكلمون لغة بشرية وينتمون إلى أمة أدنى، لم يرد ذكرها في كتاب الله الكريم، في النوم تصحو الطفلة الخرساء تسألني بلا صوت: «يعني إذا كان ربنا بيحبنا أكثر من الإنجليز، ليه خلاهم بينتصروا علينا ويحتلونا، وهم اللي يكتشفوا قوة البخار والكهرباء والراديو واللاسلكي والطيارة والغواصة؟!»
ألفة الموت
دخلت كلية الطب خريف 1948م، السنة الأولى التي يسمونها الإعدادية، نتلقى المحاضرات في مبنى كلية العلوم في المبنى الرئيسي للجامعة.
كلمة «الجامعة» كان لها رنين ساحر في الآذان ... جامعة فؤاد الأول في الجيزة، القبة الضخمة والساعة المنتصبة في السماء تدوي بشكل مهيب تقشعر له الأبدان، لم يكن يدخلها إلا الرجال، ثم فتحت أبوابها أخيرا للنساء. في القاعات يجلس الطلبة إلى جوار الطالبات ... الدقات تتصاعد تحت ضلوعي لمجرد الفكرة ... أيمكن أن يكون هناك اختلاط بين البنات والجنس الآخر من الرجال؟! ثلاث كلمات تجعل الدم العذري يصعد إلى وجهي: الاختلاط، الجنس، الرجال.
لم يكن الاختلاط بين الجنسين مباحا إلا في مدارس رياض الأطفال وفي الجامعة، بينهما كان الاختلاط ممنوعا؛ أي في المدارس الابتدائية والثانوية، قضيت عشر سنوات في هذه المدارس (أربع سنوات في الابتدائية وست سنوات في الثانوية).
عضلة القلب تنتقض وأنا أمشي في الشارع قبل أن أدخل من الباب، كأنما سأقع في حب أول رجل ألتقي به في الجامعة، أشد عضلات وجهي وجسمي، أرسم فوق جبهتي تكشيرة وأمط شفتي. السابعة عشرة من عمري، ياه! سبعتاشر سنة؟! يرن الرقم في أذني ضخما، كأنما سبعون أو سبعمائة، منذ بلغت السابعة من عمري يقولون عني كبيرة، أكبر البنات ... جميع البنات في آل سعداوي وشكري بيه تزوجن وأصبحن أمهات قبل أن يبلغن السابعة عشرة من عمرهن.
كان لعمي الشيخ محمد ابنة من زوجته الأولى في كفر طحلة اسمها فوزية، كان يمكن أن تدخل الجامعة مثلي، لكنه زوجها من مدرس في قرية اسمها «بلتان» بجوار كفر طحلة، «الاختلاط في الجامعة فيه خطورة على البنت يا سيد أفندي.» يهمس عمي في أذن أبي بصوت كفحيح الشيطان ... تتصدى له أمي بصوتها العالي: «بنتنا نوال نرميها في النار ترجع سليمة، نوال غير كل البنات يا شيخ محمد.»
كلمات أمي تنتشلني عاليا فوق رءوس البنات كما كانت ذراعاها ترفعانني فوق أمواج البحر وأنا طفلة. منذ دخلت كلية الطب تناديني أمي بلقب الدكتورة، أبي يمنحني هذا اللقب أمام الضيوف فحسب، يمط عمي الشيخ بوزه في ضيق كأنما بيني وبينه ثأر قديم أو عداء موروث مجهول الأصل، لم يكن ينطق باسمي، يناديني بكلمة واحدة، هي: «يا بت!» ترن في أذني نابية، فلا أرد عليه، «أنا باكلمك يا بت ردي علي.» أعطيه ظهري كأنما هو غير موجود، «رايحة فين يا بت، تعالي هنا سمعي سورة البقرة، انتي حافظة القرآن ولا لأ ، كتاب ربنا أحسن لك يا بت من كتب الطب! القرآن جامع شامل لكل العلوم ... وانت يا واد يا طلعت، تعالى هنا جنبي سمع سورة البقرة!»
كان أخي طلعت أكثر جرأة مني، يرد على عمي الشيخ ساخرا: «أنا اسمي الأستاذ طلعت، الموسيقار الكبير.» ينتفض عمي الشيخ من فوق الكنبة كمن لسعته أفعى، تقفز العمامة البيضاء الكبيرة من فوق رأسه، يمسكها بيديه الاثنتين وهو يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، يهرول داخل قفطانه الواسع.
كانت له مشية تشبه زوجته في حي العنبري كالبطة المزقمة، جسمه قصير ممتلئ باللحم، له كرش مرتفع مثل امرأة حامل، ساقاه رفيعتان تتأرجحان ويجري وراء أخي: «تعالى هنا يا واد يا قليل الأدب!»
لم يكن يكسب في هذه المباراة إلا اللهاث، نسمع صوت الهواء يخرج من فمه وأنفه وربما أيضا أمعائه، كانت زوجته الثانية لا تكف عن إطعامه بالفتة والكوارع بالثوم ومحشي الكرنب، وكان أخي طلعت لا يكف عن الضحك ويسد أذنيه بأصابعه إذا رآه يدخل المرحاض.
لم يكن أخي طلعت يفعل هذه الأشياء إلا في غياب أبي، أمي تكون بعيدة عنا في المطبخ، تأتي إلينا حين يرتفع صوت عمي الشيخ وهو يؤنبنا نحن الاثنين، كنت أشارك أخي هذه الشقاوة الصغيرة، والتي كانت مصدر بعض المباهج الكبيرة في حياتنا.
كان عمي الشيخ محمد مختلفا كل الاختلاف عن أبي؛ ربما لأنه لم يكن ابن ستي الحاجة، ورث أبي عنها القامة الفارعة الممشوقة والذكاء الفطري، درس أبي وعمي معا في الأزهر، تخرجا معا، بقي عمي في الأزهر أستاذا أزهريا، لا يدرك من الإسلام إلا الحدود والقيود، اقتحم أبي دار العلوم ومدارس أخرى، بل علم نفسه اللغة الفرنسية، كان يمكن أن يكون وزيرا للمعارف لو دخل لعبة السياسة والأحزاب، إلا أنه ترفع عن النفاق أو الصعود إلى السلطات على حساب الكرامة وحرية الرأي.
لم يكن في بيت عمي الشيخ محمد مكتبة تضم كتبا أخرى غير القرآن والشريعة أو الكتب الدينية، في مكتبة أبي كانت هناك الروايات وقصائد الشعر والتراجم، وكتب متعددة في الأدب والنقد والفلسفة والتاريخ. كانت فوزية ابنة عمي الكبرى تحب المدرسة، تهمس لي حين نلتقي بأحلامها، كانت مثل زينب (ابن عمتي بهية) تحلم بأن تكون أستاذة كبيرة، أصبحت زوجة لأحد المدرسين في بلدة بلتان، وأنجبت عددا من الأولاد والبنات. أحيانا كنت أمر على بيتها في طريقي إلى كفر طحلة، وجهها الشاحب الحزين يذكرني بوجه أمها ، يبدو عليها الإعياء، أمامها وابور الجاز فوق الأرض، تقلب بالمغرفة داخل حلة كبيرة يتصاعد منها الدخان، ابنتها الكبرى إلى جوارها، ترمقني بعينين يكسوهما البريق: «أنا عاوزة يا ماما أطلع دكتورة زي خالتي نوال.» ترمقها أمها بنظرة صامتة، تمصمص شفتيها كأنها تتذكر حلمها القديم، ثم تخفي وجهها داخل الحلة فوق النار.
أخذتني ابنتها إلى الغرفة الصغيرة، رفعت مرتبة السرير وأخرجت كشكولا يشبه مفكرتي السرية وأنا في مثل عمرها، فتحة أصابعها الرفيعة الطويلة تشبه أصابعي، رأيت بين الأوراق فراشة بيضاء محنطة، وورقة صغيرة مطوية، فتحتها فرأيت قصاصة إحدى الصحف عليها صورتي، من تحتها مقال لي تحت عنوان: «المرأة إنسان له عقل.»
لمعت عيناها بالدموع وهمست في أذني: «نفسي أكتب زيك يا خالتي نوال.» إلا أن حلمها مثل أمها، اندثر وراح في العدم.
في العام 1948، العام الذي دخلت الجامعة، انتقل أبي من منوف إلى الجيزة، قدم شكوى إلى وزير المعارف، قال فيها: إن الترقية في الوزارة تعتمد على الوساطة أو القرابة لأصحاب النفوذ، إنه سوف ينشر الشكوى في صحف المعارضة.
كان للمعارضة ضد الحكومة بعض القوة، انتشرت بين الناس الشائعات عن فساد الملك والحكم، اشتدت وطأة الغلاء ومعه التذمر الشعبي، الحركة الوطنية أصبحت تجتذب أعدادا أكبر من الشباب وطلاب الجامعة، المظاهرات الوطنية تنفجر من حين إلى حين.
أصبح أبي مراقبا عاما للتعليم في محافظة الجيزة، استأجر بيتا من دور واحد تحوطه حديقة صغيرة، كان الحي جديدا هادئا في أول شارع الهرم يسمونه «العمرانية»، يطل على ترعة طويلة يسمونها «ترعة الزمر»، نمت على جانبيها الأشجار الباسقة، تخترق شارع الهرم من تحت كوبري صغير، لم يكن هناك عمارات عالية أو محلات تجارية ... لا نسمع ضجيج السيارات في شارع الهرم الصاعدة إلى الأوبرج وهضبة الأهرامات الثلاثة، أو الهابطة تحت نفق قطار الصعيد إلى ميدان الجيزة وكوبري عباس أو شارع الجامعة وحديقة الحيوان.
لم يكن لأمي أن تسكن في عمارة عالية أو شقة بدون حديقة، كانت تحب أن تفتح النافذة في الصباح فتدخل الشمس وترى الأشجار والخضرة ، أصبحت الخضرة ضرورية لها كالهواء والشمس، أبي تربى بين الزرع والحقول، يستشعر الحنين دائما إلى القرية ودار أمه المفتوحة على المساحات الخضراء.
كل يوم أمشي على قدمي من البيت إلى الجامعة، مسافة ساعة في الصباح الباكر ومثلها في العودة آخر النهار، تعودت المشي بخطوة واسعة سريعة، في قدمي حذاء جلدي أسود كعبه مربع متين مثل كعوب الرجال، في يدي حقيبة جلدية سوداء تشبه حقائب الأطباء، أرتدي تاييرا لونه رصاصي من الصوف الذي تصنع منه بدلة أبي، قامتي مشدودة طويلة أطول من زملائي في الكلية، رياضة المشي كل يوم أصبحت ضرورية، ينعشني الهواء البارد في الصباح الباكر.
أخرج من شارعنا الصغير إلى شارع ترعة الزمر، أسير حتى شارع الهرم، وأتجه يمينا نحو نفق القطار لأصعد منه إلى ميدان الجيزة، ثم أنحرف إلى اليسار لأدخل شارع الجامعة. كان شارعا مهيبا تظلله الأشجار الباسقة على الجانبين، وأشجار حديقة الحيوان الضخمة تطل من وراء السور الحجري العالي، يترامى إلى أذني صوت زئير الأسد أو زقزقة العصافير، في الناحية الأخرى كانت مدرسة السعيدية الثانوية التي دخلها أخي طلعت بعد مدرسة منوف.
كالبحر الضخم من الأجسام يغطون أرض الشارع والرصيفين، لا يمكن لسيارة أن تمر، كلهم ذكور، لم أكن ألمح طالبة مثلي إلا نادرا، أشعر بالغربة وسط هذا البحر من الرجال، يمضون في طريقهم بخطوة جادة، قد يهمس أحدهم في أذني: «صباح الخير يا جميل.» أمام باب كلية الزراعة كان ثلاثة من الطلاب ينتظرونني كل صباح.
يهتف واحد منهم حين يراني مقبلة في الشارع: «سامية جمال أهه!» مجموعة أخرى من الطلاب أمام باب كلية الهندسة، يطلقون علي اسم «إستر ويليامز»، سألت بعض زميلاتي في الكلية من هي «إستر ويليامز»، عرفت أنها بطلة فيلم اسمه «السابحات الفاتنات»، دخلت السينما، ورأيتها فوق السينما، ورأيتها فوق الشاشة، كانت طويلة رشيقة فامتلأت بالزهو. سامية جمال كانت راقصة ممشوقة القامة، لم أرها إلا على الشاشة، تذكرت أحلامي الطفولية حين رأيت نفسي راقصة رشيقة تطير في الجو وتمشي فوق الأثير.
كانت هناك أيضا تعليقات ساخرة، يتهكم بعض الطلبة من خطوتي الواسعة الطويلة أو قامتي الطويلة، اقترب مني طالب قصير وتطلع إلى رأسي العالي وقال ساخرا: «يا ترى الهوا عندك فوق حلو؟»
حين أعود إلى البيت أحكي لأمي وأبي ... كانا يضحكان كثيرا على النكتة ... أحيانا تتطلع أمي إلى رأسي وتسألني: «يا ترى الهوا عندك فوق حلو؟» لم تكن أمي طويلة القامة، ترتدي الحذاء ذا الكعب العالي وتظل قامتها أقصر مني، تشب على أطراف أصابعها وتقول: لو كنت طويلة زي نوال!
في الكلية ألمح العيون ترمقني، في أعماقي أدرك أن هناك شيئا يجذب العيون إلي، نوع مجهول من الجاذبية، ليس هو الجمال الأنثوي المألوف ... شيء آخر لا أعرفه، لكني أحسه وأدركه في الأعماق.
أصبحت لي صديقات بين الزميلات الجديدات، ومن زميلاتي القديمات في حلوان دخلت صفية معي كلية الطب، سامية دخلت الصيدلة، فاطمة دخلت الآداب، أصبحنا نجتمع في بوفيه كلية الآداب، الوحيد في الجامعة نرى فيه الطالبات جالسات، ربما لأن عددهن في كلية الآداب كان أكثر من الكليات الأخرى.
لم تكن التقاليد حينئذ تشجع البنات على دخول الكليات العلمية، مثل: الطب والهندسة أو العلوم البحتة. كلمة «العلم» في اللغة العربية مذكرة، لها رنين رجولي في الآذان، كلمة «الآداب» مؤنثة، تتشابه حروفها مع كلمة أخرى، هي «الأدب»، وهناك مثل شائع يقول: «الأدب فضلوه عن العلم.» وكأن «الأدب» بالمعنى الأخلاقي مطلوب من الإناث فحسب، أما الذكور فهناك مثل شائع يقول: «لا يعيب الرجل إلا جيبه.»
إحدى الصديقات الجدد اسمها «كاميليا»، اشتهرت باسم «بطة»، كانت تسكن في أول شارع الهرم بالقرب مني.
جسمها قصير ممتلئ على شكل مربع، وجهها كبير مربع تتوسطه عينان مربعتان واسعتان، تكحلهما بالقلم السميك الأسود، أو مسحوق الكحل الأكثر سوادا، بشرتها سمراء تغطيها بطبقة من مسحوق البودرة الأبيض، شفتاها ممتلئتان مربعتان أيضا، تصبغهما بقلم «الروج» الأحمر، ترتدي «جيب»، «جونلة» ضيقة قصير، تزداد ضيقا عند ركبتيها السمينتين، فلا يمكنها السير إلا بخطوة ضيقة بطيئة، تتعثر فوق الكعب العالي الرفيع.
كانت بطة نموذج الجمال الأنثوي ، صوتها رقيق، تقلب الحروف العربية الخشنة مثل الضاد والطاء إلى حروف أكثر رقة، الدال «بدل الضاد»، والتاء «بدل الطاء»، والسين «بدل الصاد»، وحرف الراء ينقلب إلى «غين» كما يفعل الفرنسيون، تقول عن صفية «سفية»، وكلمة الضلمة تصبح «دلمة»، والطب يصبح «التب»، وبكرة تصبح «بكغة».
أصبح لبطة الكثير من المعجبين، تقلدها الزميلات في تكحيل العين والتايير الضيق الأنيق، حتى «سامية» التي كانت في مدرسة حلوان شاحبة الوجه والشفتين أصبحت تلون وجهها وتكحل عينيها، قد تلوي قدميها فوق الكعب العالي أو يلتوي لسانها فتقول «بكغة» بدل «بكرة».
كان لبطة أيضا عم أو خال يحمل لقب «الباشا»، ومنصب في السراي، قد تظهر صورته في الصحف فتشمخ بأنفها المربع في السماء كأنما هي بنت الملك.
كانت الجامعة في تلك الفترة تموج بالمظاهرات الوطنية، داس الطلاب على صورة الملك، يخفق قلبي بالفرح حين أدخل من باب الجامعة فأرى الطلبة مجتمعين في الفناء، والهتاف يدوي: يسقط الإنجليز، يسقط الملك، أستعيد أحلام طفولتي عن سقوط النظام أو تغيير العالم.
لم تكن الطالبات يخرجن في المظاهرات إلا القليلات من كلية الآداب أو غيرها من الكليات النظرية، طالبات الطب والعلوم وطلبة الكليات العلمية كانوا أكثر اهتماما بالدراسة عن السياسة. «السياسة دي تهريج وكلام فارغ للطلبة الفاضيين في الآداب والحقوق.» كنت أسمع هذه العبارة تتردد على ألسنة أساتذة الطب والعلوم، لكن أبي كان يهتم بالسياسة، يقرأ صحف الحكومة والأحزاب المعارضة، لا يكف عن الحديث عن فساد الملك والحكم، عن الاحتلال الإنجليزي والاستعمار، «خير بلدنا رايح للأجانب وشوية الحرامية اللي ماسكين الحكم.» كان يسمي مصر مجتمع ال 2٪ يملكون كل شيء، وبقية الشعب يعاني الفقر والمرض والجهل ، والثالوث المزمن إياه يا نوال ليس له حل إلا تغيير النظام، وكيف يتغير النظام؟ الشعب اللي نايم ده لازم يصحى ويقوم ويثور يا نوال، كلمات أبي تجعل الضربات تحت ضلوعي تتصاعد، أحس بالدم يغلي في عروقي، فوران من الغضب المتراكم في صدري منذ الطفولة، ألست واحدة من هذا الشعب الذي يجب أن ينهض ويثور؟! في المظاهرات أجدني وسط الطلبة أهتف معهم بسقوط النظام، أدوس بقدمي على صورة الملك والباشوات والإنجليز، في عام 1948م عرفت عدوا اسمه دولة إسرائيل، وقضية وطنية جديدة اسمها تحرير فلسطين.
كانت السياسة عالما غامضا، لا أعرف عنه إلا القليل، أشارك في المظاهرات الطلابية باندفاعة حب الوطن، أعود إلى البيت منكوشة الشعر مبحوحة الصوت، أصابتني طوبة في الرأس كادت تقلع عيني اليسرى في إحدى المظاهرات.
بدأت أمي تحذرني: «بلاش تمشي في المظاهرات يا نوال، خطر عليكي.» أبي أيضا بدأ يحذرني ويتراجع عن أقواله السابقة: «مظاهرات إيه وكلام فارغ إيه، خليكي في الطب يا نوال، الدراسة عاوزة تفرغ كامل.»
إلا أن أبي لم يكف عن قراءة الصحف، في الصباح أو المساء، أراه جالسا في الصالة أو الفرندة يرشف القهوة مع دخان السيجارة مع الأخبار المنشورة في الصفحة الأولى من جريدة الأهرام، أمي إلى جواره ترشف قهوتها، تميل بنصفها الأعلى ناحيته، تلتقط بعينيها العناوين: حل جماعة الإخوان المسلمين ... مصرع النقراشي باشا، مصرع حسن البنا، صورة الملك فاروق داخل برواز كبير، فوق شغاف قلوب المصريين نقشت صورة صاحب الجلالة المفدى.
هذا الشعب المصري الوفي الأمين يشمله الفرح الكبير في العيد الملكي العظيم، ولا يملأ قلبه لصاحب الجلالة إلا الولاء والطاعة.
من غرفتي وأنا أراجع دروسي أسمع صوت أبي الغاضب: جرايد عاوزة الحرق! ولاء وطاعة إيه، يا صحفيين يا منافقين! الملك خلاص نهايته قربت، كفاية عليه صفقة الأسلحة الفاسدة وانهزام الجيش المصري في فلسطين!
فوق مكتبي كانت الكتب الجديدة وكشاكيل المحاضرات، في درج مكتبي كيس جلدي أسود به أدوات التشريح: مشرط صغير نشرح به الصراصير والضفادع.
كانت جريدة الأهرام قد استقرت في سلة المهملات تحت مكتبي، أمسك المشرط في يدي، مزقت به صورة الملك والحروف تحتها: «الطاعة والولاء!»
في قاموس اللغة في مكتبة أبي بحثت عن أصل هاتين الكلمتين، يرجع أصلهما إلى عهد العبودية، العبودية تعني الوطنية والولاء والطاعة. وفي أول 1890م نشرت جريدة الأهرام بمناسبة عيد ميلاد الخديو هذه الكلمات: «فوق شغاف قلوب المصريين نقشت حروف الحب والطاعة والولاء، هذا الشعب المصري الوفي الأمين يشمله الفرح الكبير في عيد ميلاد الخديو العظيم، إن مداد العبودية والطاعة والولاء تخطه يد الإخلاص، وتنقشه على قلب كل مصري وطني.»
كلمة الحب تعني العبودية، وكلمة العبودية تعني الإخلاص والطاعة والولاء، ومنذ عام 1890م حتى عام 1948م سقطت كلمة العبودية من قاموس الصحافة المصرية، كانت قوة العبيد تتصاعد وتهدد الحكم من خلال الحركة الوطنية، إلا أن جريدة الأهرام ظلت تحافظ على ما تسميه الموروث وإن كان الروث. إنها أحد أعمدة الحكم في مصر، أداة من أدوات قهر الشعب والعبيد، لم يكن لكلمة الطاعة أو الولاء أن تزول من قاموسها وإلا زالت الجريدة ذاتها، وهي تتخذ من صورة الأهرامات شعارها المطبوع في الصفحة الأولى، الهرم الأكبر في الجيزة، والأحجار التي حملها العبيد فوق ظهورهم لبناء مقبرة فرعون تكاد تشبه كتل الأوراق يحملها الصبية فوق ظهورهم كل صباح وهم يصيحون: الأهرام! الأهرام! ... خطبة الرئيس! ... خطبة الرئيس!
عام 1949م دخلت مبنى كلية الطب في شارع قصر العيني، أصبحت في سنة أولى مشرحة، كلمة «مشرحة» ترن في أذني ساحرة، أكثر سحرا من رنين الساعة أو قبة الجامعة الضخمة، خيالي يسرح قبل أن أدخل من الباب.
أيمكن أن أشرح جسد إنسان، أن أفتح بالمشرط تلك العضلة تحت الضلوع لا تكف عن الخفقان؟! أو الخلايا داخل الرأس لا تكف عن التساؤل واستعادة الصور في طفولتي؟!
في السنة الإعدادية لم أشرح إلا الضفادع أو الصراصير أو الخنافس، في حياتي منذ ولدت لم تقع عيناي على إنسان ميت، قشعريرة تزحف إلى جسدي بمجرد سماع الكلمة، أرمق من بعيد باب المشرحة، الضربات تحت ضلوعي تتصاعد، أنفاسي تضطرب، أيمكن أن ألتقي بالعفاريت أو الأرواح وجها لوجه؟ رائحة نفاذة تنفذ إلى أنفي، أهذه هي رائحة الموت؟!
كانت رغبة الاستطلاع أشد من الخوف، دخلت بقدمي إلى المشرحة، دخلت معي صفية وبطة، المناضد الرخامية مرصوصة في القاعة الواسعة، فوق كل منضدة جثة حولها ثمانية من الطلبة، طلبة السنة الأولى يطلق عليهم اسم «الجونيور»، طلبة السنة الثانية اسمهم «السينيور ».
أصبحنا ثماني طالبات نجلس حول منضدة واحدة، واحد من الطلبة «السينيور» جاء ليشرح لنا، كان هو التقليد المتبع داخل المشرحة، الطلبة القدامى يساعدون الطلبة الجدد، يتنافس الطلبة الجدد فيما بينهم على مساعدة الطالبات.
كنا نرتدي المعاطف البيضاء داخل المشرحة، نجلس على كراسي بدون ظهر، أربعة منا حول الجزء الأعلى للجثة أو الرأس والعنق ... الأربعة الأخريات حول النصف الأسفل أو الساقين.
في ركن المشرحة بالقرب من الباب كانت صناديق خشبية كبرة مملوءة بالفورمالين، يحفظ الجثث من العفونة، قبور من الخشب قابعة في الركن بجوار الحائط، يسبح فيها الموتى، داخل السائل ذي الرائحة النفاذة، يحرسهم فراش المشرحة «عم عثمان»، عيناه ضيقتان تلعمان كعيني الصقر، أصابع يديه مشققة من طول ما غمسها في الفورمالين، بشرته محروقة، وجهه أسمر شاحب ممصوص يشبه وجوه الفلاحين في قريتي.
كان عم عثمان يغلق الصناديق بالمفاتيح كأنما تحتوي كنوز الأرض، يقف أمامها منتفخ الأوداج كأنما هو سيدنا رضوان يحرس باب الجنة! لم يكن يبتسم إلا في وجوه الطلبة الأثرياء، ينفحه الواحد منهم ثلاثة جنيهات ثمن الجثة الواحدة، كان يسرق الجثث بالاتفاق مع الحانوتي، يشتري الثلاثة بخمسين قرشا، وفي الليل يتسلل إلى القبور يجمع عظام الموتى ثم يبيعها قطعة قطعة.
في الفناء أراه واقفا في الصباح الباكر داخل معطفه الأبيض المبقع بالفورمالين، أذناه منتصبتان تلتقطان أصوات النسوة يولولن وراء النعش الخارج من المستشفى، الجسد الميت لم يبرد بعد داخل التابوت الخشبي، يمشي عم عثمان في الجنازة حتى القبر، وأصبح يمتلك من الأموال والعمارات أكثر من الدكتور مورو باشا عميد الكلية، هكذا كان الطلبة يقولون.
حين أعود من المشرحة إلى البيت تصرخ أمي من الفزع كأنما أجلب في حقيبتي عفاريت الموت، تجعلني أخلع حقيبتي وحذائي خارج الباب، ملابسي كلها مع المعطف الأبيض مع أدوات التشريح تضعهما في الماء يغلي فوق النار.
في الأيام الأولى للمشرحة أصابتني الرجفة وأنا أقطع بالمشرط في اللحم الآدمي، توقفت عن أكل اللحوم بكل أنواعها، ما تقع عيني على قطعة لحم في سلطانية الشوربة حتى يصيبني الغثيان، كأنما هي ساق الميت تسبح داخل سائل الفورمالين.
كانت أمي تجهز لي وجبة غداء في علبة صغيرة أضعها في حقيبتي، ساندويتش من اللحم أو البيض لإمدادي بالبروتينات ... بعض الخضروات والفاكهة الغنية بالفيتامينات، كنت ألقي هذه العلبة بكل ما فيها إلى صفيحة القمامة، أقضي النهار كله في الكلية دون أن آكل شيئا، أشرب كوب الشاي بالنعناع أو الليمون، يعده لي «عم محمد» في غرفة الطالبات.
كنت أندهش حين أرى الطلبة «السينيور» يمسكون المشرط بيد، وفي اليد الأخرى ساندويتش يأكلون ويشرحون في الوقت ذاته، ثم راحت الدهشة وأصبح «الجينيور» يقلدون «السينيور». رأيت الزميلات يأكلن وهن يجلسن حول المنضدة من فوقها الجثة، وفي غرفة الطالبات أصبحت ألتهم ساندويتش اللحم الذي أعدته أمي، عادت لذة الأكل إلى ما كانت عليه، عادت أشد مما كانت، الشهية للحياة تشتد بجوار الموت كالضوء يتألق أكثر بجوار الظلمة.
أحد أساتذة الكلية كان قريبا لزميلتي بطة، من عائلة أمها أو أبيها، لم يكن «عم عثمان» يمنع عنها شيئا من الكنوز داخل الصناديق، أعطاها هيكلا عظميا كاملا بنصف الثمن، كانت تسكن في منزل دورين في أول شارع الهرم، في الدور السفلي نصبت أمها الهيكل العظمي فوق قوائم خشبية، كانت بطة تدعوني إلى بيتها لتراجع الدروس؛ فهي تشتري كل ما هو مطلوب من كتب أو جثث.
لم يكن في مقدوري أن أشتري من عم عثمان إلا بعض عظام اليدين والقدمين، مرتب أبي في الحكومة لم يكن صغيرا، لكنه ينفق على تسعة من الأولاد والبنات في المدارس، كان يمتلك قطعة أرض صغيرة في كفر طحلة، يبيعها جزءا جزءا لتسديد الديون، مصاريف كلية الطب كانت أغلى من غيرها، وثمن الكتب كان مرتفعا، الأسعار كلها تتضاعف مع ازدياد الغلاء. تأخرت في دفع المصاريف في السنة الإعدادي، في سنة أولى مشرحة تأخرت أيضا في الدفع، وصل إلى أبي خطاب من الكلية تطالبه بالدفع وإلا فسوف تضطر الكلية لفصل الطالبة كريمتكم.
ثم جاء اليوم الذي ناولني فيه أبي المظروف داخله القسط الأول من المصاريف، لمحت رعشة صغيرة في يده وهو يناولني المظروف، يقتطع من طعام إخوتي الصغار ليدفع ثمن تعليمي، يخرج في الصباح الباكر كل يوم، يشقى في العمل طوال النهار، يعود إلى البيت مرهقا منهوك القوى، أول كل شهر يناول أمي المرتب كله، تسدد ديون البقال والجزار والفكهاني والخضري والمخبز والصيدلية ولا يبقى إلا القليل، نعيش نصف أيام الشهر على ما تسميه أمي الشكك، نوتة صغيرة تدون فيها الديون يوما بيوم.
أول كل يوم تناولني أمي مصروفي لركوب الأتوبيس أو الترام إلى الكلية، كنت أمشي على قدمي وأعيد إليها المصروف، أو أدخره لأشتري بعض الكتب، أو بعض المفاصل أو العظام من عم عثمان.
كنت أشفق على أبي وأمي من العبء، أحاول التخفيف عنهما.
كانت أمي تشقى في العمل داخل البيت طوال النهار، تساعدها خادمة صغيرة تشبه سعدية، أقف إلى جوارها أمام الحوض لأساعدها في غسل الصحون، قد أمسح البيت كله في يوم إجازتي الجمعة، أو أعفي أمي من الطبخ أو إعداد المائدة أو أي عمل آخر في البيت.
كم كرهتها في طفولتي تلك الأعمال المتكررة الكئيبة، لا أنتهي من إعداد وجبة الفطور حتى تأتي وجبة الغداء، لا ينتهي الغداء حتى نبدأ في الإعداد لطعام العشاء، لا أكاد أنتهي من تنظيف الأرض حتى تغطى بالتراب، لا يفرغ الحوض من الصحون بعد الأكل حتى يمتلئ من جديد، كأنما هو صراع لا نهائي ضد دوران الأرض حول نفسها، أو حركة التراب في الكون، أو انقباضة عضلات المعدة أو الأمعاء داخل البطون.
ذلك اليوم ناولني أبي المظروف داخله القسط الأول من مصاريف الكلية، لمحت رعشت يده، وبصمات أصابعه فوق أوراق البنكنوت من رائحة عرقه، كان قلبي يئن وأنا أحمل المظروف في الشارع كأنما أحمل أبي بجسده الضخم داخل حقيبتي، أحمل الكرة الأرضية فوق رأسي وأمشي ... ربما نوع ما من تأنيب الضمير أو الإحساس بالذنب، أيجوع أخوتي الصغار ويصابون بالأنيميا أو فقر الدم لأصبح أنا طبيبة!
لم أحمل في حقيبتي هذا المبلغ الكبير من قبل ... خبأت المظروف داخل كشكول سميك داخل الحقيبة، أغلقت الحقيبة بالقفل، وضعتها تحت إبطي، أتلفت حولي في الشارع، العيون ترمقني بنظرة غريبة، كأنما هي كلها عيون لصوص، قادرة على اختراق الجلد واللحم، وأنوفهم أيضا قادرة على التقاط رائحة الفلوس.
لم أركب الترام أو الأتوبيس حيث يكون النشالون، أصابعهم خفيفة تنشل النقود في غمضة عين مثل أصابع الجان أو الأرواح الخفية، سرت على قدمي من الجيزة إلى شارع القصر العيني، دخلت إلى مبنى الإدارة في الكلية، وقفت أمام الموظف المختص باستلام المصاريف أو شئون الطلبة.
كان هناك طابور يتحرك ببطء شديد؛ فالموظف يترك مقعده ويغيب طويلا داخل مكتب آخر، لم يكن أيضا يحترم النظام، ما إن يقدم له الطالب كارت توصية حتى يأخذه قبل الآخرين الواقفين قبله، ما إن يدخل أستاذ في الكلية أو موظف كبير حتى ينتفض واقفا ويخرق نظام الطابور، لا أحد يعترض من الطلبة الواقفين، الكل يكتم الغضب. من خلفي سمعت طالبا يهمس في أذن زميله: «البوظان في الكلية زي البوظان في البلد كلها، نظام فاسد، والفلوس اللي بندفعها دي خسارة فيهم، لو كان عندي قريبة أو واسطة للباشا العميد كنت أخذت المجانية.»
رنت في أذني كلمة «المجانية»، سمعت عن شيء اسمه مجانية التفوق، كنت متفوقة والأولى في مدرستي، فلماذا لم أحصل على المجانية؟! البوظان أو الفساد لا يمكن أن يقف في طريقي لأحصل على حقي، الدم في عروقي يغلي وجسدي اندفع وحده خارج الطابور، سألت عن مكتب العميد، إنه رئيس الكلية، أكبر رأس بين الأساتذة لا يمكن الدخول إليه، بابه مغلق تعلوه لمبة حمراء، لا ينفتح إلا لكبار الأساتذة أو الوزراء والباشوات ، العميد في اجتماع مهم، قال لي مدير مكتبه، ثم سألني: معاكي كارت توصية؟! انفجرت بغضب: يعني لازم أجيب واسطة للعميد علشان أقابله؟
رمقني المدير بنظرة حانقة، كأنما أنا التي أخرق النظام أو القانون وليس هو ... سمعنا صوت الجرس يرن فوق رأسه، انتفض واقفا، أحكم إغلاق بدلته بالأزرار ثم أنطلق بخطوة سريعة وظهر منحن داخل غرفة العميد.
انغلق الباب وراءه، وقفت أحملق في الباب المسدود في وجهي تعلوه اللمبة الحمراء، حقيبتي تحت إبطي داخلها المظروف، رعشة يد أبي وبصمات أصابعه مرسومة بالعرق، بشرة إخوتي الصغار تعلوها بقع الأنيميا وفقر الدم، أصابع أمي حمراء ملتهبة بالصودا الكاوية والصابون، ليس معي كارت توصية، وليس لي قريب يحمل لقب الباشا.
وجدت جسدي يندفع نحو الباب بقوة الغضب والخوف والأمل واليأس ومشاعر أخرى متناقضة، تفاعلت معا داخل العضلة المنقبضة في صدري، وراء هذا الباب يقبع الموت أو الحياة سيان، لم يعد يهمني ما الذي يمكن أن يحدث ... مجانية التفوق أو الفصل النهائي من الكلية، كلاهما واحد، أصبح هدفي الوحيد هو فتح هذا الباب المسدود في وجهي بصرف النظر عن العواقب، تبدد الخوف والأمل واليأس والغضب وغيرها من المشاعر، لم أكن أشعر بشيء، نوع من التخدير الكامل لحواسي الخمس يسبق أي عمل شجاع وإن كان الارتماء تحت عجلات القطار أو الانتحار.
رأيت نفسي داخل غرفة كبيرة مهيبة كأنما دخلت قصر عابدين يوم المظاهرة الكبيرة عام 1946م؛ النجفة الضخمة والسجاجيد السميكة، الصور المذهبة فوق الجدران، المكتب الضخم من خشب الأبنوس الأسود تعلوه النقوش، من وراء المكتب يطل طربوش أحمر فاقع اللون، النصف الأعلى لبدلة سوداء وربطة عنق، عينان واسعتان سوداوان تحملقان في وجهي وتتسعان، فوق رأسه كانت صورة الملك فاروق داخل إطار ذهبي يرتدي ملابس الجيش والنياشين.
كان وحده في الغرفة، لا اجتماع مهما ولا أرى شيئا آخر، رمقت مدير مكتبه المرتجف أمامه، منعني من الدخول، لكن الموضوع مهم جدا. «دكتور»، كنت أظن أن لقب «دكتور» يناسب عميد كلية الطب، إلا أن مدير مكتبه همس في أذني قائلا: اسمه سعادة الباشا العميد، لم يكن في مقدوري أن أنطق هذه العبارة «سعادة الباشا»، كأنما في حروفها تكمن الإهانة أو العبودية، وما إن ينطقها لساني حتى يصاب بالشلل وأتحول من إنسان ناطق إلى حيوان أعجم.
وقفت أحملق في وجه العميد لا أعرف كيف أبدأ، جاءني صوته من وراء المكتب منخفضا مبحوحا، يشبه صوتي بعد الهتاف الطويل في المظاهرات: إيه الحكاية يا بنتي؟! كلمة «بنتي» مع لهجته الهادئة أضاف عليه لمسة من الأبوية.
تشجعت وقلت دفعة واحدة: «أنا أستحق مجانية التفوق يا دكتور، فيه طلبة أقل مني أخذوا المجانية علشان لهم واسطة»، رنت كلمة «واسطة» في الجو، فانتفض مدير المكتب وقال: سعادة الباشا العميد معاندوش حاجة اسمها واسطة، أرجوكي انتي دخلتي بدون إذن وسعادة الباشا العميد مشغول!
لم أتحرك من مكاني، لقد دخلت بقدمي وانتهى الأمر، علي أن أدافع عن نفسي حتى آخر رمق، اسمك إيه يا بنتي؟ صوته مليء بالطيبة، فلماذا يضع أمامه بابه ذلك المدير الشبيه بالضبع؟ تشجعت أكثر وقلت له اسمي واسم أبي.
أضفت بلهجة لا تخلو من الزهو أن أبي شارك في ثورة 19 وأنه من رجال التعليم في مصر، له تسعة من الأولاد والبنات كلهم في المدارس والجامعات، لا يفرق بين تعليم الولد والبنت، كأنما كنت أقف فوق منصة وألقي خطبة، رأيت العميد يبتسم: «وانتي نمرة كام في التسعة يا بنتي؟» «أنا نمرة اثنين، فيه أخ أكبر مني بسنة واحدة وأنا الثانية، لكن كنت دايما الأولى في المدرسة.»
لم يستغرق لقائي بالعميد أكثر من خمس دقائق، جعلني أكتب طلبا بالمجانية، أو أملأ إحدى استماراته، ثم أمسك قلمه الأحمر وكتب التأشيرة أسفل الورقة: «تمنح الطالبة المجانية الكاملة طوال سنين الدراسة بالكلية»، التوقيع: العميد د. مصطفى عمر.
لا أعرف كيف خرجت من مكتبه، أو كيف عدت إلى البيت، ربما خف جسمي فلم تعد قدماي تلامسان الأرض، كأنما أطير وأحلق في الجو، رغم التحليق ظلت حقيبتي تحت إبطي داخل المظروف، أحرك ذراعي وساقي في الهواء، أتعجل اللحظة وأنا أصل إلى البيت، أرسم وجه أبي أمامي، عيناه السوداوان تتسعان وتتسعان ويملؤها البريق، ويشتد ليغرق الكون كضوء الشمس.
كان أبي جالسا فوق الكنبة في الفرندا مرتديا البيجاما، عاد لتوه من الخارج، أمي في المطبخ تعد له فنجان شاي مع قطعة من فطيرة الذرة التي خبزتها في الفرن، رائحة فطيرة الذرة في أنفي حتى اليوم رغم مرور خمسة وأربعين عاما، صورة أبي محفورة في خيالي، عضلات وجهه متهدلة قليلا من الإرهاق، شحوب قليل ينم عن التعب أو القلق.
انحناءة خفيفة لكتفيه كأنما يحمل فوقهما العبء، لون البيجاما أبيض يميل إلى الزرقة قليلا بسبب الزهرة التي تضاف إلى ماء الغسيل، أزرارها من الصدف الأصفر حجم القرش، أحد الأزرار مفقود، والزر الأخير مكسور، سروال البيجاما متهدل قليلا.
لحظة محفورة في ذاكرتي بالتفاصيل ... حكيت لأبي ما حدث، بدت الحكاية خيالية من تأليفي، لم يصدقها حتى أخرجت المظروف من حقيبتي، فتحه بأصابع مرتعشة كأنما سيجده خاليا، حين وقعت عيناه على أوراق البنكنوت نهض واقفا، مد يده لي مصافحا: برافو يا نوال، برافو! جدعة والله! تعالي يا زينب شوفي بنتك عملت إيه!
يوم من أيام الفرح في بيتنا، ارتفعت مكانتي في عين أبي، أصبح يناديني بلقب دكتورة، حين تكون أمي متعبة ينهض في الصباح الباكر ليعد لي الشاي والفطور، أو يجهز لي علبة الغداء لآخذها معي إلى الكلية.
وأصبح في إمكاني أن أشتري بعض الكتب، وجمجمة كاملة باعها لي عم عثمان، وضعتها داخل حقيبتي الجلدية مع الكتب والكشاكيل، ما إن رأتها أمي حتى صرخت: «جايبة معاكي ميت ... يا نهار أسود.» وأغلقت علي غرفتي مع حقيبتي مع الميت، لم يكن لي أن أفتح الباب دون أن تخفي عينيها بيديها الاثنتين، كأنما عفريت الميت خرج إليها لحظة انفتاح الباب.
الحب والموت فوق منضدة واحدة
كانت أختي الصغرى ليلى تشاركني الغرفة، ما إن دخلت الجمجمة من فراش المشرحة حتى خرجت هي بسريرها ومكتبها الصغير.
لم يعد أحد من البيت يدخل غرفتي، أبيت طول الليل وحدي مع ذلك «الميت» المجهول، يطل رأسه من فوق المكتب بجوار سريري، عيناه حفرتان كبيرتان داخل عظام الجمجمة.
قبل أن تنام أمي تقرأ سورة يس، تطرد بها الروح الشريرة من البيت، لكن الحياة سرعان ما تغلبت، واكتسحت العادة الشيء غير العادي، أصبحت أمي تدخل غرفتي تنفض التراب عن كتبي وأوراقي، تمسح رأس الميت بالفوطة الصفراء، تدس طرف الفوطة داخل العين والأذنين والأنف والفم، تزيل عنها التراب، تنظر داخل البئرين العميقتين حيث كانت العينان، ثم تتنهد بصوت مسموع: «الدنيا فانية، والبني آدم آخرته التراب» ... سحابة شفافة من الحزن تكسو عينها، سرعان ما تنقشع وهي تنظر إلى عينيها السلبيتين يملؤهما ضوء الشمس تبدد سحب الصيف الرقيقة، أسمعها تضحك: «الدنيا ما تستاهلش إننا نزعل عليها أو نأخذها جد.» ضحكتها ترن في البيت، الضحكة الطفولية القديمة، كرنين الماء الرقراق داخل إناء من الفضة، تخلع جلباب البيت والشبشب، ترتدي فستانها الحريري الأصفر ذا الحمالات الرفيعة، يكشف عن كتفيها البيضاوين كالرخام، تجلس أمام المرآة «التواليت» تكحل عينيها، تمر بالفرشاة على خديها البارزتين، يصبح لهما لون الورد الأحمر، تضغط بإصبع الروج على شفتيها فتصبحان مثل ثمرتي الكريز وسط وجهها المستدير الأبيض بلون القمر، ترتدي في أذنيها الحلق الألماظ، طويل رفيع، فصوصه تلمع وتهتز مع اهتزازة رأسها، تطلق سراح شعرها الذهبي الناعم فوق كتفيها العاريتين، تحوط عنقها الرخامي الأبيض بالعقد لألماظ، تسميه «البانتانتيف»، ترتدي حول معصمها الأيمن الأسورة الذهبية ذات الفصوص الألماظ وتسميها «الشبكة» التي شبكها بها أبي في السنارة أو مصيدة الزواج، حول المعصم الأيسر ترتدي الساعة الرقيقة الحريمي ذات الفصوص الألماظ الصغيرة والأرقام الدقيقة غير المرئية بالعين المجردة، حول إصبعها الخاتم «السوليتير» له فص كبير من الماس، والخاتم الذهبي الرفيع منقوش عليه من الداخل اسم أبي.
قدماها الصغيرتان البضتان تتقوسان داخل الحذاء ذي الكعب العالي الرفيع، تتمشى فوقه من غرفة إلى غرفة، ثم تستقر في النهاية داخل المقعد في الفرندة وتطل على السماء وأطراف الأشجار من بعيد، تصنع لنفسها كوبا من عصير البرتقال أو الليمون، تعود إلى مقعدها في الفرندة، ترشف العصير على مهل، تتأجج عيناها بالنشوة كأنما هي ترشف الخمر، أذناها مرهفتان تنتظران صوت جرس الباب، تحفظ الطريقة التي يدق بها أبي الباب، تعرف موعد عودته إلى البيت بالدقة، كان مثل الساعة شديد الانضباط، لم يكن في حياته إلا وظيفة الحكومة، وزوجة واحدة هي أمي، وتسعة من العيال.
في الفرندة كنت أراهما «أبي وأمي» جالسين معا يرشفان عصير البرتقال أو الليمون ويسكران ... تنطلق ضحكاتهما في أنحاء البيت إلى حد القهقهة العالية. قد يلعبان معا الكوتشينة أو الطاولة، تنهزم أمي دائما وتنتفخ أوداج أبي مثل الديك الرومي أو الطاووس، يمد ساقيه ويسترجع ذكريات البطولة، ثورة 19 أول هذه الذكريات، ثم نجاحه بامتياز في كلية دار العلوم، وأخيرا انتصاره في الزواج من أمي رغم عراقيل أبيها شكري بيه. تضحك أمي وتلقي بشعرها الذهبي الناعم خلف عنقها الرخامي: «فاكر يا سيد لما المرحوم بابا قالك نجوزك فهيمة بدل زينب، وقلت له يا زينب يا بلاش.» تضحك أمي وتكركر، ضحكتها المتقطعة كالماء المقطر داخل قلة من الفخار الرقيق: «لكن اشمعنى يعني زينب، هو انت كنت شفت شكلي إيه؟!» تتأجج عينا أبي، تشتعلان بالبريق وهو يرمق استدارات الجسد الأنثوي الناعم إلى جواره: «يعني كنت حاشوفك فين يا زينب، لكن أمي الحاجة مبروكة وصفتك لي حتة حتة، والأذن تعشق قبل العين أحيانا.»
هنا يبلغ العشق ذروته، فينهض أبي ومعه أمي يختفيان داخل غرفة نومهما، من وراء الباب المغلق أسمع الهمسات مع طقطقات السرير النحاسي مع القهقهات والشهقات والزفرات كالنشيج والضحك في آن واحد. •••
أمام غرفة الطالبات كانت حديقة صغيرة جرداء إلا من شجرة كافور كبيرة، أجلس تحتها أشرب الشاي بالنعناع ... مبنى كلية الصيدلة ملاصق لنا، تأتي سامية وصفية، ونستعيد الذكريات القديمة، قد تشاركنا «بطة» وغيرها من زميلات الطب أو الصيدلة، نرشف الشاي بالنعناع أو القهوة باللبن ونحكي الحكايات. قصص الحب في المشرحة كانت أكثر منها في الصيدلة، الزملاء السينيور يقعون في غرام الطالبات الجونيور، من فوق الجثث تتلاقى العيون وتقفز القلوب ... تشتد الخفقات تحت الضلوع، يجتمع الحب والموت فوق منضدة واحدة كأنما هما توءمان، أمهما واحدة وأبوهما على طرفي نقيض، غريمان مجهولان متنافسان، لا شيء يجمعهما إلا تلك الأم الواحدة.
فوق منضدة التشريح تتقارب رءوس الزميلات، لا يكف الهمس والهسيس، الشهقات المتقطعة المكتومة والقفشات، بطة تحكي آخر نكتة، نموت من الضحك، الزملاء يموتون من الغيظ أو ربما الإعجاب، تأتي الرسائل داخل الكشاكيل أو بين طيات كتاب «كانينجهام»، رسائل معطرة بالحب والفورمالين، كان الزملاء يستعيرون كشاكيل المحاضرات من الزميلات، يقترب الزميل من الزميلة بخطوات متعثرة، خجول، والدم يتصاعد إلى وجهه كالعذراوات: «محاضرة الدكتور البطراوي فاتتني يا زميلة، يا ترى أقدر استلف الكشكول بتاعك؟!» «أيوة يا زميل.» «متشكر أوي يا زميلة.» ثم يأتي طالب آخر تقع عينه على واحدة أخرى من الزميلات: «أنا نسيت (كانينجهام) في البيت، يا ترى أقدر استلف كتابك يا دكتورة؟» «أيوة يا دكتور»، «متشكر خالص يا دكتورة.»
منذ دخلنا المشرحة ونحن نتبادل لقب دكتور ودكتورة والكشاكيل والكتب، ما إن يعود إلى الواحدة منا كتابها أو كشكولها حتى تخفيه تحت الجثة أو فوق ركبتها تحت المنضدة، تفتحه خلسة بعيدا عن العيون، تخفي الرسالة في جيبها أو حقيبتها، تخرجها من حين إلى حين تتشممها: «الله على ريحة الفورمالين يا زميلات!» تنطلق الشهقات المكتومة والقفشات، وتتأجج العيون بغريزة الاستطلاع.
أحد الزملاء السينيور كان يتردد على منضدتنا كثيرا، يمسك المشرط بين أطراف أصابعه مقلدا أستاذ التشريح، ويشرح لنا: «لا يا زميلة، انتي ماسكة المشرط غلط، مش كدة التشريح، هاتي أوريكي!» ... «لا يا دكتورة! مش كدة تمسكي الملقاط، ده ملقاط مشرحة مش حواجب لا مؤاخذة!»
تكتم البنات الضحك، يرمق الزميل السنيور بطرف عين تلك التي جاء من أجلها، يتفادى النظر إليها مباشرة كأنما هي غير موجودة ... إلا أننا كنا نعرف، فالحب وإن اختفى لا يختفي، وهو لا يكف عن الشرح لنا، لا يفارق منضدتنا، «خلاص فهمنا يا دكتور.» يحمل مشرطه ويعود إلى منضدته، تحوم عيناه من بعيد ... تدوران في المشرحة حول الوجوه، تستقر في النهاية عند منضدة الزميلات.
تلكزني بطة في كتفي: «شايفة الواد السينيور اللي هناك ده؟» «أيوة ماله؟» «عينه على البت صفية.» «حرام عليكي يا بطة، ده ولد طيب.» «قصدك أهبل.» «مش قصدي.» «على العموم الهبل هم اللي بيقعوا في الحب يا نوال، والطلبة الواعيين زي القرود، عينهم على خمسة عين!» «خمسة عين يعني إيه يا بطة؟» «يعني عيادة وعربية وعزبة وعمارة وعروسة.»
تشهق بطة بالضحك: «طبعا يا نوال، العروسة دي آخر حاجة، بعد ما يحوش الفلوس من العمارة والعيادة، يروح يخطبها من أبوها الباشا ويجوزها على طول، لا حب ولا يحزنون!» •••
عام 1951م انتقلت إلى سنة ثانية مشرحة بدون امتحانات، سيكون الامتحان الصعب آخر هذا العام، يشمل العلوم كلها التي درسناها في عامين اثنين ومنها التشريح، أكبر مدرج «علي باشا إبراهيم» يتسع لمئات الطلبة، نتلقى فيه المحاضرات وتعقد فيه الندوات والاجتماعات الكبيرة أو الاحتفالات. كنت أشارك الطلبة في هذه الأنشطة خارج نطاق الطب، أخرج معهم في المظاهرات، نهتف ضد الملك والإنجليز، في عيد الهجرة النبوية يدعوني زعيم الطلبة من الإخوان المسلمين لإلقاء كلمة، وفي الاحتفال بإلغاء معاهدة 36 يدعوني زعيم الطلبة الوفديين للمشاركة بإحدى الخطب ... في عيد العمال يأتي إلي زعيم الطلبة الشيوعيين ويطلب مني مقالا لمجلة اسمها «الجميع»، في الندوات الثقافية أو الفنية أتلقى الدعوة للمشاركة بقصة قصيرة أو قطعة أدبية.
كنت الطالبة الوحيدة في الكلية التي تلقي الخطب في المناسبات، وتكتب القصص والمقالات، كان طلبة الطب كغيرهم من طلاب الجامعة يصدرون المجلات، وكنت أحب الأدب والفن أكثر من الطب، لم أتوقف منذ المدرسة الثانوية عن كتابة القصص وتسجيل خواطري في مفكرتي السرية، في أحلامي لا أرى نفسي طبيبة، وإنما كاتبة أديبة، ترمقني الزميلات بنظرات ساخرة: «أديبة إيه وكلام فارغ إيه، هو الأدب في بلدنا يوكل عيش يا نوال؟!»
أغلب زعماء الطلبة كانوا في السنة النهائية أو الخامسة ... ننظر إليهم ونحن في المشرحة كأنما هم عمالقة، كانت السنة النهائية في الطب تبدو لنا بعيدة أبعد من نجوم السماء، من هؤلاء الطلبة كان هناك اثنان يصدران مجلة اسمها «طلبة القصر العيني»، أحدهما طويل القامة نحيل الجسم اسمه «كمال كشميري»، والثاني قصير مربع اسمه «أحمد يونس» ... يسيران في الفناء معا لا يفترقان، كالتوءمين، يدخلان إلى المشرحة معا، يتجهان إلى منضدة الطالبات حيث أكون: «يا زميلة نوال، عاوزين منك مقال للعدد الجاي أو قصة قصيرة.»
أول مرة أرى حروف اسمي مطبوعة كان في هذه المجلة، حملقت في الحروف السوداء المنقوشة فوق الورق الأبيض ، كأنما هي منقوشة فوق وجه القمر أو قرص الشمس، محفورة بالرصاص في السماء، راسخة في الكون مثل الكواكب والأفلاك.
كلما أرى واحدا من الطلبة ممسكا بالمجلة أتصور أنه لا يقرأ فيها إلا مقالي، كان بعنوان «طلبة الطب كما أراهم»، ضحك أبي كثيرا حين قرأ المقال: «عندك ملاحظة دقيقة يا نوال، ووصفك للتفاصيل مدهش!» كيف وصفت الطلبة؟! لا أذكر، لكن المناخ العام في كلية الطب لم يكن يروقني، أكثر الطلبة من النوع الصمام، يحفظون المحاضرات عن ظهر قلب، يتنافسون في الدخول من باب المدرج، يدوسون على أقدام الزميلات، يحجزون مقاعد الصفوف الأمامية أمام السبورة، ينكفئون فوق الكشاكيل يكتبون كل كلمة تسقط من فم الأستاذ.
في نهاية العام تصبح عيونهم حمراء، تتورم جفونهم، تشحب وجوههم، تتقوس ظهورهم وهم يسرعون من مدرج إلى مدرج، أنفاسهم تلهث، أفواههم مفتوحة، ولا شيء يلوح لهم إلا شبح الامتحان، وصفت أيضا بعض زعماء الطلبة من الأحزاب المختلفة.
كان زعيم الإخوان قصيرا ممتلئ الجسم أبيض البشرة، له رأس مربع يشبه رأس أبي الهول، وصوت جهوري، يقف على المنصة ويلقي خطبة طويلة في عيد الهجرة النبوية، يحكي قصة العنكبوت التي كنت أحكيها وأنا تلميذة في حلوان الثانوية، يضرب بقبضة يده على منضدة المنصة، يحرك ذراعيه في الهواء، يسبل جفونه، يبربش، يبلل شفته السفلى بطرف لسانه، يرفع عينيه نحو السقف، يتسرب الطلبة من المدرج دون أن يشعر بهم، يواصل الخطبة دون أن يسمعه أحد كأنما يكلم نفسه أو يخاطب السماء.
زعيم الوفديين كان طويلا نحيفا مقوس الظهر أسمر الوجه ... يقفز فوق المنصة، يخطف الميكرفون من الزعماء الآخرين ويهتف بصوت عال: «يحيا النحاس باشا.» لا أحد يرد عليه ... ينسحب أحد الطلبة من لسانه: «مش عاوزين هتاف وخطب، عاوزين كلام يدخل العقل.»
يتقدم نحو المنصة زعيم الطلبة في الحزب الوطني، طبيب امتياز يرتدي بدلة أنيقة، طويل ممشوق مرفوع الظهر، يمشي فوق المنصة كالطاووس ... يمسك الميكرفون بيد واحدة ... وفجأة يدوي صوته الجهوري في المدرج ... كان اسمه فؤاد محي الدين، أصبح رئيسا للوزارة في عهد السادات، ثم مات فجأة منكفئا فوق وجهه في مكتبه. يتبعه في إلقاء الخطب زميل له اسمه إبراهيم الشبيني، قامته أقل طولا، بدلته أقل أناقة، لكن صوته ليس أقل ارتفاعا، تعرفت عليه أكثر حين جمعنا مكتب واحد في وزارة الصحة.
إحدى المجلات في الكلية كان اسمها «الجميع»، كان يصدرها طالب في نهائي طب معروف بأنه شيوعي، يمشي في الفناء بخطوة واسعة سريعة، رأسه منكفئ قليلا إلى الأمام كأنما ينطح أحدا، يحرك ذراعيه بقوة في الهواء، يدخل إلى المشرحة ويتجه مباشرة إلى منضدة الطالبات، يتكلم بلغة عربية فصحى ويضغط على مخارج الألفاظ: «يا زميلة يا نوال، أنا أجمع كفاءات الكلية في مجلة «الجميع»، وأريد منك قصة أو مقالا عن المظاهرة الأخيرة، أنا اسمي يوسف.»
رن اسمه في أذن الزميلات يسري، ربما ضاع حرف الفاء الأخير من كلمة يوسف في الضجة خارج المشرحة، كانت هناك مظاهرة تتجمع في الفناء، لم تكن المظاهرات تكف منذ إلغاء المعاهدة في أكتوبر 1951م حتى حريق القاهرة في يناير 1952م.
لم تكن زميلاتي يشتركن معي في المظاهرات، يشعرون بالنفور من كلمة السياسة والأحزاب، أكثر ما يفزعهن هو دخول ذلك الشيوعي إلى المشرحة واقترابه من منضدتنا، ما إن يرونه حتى يهتفن في نفس واحد: يسري الشيوعي جاي أهوه يا نوال! يا دي المصيبة! وتنتفض صفية فوق مقعدها، تذكر أخاها الأكبر: «اسمعي يا نوال، مش عاوزين شبهة هنا كمان، أنا مش ناقصة مشاكل.» وتقول «بطة» وهي تمط شفتيها باشمئزاز: «وكمان له تبريئة كأنه قاتل واحدة.» وتنفجر الزميلات في الضحك: «صحيح والله، عليه بصة مخيفة زي أتال الأتلا .»
في إحدى المرات سألته بطة قائلة: «انت شيوعي بسحيح (بصحيح) يا يسري؟!» تركزت عيناه اللامعتان في عينيها وقال: «أنا بسحيح اسمي يوسف مش يسري»، وضحكت الزميلات، وعرفنا أنه رئيس تحرير مجلة «الجميع»، واسمه يوسف إدريس، وقد أصبح هذا الاسم فيما بعد من الأسماء اللامعة بين الأدباء في مصر.
لم أكن أفهم ماذا تعني كلمة الشيوعية، هي والإلحاد والكفر والفساد والانحلال كانت مضمومة في أذهان الزميلات داخل سلسلة واحدة ... سامية كانت صديقتي الأولى الشيوعية، تجلس معنا في غرفة الطالبات صامتة، شفتاها لا تنفرجان عن ابتسامة، تنفجر البنات بالضحك وهي جادة رصينة لا تضحك، تحكي الزميلات عن قصص الحب، عن رسائل الغرام داخل الكشاكيل، تمط سامية شفتيها كما كانت تفعل في مدرسة حلوان وتقول: «الواقع يا بنات إن البلد في أزمة وانتم مشغولين بالكلام الفارغ!» لم تكن سامية تعترف بوجود شيء اسمه «الحب»، ده شغل عيال يا نوال ... دي رومانتيكية فاضية ... دي مراهقة طفولية برجوازية، اسمعي يا نوال، لازم أحكي لك عن «ماركس» شوية.
أول مرة أسمع فيها عن اسم «ماركس»، رن في أذني يشبه اسم «مركس» أو «مرقس» (حين تنطقه بطة)، الحبيب الأول لصفية وهي في حلوان الثانوية ... تصورت أن سامية قد وقعت (مثل صفية) في حب رجل قبطي، إلا أن سامية ضحكت، لأول مرة في حياتي أراها تضحك، وقالت: «ده شيوعي مش قبطي يا نوال»، «يا نهار أسود يا سامية، ده القبطي أحسن، على الأقل من أهل الكتاب، لكن الشيوعي ملحد وكافر.»
كانت هناك مجلة أخرى في الكلية اسمها «شعلة التحرير»، يصدرها طالب في سنة رابعة أو خامسة اسمه أحمد حلمي، لم يكن يدخل المشرحة أو يقترب من الطالبات، كان أحد زعماء الكلية، يتكلم في المناسبات الوطنية بصوت هادئ، ينصت إليه الطلبة باهتمام أكثر، يخفي عينيه وراء نظارة شمس، سمعنا أنه أحد الفدائيين في قناة السويس، يختلف عن الطلبة الآخرين في كل شيء، لا نراه في الكلية إلا نادرا، تحوطه هالة من الغموض.
كان لبعض الأساتذة في الكلية اهتمامات وأنشطة أخرى خارج الطب؛ منهم الدكتور «سعيد عبده» أستاذ الصحة العامة، كان يكتب في الصحف عمودا تحت عنوان «خدعوك فقالوا»، وكان يحب الأدب والشعر مثل الدكتور إبراهيم ناجي الذي مات قبل أن أتعرف عليه. أستاذ الكيمياء الحيوية «البيوكميستري» كان اسمه الدكتور «شفيق الريدي»، يحضر أحيانا الحفلات الثقافية والغنائية، يجلس في الصف الأول مع الأساتذة. أحد الطلبة كان يهوى الموسيقى والغناء اسمه «حسونة»، سمين مربع الجسم ، يعزف العود فوق المنصة، ويغني: «يا ريدي البس نضارة! خبي عينك السحارة! يا ريدي آه يا ريدي!»
كان للدكتور الريدي عينان مشهورتان في الكلية، لونهما أخضر أو أزرق، يكسوهما البريق ... تنجذب إليهما عيون الطلبة والطالبات، يتمشى كالطاووس في الفناء، يركب سيارته الطويلة الفاخرة، ترمقه عيون البنات من نوافذ المشرحة، تشهق بطة: «يختي عليه وعلى حلاوته» ... تردد الأخريات في نفس واحد: «قمر والله.» «يا أرض اتهدي ما عليكي أدي.»
لم أكن أنجذب إلى هذا النوع من الوسامة في الرجال، أواصل التشريح دون أن أرفع عيني نحو الفناء، تشد «بطة» المشرط من يدي وتقول: «بصي يا نوال متعي عينك قبل ما نموت ونبقى زي الجثة دي!» «هاتي المشرط يا بطة بلاش مسخرة والامتحان قرب.» «امتحان إيه وزفت إيه، أنا عاوزة عريس زي الريدي يا بلاش، بصي على العربية بتاعته! تجنن! دي كاديلاك دي ولا إيه يا نوال؟!» «أنا ماعرفش في العربيات، هاتي المشرط!» «أمال تعرفي في إيه يا فالحة؟! في المظاهرات وتحرير الوطن! أنا عاوزة أتجوز! يا ريدي آه يا ريدي.» وتنفجر البنات بالضحك المكتوم.
اسمها الحقيقي كاميليا، ينادونها بطة، وهي تشبه البطة، قصيرة سمينة مربعة الجسم، تتأرجح في مشيتها فوق الكعب العالي الرفيع، تكركر بالضحك بصوت الدواجن، صوتها يسرسع إذا ارتفع مثل الجرس، شفتاها ممتلئتان باللحم، تصبغهما بالروج الأحمر، يداها صغيرتان بضتان ناعمتان، أظافرها طويلة مدببة كالمخالب، مطلية باللون الأحمر.
لم تمسك بطة المشرط في يدها طوال العامين في المشرحة ... تخاف على أناملها الرقيقة من الفورمالين، كان من السوائل الحارقة، يشقق الجلد ويطفئ لمعة الأظافر، لم تقبل واحدة من الزميلات على الإمساك بالمشرط، يكتفين بالجلوس والفرجة على التشريح أو القراءة من كانينجهام مع النظر إلى صور الكتاب.
كان الدكتور البطراوي يمر علينا في المشرحة، له قامة طويلة فارعة تشبه قامة أبي، شعره أشيب، جبهته عريضة، لصوته بحة تنجذب إليها الأذن، يميل إلى الفكاهة والسخرية، يراني واقفة في يدي المشرط والزميلات جالسات حول المنضدة: «مافيش واحدة منكم عاوزة تمسك المشرط؟ طبعا خايفين على صوابعكم الناعمة! حتبقوا دكاترة إزاي يا هوانم؟!»
يضحك الدكتور البطراوي بصوته العالي يملأ المشرحة بجو من المرح، يرمقني بنظرة تشبه نظرة أبي: «براڤو يا بنتي، انتي اللي فيهم، وريني عاملة إيه؟ عال عال! براڤو، لكن واحدة من القوارير دي لازم تساعدك!»
تنكمش الزميلات كالدجاجات فوق مقاعدهن، يغطين أفواههن بأيديهن، ويكركرن بالضحك المكتوم، يضحك الدكتور البطراوي رافعا قدمه فوق المقاعد الخالية: «مش كدة ولا إيه يا ست بطة؟» تتشجع «بطة» وتفتح فمها قائلة: «رفكا بالكوارير يا دكتور!» تتحول ضحكة الدكتور الأستاذ إلى قهقهة عالية، وتتجه عيون الطلبة إلى منضدة الطالبات: «رفكا بالكوارير دي إيه يا بطة هانم، مش عارفة تنطقي حرف «القاف» وتقولي «القوارير»، أمال حتطلعي دكتورة إزاي وتكلمي العيانين الفلاحين، واللا الصعايدة اللي يجولوا الجوارير، ولا إيه رأيك يا دكتور عمرو؟!»
إلى جواره كان الدكتور عمرو «المدرس أو التيوتر»، يقف مشدودا مثل الجندي في حضرة الضابط، ذراعاه معقودتان حول صدره، يهز رأسه موافقا على أي كلمة تخرج من فم الأستاذ ... لكن ما إن يختفي الدكتور البطراوي حتى يفرد الدكتور عمرو ذراعيه وساقيه، يتمشى في المشرحة مثل الطاووس، يقلد الأستاذ في طريقة المشي والكلام، يضحك بصوته العالي ويطلق على الطالبات اسم القوارير، يمتلك سيارة طويلة تشبه سيارة الدكتور الريدي، ليس في رأسه شعرات بيض وليس في إصبعه خاتم زواج أو خطوبة، ترمقه بطة بعينيها السوداوين المكحلتين: «آهه، ده العريس المناسب مش التلبة (الطلبة)، دول شوية العيال، مفيش فيهم إلا «هشام موغو» (مورو)!»
كان زميلنا في المشرحة يجلس إلى المنضدة المجاورة لنا، أبوه مورو باشا، أصبح عميد الكلية، أبيض البشرة، متورد الوجه، طويل، ممشوق، بدلته أنيقة، لا يرتدي معطف المشرحة الأبيض، لا يظهر إلا نادرا، لا يحضر المحاضرات، لا يشترك في المظاهرات، لا يمسك بين أصابعه القلم أو المشرط ... يداه ناعمتان، يحرك بينهما سلسلة ذهبية تتدلى منها مفاتيح السيارة، ما إن تلمحه بطة حتى تشد المشرط من يدي: «كفاية تشريح يا فالحة! فاكرة نفسك حتطلعي الأولى علينا! لا يا عزيزتي! إحنا هنا في كلية الطب، وإذا كان أبوكي العميد أو واحد من الأساتذة الكبار تطلعي الأولى علطول من غير ما تتعبي عينيكي في قراية كانينجهام، ولا توسخي إيدك في الزفت الفورمالين!»
كانت بطة تعرف أشياء لا نعرفها، أحد أقرباء أمها أو أبيها كان أستاذا في الكلية، تطلق عليه اسم «أونكل محمود»، ربما كان ابن عم خالة أمها، لكنها تتحدث عنه كأنه أبوها.
حول منضدة التشريح يدور الحديث بين الزميلات حول شجرة العائلة وفروعها في أقسام الكلية، ثم ينتقل الحديث إلى الخطوبة والزواج، واحدة منهن خطبها أحد المدرسين في الكلية، تفتح حقيبتها وتخرج الشبكة لتفرج عليها البنات، تقرصها بطة في ذراعها أو فخذها: «عشان يبقى الدور الجاي علي أنا، وطبعا جهاز العروسة من بونترمولي (تنطقه بونتغمولي) في شارع سليمان باشا.» وينتقل الحديث من الشبكة إلى جهاز العروس، ثم إلى الأزياء والمودات الحديثة، وماركات السيارات الأخيرة، وأنواع الأحذية والكعوب، ابتداء من الدبابة الخشبية العالية إلى الكعب الرفيع المدبب من الفضة أو الألومونيوم، وأقلام الروج من الأحمر الفاتح (ناتوريل) إلى الأحمر الداكن بلون الدم الأزرق.
كانت صفية أقرب الزميلات إلي، لا تصبغ شفتيها ولا ترتدي الكعب العالي، تشاركني رياضة التنس أو البنج بونج يوم الخميس من كل أسبوع، تجتاز الكوبري الصغير فوق فرع النيل بين القصر العيني القديم والقصر العيني الجديد (مستشفى المنيل الجامعي)، ندخل إلى الفناء الواسع، به أشجار وأحواض زهور، ترتفع الساعة (تشبه ساعة الجامعة في الجيزة) فوق السلالم الرخامية عند مدخل الإدارة، ملاعب الكلية على اليسار تحتل مساحة خضراء كبيرة، يحوطها سور حجري عال، نرتدي الأحذية الكاوتش في غرفة صغيرة، لم تكن التقاليد تسمح للبنات بارتداء الشورت القصير الذي يكشف عن الفخذين، الجونلة البيضاء ذات الكشاكيش أو الشورت الطويل يغطي الركبتين.
كان يشاركنا اللعب الطلبة، منهم زميل لنا في المشرحة اسمه حسين كامل بهاء الدين، شعره أسود ناعم يفرق على جنب، يمشي مطرق الرأس، ينظر إلى الأرض، أطلقت عليه صفية اسم التلميذ المؤدب، لا يتكلم ولا يشارك في المظاهرات أو الاجتماعات السياسية، لكنه أصبح فيما بعد من رجال السياسة مع علي صبري في عهد جمال عبد الناصر، ثم وزيرا للتعليم في عهد مبارك.
زميل آخر لنا اسمه أحمد المنيسي، كان يشاركني الطاولة الخشبية في معمل الكيمياء الحيوية «البيوكميستري»، نتبادل زجاجات الأحماض وأنابيب الاختبار، أصابعه وهو يمسك أنبوبة الاختبار ترتعش قليلا، لا ترتفع عيناه إلى وجهي، ويصعد الدم إلى وجنتيه إذا بادلني الحديث، في يوم سمعته يقول دون أن يحرك رأسه ناحيتي: «يا ترى أقدر أستلف منك كشكول البيوكميستري، عاوز أنقل المحاضرة اللي فاتتني امبارح.»
ناولته الكشكول، في اليوم التالي أعاده إلي، بين أوراقه وجدت الرسالة الصغيرة مطوية، فتحتها وقرأت هذه العبارة الوحيدة: «ستكون صورتك أمامي وأنا أقاتل في سبيل الله والوطن.»
كلمة «أقاتل» خمسة حروف، أصبحت تلوح لي في النوم، ماذا يعني؟ هل يشترك في حرب العصابات في القنال؟ أيمسك السلاح في يده ويقتل الإنجليز؟ هذه اليد التي ترتعش وهي تمسك أنبوبة الاختبار؟ لكن أنفه من الجانب مرفوع، يرسم في الجو قوسا حادا، أيكون هذا هو أنف الفدائيين؟!
كلمة الفدائيين كان لها رنين ساحر، الدقات تحت ضلوعي تتصاعد، في النوم أراه يضرب الأعداء واحدا وراء الآخر، يتساقطون إلى الأرض وهو واقف شاهرا سيفه، قامته فارعة مثل قامة أبي، يحملونه عاليا فوق الأعناق، تتطاير رصاصة في الجو وتستقر في صدره، يسقط إلى الأرض ينزف الدم، يحملونه فوق عربة كارو، يضع يديه فوق قلبه تحت الضلوع، يستخرج شيئا يمسكه بين أصابعه المرتعشة، ثم يفتح أصابعه لأرى صورتي! لم يكن عندي إلا صور قليلة منها صورة الشهادة التوجيهية، التقطها لي مصور في منوف ضخم الجثة يعرج على قدمين متورمين، يلتوي إلى الوراء حين يمشي، ربما أصيب بمرض الفيل أو شلل الأطفال وهو صغير، جسدي كان يرتعد حين ألتقي به في طريقي إلى المدرسة، جاء إلى بيتنا حاملا صندوقه فوق ظهره كمن يحمل صليبه ويمشي، أوقفني في الحقل أمام البيت والشمس في عيني، وضع رأسه داخل الصندوق الخشبي ثم اختفى نصفه الأعلى تحت خيمة سوداء، رفع ذراعه اليمنى في الهواء وصاح بصوت يشفه صفارة الإنذار في الحرب: «انتباه! واحد اثنين ثلاثة! كان المفروض في هذه اللحظة (حسب أوامره) أن أتوقف تماما عن الحركة أو التنفس، وأفتح عيني وأغلق فمي، إلا أن العكس هو الذي حدث، إذ اهتزت الأرض تحت قدمي، وتركزت الشمس القوية الحارقة في العين السحرية الجاحظة من رأس الصندوق الأسود.
كنت أحفظ هذه الصورة مع أوراقي الخاصة ومفكرتي السرية في درج صغير أسفل مكتبي أغلقه بالمفتاح. كانت هناك صور أخرى لي التقطها أخي طلعت، منها صورة تشبه إستر ويليامز أو سامية جمال، فوق وجهي ابتسامة عريضة، عيناي يكسوهما بريق كضوء الشمس.
كنت أهدي هذه الصورة إلى صديقاتي البنات، نتبادل الصور، نكتب عليها من الخلف للذكرى والتاريخ.
لم تكن الصداقة تحدث إلا داخل الجنس الواحد، لا شيء اسمه الصداقة بين الجنسين، لا يمكن لبنت أن تعطي صورتها لرجل ليس زوجها أو خطيبها على الأقل، قد يحدث في الحب أشياء خارقة للعادة والتقاليد، كأن تهدي البنت صورتها دون أن تكتب عليها حرفا واحدا، كان يكفي أن تسقط هذه الصورة في يد شخص حتى تسقط البنت في نظر الناس.
منذ الرسالة داخل الكشكول لم أر «المنيسي» إلا مرة واحدة أخيرة، في معمل البيوكميستري، حرك رأسه ناحيتي وابتسم على غير العادة، عيناه ملأهما بريق، رموشه سوداء غزيرة تهتز، أصابعه حول أنبوبة الاختبار قوية صلبة رغم الرعشة الخفيفة، انفرجت شفتاه كأنما يقول شيئا، صوته خافت لا أكاد أسمعه: «عاوز صورتك معايا.»
كنت فتاة مثالية، لا تهدي صورها وإن خفق قلبها بالحب، لم يكن قلبي يخفق له كما خفق في الحب الأول، في عينيه رغم البريق القوي نظرة منكسرة خجولة تشبه نظرة البنات، كنت أنفر من هذه النظرة في عيون الزميلات، فما بال الزملاء.
كان المعمل في الدور الثالث، لا يوجد كراسي نجلس عليها، نقف على أقدامنا الساعة وراء الساعة أمام التخت أو الطاولة الخشبية الطويلة، نخلط الأحماض والمواد الكيميائية داخل أنبوبة الاختبار، نضعها على النار وتتصاعد الغازات السامة أو غير السامة.
فجأة سمعنا صوت فرقعة، انفجرت الأنبوبة في يد أحد الزملاء، امتلأ المعمل بالدخان، أسرعنا إلى الخارج نعطس ونسعل، هبطنا السلالم جريا إلى الفناء: «يا خبر، أنا نسيت شنطتي فوق في المعمل!» لم يكن لي أن أعود إلى البيت دون حقيبتي، «أنا حاطلع حالا أجيبها»، هذا هو صوت المنيسي الذي ناولني حقيبته لأحملها له حتى يعود، انطلق صاعدا السلالم بشجاعة الفدائي يقتحم النار لا يخشى الموت، عاد حاملا حقيبتي، تبادلنا الحقائب بلا كلمات، أطراف أصابعه لامست يدي عن غير قصد في حركة التبادل السريع: «متأسف!»
كان واقفا أمامي ينطق كلمة متأسف وأنا لساني معقود، كان المفروض أن أحوطه بذراعي، أو على الأقل أمد يدي أصافحه وأشكره، إلا أني وقفت مثل التمثال عاجزة عن فعل أي شيء، قيود تحيطني وحواجز تقف بيني وبينه لا أعرف ما هي، كان واقفا يلهث قليلا (صعد ثلاثة أدوار وهبط في لمح البصر)، وجهه محتقن بالدم، يضغط بأسنانه على شفته السفلى، لا أسمع منه إلا كلمة متأسف، لم أعرف لماذا يعتذر، عن الرسالة التي وضعها في الكشكول أم عن التلامس الخاطف غير المقصود؟ ثم سمعت صوته بصعوبة، كانت في الفناء ضجة وصخب وريح محملة بالتراب والرمل دوت في أذني كالصفير الحاد الطويل، رأيته يمد يده لي يصافحني بأصابع باردة، لم أسمع مما يقول إلا كلمتين: «أستودعك الله.»
في الطريق إلى البيت عاد إلي صوته: «أستودعك الله»، لم أفهم ماذا تعني هاتين الكلمتين، لكن قلبي ينوء بثقل كبير، ربما كان تأنيب الضمير، هل أسأت إليه دون أن أدري لماذا لم أفتح فمي وأشكره على الأقل؟ •••
في المظاهرات لم يكن «المنيسي» بين الطلبة، هل سافر مع كتائب الفدائيين إلى القنال؟ منذ إلغاء معاهدة 36 في أكتوبر 1951م فقد الاحتلال البريطاني سنده القانوني، بدأ الكفاح المسلح بين الطلبة والشباب، حكومة الوفد كانت تشجع المقاومة الشعبية من وراء الستار.
لم تكن زميلاتي البنات يشاركن في المظاهرات، أحيانا أكون الطالبة الوحيدة بين مئات الطلبة أو الآلاف، في خيالي حلم الطفولة، أحمل السيف وأضرب الأعداء، يحملوني مثل أبي فوق الأعناق: تحيا مصر حرة! تسري القشعريرة في جسدي كالكهرباء، أنتفض من مكاني حيث أكون في المشرحة أو المدرج أو المعمل، يندفع جسمي بقوة مجهولة كأنما تأتي من السماء، أسير بينهم والخفقات تتصاعد تحت ضلوعي قوية متلاحقة متدفقة تذكرني بالحب الأول.
صوتي يختنق بالدموع وأنا أهتف: «تحيا مصر حرة»، فيض من الدموع ينهمر من عيني يكتسح أمامه أحزاني منذ ولدت، يتخفف جسمي من الثقل، كأنما يسقط عني جسمي، أسير بينهم بلا جسم، بلا اسم، بلا أب ولا أم ولا أسرة، هؤلاء هم أسرتي وأهلي وبيتي.
أكان ذلك يسمونه حب الوطن؟ أم أنه الحنين إلى الحب الأول؟ لم أكن أعرف، كان الاثنان يذوبان معا داخل شلال واحد، فيضان من المشاعر كالطوفان يكسر الجسور والحواجز، أنسى أنهم رجال من جنس آخر، نصبح جنسا واحدا، نذوب داخل جسد واحد أو روح واحدة بلا جسم.
أكبر مظاهرة كانت في نوفمبر 1951م، يسمونها «المظاهرة الصامتة»، أحيانا يكون الصمت أقوى من الهتاف، في فناء الكلية تجمع مئات الطلبة، يحملون اللافتات الطويلة من الدمور، كتب عليها بخط النسخ الأسود: يحيا العمل الفدائي. لا مفاوضات مع الاحتلال البريطاني. طلبة الطب مع الشعب يد واحدة. يحيا كفاح الشعب المسلح. تحيا مصر حرة. مجموعة من الطلبة الفدائيين يرتدون ملابس حرب العصابات، مجموعة أخرى يعلقون الشارات فوق صدورهم ينظمون الصفوف، زعماء الطلبة يروحون ويجيئون، أصواتهم ترتفع من حين إلى حين: «عاوزين نظام يا زملاء، الهتاف ممنوع، المظاهرة دي إحياء لذكرى أول وفد شعبي راح للحاكم البريطاني سنة 19، وطلب منه رسميا جلاء الجنود الإنجليز عن مصر، دي أهم مظاهرة في تاريخ الحركة الوطنية، لأول مرة في تاريخ مصر الحكومة والشعب في يد واحدة، بيجهزوا لضربة كبيرة في القنال، لازم نوريهم النهاردة إن الشعب كله إيد واحدة قوية، عاوزين نمشي خطوة واحدة، ماحدش يطلع برة الصف، جايز عناصر من أعوان الملك والإنجليز يندسوا بينا عشان يعملوا شغب، يفسدوا المظاهرة، لازم نكون منتبهين لهم، لازم يكون فيه هدوء ونظام طول المظاهرة .»
كان معي طالبتان من سنة أولى مشرحة، تقدم نحوي أحد المنظمين: «يا زميلة نوال، الطالبات يقفوا في الصف الأول ودي اليافطة، تقدروا تشيلوها؟» كانت قطعة طويلة من القماش الدمور، كتب عليها بالخط الأسود الكبير: «طالبات الطب مع الكفاح المسلح لتحرير الوطن.» لها عمودان طويلان من الخشب، أمسكت بعمود، أمسكت الطالبة الثانية بالعمود الآخر، يساعدها أخوها طالب كلية الطب أيضا، رفعنا اليافطة فوق رءوسنا وسرنا في الصف الأول.
خرجت المظاهرة من باب الكلية مثل تمساح ضخم يزحف بلا صوت، التحمت مع المظاهرات الأخرى في شارع القصر العيني، أنهر من البشر تتدفق من الشوارع الجانبية، تلتقي معا كالشلال، تصب في ميدان الإسماعيلية، أقدام بلا عدد تخرج من جسد واحد له رءوس بلا عدد، أمواج تعلو وتهبط كالبحر، ملايين الأنفاس ذابت في نفس واحد، بلا صوت، الصمت يدوي أقوى من الرعد يرج الأرض.
خرجت مصر كلها ذلك اليوم، تحول كل شبر من الأرض إلى بشر، حتى الشجر صعد إليه الناس حين ضاقت الشوارع والميادين، أسطح البيوت والنوافذ تحولت إلى أجساد لها رءوس وعيون تطل على ما يشبه يوم القيامة، حين يقوم الناس أفواجا أفواجا، وينهض الأموات يسيرون فوق أقدامهم.
لم يتخلف أحد، حتى التلاميذ الصغار والأطفال، وربات البيوت والنساء بالملايات اللف، أطفالهن فوق صدورهن، فلاحون بالجلاليب والطاقيات فوق رءوسهم، عمال المصانع بالبدل الزرقاء تعلوها بقع الزيت والشحم، عجائز يسيرون بالعكاكيز، موظفون بالطرابيش والبدل، شحاذون بالجلاليب الممزقة، باعة متجولون فوق رءوسهم القفف، عربات كارو تجرها الحمير.
مرضى خرجوا من المستشفى بالجلاليب البيضاء، تمورجية، ممرضات، أطباء بالمعاطف والسماعات حول العنق، مشايخ بالقفاطين والعمائم البيضاء، قساوسة بالعمائم السوداء وقفطان الكنيسة، المحامون داخل روب المحاماة، القضاة بوشاح القضاء، باعة الأمشاط في الترام، صبيان بذراع واحدة أو بساق واحدة، صبي بلا ساق يسير فوق قطعة خشب لها أربع عجلات، يدفعها من تحته بذراعيه ويمشي في المظاهرة، أصحاب الدكاكين أغلقوها بالأقفال الحديدية وساروا بين الصفوف.
كنت أمشي رافعة ذراعي اليمنى حاملة اللافتة فوق رأسي، الساعة وراء الساعة، أمشي في الحلم رافعة شعلة التحرير، كما أن جان دارك أو زرقاء اليمامة تقود وطنها إلى الحرية، صوت عذب يسري في أذني يشبه الغناء مع الدقات على العود، في بحر المياه الزرقاء الدافئة تحملني الأمواج عاليا ثم تهبط بي في رفق شديد، كذراعي أمي تؤرجحني فوق ركبتيها وتغني: هوه، نامي نينه هوه!
أغمض عيني وأمشي كالنائمة، فجأة سمعت الصوت، فتحت عيني كأنما أصحو من النوم، أهي طلقة رصاص؟! الشمس في عيني أصبحت شعاعا أحمر، احتميت وراء جدار بعيدا عن الضوء، سمعت صوتا يناديني: «يا نوال»، الحلم يختلط بالحقيقة، الضوء يتحول إلى سائل يجري فوق الأسفلت، تحت قدمي رأيت الشريط الأحمر، أتحسس ذراعي وساقي، كل شيء في مكانه، أستطيع أن أمشي وأنقل القدم وراء القدم، الشمس غابت وراء ساحبة من الغبار، ثم انقشع الغبار عن وجه رأيته من قبل كان يقترب مني، يتقدم نحوي بخطوة هادئة واثقة، يرتدي فوق عينيه نظارة شمس، يومض من تحتها ضوء كالابتسامة: يا نوال؟ أهو اسمي؟ كف عرفه من ملايين الأسماء في الكون؟
لم أعرف أين انطلقت الرصاصة، كنت في شارع كبير لا أعرف اسمه، لم أكن أعرف من شوارع القاهرة إلا القليل، كانت المواصلات متوقفة، لا أوتوبيس، لا ترام، لا تاكسي، لا عربة كارو، لا شيء له عجلات يسير على الأرض، فقط الأقدام البشرية التي بدأت تتفرق كما تجمعت بلا صوت بلا هتاف، تفككت الكتل من الناس وابتلعتها الشوارع الجانبية والأزقة: «يا نوال، مفيش غير إننا نرجع ماشيين.»
ينطق اسمي بسهولة غريبة، يقول: «يا نوال»، كأنما يعرفني أو ناداني من قبل، سرت إلى جواره صامتة لا أسمع إلا وقع أقدامنا فوق الأسفلت، حذائي من الجلد الأسود يشبه حذائه، قدمه كبيرة بحجم قدمي، قامته بطول قامتي، يرتدي قميصا أبيض صدره مفتوح، لا ربطة عنق، لا جاكيت، لا بلوفر، خطوته فوق الأرض قوية متحدية، أيكون أحد الفدائيين؟!
رحلة العودة بدت كأنما رحلة داخل الحلم، لم أنتبه إلا حين وجدت نفسي في شارع القصر العيني، توقفت وأنا أقول: «أنا عارفة السكة للكلية من هنا.» كأنما أدركت فجأة أنني أمشي، مد يده وصافحني، يد قوية كبيرة مملوءة بالثقة: «طيب، مع السلامة يا نوال!» مرة أخرى ينطق الاسم «نوال»، الذي أصبح له وقع في أذني كأنما هو اسم غير كل الأسماء، وليس له مثيل بين البشر، أهو حقيقة اسمي أنا؟ وكيف اكتسب هذا الرنين الجديد في الكون؟
أوراقي ... حياتي
سماء زرقاء، شديدة الزرقة، يسمونها هنا في «ديرهام» «كارولينا بلو»، في هذه الولاية الجنوبية على الشاطئ الشرقي للمحيط الأطلنطي في أمريكا الشمالية، تذكرني بسماء مصر ... في قريتي، في طفولتي، وخطواتي الأولى نحو الصبا والشباب في المدينة، طالبة حالمة بكلية الطب، أمشي في المظاهرات، المظاهرة الصامتة بالذات في نوفمبر 1951، حين بدأ قلبي يخفق للحب وأنا في العشرين من العمر، الخفقة القوية تحت الضلوع تذكرني بخفقة الحب الأول وأنا في العاشرة من العمر.
السماء الزرقاء فوق رأسي الأشيب بشعري الأبيض المتناثر تشبه السماء الزرقاء في القاهرة، وأنا أمشي في المظاهرة بشعري الأسود الغزير، وقامتي الفارعة المشدودة، والدماء الفائرة في جسدي، فتاة شابة تتأجج عيناها بالبريق النابع من حلم الطفولة، لم يتغير الحلم منذ كنت في السابعة من العمر، لم ينطفئ، غير قابل للانطفاء حتى نهاية العمر.
الشمس ساطعة كأنما بداية الربيع مع أننا في نهاية الخريف، سماء القاهرة عارية من السحب، لؤلؤ أزرق فوق رأسي وأنا أمشي، مياه النيل تترقرق، فيروز يسيل بين ضفتي النهر، الخضرة تذوب في الزرقة، والعصافير تحتمي بفروع الشجر؛ فهناك ريح شمالية قادمة، شتوية رغم الدفء الناعم بحرارة الجسم.
لقد جئت إلى هذا المكان البعيد ومعي أوراقي وذكرياتي، كلمة «جئت» لا تعبر عن الحقيقة، لأنني لم آت إلى هنا بإرادتي، لم أغادر الوطن باختياري، قوى عاتية مثل الأعاصير تقتلع الناس كما تقتلع الشجر، تنتزعهم من أرضهم وبيوتهم، تلقي بهم بعيدا في ما يسمونه «المنفى».
بيني وبين كلمة «المنفى» عداء، لا توجد قوة يمكن أن تنفيني عن الوطن؛ فالوطن يسافر معي حيثما أكون، والسماء تسافر معي، والشمس أيضا تسافر معي، والقمر والنجوم ، وأحلام طفولتي تسافر معي داخل جسدي كما كنت طفلة، وقلبي يخفق بالقوة نفسها كما خفق وأنا في العاشرة من العمر.
في الليل حين تهدأ رياح المحيط الأطلنطي وتنام العصافير، أشعل المصباح إلى جوار المدفأة وأعود إلى الوراء ثلاثة وأربعين عاما، أراني أمشي في مظاهرة 1951، إلى جواري «أحمد» الحب الثاني في حياتي وزوجي الأول، الذي منحني أغلى ما يمكن أن يمنح، وهي ابنتي. ومدينة القاهرة التي عشنا فيها الفرح والحزن، الحرية والاستعباد، غرست في نفوسنا تناقضها، تطاحنها، عذابها تحت سعير الاستعمار والإقطاع، سعير الحر والحرب والحب والحنق، أي حنق، يشتعل فجأة، فيندفع الناس من بيوتهم إلى الشوارع يصرخون، يهتفون ضد حكوماتهم، يلعنون الدين والدنيا معا.
القاهرة، مدينتي أحملها فوق صدري مثل أمي في أيامها الأخيرة، لم يكن لي أن أعرف مدينتي إلا بعد أن أذهب بعيدا عنها، هنا في آخر الدنيا، وراء البحار والمحيط، في هذه «الديرهام» الصغيرة المعزولة، تنتزعني من الوحدة نجمتي في السماء «الزهرة»، ولدت معي، وتموت معي، تنتزعني كل ليلة من الظلام، بعيدا عن غبار الليالي المحملة برمال الصحراء ورياح الخماسين، وأدرك الآن على البعد أن مدينتي بريئة، لا يمكن إدانتها بما فعلت بنا؛ فهي كالأم تقتل أطفالها حماية لهم من موت آخر أشد وأقسى، وقد أنقلب ضد مدينتي كما كنت أنقلب ضد أمي، أصب عليها غضبي، إنها التي يجب أن تدان وإن كان علينا نحن أطفالها أن ندفع ثمن خنوعها أو اللامبالاة.
ما هذه المدينة القاهرة؟ المقهورة؟ ما كنه مدينتنا هذه وما سرها؟ وما الذي يمكن أن يحدث لنا حين نسمع كلمة «القاهرة»؟ ... في غمضة عين أجتاز المحيط الأطلنطي والبحر الأبيض المتوسط وثلاثة وأربعين عاما من العمر، وأجدني أمشي في شارع قصر العيني حيث كلية الطب والمستشفى الفخم الراقد بين فرعي النيل مثل تمساح مريض مشقق البشرة، محروق بالشمس، مملوك للذباب والشحاذين وأصحاب العاهات، يدقون بعكاكيزهم فوق الكوبري بين قصر العيني القديم والجديد، وهؤلاء الذين يسكنون على الضفة الأخرى من النهر، في الحي الراقي الذي يسمونه «جاردن سيتي»، القصور والفيلات الأنيقة تحوطها الحدائق، يسكنها الباشوات من الطبقة العالية الحاكمة، وإلى جوارهم السفارات الأجنبية، السفارة البريطانية التي حكمت مصر أكثر من سبعين عاما، والسفارة الأميركية التي تتربع على العرش اليوم، دولة أخرى داخل الدولة.
وهؤلاء الذين ينتمون إلى ما يسمى «الشعب»، نحن الطلبة والطالبات، أبناء وبنات الطبقة الوسطى، أو الفلاحين أو العمال من الطبقات الكادحة، يسمونها الطبقات «الدنيا» أو «السفلى»، وأحيانا يقولون «الطبقات المحرومة».
كلمة «الحرمان» كانت تعبر بالضبط عن حالتنا نحن الأطفال وقد أصبحنا شبابا في غمضة عين، وتفتحت عيوننا على مدينة ليس لنا فيها شيء إلا أن نمشي في شوارعها ونهتف ضد الملك والحكومة والإنجليز، ضد الثالوث المقدس المترابط منذ 1882 بوثيقة كاثوليكية لا تنفصم إلا بالموت، وقد خلف لنا ثالوثا آخر غير مقدس، ثالوثا شيطانيا، هو: «الفقر والجهل والمرض.»
كلمة الحرمان لها وقع عذب في أذني، وكم شعرت بلذة الحرمان من الأكل أو الجنس في قمة لحظات الحب، كالشمعة تحترق، يذوب شمعها، يسيل فوق جسدها من شدة العذوبة والرقة إلى حد الفناء من أجل الآخرين، الإضاءة، أي إنكار لذواتنا، أن نحترق ونموت لينعم الآخرون بالضوء، هكذا تربينا منذ ولدنا في بيتنا ومدارسنا، ونشأت الهوة بيننا وبين ذواتنا، وأصبحت كلمات مثل: القناعة، والصبر، والزهد، والفداء، والتضحية، والحرمان، كلمات مقدسة، نلوكها كل يوم في صلواتنا مثل حبات السبحة، وأحلامنا تنسحب من الأرض إلى السماء، إلى الهواء؛ حيث نبحلق في الفراغ، نحلم بقصر بعد الموت في جنة عدن.
إلا أن عيوننا كانت ترتطم دائما بالقصور القائمة فوق الأرض، فوق الضفة الأخرى من فرع النيل، في «جاردن سيتي»، وقد نتمشى بالقرب من تلك الأسوار العالية من الطوب الأحمر، والشرفات الكبيرة ذات الأعمدة الحجرية العالية المطلة على النيل، يترامى إلى سمعنا ضحكات أنثوية ناعمة، وقهقهات ذكورية غليظة، مع رائحة السيجار والكافيار والويسكي واللحم المشوي، ودقات الموسيقى مع إيقاع الرقص والتانجو، وهنا ندرك أن كل شيء وفير موفور متنوع وغزير، والأكل والجنس وكل شهوات الدنيا.
خيالي كان يسرح وأنا أمشي في جاردن سيتي، لا شيء يفصلها عن مستشفى القصر العيني إلا بضعة أمتار، في بعض خطوات أنتقل من ثالوث الفقر والمرض والجهل إلى الثالوث المقدس؛ حيث تختفي الكلمات المقدسة التي حفظناها عن ظهر قلب: الحرمان، الزهد، الصبر، القناعة، الفداء، التضحية، وأكاد أفعل ما كان يفعله «منعم» الطفل الفلاح في منوف، حين كان يتشعبط على قضبان النافذة في بيتنا ويشهق: ياه! ربنا بيحبكم، أعطاكم خير كتير، لكن احنا الفلاحين الغلابة ربنا غضبان علينا.
كان «منعم» يتصور أنني سعيدة داخل هذا البيت، لم يكن يرى تعاستي، أنا أيضا كنت أتصور أن سكان «جاردن سيتي» سعداء، يأكلون أنواعا من الفاكهة لا نأكلها مثل التفاح والكريز، لم أكن أعرف ما هو الكريز وتلك الأسماء الأخرى التي لم ترد في القرآن الكريم، لم يكن لسكان الجنة في كتاب الله إلا عناقيد العنب والنخيل (البلح). كان أبي يشتري لنا البلح والعنب، إلا أن التفاح كان غالبا لا يأكله إلا الأغنياء، أما الكريز فلم أسمع عنه إلا في جاردن سيتي. كنت أمر بالفكهاني الأنيق يعرض الثمار اليانعة بألوانها الزاهية، يهبط الخدم من القصور ويشترون، يترامى إلى سمعي «الكريز» وكلمات أخرى لا أعرفها، أنواع مأكولات أو فواكه ربما تزرع في أرض أخرى، يسمونها «بلاد برة»، وكل شيء يأتي من «بلاد برة» كانوا يقولون عنه أفضل وأرقى، سواء كان مأكولات أم شهادات. «بلاد برة»، يسمونها «الغرب»، وبلادنا يسمونها «الشرق»، يقولون إن الشرق روحاني، يحرم لذائذ الدنيا وأولها لذة الجسد أو الجنس، سوف تتوافر هذه اللذة بإذن الله في جنة عدن، وكم شعرنا بالفخر في أول الشباب لانتمائنا إلى الأرض المقدسة الطاهرة، مهبط الأنبياء والأديان، الناس فيها يعيشون على الغذاء الروحي لأنهم تجاوزوا مشكلة الجسد.
ذات يوم في خريف 1957، بعد أن وقعنا قسيمة الطلاق وأنهينا قصة الحب التي دامت ست سنوات، كنا نتمشى على شاطئ النيل بجوار القصر العيني، حين سألني أحمد فجأة: أتعرفين يا نوال ماذا تفعل القاهرة بالحب؟ قلت: ماذا تفعل؟ قال: القاهرة تفعل بالحب ما يفعله وابور الطحين؛ الخارج من تحته إما أن يكون رجلا مسحوقا مجروحا بعمق في رجولته، أو روحا طاهرة تعاني الوحدة، يعني نبيا.
كانت ورقة الطلاق تعني الفراق بين الزوج وزوجته، إلا أننا كنا نلتقي، يدور بيننا حوار أجمل من العلاقات الزوجية، أدركنا أن «الزواج» يفسد الحوار بين الرجل والمرأة، يفسد الصداقة والحب، يدمر الأشياء، يسحقها، يطحنها مثل وابور الطحين، يعيدها إلى ما كانت عليه في العصور القديمة، زمن العبودية.
كان «أحمد» طالبا في كلية الطب في السنة الرابعة وأنا في السنة الأولى، عرفته لأول مرة في المظاهرة الصامتة الكبرى، ست سنوات عاشت قصة الحب، تبدو لي من بعد المكان والزمان كأنما لم تكن إلا رواية قرأتها أو قصة في حياة امرأة أخرى، لم يبق منها إلا الخيال وصور في الذاكرة أستعيدها.
الشمس كانت ساطعة ذلك اليوم من نوفمبر 1951م، الأشعة تنساب فوق رأسي من خلال عطر الياسمين، الهواء مشحون بتراب الأرض، التراب ممزوج بمياه النيل له رائحة منعشة، تراب الأرصفة وشوارع القاهرة وقد أطفئت برذاذ الماء، سحابات الخريف الخفيفة الندية تقترب من الأرض، لا تحمل الأمطار وإنما الرذاذ القليل النادر ندرة التفاح والكريز، ينتشر اللون الرمادي أو الأزرق المغبر، والأرجواني الصحراوي الجيري أو الترابي والقرمزي، فوق كل هذا تسطع الشمس بقرصها المتوهج القادر على تمزيق السحب، تصبغ مياه النيل بالوهج البرتقالي الأخضر، ورطوبة المطر المختنق تكسب الهواء لمعانا، ونكهة الأرض العطشى تتلقى الرذاذ مهدية سماوية من عند الإله.
تحت كل ذلك تقبع مدينة القاهرة تحت غطاء شفاف من الحزن يشبه الشبورة، هواء الخريف دافئ يحمل بقايا سخونة الصيف، يلهب الجسد خلال الرداء القطني الخفيف، يعالج الجسد وقد عادت إليه الروح أو ربما هي الروح عاد إليها الجسد، قضبان سجني أحسها تتخلل وأنا أمشي في المظاهرة الصامتة، بلا هتاف، تتساقط بين قدمي الأغلال رغم الصمت، مدينة القاهرة ممدودة أمامي عارية عن الزيف، حبلى بالأمل، كالمرأة تسير نحو الحب، نحو الحرية، نحو المستقبل المجهول، رغم ضوء النهار الساطع.
كانت الهتافات ممنوعة، لكن الآلاف كانت تتنفس في نفس واحد، يشق عنان السماء، تمشي بخطوة واحدة ترتج لها الأرض، في مدينة واحدة هي القاهرة، تنشر شذراتها صامتة كأوراق الزهر، وفي هذه اللحظة التقت عيوننا أنا وأحمد، ألحان خفيفة غير منطوقة تهز القلب، أجسادنا وسط آلاف الشباب تدوس شوارع المدينة باحثين عن الاستقلال، عن الانعتاق، عن التحرر من العبودية.
كان زعماء الطلبة يسيرون بين الصفوف، أحدهم كان «أحمد»، كان مملوءا بالحلم الطفولي مثلي، وكنت مثله أمشي في شوارع المدينة، يخيم عليها كآبة الحكم الأجنبي، وكآبة الحكم المحلي، يسمونه «الملكية السامية»، طنين عربات الترام وهي تنتفض فوق قضبانها الحديدية في شارع قصر العيني، تفوح منه رائحة المشرحة والفورمالين، وجروح المرضى الغارقة في الدم والصديد، ولون صبغة اليود في الجو، والسرادقات الطويلة داخل المستشفى، هنا كثيرا ما التقينا. في المستشفى كان هناك مساحة من الأرض لملاعب الطلبة، كانت توجد دكة خشبية عند ملعب التنس، رصت عليها أكواب الشاي بالنعناع الذي كنا نشربه، أو زجاجات الكازوزة المثلجة في أيام الحر، يحملها إلينا «عم محمود» صاحب البوفيه، غرفة معتمة بجوار غرفة تغيير الملابس، يغلي فيها الشاي على وابور جاز، يرص ألواح الثلج الطويلة داخل صندوق خشبي يسميه الثلاجة، فوق طاولة خشبية مشققة يقطع الرغيف الفينو نصفين، يدس في كل نصف شريحة من الجبن الرومي وقطعة من مخلل الخيار ويسميه «ساندوتش».
لكن كل شيء كان يسبح في ضوء غريب، من أين كان يأتي الضوء؟ عيناه بلون العسل المصفى كانت تشع هذا الضوء، لم أكن أرى منه إلا هذا الضوء في العينين، كطفلة العاشرة في حبها الأول ، لا يمكن أن تهبط عيناها إلى ما تحت العينين.
فقط نتبادل النظرات في صفاء الأرواح السامية، هؤلاء الذين ينكرون رغبات الجسد، كان ممتعا أن نجلس فوق الدكة مرتبكين خجلين متلعثمين، تتلاحق أنفاسنا في اضطراب، ماذا كان يفزعنا؟ هل كنا ندرك ما ننكره؟ هل كنا نطرق إلى الأرض خجلا مما يراودنا في خيالنا؟ لكن الرسائل كانت تمضي بيننا، من وراء وعينا، خلال عيوننا المتسعة المندهشة، والكازوزة المثلجة أو الشاي المنعنع ، والدكة الخشبية المنزوعة القشرة، نجلس عليها لا نحس العالم من حولنا. نرشف على مهل من الكوب الزجاجي، نرشف المدينة بكل ما فيها، حتى المستشفى القديم المفعم برائحة الفورمالين، وصبغة اليود تسري إلى صدورنا منعشة كزهر الياسمين.
كنت الليلة أقلب في ذكرياتي وأوراقي القديمة، تحول بعضها إلى ورق أصفر رقيق تآكلت سطوره وبهتت الكلمات، البعض الآخر أتلفه المطر والرطوبة المرتفعة في ديرهام بولاية نورث كارولينا، هذه الرطوبة لا نعرفها في مصر، الهواء هنا يتشبع بالماء، والأفق ينفتح عن سيول كالأنهر تنهمر من جبال سماوية، تذرو الناس ومعهم أوراقهم وذكرياتها، إلا أنني أقاوم، منذ ولدت أقاوم اللامبالاة بأوراقي وكتاباتي.
اللامبالاة تنتقل إلي كأنما بالعدوى، فما جدوى أن أكتب عن قصة حب ماتت منذ أربعين عاما؟ مدفونة كالمومياء في بطن الصحراء على بعد آلاف الأميال في شمال أفريقيا؟!
ومع ذلك، فأنا أبالي، هذه الأوراق هي حياتي، هي حلم طفولتي وشبابي، هذه الذكريات أحبها رغم الألم، أستحضرها، أثبتها في خيالي، فهي قصتي مع الحب حين كنت في العشرين من العمر، أي حب يمكن أن يكون أكثر عمقا من هذا الحب؟ تعاسته كانت نوعا من النشوة، استعذاب الألم يكشف عن آلام جديدة لا يعرفها إلا القديسون والعشاق، لكن لمسة واحدة باليد في المصافحة العابرة، أو نظرة خاصة على البعد كانت قادرة على تحول الألم الهائل العميق إلى سعادة أعمق.
كم أدرك الآن أنه من السهل أن يقع الإنسان في الحب، وأن الصمت في الحب أبلغ من الكلام؛ فاللغة بشرية صنعها البشر، محدودة بحدود عقولهم وأجسامهم وتاريخهم ، لكن الحب يتجاوز التاريخ، يتجاوز العقل والجسد والروح، ويحلق وحده في ملكوت آخر.
من السهل أيضا أن يموت الحب، كما تنطفئ الحياة في غمضة عين، مثل جناح الفراشة يتمزق لأقل لمسة؛ كالدقيق المسحوق الناعم يطير في الهواء بنفخة واحدة، شفاف يكشف ما تحته دون عناء كالهواء. «اللي متغطي بالأيام عريان، واللي متغطي بالحب عريان.» هكذا كنت أسمع من الناس.
أنا وحيدة اليوم تماما، جالسة في غرفة مكتبي، أطل على الحديقة من ورائها غابة ديوك، فتاة أميركية رشيقة جاءت تسقي الزهور، ترتدي بنطلونا من الجينز الضيق، شعرها ذهبي مرفوع إلى أعلى، طالبة عندي في فصل الإبداع، في جامعة ديوك، تقبض من الإدارة مرتبا شهريا نظير رعايتها الحدائق والزهور، تسدد من راتبها نفقات تعليمها وسكنها وطعامها وبنزين سيارتها الحمراء الصغيرة.
يأتي إليها صديقها على باب الحديقة، يدق الكلاكس، تطير إليه كالفراشة كما كنت أطير وأنا في العشري من العمر حين يدق أحمد جرس الباب.
اليوم لم أعد شابة، أصبحت كهلة تجاوزت الستين من العمر، لست سعيدة ولست تعيسة أيضا، أجلس معلقة كالشعرة أو الريشة في منطقة انعدام الوزن، خليط من الذكريات البعيدة الغارقة في الضباب، لا شيء يعيد إلي بهجة الشباب، العزاء الوحيد عندي في هذا القلم أحركه فوق الصفحة الخالية فتمتلئ هذه الكتابة الصامتة من احتكاك سن القلم بالورق، إلا أنها تجلب الماضي أمامي حاضرا، تبعث الحياة في الموتى، تعيد تشكيل الحقيقة لتكشف عن حقيقتها الخفية.
إن ما نسميه حقيقة ليس إلا الغطاء المعتم، مثل: قشرة الأرض، تخفي في بطنها الأحجار الكريمة، المعادن الثمينة، وإنها الكتابة، هذه الكتابة هي التي تبحث وتبحث حتى تعثر على سبيكة الذهب أو الفضة، على الجوهرة المكنونة.
كانت الكتابة منذ طفولتي هي ملاذي الوحيد، أهرب إليها من الأم والأب والعريس، وبقيت الكتابة في كهولتي أيضا الملاذ الوحيد أو الأخير، التصالح الممتع من خلال الكتابة مع الماضي والحاضر، مع كل ما أصابني في الوطن من جراح.
لم أكن مثل أخواتي البنات، أستسلم للقضاء والقدر، كنت أسعى إلى تحقيق كل شيء آخر عن طريق الخيال، وإلا فلماذا يقع الإنسان في الحب؟ لماذا كل هذه الآلام عند اللقاء بالآخر؟ إن العزاء الذي أنشده في الكتابة (والذي قد لا أناله) ليس عزاء يمكن أن أراه في عيني «أحمد» إذا التقيت به في القاهرة، لقد افترقنا وسلك كل منا طريقا مختلفا في الحياة، وتحول الألم القديم إلى راحة أشعر بها اليوم، كأنما الزمن نسيج من الذهب، يخفي كل ما هو مؤلم أو غير جميل، والكلمات فوق الورق تتخذ لنفسها حياة مستقلة.
ثمن الكتابة
1 - التهديد
2 - الانطلاق الأول
3 - طبيبة القرية
4 - الاعتداء الثلاثي
5 - عودة المكبوت
6 - الحب واليأس
7 - ليس لأمي مكان في الجنة
8 - موت أبي
ثمن الكتابة
1 - التهديد
2 - الانطلاق الأول
3 - طبيبة القرية
4 - الاعتداء الثلاثي
5 - عودة المكبوت
6 - الحب واليأس
7 - ليس لأمي مكان في الجنة
8 - موت أبي
أوراقي ... حياتي (الجزء الثاني)
أوراقي ... حياتي (الجزء الثاني)
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع ، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج ، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة ، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
الفصل الأول
التهديد
فيضان من الخضرة يزحف مع الربيع على غابة ديوك، الزرقة الفيروزية تذكرني بسماء قريتي في طفولتي، هنا «كارولينا بلو»، الولاية اسمها نورث كارولينا، إحدى ولايات الجنوب على الشاطئ الشرقي لأمريكا الشمالية، المدينة صغيرة تشبه القرية، اسمها ديرهام.
نحن في بداية الربيع عام 1993م، النوافذ تطل على الحديقة «الروز جاردن»، بدأت ورودها تتفتح بجميع الألوان، القاني الأحمر بلون الدم، الأبيض الفضي، الأصفر الكهرماني، الأرجواني والزنبقي، عبيرها يسري داخل مسام جسدي، نسمة الدفء الأول بعد برد الشتاء، أفرد أصابعي، أنشد اليقين، جسدي هو اليقين الوحيد، يبدو جسد امرأة، يسمونها هنا «بروفيسير دكتر ساداوي»، ثلاث كلمات غريبة أسمعها كل يوم، تتردد على ألسنة الطلبة والطالبات، يجلسون في الفصل منتبهين كما كنت أفعل وأنا في العشرين من العمر، حين كنت طالبة بكلية الطب بجامعة القاهرة منذ أربعين عاما .
أنهض من السرير بحركة حذرة، أخشى من أن أصحو من النوم ويتبدد الحلم، في المرآة رأيتها واقفة، قامتها الطويلة كما كانت، انحناءة خفيفة تحوم حول الكتفين، بشرتها سمراء بلون طمي النيل، شعرها الأبيض غزير منكوش، جلبابها مكرمش من القطن المصري، فيه زهور صغيرة وردية، قدماها كبيرتان مثل قدمي جدتها الفلاحة، الشبشب من نوع «زنوبة»، اشترته من دكانة صغيرة في قريتها كفر طحلة.
هذه اللحظة دخل زوجها غرفة النوم، رآها واقفة أمام المرأة: «صباح الخير يا نوال.» انتبهت إليه، عادت ذاكرتها فجأة: «صباح الخير يا شريف.» جاءا معا إلى جامعة ديوك منذ يناير الماضي، في وطنها كانت حياتها مهددة، اسمها وضعوه في قائمة الموت، حراسة مسلحة حول بيتها ليل نهار، البودي جارد يلازمها حيثما ذهبت، كان السفر هو الوسيلة الوحيدة لإنقاذ حياتها.
تتلفت حولها في دهشة، البيت جميل، الحديقة جميلة، الشمس ساطعة، تحمل لقب بروفيسير دكتر، لكن المنفى يظل هو المنفى.
أمامي النافذة مفتوحة على الشمس والخضرة الغزيرة، أشجار البلوط اكتست بالأوراق بعد عري الشتاء، أشجار الصنوبر بسيقانها الطويلة الرشيقة تهتز مع الهواء كراقصات الباليه، أشجار الأرز المثلثة الشكل تومض بدوائر الضوء كأشجار الكريسماس، وأشجار أخرى لا أعرفها تنبت في الغابات الأمريكية كالنباتات الشيطانية، تتوارى وراء السحب برءوسها السوداء وشعورها الطويلة، تذكرني بالغولة في حكايات جدتي والعفاريت، كنت أبحث عن العفاريت في قريتي وفي مدينتي القاهرة، كانت العفاريت تبحث عني، تحمل اسما آخر هو «زوار الفجر»، لا يظهرون إلا بعد منتصف الليل قبل طلوع الشفق الأحمر، يكون الناس غارقين في النوم العميق، أعمق مرحلة في النوم يسمونها «الموتة الصغرى»، تخلو تماما من الأحلام، إن كان هناك حلم فلا يمكن تذكره، في هذه الساعة يتحرك زوار الفجر، يدخلون البيوت على نحو عجيب، يدقون جرس الباب، إن لم يفتح أحد يفتحون القفل، يكسرونه بأداة مكتومة الصوت.
فوق مكتبي تتراكم أوراقي حياتي، بدأت أكتب سيرتي الذاتية منذ غادرت الوطن، التهديد بالموت جعل حياتي هامة تستحق الكتابة، حياتي تزداد قيمة بالاقتراب من الموت، لا شيء يقهر الموت مثل الكتابة، لولا كتاب التوراة ما عاش النبي موسى أو اليهودية، لولا كتاب الإنجيل ما عاش المسيح أو المسيحية، لولا كتاب القرآن ما عاش النبي محمد أو الإسلام.
ألهذا السبب كانت الكتابة محرمة على النساء والعبيد؟!
أمضيت السنين الخمس الأخيرة بعيدا عن مصر، أربع سنوات منها عشتها في مدينة ديرهام، أستاذة زائرة في جامعة ديوك، أسير على القدمين من بيتي في سيلفان رود إلى الكامباس، أخترق الغابة الصغيرة بين سيقان الأشجار الباسقة، لا أسمع إلا صوت حذائي الكاوتش يلامس الأرض، تطقطق أوراق الشجر تحت قدمي، طائر أخضر يشبه عصفور الجنة يغرد فوق شجرة، حنين إلى صوت ابنتي تناديني في الصباح، الشمس ساطعة تذكرني بشمس القاهرة في الشتاء، زرقة السماء لم أر مثلها في العالم، الصفاء السماوي بلا دخان، لا ذرة تراب، زرقة مقطرة بلا شوائب لسماء ممدودة حتى شاطئ الأطلنطي، بلا جبال، بلا ثلوج ولا صقيع، فقط الشمس والسماء، وأشجار الأرز والصنوبر والبلوط، تتغير ألوانها في الخريف، تتفجر ألوان الطيف، مهرجانا من الأحمر والأخضر والأزرق والأصفر والرمادي، يحلق طائر غريب لم أره في أي بلد، ريشه أخضر وأزرق، قدماه حمراوان، الغابة ساكنة كالسماء، رهبة السكون المطلق، لا تتبدى أمامي إلا الطبيعة الأم، أكاد أرى وجه الإله رع، وأنا أحملق في قرص الشمس، كأنما رأسه سيطل من وراء هذه السحابة الشفافة، شعره طويل يشبه «نوت» إلهة السماء.
الصور تتزاحم في خيالي، لعبت دور الإلهة إيزيس ابنة نوت على خشبة المسرح، في المدرسة الابتدائية منذ خمسين عاما، بلمسة واحدة من يدي أعدت الحياة إلى زوجي الميت أوزوريس.
في ذاكرتي الطفولية صورتي وأنا أمشي على جسر النيل، أحملق في المياه تتحرك في موجات صغيرة، تلمع في ظلمة الليل كالأسماك الفضية، تنشق عن امرأة شعرها طويل، تخرج من الماء نصف عارية، تجلس فوق الجسر تمشط شعرها، تبتسم لي في حنان الأم، أجري مبتعدة عنها، أخاف أن تخطفني وتأكلني في قاع البحر.
كيف تحولت الإلهة الأنثى القادرة على منح الحياة بعد الموت إلى غولة تأكل الأطفال؟! سؤال لم يخطر لي على بال حتى بلغت الخامسة والعشرين من عمري، كنت طبيبة ناشئة في قريتي وسط دلتا النيل، أمسك كشافا صغيرا وأمشي في الليل، أبحث عن الغولة أو العفاريت بلغة جدتي. •••
رياح المحيط الأطلنطي تضرب هذه المدينة الصغيرة في جنوب أمريكا الشمالية، أمواج كالجبال تمسح الشواطئ المهجورة، صرخات الطيور البحرية، أكبر من النورس ترفرف، تحفظ توازنها فوق حافة الجرف الصخري، عواء الهيروكين القادمة من قلب الأطلنطي كعواء الذئاب أو نداء جنيات البحر.
ذكريات تروح وتجيء مع خطواتي داخل الغابة، تعود بي إلى الوطن ومدينة القاهرة، أرى أصدقائي وصديقاتي أحياء أمامي، يتحركون، لم يعودوا صورا في ذاكرتي أو أسماء في مفكرتي، أعدت إليهم الحياة كما فعلت إيزيس بزوجها، صديقي رجاء أسير معه على شاطئ النيل، أدرك وأنا أمشي أنه مات، مع ذلك أتأبط ذراعه قليلا في مشيته، كأنما له ساق أقصر من ساق، يضغط بقدمه اليمنى على الأرض في كل خطوة، هذه المشية كنت أراها عيبا، أصبحت الآن هي الشيء المميز له، حركة جذابة تميزه عن الرجال الآخرين، أتعرف عليه من بعيد بهذه المشية الخاصة والبدلة الرمادية المكوية، حذاؤه اللامع رغم الشوارع المتربة، في أيام العطلات يكون في كامل هندامه، لا يجلس على الدكك الحجرية بشط النيل، لا يقزقز الترمس ولا الفول الحراتي، هذه العيوب الصغيرة كانت تفسد صداقتنا؛ فأنا أحب الجلوس على النتوءات الصخرية داخل البحر، المطر فوق وجهي وشعري، وهو يفضل الجلوس على مقعد نظيف في الكازينو الأنيق الذي يطل من بعيد على البحر.
انتبهت إلى أنني أمشي في الغابة وحدي، صديقي رجاء لم يعد موجودا، مات منذ اثني عشر عاما في نهاية أكتوبر عام 1981م. قبل أن يموت بأربعة أيام أرسل إلي رسالة من باريس، تراكمت مع البريد فوق مكتبي في بيتي بشارع مراد بالجيزة، كنت غائبة عن البيت، أعيش داخل زنزانة في سجن النساء بالقناطر شمال مدينة القاهرة.
خرجت من الغابة إلى طريق الجامعة، سأدخل بعد دقائق إلى الفصل لألقي على الطلبة والطالبات محاضرة جديدة عن الإبداع والتمرد، أطرد بيدي ذكريات السنين الماضية، أشد ذراعي من ذراع رجاء، لا أودعه، أدخره في ذاكرتي لأعود إليه، مهرجان الألوان يشتعل فوق رءوس الأشجار داخل الكامباس، شريف يسبقني إلى الفصل، أراه من الخلف وهو يمشي، يرتدي بلوفر بنيا فيه مثلثات رمادية، حذاء كاوتش لونه بني، في يده حقيبة جلدية مطوية، انحناءة قليلة مع الخطوة النشيطة السريعة، شعره تساقط قليلا في منتصف الرأس، جسمه نحيف مشدود يندفع إلى الأمام، نوع من الاقتحام العنيد، إرادته حديدية لا تلين، قضى أربعة عشر عاما داخل سجون مصر، لم تتغير إرادته، كأنما الزمن داخل السجن معدوم، لم تتغير ملامحه، شمس المحاريق في الصحراء جعلت بشرته سمراء تشوبها حمرة، الصمت في السجن زاده صمتا، الأكل القليل زاده نحافة، القضبان الحديدية أضافت إليه العود المستقيم، التقينا في ربيع عام 1964م، ربيع معلق فوق سحب الشتاء والنفحات الأولى لزهر البرتقال، لم نكن نؤمن بالمؤسسة الزوجية، نسخر معا من قانون الزواج، العقد المكتوب يشبه عقود تأجير الدكاكين، كنا نعيش في مدينة القاهرة، بدون ختم الدولة «النسر» لا يلتقي الرجل والمرأة إلا وثالثهما الشيطان.
القاهرة مدينتي المقهورة، أصبحت داخل قلبي منذ الطفولة، أحببتها وكرهتها، ما إن أعود إليها حتى أفكر في الرحيل، ما إن أرحل عنها حتى أفكر في العودة، تلازمني في الليل والنهار كأضغاث الأحلام، كواليس الحصار والمطاردة والسجن، خفقات النشوة والحب، آلام الهزيمة ولذة المقاومة، والسقوط والنهوض، والنهوض والسقوط، مدينة القاهرة تقدم لي الحياة والموت في كأس واحدة، أعود إليها كل مرة لأغادرها إلى الأبد.
إن كان هناك زمن فهو ما أخلقه بالكتابة، أسترجع تجارب الحياة في تلك القاهرة، المدينة الغارقة في اللامكان واللازمان، مدينة تبدو من البعد غير موجودة إلا في خيالي، إن الحياة تبدأ هنا والآن، مع حركة الهواء داخل صدري، حركة القلم بين أصابعي، عقارب الساعة تتحرك أمام عيني، اللحظة الحاضرة هي التاريخ الحقيقي لحياتي، لحظة طويلة ممتدة ما بين الولادة والموت، هي الماضي بعد أن مات، وهي المستقبل غير الموجود.
توقفت لحظة عن الكتابة، من خلال النافذة فوق غصن الشجرة رأيت السنجاب الصغير، يسمونه «إسكويريل»، يتمرغ تحت الشمس بعد أن ولدته أمه، انقض عليه طائر ضخم يشبه النسر يسمونه «الهوك»، أكله أمامي من الرأس إلى القدم، عيناي منجذبتان إلى عملية القتل، لا أستطيع تحريك رأسي بعيدا عن المشهد، السنجاب الوليد يقاوم دون جدوى، القوة الهائلة المفترسة لا تترك له مساحة التنفس، يداي إلى جواري مشلولتان، لا أستطيع إنقاذ الطفل المأكول، الشجرة بعيدة عني وعالية وأنا جالسة في مقعدي، جسمي محبوس بين المكتب والجدار، قشعريرة تسري من رأسي إلى قدمي عبر العمود الفقري، أسمع قرقشة العظام الصغيرة بين الفكين الكبيرين كأنهما عظامي، كأنما أنا هذا السنجاب الصغير المأكول، كأنما النسر اختطف حياتي كلها وهي ساخنة متأججة بالحياة، اختطفتها مني مدينة القاهرة كالوجبة الشهية قبل أن ألمسها، قبل أن أتذوق طعمها.
أنشد الحياة بعد الموت عن طريق الكتابة، مثل الأنبياء والآلهة، لست في شجاعة صديقي رجاء، مات دون أن يكتب شيئا: «ما جدوى الكتابة يا نوال إذا كانت الرقابة تحذف أهم ما نكتب؟» كان رجاء شاعرا، التقيت به لأول مرة في عيادتي بميدان الجيزة عام 1959م، كتب قصيدة شعرية عن فشل الوحدة بين مصر وسوريا، حذفت الرقابة أهم أجزائها، لم يبق منها إلا أبيات مفككة بلا معنى، قبل أن يموت بأربعة أيام بعث إلي برسالة قصيرة لا تزيد على سطرين: «أكتب إليك بعد أن استقر بي الحال أخيرا، أنت الوحيدة التي أذكرها في غربتي الطويلة ولا أكاد أعرف إن كان حبي لك هو الحقيقة.» •••
الذكريات تمر بخاطري وأنا واقفة في الفصل، بدأ شريف يتحدث عن الإبداع والتمرد مع الطلبة والطالبات، تجربة جديدة نعيشها في جامعة ديوك، زوجان يتقاسمان الفصل كما يتقاسمان الفراش، أحيانا يحدث الصراع، لم يكن شريف من الرجال الذين تؤرقهم ذكورتهم، معركته في الحياة لم تكن لإثبات تفوقه الجنسي، كان يعيش حلما كبيرا منذ الطفولة، تغيير العالم، إسقاط الرأسمالية الكونية، إحلال الاشتراكية، العدل المثالي والحب، التقينا حول هذه المبادئ الثلاثة منذ ثلاثين عاما، الحلم المثالي اللازوردي، مدينة القاهرة تتمطى تحت الشمس كالراقصة، تسهر تحت الفجر عارية، في ضوء الشمس المشرقة تصحو طاهرة مثل زوجة الإله آمون، تتخفى وراء الحجاب كالعذراء مريم، تطل على نهر النيل بلونه البرونزي، وأهرامات الفراعنة فوق هضبة الجيزة، الآلهة الذين حكموا مصر منذ نشوء العبودية، لم يتنازلوا عن العرش حتى بعد الموت، اكتشفوا العالم الآخر لمجرد الاستمرار في الحكم، أخذوا معهم إلى قبورهم أملاكهم: الذهب والفضة والتاج والصولجان ، حتى الوجبات الشهية الساخنة وضعوها إلى جوار رءوسهم الميتة، ومعها الفاكهة والحلوى، وقطع الحشيش والأفيون لزوم الوهم، لا تخلو رءوسهم من الوهم بعد الموت، لا يخلو موتهم من القبلات الحارة، الأكلات اللذيذة والشهوة المتأججة لحين البعث في دار النعيم.
الفراعنة المصريون هم أول من اكتشف الدين، هم سادة التوحيد والروحانية، سادة الشهوة والمادية الحسية، باعوا الوهم للمعدمين داخل أناشيد الإله إخناتون ومزامير النبي موسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف حتى آخر القائمة، هم سادة الحب والحرب والطب والتحنيط والفلك والفلسفة والفن والمعمار، من هرم خوفو إلى جسد أبي الهول، رأس نفرتيتي، لوحات كليوباترا، والآلهة من النساء والفيلسوفات، من نوت وإيزيس ومعابد إلهة العدل وسخمت إلهة الطب إلى هيباثيا في الإسكندرية، قتلها الغزاة الرومان وحرقوا كتبها، مصر مقبرة الغزاة، يدخلونها ويخرجون، لا بد من طردهم وإن مرت القرون، لكنهم يعودون، لا بد من عودتهم، تحت أي حجة، تتغير الحجة من زمن إلى زمن، والسلاح في أيديهم يتغير، أيام نابليون تمنطقوا بالبنادق، وقت الاحتلال البريطاني أمسكوا المدافع الرشاشة، في الاعتداء الثلاثي (الإسرائيلي الفرنسي الإنجليزي) ركبوا الدبابات والطائرات المقاتلة تسقط القنابل، في أوقات اللاحرب يتمنطقون بحزام السلام والعملات الصعبة، يدخلون إلى مصر، هؤلاء الرجال الطوال القامة البيض البشرة المشربة بالحمرة، القادمون من وراء البحر والمحيط، مفسرو النظريات الكونية، يحملون لقب «الخبراء»، يشبهون سربا من الطيور الجارحة منفوشة الريش، يطوفون شوارع القاهرة بأحاسيس الغزاة يقتلون المعارضين، يشفقون على الشحاذين، يناولونهم البقشيش، يزورون بيوتهم داخل المقابر، في مدينة الموتى أسفل جبل المقطم ، وراء الشارع الأسفلت الممدود بين مصر القديمة ومطار القاهرة الدولي، يحمل اسم أحد رجال الثورة «صلاح سالم»، كان يرتدي نظارة سوداء تشبه طاقية الإخفاء، لا تظهر صورته إلا في صحيفة المساء مثل خفافيش الليل.
في المنفى رأيت مدينتي القاهرة، تمتد في خيالي بين أحاسيس الكره والحب، الرغبة والنفور، تمتد أمامي في الغربة الطويلة، تسكنها وجوه صديقاتي وأصدقائي، يشتعل قلبي بالحنين لأسكن معهم هذه المدينة، أجوب معهم شوارعها، أتمشى على شاطئ النيل تحت ضوء القمر مع رجاء وصفية وسامية ورفاعة وبطة.
منذ خمس سنوات كان الرحيل عن القاهرة إجباريا، الرغبة في الإفلات من الموت، الدفاع المشروع عن الحياة، جاءوا إلي قبل الفجر بقليل، ليلة التاسع من يونيو عام 1992م. •••
لم تكن عندي معرفة بزوار الفجر، سمعت عنهم من شريف حين تزوجنا في ديسمبر 1964م، كان يحكي لي عنهم، كيف يدخلون من الأبواب، كيف يسيرون على الأرض، عيونهم الضبابية وراء النظارات، في أيديهم المختفية تحت القفازات، وجوههم المحلوقة تفوح برائحة الكولونيا، بدلهم المكوية والحذاء اللامع بالبوز المدبب، خطوتهم فوق الأرض مكتومة، في ظلمة الليل جاءوا وأخذوا شريف معهم، أول مرة عاملوه برقة، كان شابا في الخامسة والعشرين عام 1948م، طبيب تخرج بدرجة الامتياز مع مرتبة الشرف، ينتمي لطبقة تشارك الملك في سرقة الشعب، أخرجوه من السجن للتحقيق وقالوا له: «إنت ابن عيلة يا شريف، ابن ناس، سيبك من زمايلك دول شوية شحاتين عملاء موسكو.» أعادوه إلى السجن ثم أخرجوه للتحقيق: «اسمع يا ولد، إنت باين عليك راسك ناشفة نقدر نكسرها بسهولة، وأمامك فرصة واحدة.» قبل أن يكسروا رأسه هرب من السجن، لم يكن يهرب إلا القتلة الخطرون، تحدثت عنه الصحف كأسطورة خرافية، رسموه على شكل شيطان أحمر ينزلق هابطا من النافذة العلوية على جبل طويل ممدود في الفضاء، نشروا له صورة تشبه السفاحين، أصبح الأطفال يرونه في الكوابيس، يهب الطفل منهم في الليل، يصرخ: حوشوا عني العفريت!
خيالي كان يسرح مع حكايات شريف، كالطفلة تستمع إلى قصص العفاريت، أتصورهم كائنات من صنع الخيال، أرواح بلا أجساد كالآلهة، حتى رأيتهم وجها لوجه، كنت وحدي بالبيت يوم 6 سبتمبر 1981م، جالسة إلى مكتبي مستغرقة في الكتابة، رواية جديدة عنوانها: «سقوط الإمام»، دق جرس الباب، لم أسمع الدقة الأولى ولا الثانية، توالت الدقات وأنا غائبة في عالم الإمام يسقط عن العرش ويصحو بعد الموت ليطلب من حارس الجنة مقابلة الله، أفقت على الدقة السادسة أو السابعة، رأيتهم من وراء الشراعة كالأشباح في كوابيس الطفولة، لم أفتح الباب، كسروا ودخلوا، ملئوا حقائبهم بكتبي وأوراقي ، أخذوني إلى السجن وهم يقولون بأدب شديد: «مجرد سؤالين يا دكتورة نوال وترجعي البيت.» •••
كنت غارقة في النوم حين دقوا الجرس، الدقة الأولى سمعها شريف وهو نائم، كان يعرف طريقتهم في دق الأبواب، والساعة التي يأتون فيها بعد منتصف الليل، قبل طلوع الفجر بساعة، ينقضون على البيوت يسوقون الرجال والنساء إلى أماكن مجهولة لا يعلمها إلا الله ووزير الداخلية.
كانت ليلة حالكة الظلمة بلا قمر ولا نجوم، الضباب عباءة سواء تغلف الأرض والسماء، لا هواء إلا صهد الحرارة، صيف القاهرة في شهر يونيو، كنت أحلم أنني أسبح في بحر الإسكندرية، تسبح أمي أمامي، مياه البحر سوداء كالسماء، أعلم في الحلم أنه الليل، وأن أمي ميتة، أراها تسبح رغم الموت، تصعد فوق الأمواج العالية، تضربها بذراعيها وساقيها، أسبح خلفها بقوة، رأسي يشق الماء كأنه الهواء، وأطير فجأة في الجو، أحلق فوق مدينة تشبه القاهرة، البيوت والعمارات شكلها غريب مدببة الأسطح تشبه الأبراج، الأهرامات الثلاثة وأبو الهول فوق الهضبة، نهر النيل تتسع مساحته يشبه بحر الإسكندرية، المياه الزرقاء أراها من الارتفاع الشاهق، أقول لنفسي في الحلم: كيف أسير بلا جناحين، أيمكن أن يسقط جسمي بسبب الجاذبية الأرضية؟ السؤال يدور في رأسي وأنا أرفرف بذراعي، يذكرني أن البشر لا يطيرون، فجأة أفقد القدرة على الطيران، يتهاوى جسدي بطيئا حتى يلامس السطح، أحرك ذراعي في البحر وأسبح، المسافة بيني وبين الشاطئ بعيدة، أمي لا أراها أمامي، والأمواج تعلو كالجبال السوداء، جسدي مربوط بحجر، مشدود إلى قاع البحر ، أصارع لأطلق سراح جسدي، أفتح فمي لأصرخ، صوتي لا يخرج، الشاطئ طويل يتدلى ويهتز، يصلصل الجرس بصوت هدير الأمواج، علم أسود علامة الخطر يرفرف في الهواء، ممنوع النزول إلى البحر، أمي جالسة فوق الرمال داخل فستان أسود، علامة الحداد، أراها في الحلم وأعلم أنها ميتة، أسمعها تقول: إن أبي مات، وأعلم أنه ميت منذ ثلاثة وثلاثين عاما.
الدقة الثانية لجرس الباب، سمعتها وأنا غارفة في النوم، جرس المدرسة يصلصل، وأنا جالسة في الامتحان أمامي ورقة الأسئلة، لا أعرف الإجابة عن أي سؤال، أنفاسي تختنق تحت الماء، باق من الزمن خمس دقائق، العرق يتصبب من جسدي، أعيد قراءة الأسئلة، اللغة تبدو غير مفهومة كالهيروغليفية، سوف أسقط في الامتحان، الموت أهون من السقوط، ألهث وأنا أكتب، ليست هي الإجابة المطلوبة، مجرد خطوط وخربشات لا معنى لها، باق من الزمن دقيقة واحدة، القلم يرتعش في يدي، يضع فوق الورقة ذبذبات، قطرات العرق تبلل الأسئلة، لا أرى الكلمات الجرس يدق. انتهى الزمن المحدد، الأصابع الحديدية تشد الورقة من يدي، أهب من النوم مبللة بالعرق، أتحسس الفراش من تحتي ليس مبللا، لست طفلة تبول في النوم، ليس هناك مدرسة ولا امتحانات، أنا في سريري نائمة وجرس الباب يدق.
رأيت شريف ينهض من سريره، تذكرت فجأة أنه زوجي، تزوجنا منذ ثمانية وعشرين عاما، منذ الزواج في غرفة واحدة فوق سريرين منفصلين، نؤمن بحرية الحركة من النوم كاليقظة، الظلمة حالكة، يبحث عن نظارته فوق المنضدة بجوار السرير، حركته هادئة، لا يتعجل شيئا، يسيطر على الزمن، يوقفه حتى يعثر على النظارة، حتى يخرج من السجن بعد أربعة عشر عاما، أراه من الخلف وهو يمشي، انحناءة خفيفة يحملها فوق ظهره ويمشي، رأس مرفوع فوق عنق قوي لم ينثن أمام حبل المشنقة، خرج من غرفة النوم إلى الصالة، فاردا ذراعيه أمامه كمن يمشي في النوم، خطوته فوق الأرض شبه حالمة، لا يسرع الخطو ولا يبطئ، حركته لا تتغير، وإن دقت أجراس الكون فهو يعرفها، لا شيء جديدا تحت الشمس، سمعته يفتح الباب الخارجي، يتحدث إلى رجال غرباء، الأصوات تسري من تحت جفوني المغلقة كالحلم داخل الحلم.
دخلوا إلى الصالة الصغيرة في شقتنا بالجيزة، جلسوا حول المائدة المستديرة تعلوها صينية نحاسية، أحدهم أحدب يرتدي بدلة غير رسمية، يضع منديلا حريريا في الجيب العلوي فوق صدره ناحية اليسار، تفوح منها رائحة الكولونيا «لافندر»، وجهه محلوق، شعره محلوق، ملامحه محلوقة، لا يكشف عن شيء من نفسه، لا تفلت منه كلمة واحدة تضيء الموقف، صوته مثل آلة تسجيل.
سمعت شريف يسألهم عن هويتهم، هو يعرفهم عن يقين، في كل يقيم ذرة شك، لا شيء مطلق أو كامل، كل شيء نسبي أو ناقص، الحذر أيضا مطلوب، شريف كان أكثر حذرا مني، يعرف بحور السياسة الغويطة، ينقلب الأصدقاء أعداء بين يوم وليلة، وينقلب الأعداء أصدقاء، تتخفى المصالح تحت طبقة سميكة من الشعارات. - حضراتكم مين؟ - البوليس.
كلمة البوليس رنت في أذني وأنا غارقة في النوم، لا أريد أن أصحو، أمسك بذيل أمي وهي واقفة إلى جواري، أول مرة سمعت كلمة البوليس كنت في السادسة من العمر، في مدينة الإسكندرية، سمعت أبي يقول البوليس أمسك سعدية، تصورت أن عمل البوليس هو القبض على الخادمات الهاربات أو اللصوص الحرامية، لم أعرف أن البوليس يقبض أيضا على الثوار وذوي الأفكار الجديدة. - خير إن شاء الله! - الدكتورة نوال السعداوي موجودة؟ - أيوة، هي نايمة. - أهلا يا دكتور شريف. - أهلا بكم. - عندنا أمر بوضع الحراسة على الدكتورة.
كلمة الحراسة تخترق الوسادة فوق أذني، سمعتها لأول مرة منذ ثلاثة وثلاثين عاما، في عهد عبد الناصر كانت الحراسة توضع على أملاك الأثرياء الإقطاعيين والرأسماليين، وأنا لا أملك شيئا، حتى الشقة التي نسكن فيها ليست ملكنا، ندفع إيجارها كل شهر لصاحب العمارة، وهي شقة صغيرة من ثلاث غرف وصالة، ابنتنا منى لها غرفة واحدة، الصالة الصغيرة تشمل الاستقبال ومائدة الأكل. - الحراسة على حياتك يا دكتورة. - حياتي؟! - نعم حياتك. - وماذا يهدد حياتي؟! - ليس عندنا معلومات.
المعرفة سلاح، كيف أحمي حياتي دون أن أعرف ماذا يهددها؟ إذا كانت الحكومات تريد حقا حمايتي، فلماذا تخفي عني أهم المعلومات؟ هذه الحكومة لم تكف عن البطش بي، لم تكف عن توجيه الضربات إلي حتى الضربة الأخيرة منذ عشر سنوات والمجلة التي كنت أصدرها، كيف تحاربني الحكومة كل هذه الحرب وفي الوقت نفسه تحرسني؟! - أشكركم كثيرا لست في حاجة إلى هذه الحراسة. - لا يا دكتورة، عندنا أمر ولا بد من تنفيذه. - أتحرسون حياتي ضد إرادتي؟ - أيوه. - إزاي ده؟ - لأن حياتك يا دكتورة ليس ملكك، إنها ملك الدولة!
أصبحت أعيش تحت الحراسة المسلحة وحياتي ليست ملكي، رجال مسلحون أمام باب البيت ليل نهار، حارس يرافقني في كل خطوة، اسمه «البودي جارد»، شاب طويل عريض يحمل مسدسا، يرتدي قميصا بلون الصاعقة، أتوقع الضربة على ظهري وأنا أمشي أمامه، لو انطلقت الرصاصة فهي منه أو أحد الحراس، ما دامت هذه الحراسة موجودة أشعر بالخطر.
في الليل أسمع الدبات الخانقة تقترب من السرير، أهب من النوم مبللة بالعرق، أتوقع رؤية الشيطان سافرا أو الإله ملثما، يصوب إلى رأسي المسدس، أرى الظلال تتحرك فوق الجدار، أعود طفلة تخاف في الليل من العفاريت، في الصباح أستعيد شجاعتي أرتدي الحذاء الكاوتش، أخرج مع شريف إلى شاطئ النيل، نمشي بخطوة سريعة في الرياضة اليومية، لم نكف عن هذه الرياضة يوما واحدا، أدوس على الخوف وأخرج من باب البيت، قد تنطلق الرصاصة أو لا تنطلق، لم أعد أشعر بالخطر، أصبحت جزءا منه، لم أعد أشعر بالموت، أصبحت أنا الموت.
أكان هو الوهم الذي وصفه صديقي رجاء في قصائده، أو ربما هو الحقيقة، فأنا أمشي على شاطئ النيل، أدوس بقدمي على الأرض، جسدي يندفع إلى الأمام بحركة قوية، هذه اللحظة الحاضرة متصلة تمتد إلى الأبد، هي الحقيقة الوحيدة أمام عقلي، اللحظة الماضية بكل مخاوفها ماتت، اللحظة القادمة غير موجودة، سواء انطلقت فيها الرصاصة أو لم تنطلق، المستقبل ميت والماضي معدوم، والموت غير موجود، الحاضر فقط هو الذي يعيش. •••
قدمت طلبا لوزارة الداخلية أطلب الترخيص لي بحمل مسدس، إذا كانت حياتي مهددة فمن حقي الدفاع عنها، رفضت الحكومة طلبي، أصبحت على يقين أن هذه الحكومة لا تريد حمايتي، ماذا تريد إذن؟
كانت الحراسة شكلية بلا فائدة، الحارس يجلس في مدخل العمارة على مقعد أخذه من بيتنا، رجل متوسط العمر يشبه الفراشين في الحكومة، يرتدي بدلة صفراء باهتة أكمامها مهترئة، يمد يده ويأخذ البقشيش من سكان العمارة، يحمل عنهم الحقائب أو أكياس الفاكهة والخضار، إن نفحه أحدهم مبلغا كبيرا يصعد معه في الأسانسير حتى باب شقته، في الليل حين أدخل إلى العمارة أراه نائما فوق المقعد، أوقظه وأنا أقول: اصحى يا عم محمد عشان تحرسني، يضحك الرجل، يكشف عن أسنانه البيضاء تحت الشارب الأسود الكثيف: «معليش يا دكتورة أصل النوم سلطان.» - يا ريت تنام في بيتك بدل نومة الكرسي دي؟ - ما أقدرش يا دكتورة. - ليه؟ - إذا جه المفتش أعمل إيه. - المفتش مش جاي روح نام في بيتك.
منذ جاءت الحراسة في 9 يونيو 1992م حتى غادرت الوطن في يناير 1993م، لم يأت المفتش مرة واحدة، كانت الحراسة تتغير، يأتي شباب أكثر قدرة على اليقظة، أراهم واقفين في الليل، أرسل إليهم المقاعد والبطاطين ووجبات الطعام، أعطيتهم بعض كتبي، لا يعرفون شيئا عن المرأة التي يحرسونها، كنت أسألهم: أتعرفون من أنا؟ أتعرفون لماذا تحرسون حياتي؟! لا يعرفون شيئا، عندهم أوامر واجبة التنفيذ، جنود في الحكومة واجبهم الطاعة دون مناقشة كالنساء في بيوت الزوجية. •••
في الصباح الباكر كان البودي جارد يدق الجرس، يفتح شريف الباب: «صباح الخير يا رفيق، النهاردة ده عندك إجازة، ما فيش مواعيد عند الدكتورة، مش هتخرج من البيت، تعالى بكرة.»
في اليوم التالي يأتي، يكرر شريف له العبارة، أصبح مهمتنا كيف نهرب من البودي جارد، في غيابه يزول الخطر، أشعر بالحرية، أخرج وأمشي في الشوارع دون خوف، لا أستدير لأرقب يده قبل أن تطلق الرصاصة في ظهري. •••
الكتابة في حياتي هي الملاذ، لا شيء يعوضني عن حروفي فوق الورق، الكتابة أنقذتني من الموت، عن طريقها أتنفس، أعبر عن نفسي، أكسر العزلة بين جسدي والعالم ، أخلق كلماتي وكلماتي تخلقني، لا أملك في حياتي إلا حروفي وحروفي تملكني، علاقة حب متساوية متكافئة لا يسيطر فيها طرف على الآخر، لولا الكتاب لأصبحت من الموتى، وبسبب الكتابة دخل اسمي قائمة الموت. «قائمة الموت»: عبارة جديدة دخلت حياتنا الأدبية في السنين الأخيرة، بدأنا نسمع عن أسماء أدباء في قائمة الموت، ألتقي صدفة في الطريق بصديق فيسألني في قلق: «تعرفي مين في الآيمة يا نوال؟» الإشاعات تنتشر في القاهرة كالدخان، لا أحد يعرف الحقيقة، نمشي في الضباب، إنه سمة العصر، في الماضي كان العدو مرئيا، نراه أمامنا حاملا سلاحه العسكري، له اسم معروف، هذه القوى المجهولة بلا اسم، كيف نحاربها؟
في الليل أسمع صوتا ينطلق من الميكروفون، لا أعرف من أين تأتي؟ من مئذنة الجامع؟ قبة الكنيسة؟ الديسكو كلوب، ماكدونالد؟! صوت غريب يسري في ظلمة الليل، اقتلوهم حيث وجدتموهم، الكفرة أعداء الله فلان وفلان، أسماء أدباء وشعراء، ثلاثين أو أربعين اسما، ويرن اسمي و«نوال السعداوي»، يخترق رأسي مثل طلقة الرصاص، تدوي حروف اسمي في الليل: اقتلوها الكافرة عدوة الله. للصوت فحيح كأنفاس ثعبان، تفوح منه رائحة غريبة تشبه النفط.
كنت مستغرقة في كتابة روايتي الأخيرة: «الحب في زمن النفط»، في أعماقي أدرك أن النفط هو القوة الخفية تحرك الأشياء من وراء الستار، أضع خطا تحت كلمة النفط، أشعر بشيء من الراحة، خطوة أولى لإعطاء اسم للقوة المجهولة بلا اسم، هناك علاقة بين النفط وقائمة الموت، أمسك بأصابعي طرف الخيط، لولا النفط ما قامت حرب الخليج في يناير 1991م، ما تحركت جيوش ثلاثين دولة على رأسها الجيش الأمريكي، لولا النفط ما تحرك الجيش البريطاني وأقام في فلسطين دولة إسرائيل، لولا النفط ما انقلب العالم ضد إيران في عهد مصدق، لولا النفط ما احتكم علينا ملوك لا يعرفون القراءة ولا الكتابة.
في الرواية كان النفط هو البطل، الجزيرة غارقة في بركة من النفط، يحكمها صاحب الشركة «الخواجة»، ولا يتحدث اللغة العربية، وصاحب الجلالة الملك مندوب الله على الأرض رأس العائلة المقدسة ، تبدأ الرواية بامرأة عادية من الشعب تخرج من بيتها في إجازة يومين، كان هناك أمر من صاحب الجلالة: «ممنوع على النساء القيام بإجازة، إن خرجت المرأة يتم القبض عليها وإعادتها حية أو ميتة.»
أغرقت نفسي في الكتابة، أسابق الزمن أخشى أن يسبقني، فكرة الموت تراودني دائما مع عملية الخلق، ينتابني القلق كلما بدأت عملا إبداعيا، أحوطه بذراعي كالطفل أخشى عليه الضياع، أمشي فوق الرصيف أخشى أن تصدمني سيارة، لا أبغي من الدنيا سوى أن أعيش لأكمل العمل، لينمو المخلوق الصغير ويستقل.
فكرة الموت لا تفارقني منذ جاءت الحراسة، لا يمر يوم دون أن أسمع هذه الكلمة «القايمة»، القايمة مين فيها النهاردة، مين انضرب بالرصاص، في مصر وفي الجزائر، يستخدمون في القتل مدافع رشاشة ودراجات بخارية، يهربون وتفشل الحكومة في القبض على القاتل، البودي جارد يدق الجرس كل يوم، الحراس أمام البيت أمسكوا شخصا مجهولا حاول الصعود إلى شقتي، كلما دق جرس الباب أتوقع القاتل، لم أعد قادرة على الكتابة، فكرة موتي بالرصاص تحلق فوق رأسي، أطردها فتعود مثل ذبابة عنيدة، يكبر حجمها أحيانا فتصبح كالطائر الأسود الضخم، لا يشبه النسر ولا يشبه الصقر ولا الحدأة ولا أي كائن آخر، يفرد جناحيه فوق رأسي وأنا أكتب، أتوقف في منتصف السطر، قبل أن أكمل حروف الكلمة يتجمد القلم في يدي. - مالك يا نوال؟ فيه حاجة؟ - مش قادرة أكتب يا شريف، عقلي واقف مشلول.
يناولني شريف كوبا من عصير البرتقال، أو فنجان شاي، ينظر في ساعته، يرى أنني لم أنهض من مقعدي وراء المكتب سبع ساعات أو ثماني أو أكثر، أحيانا كنت أجلس إحدى عشرة ساعة دون أن أنهض. - «ريحي نفسك شوية، إدي نفسك أجازة يا نوال.» - الإجازات ممنوعة يا شريف بأمر من صاحب الجلالة الملك. - الملك مين يا نوال؟
كنت أعيش داخل الرواية، يشدني شريف إلى الواقع، أعيش على الحافة أتأرجح بين الخيال والحقيقة، أشد عضلات ظهري وأنهض بصعوبة، قدماي وارمتان، فقرات العمود الفقري أسمعها تئن، كصرير الساقية في طفولتي، أصابتني الكتابة بمرض مجهول يشبه الانزلاق الغضروفي.
كل صباح كانت الصحف تدخل إلى شقتنا، قوة مجهولة تدفع بها تحت عقب الباب، الرجل صاحب الكشك على ناصية شارع مراد مع شارع الجيزة، اسمه «محمد» يركب دراجة يوزع الصحف على البيوت، يفرشها فوق الرصيف، يعلقها على جدران الكشك، أمر بها في طريقي إلى كورنيش النيل، أحرك عيني بعيدا عنها، في البيت أتركها فوق الأرض، أركلها بقدمي لأفتح الباب، لا أقربها في الصباح، إن قرأتها أفسدت علي اليوم، كالسم تقتل بوادر التفكير في خلايا المخ .
أصحو من النوم أشكو من الصداع، أجلس إلى مكتبي مربوطة الرأس، عقلي مثل الأرض البور، الصحراء القحط، لا تنبت فيها زهرة، لا أضع كلمة واحدة فوق السطر، أعيد ما كتبته بالأمس، يبدو فارغا من المعنى، كلمات ميتة كالزهور فوق القبور، أمزق أوراقي أقذفها بطول ذراعي، أضع رأسي تحت ماء الدش، أبلع أقراص الأسبرين، أضرب الجدار بقبضة يدي، لا شيء يعالج الألم، كالسكين يشق رأسي نصفين، يدخل شريف إلى غرفتي يراني منكفئة فوق مكتبي، القلم في يدي مكسور، أوراقي من حولي ممزقة: «نوال فيه إيه؟» - «مش قادرة أكتب يا شريف!»
كنت أتلقى تهديدات بالقتل، أصوات مجهولة تأتيني عبر أسلاك التلفون، شتائم باللغة العربية الفصحى، والعامية المصرية، تشوبها أحيانا لكنه ... خليجية، سعودية وكويتية وجزائرية، عبر البريد تأتي الشتائم على شكل رسائل بدون توقيع: «يا كافرة يا عدوة الإسلام، يا حليفة الشيطان التي أخرجت آدم من الجنة وسبب الموت والخراب، كنت تنشرين سمومك عبر جمعيتك المشبوهة التي أغلقتها الحكومة وحولت أموالها إلى جمعية نساء الإسلام، نعم إن النساء المسلمات المؤمنات أحق منك بهذه الأموال، فهي أموال حرام ما لم توجه لخدمة الدين الحنيف، وما هذا الشعار الكافر الذي رفعته في جمعيتكم المنحلة، (رفع الحجاب عن العقل)، ألا تعرفين أن الله أمر النساء المسلمات بارتداء الحجاب، كلمة الحجاب مقدسة، كيف تحرضين النساء ضد طاعة الله، مثلك لا يستحق إلا الموت!»
في إحدى الليالي كنت وحدي بالبيت، سافر شريف إلى قرية القضابة بجوار طنطا في مهمة ضرورية، جلست إلى المكتب أحاول كتابة الفصل الأخير من الرواية، الليل ساكن، لا أسمع إلا صوت أنفاسي، دقات الساعة الخافتة، الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، ابنتنا منى انتقلت إلى بيتها، ابننا عاطف استقل بحياته، أصبحت لي غرفة مستقلة، أكتب فيها وأنام فيها بجوار أوراقي، أحب هذا الانعزال الكامل وحدي مع أفكاري.
فجأة دق جرس الباب، تجمدت في مقعدي، من يأتي في هذه الساعة من الليل؟ الضربات تحت ضلوعي تتصاعد، العرق يتصبب وأنا جالسة لا أريد النهوض، ربما أخطأ أحد الجيران وضغط بيده على الجرس، جاءت الدقة الثانية فانتفضت واقفة، أنوار الشقة كلها مطفأة، سرت على أطراف أصابعي، تحركت في الظلمة بلا صوت، من وراء شراعة الباب، لمحت خيالا أسود: استجمعت شجاعتي. - مين بره الباب؟!
لم يرد أحد، الصمت يدوي في أذني كصفير الطاحونة في منوف، عقلي يفكر وحده، هل أجري إلى المطبخ وأمسك السكين؟ لكن ماذا يفعل السكين في مواجهة مدفع رشاش؟ لو كان معي مسدس؟ ألهذا رفضوا التصريح لي بمسدس؟ لماذا لا يرد ويقف صامتا هكذا؟ إذا كان هو القاتل فكيف تركه الحارس يصعد؟ هل القتلة يدقون الأجراس؟ واقفة وسط الصالة داخل الظلمة مكتومة الأنفاس، مرت لحظة ممدودة بلا نهاية، رأيت الخيال يتحرك وراء الشراعة ويختفي، شيء غريب أغرب من الخيال، لماذا جاء ولماذا راح؟
عدت إلى غرفة النوم كي لا أنام، أطرافي باردة، الدقات تحت ضلوعي بطيئة شبه متوقفة، فتحت النافذة لأطل على الشارع، سأراه يخرج من باب العمارة، إن لم يخرج فلا بد أنه الحارس، مضت الدقائق، لم يخرج أحد، عشر دقائق، عشرون دقيقة، واقفة في النافذة كالتمثال، شارع مراد مظلم منطفئ الأنوار، لا أحد يتحرك، سيارات قليلة تمرق بسرعة الضوء، زئير الأسد يصلني من حديقة الحيوان مع رائحة المجاري، سيارة بوليس تنطلق بصفارة حادة، ساعة الجامعة تدق مرتين ثم تسكت، من بعيد يأتيني الصوت كالنشيج، امرأة تئن وحدها في الليل، لا أعرف من أين يأتي الأنين، أهي الجارة التي تسكن فوقي، أم في الشقة تحت شقتي أم في الشقة المجاورة التي تسكن فوقي، أم في الشقة تحت شقتي ناحية اليمين، أو المرأة الوحيدة في الشقة ناحية اليسار، الأنين يحمله هواء الصيف في المدينة الكبيرة، يسري في أذني كالطنين، يذكرني بأنين أمي في الليل ممدود يشبه النداء، يا ... نو ... ا ... ا ... ل ... ل، تناديني في الليل يا نوال، أدفن وجهي في وسادتي، يتحول بكائي إلى أنين يعلو على أنينها أو أنين المرأة الأخرى. - نوال، لازم تسافري! - أسافر فين يا شريف؟ - عندك صديقات في كل بلاد العالم ، إنت معروفة يا نوال؟ وأنا مستعد أسافر معاك.
بدأت أفكر في السفر، كيف أسافر؟ رحلاتي السابقة كان لها هدف، حضور مؤتمر، إلقاء محاضرة، لم أجرب من قبل السفر بلا هدف، أو للهروب من الموت، أيمكن أن يكون مصيري هو النفي خارج البلاد؟
ألا تحتمل أرض الوطن أن تمشي فوقها كاتبة مثلي؟! عشت تجربة السجن والطرد من العمل والمصادرة والمطاردة وتشويه السمعة، كل ذلك داخل الوطن، لم أعرف ماذا يكون المنفى.
ذات يوم دق الجرس، فتح شريف الباب، دخلت فتاة اسمها إليزابيث، جاءت إلى مصر في زيارة قصيرة، طالبة بجامعة ديوك في ولاية نورث كارولينا، درست بعض رواياتي المترجمة إلى الإنجليزية، أرادت أن تزورني قبل أن تغادر مصر، على باب العمارة رأت الحراسة المسلحة، صعد معها الحارس حتى باب الشقة، سألتني: ما الذي حدث؟ قلت بهدوء وأنا أبتسم: لا شيء حدث، فقط يحرسون حياتي. اندهشت الفتاة كيف أبتسم بهذا الهدوء. - لماذا لا تسافرين يا دكتور ساداوي؟ - وإلى أين أذهب؟ - إلى جامعة ديوك، هناك أستاذتي الدكتور ميريام كوك وهي تدرس رواياتك في حصة الأدب العربي، يمكن أن أطلبها بالتلفون غدا وأعطيها تليفونك، ما رأيك؟ •••
يوم 8 يناير 1993م، أودع بيتي في الجيزة، الشقة الصغيرة في شارع مراد، استأجرتها من صاحب العمارة في يناير 1960م، عشت فيها ثلاثة وثلاثين عاما، شريف يحزم الحقائب في الصالة، منذ تزوجنا لم تكف الحكومة عن مطاردتنا ثلاثين عاما، لم نبدأ عملا إلا هدموه، لم نضئ مصباحا إلا أطفئوه ، لم ننشئ جمعية إلا أغلقوها، لم نصدر مجلة إلا صادروها، ها هي المطاردة تصل إلى النفي خارج البلاد.
أدور على غرف الشقة أودعها، ابنتي منى واقفة في الصالة تحوطني بذراعيها: «مع السلامة يا ماما ... كلميني في التليفون أول ما توصلوا ديرهام.» ابني عاطف واقف إلى جوارها، يحوطني بذراعيه: «مع السلامة يا ماما، خلي بالك من نفسك.» منى وعاطف يعانقان شريف، العيون تلمع بالابتسام لتخفي الدموع الحبيسة.
شريف يحمل الحقائب خارج الباب، حركته هادئة تشبه حركة أبي، كنت في السابعة من العمر حين رأيته يحزم الحقائب بهذه الحركة الهادئة، أصدرت الحكومة قرارا بنفيه بعيدا عن المدينة، اشترك في مظاهرة وطنية ضد الملك والإنجليز، عاش المنفى عشر سنوات، من 1938م حتى عام 1948م.
خرجنا من بيتنا نحمل حقائبنا، نودع الأهل والوطن، شريف يحوطني بذراعيه داخل الطائرة: «أمامنا يا نوال رحلة بديعة، تجربة جديدة تضاف إلى تجاربنا السابقة.» تعانقنا في الجو بين السماء والأرض، والبوينج تشق السحب نحو الشمال.
الفصل الثاني
الانطلاق الأول
سماء ولاية نورث كارولينا تمتد فوق رأسي حتى الساحل الشرقي الجنوبي لأمريكا الشمالية، الليل كثيف الظلمة بلا قمر، النجوم ترتعش من بعيد توشك على الانطفاء، في طفولتي كنت أسأل أبي وأمي: مين خلق النجوم دي كلها؟ ربنا يا بنتي، وأعود أسأل: ومين خلق ربنا؟ يكف أبي وأمي عن الرد، يدب الصمت لحظة، يبتلع أبي لعابه، أرى تفاحة آدم تعلو وتهبط في عنقه، يخرج صوته متحشرجا: ما فيش حد خلق ربنا، هو خلق نفسه، لم يكن لعقلي الطفولي أن يتصور شيئا خلق نفسه.
أصبع أبي الكبير هو أصبع الله يشير إلى السماء، يعطي كل نجم اسمه، ده المريخ، وعطارد، وزحل، والزهرة، أتوقف عند الزهرة، النجمة الوحيدة الأنثى بين النجوم الذكور، إنها نجمتي، ولدت معي وتموت معي، كانت ستي الحاجة - جدتي لأبي - تقول لكل واحد من الناس نجم في السماء، يولد معه ويموت معه.
عيناي مشدودتان إلى «زهرة»، أهي النجمة نفسها التي كنت أراها في سماء قريتي في دلتا النيل، تبعد عني في الزمان والمكان أكثر من نصف قرن وعشرة آلاف ميل، حنين جارف إلى طفولتي وأيام صباي، في العاشرة من عمري عرفت الحب الأول، في العشرين من عمري عرفت الحب الثاني، مضت عشر سنوات بين الأول والثاني، ثم مضت ثلاثة عشر عاما حتى عرفت الحب الثالث، في كل قصة عشتها أسأل نفسي: لماذا هو بالذات من دون البشر؟ لم يكن للسؤال جواب، كأنما انعدام الأسباب هو شرط الحب.
لحظات في عمري أتوقف عندها، تبدو عصية على الفهم، يدركها القلب دون كلام أو لغة، الحب يسبق اللغة في التاريخ، الإدراك الجسدي يرتفع فوق العقل.
تفسد الكتابة لحظات الحب، القلم مثل المشرط يقتل اللحظة، يمزق الجسد، يفصل الرأس عن العنق، عن القلب، عن الصدر، عن البطن.
في مفكرتي السرية وأنا في العشرين من العمر كان سهلا أن أكتب كلمة الرأس أو القلب أو الصدر، كلمات بريئة تشير إلى أجزاء بريئة من الجسم، كلمة بطن لم ترد على لساني حتى بعد دخولي كلية الطب وتشريح بطون الجثث، كلمة «جنس» لم أنطقها حتى بعد زواجي الأول أرقد مع زوجي في سرير واحد، يصنع منا الزواج حيوانا بجسد واحد ورأسين، لم أنطق كلمة «جنس»، وإن نطقت كلمة «زوجي» باللغة العامية «جوزي» ترن في أذني نابية.
وفي كلية الطب لم ندرس شيئا عن الجنس، درسنا الجهاز التناسلي والبولي والحمل والولادة وأمراض النساء وسرطان الرحم وسرطان الخصية، لم نعرف شيئا عما كان يشغلنا معظم الوقت، كان علم الطب مفصولا عن حياتنا اليومية.
أصبحت لي مكتبي الصغيرة في غرفة نومي، إنها غرفتي وحدي لم تعد تشاركني فيها أختي الأصغر ليلى، منذ أدخلت جمجمة الميت إلى غرفتي، أخرجت أختي سريرها.
أول ما أسعدني حين بلغت العشرين من عمري من غرفتي الخاصة، حريتي، أحلم بها في طفولتي وأنا ألعب بالعرائس مع أختي، وفي سنين المدرسة الابتدائية والثانوية وفي مدرسة حلوان الداخلية، حنين إلى الحرية أشد من حنين إلى الحب، الحب عندي هو الحرية وإلا ماذا يكون الحب؟!
في خريف 1951م أدركت أنني أملك حريتي، في الصباح أفتح عيني فتغمرني سعادة مجهولة، أقفز من السرير بخفة العصافير، أندهش من خفة جسمي، أندهش لصوت رذاذ الماء ينهمر من الدش، أغتسل بفرحة طفولية، أحس الخفقات تحت ضلوعي، أغني لنفسي في الحمام: «عندما يأتي المساء ونجوم الليل تنثر، اسألوا الليل عن نجمي، متى نجمي يظهر.» علاقة خفية بين النجوم وخلجات القلب، لم تعد خفية بعد أن تجاوزت الستين من العمر، قرأت في علم الكون الجديد، التشابه في تكوين جسد النجم وجسد الإنسان.
أصبح لي لأول مرة في حياتي مكان خاص أغلق بابه علي، غرفة صغيرة تتسع لسريري «السفري» من الصاج، ومكتبة لها رفوف عليها كتبي، ومكتب صغير أجلس إليه والباب مغلق، أسجل في مفكرتي السرية ما أشاء، أشرب الشاي بالنعناع دون رقيب أتمدد فوق السرير وأشرد كما يحلو لي الشرود، أبحلق في الفراغ بالساعات دون أن يتهمني أحد بالجنون.
كانت غرفتي تطل على حديقة خلفية صغيرة، نخلة طويلة ممدودة نحو السماء، رأسها المنكوش بالزعف أو سباطات البلح يشبه رأسي، شعري الأسود الغزير يطيره الهواء، اشترى لي أبي مكتبا صغيرا من الخشب له ثلاثة أدراج ناحية اليمين، درجان ناحية اليسار، الدرج الأعلى له مفتاح واحد يغلق الأدراج كلها، فوق الحائط ثلاثة رفوف هي المكتبة، عليها كتب الطب، كشاكيل المحاضرات، ولوحة خشبية أرشق فيها الجدول والمواعيد، فوق الرف العلوي الكتب غير الطبية، روايات وقصص، فلسفة وتاريخ، وكتب أخرى أحصل عليها من المكتبات العامة.
من نافذتي الأمامية أطل على جزء من الشارع الصغير المتفرع من شارع ترعة الزمر بالعمرانية، الحي الهادئ في أول شارع الهرم بالجيزة، من نافذتي الخلفية أطل على منزل الجيران، يقف في الشرفة شاب ممتلئ الوجه أبيض البشرة يشبه الملك فاروق، يمسك في يده مرآة تعكس الضوء، يسلط علي دائرة الضوء المتحركة فأغلق الشيش من وراء شقوق الشيش أراه، يضع فوق عينيه منظارا مكبرا أو تلسكوب، أسد شقوق النافذة بورق الصحف القديمة.
فوق مكتبي الجمجمة، أجلس إلى المكتب لأذاكر دروسي، أقرأ، أكتب، أفتح النافذة الأمامية ، وجهي ناحية السماء، لا بد أن أرى الأفق حين أكتب، تشرد عيناي في المساحات الواسعة اللانهائية، لا حواجز أمامي في مجال الرؤية.
كانت الجمجمة تؤنسني، تذكرني بالموت فيشتد إحساسي بالحياة، تملؤني بالفرح لأنني أعيش رغم وجود الموت، إلى جوار الجمجمة مروحة كهربية صغيرة، تحدث صوتا خافتا حين تدور، كحفيف الهمس، تؤنسني تحمي وحدتي.
يكفي أن أغلق بابي لتغمرني السعادة، لم يكن أحد في البيت يقلقني في نومي أو يقظتي، أقرأ في سريري حتى الفجر، أحبس نفسي في غرفتي لأكتب يومين أو ثلاثة، أرتدي ملابسي وأخرج ، لم يعد أحد يسألني إلى أين أذهب أو متى أعود، الدراسة في كلية الطب تمتد طول النهار، والمظاهرات الوطنية قد تنفجر في أي وقت.
كنت أمشي في المظاهرات مع الطلبة، وأمشي كل يوم من بيتي في أول شارع الهرم إلى كلية الطب في شارع قصر العيني، وأعود مشيا أو أركب الترام إذا تأخر الوقت، أختار الأحذية بدون كعب عال، الأحذية الجلدية المتينة غير اللامعة، كل شيء لامع يبدو لي قبيحا، الشعر المدهون بالبريانتين، القماش الشاركسكن، الأحذية الجلاسيه، البشرة المدهونة بالكريم، الشوارب المنمقة المقصوصة بعناية، ربطة العنق المربوطة بدقة وإحكام، تجذبني الطبيعة التلقائية، وشيء من الفوضى الضرورية لإكمال أي نظام، شيء من القبح اللازم لأي جمال، لم أحب أدوات الزينة، لم ألون وجهي بالمساحيق، لم أصبع شفتي بالأحمر الصناعي، أرتدي الأقمشة الخشنة الرخيصة، تزيد خشونتها من نعومة بشرتي، لا أرتدي الفساتين المكشوفة الصدر، أصبحت أمتلك جسدي ولست في حاجة إلى عرضه للعيون، أرتدي أحيانا القمصان الرجالي، تزيد رجولتها من أنوثتي.
في أعماقي أدرك أنوثتي العارية الكامنة الزاهدة في الظهور، يشتد زهدها باشتداد تأججها، تتخفى عن الأعين تحت غلاف الجسد، لا يطل منها شيء إلا البريق الخاطف في العينين، وأصحو مبكرة قبل أن يصحو البيت، أتناول فطوري، فنجان الشاي الساخن جدا باللبن الحليب، قطعة من الجبن الأبيض وعسل النحل، نصف رغيف، أشرب الشاي بالنعناع في منتصف النهار أو بعد الظهر، بدأت أحب القهوة مع السهر أيام الامتحانات ، كنت أحب النوم، أستغرق فيه حتى الموت، ثم أصحو أبعث إلى الحياة من جديد.
أهوائي الصغيرة أعشقها، مثل الحملقة في السماء دون عمل أي شيء، الكون يبهرني، الكواكب، النجوم، يراودني السؤال دائما من أين جاء هذا الكون؟ متى بدأ وهل يمكن أن ينتهي؟!
خفق قلبي بالحب للمرة الثانية في حياتي داخل مدرج صغير بجوار المشرحة في كلية الطب، نهبط إليه تحت الأرض بضع درجات، يجتمع فيه أغماء الطلبة، يرتبون الإضرابات والمظاهرات الوطنية.
خريف عام 1951م كان مشحونا بالأحداث السياسية، منذ إلغاء معاهدة 1936م، في أكتوبر 1951م، لم تكف المظاهرات ضد الاحتلال البريطاني، حكومة الوفد برئاسة النحاس باشا تشجع المقاومة الشعبية، تسلح الفدائيين في القنال من وراء الستار.
سافر زميلي أحمد المنيسي مع كتائب الفدائيين ولم يعد، كنا نتبادل الحديث في معمل الكيمياء الحيوية (البيوكمستري)، رسالته الصغيرة بخط يده داخل كشكولي، كلماته المترددة الخجول: «ستكون صورتك أمامي وأنا أقاتل في سبيل الله.» أنفه من الجانب مرفوع يرسم في الجو قوسا حادا، في عينيه بريق قوي يتحدى الإنجليز، ونظرة خجولة لا ترتفع إلى عيني، كانت التقاليد صارمة تفصل بين الجنسين بسكين حاد، تحرم تبادل الكلمات أو النظرات رغم الاختلاط في الجامعة.
منذ الرسالة في الكشكول لم أر المنيسي إلا مرة واحدة قبل أن يموت، كان يحارب الإنجليز في القنال وسقط شهيدا، أقاموا له حفل تأبين، حفروا اسمه فوق حجر في مدخل كلية الطب، ثم سقط الحجر وسقط معه اسمه في التاريخ، وأسماء فدائيين آخرين ماتوا أو لم يموتوا، عادوا من الحرب يطاردهم البوليس المصري قبل الإنجليز، تحولوا بقدرة قادر من أبطال مدافعين عن الوطن إلى مجرمين في نظر الحكومة وإرهابيين في نظر الإنجليز.
أحمد حلمي كان من الفدائيين، التقيت به لأول مرة في المدرج الصغير بجوار المشرحة، كنت الطالبة الوحيدة التي تدعى إلى هذه الاجتماعات، ربما لأنني كنت أشارك في المظاهرات الوطنية وأكتب في مجلات الكلية، ورثت عن أبي أحلامه الطفولية، أكتب الشعر والأدب، أحمل السلاح، أضرب الأعداء وأحرر الوطن، لم أر نفسي في أحلامي مرتدية ثوب الزفاف أو طرحة الدخلة، لم يكن للزوج مكان في أحلامي، لا يمكن لاسم رجل أن يحذف اسمي أو يحتل جسدي.
هذه الحقيقة الهائلة تحت ضلوعي! أهي حقيقة أم وهم؟ كنت جالسة في المدرج الصغير في اجتماع تنظيم المظاهرة الكبيرة، تسربت الخفقة تحت الضلوع خافتة أول الأمر ثم تصاعدت، كتمتها بحقيبة كتبي، هذا القلب داخل صدري لم يخفق هذه الخفقة منذ الحب الأول وأنا في العاشرة من العمر، عشر سنوات مضت تحولت الطفلة إلى فتاة في العشرين، طالبة مجدة بكلية الطب تدرس التشريح والكيمياء الحيوية والفيزياء والفسيولوجيا والباثولوجي (علم الأمراض)، حفظت القرآن عن ظهر قلب وأجزاء من التوراة والإنجيل، قرأت كتبا كثيرة خارج مقررات الطب، في الفلسفة والدين والتاريخ منذ الفراعنة وقدماء المصريين حتى الاحتلال البريطاني والخديوي إسماعيل والملك فؤاد وفاروق والأحزاب السياسية، كنت أدخر أجر الترام أو الأتوبيس لأشتري كتابا جديدا أو رواية أدبية، زميلتي «سامية» أمدتني ببعض الكتب عن الماركسية، في مكتبة أبي كان هناك الجاحظ وابن رشد وابن خلدون وابن سينا والطبيب الرازي وأبو العلاء المعري، رسالة الغفران قرأتها قبل أن أقرأ الكوميديا الإلهية، ولد «دانتي» في إيطاليا عام 1265م، قرأ مثلي عن التراث المصري والمسيحي والإسلامي، لا بد أنه قرأ ابن عربي الصوفي كما قرأه أبي، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري، ألهذا جاءت صورة العالم الآخر في الكوميديا الإلهية كما جاءت في رسالة الغفران؟ كنت أسمع أبي يقول إن «دانتي» نقل عن أبي العلاء المعري، تمط سامية شفتيها بامتعاض: معري إيه يا نوال ... ده عره خالص ... عشان كده سموه معري ... إيش جابه لواحد عظيم زي ضانطي (دانتي)، تفخم حرف الدال وتقلب التاء إلى طاء، زميلتي «بطة» تقلب الراء إلى غين، وتلعن الجميع: المعغني (المعري) ودانتي وماغكس (ماركس) تسخر منه، تقول عنه مغكس (مرقس) حبيب زميلتنا صفية منذ المدرسة الثانوية.
لم تكن واحدة من الزميلات تمشي في المظاهرات، أو تحضر الاجتماعات السياسية في المدرج الصغير، تلوي بطة شفتها السفلية الحمراء: «سياسة» إيه يا نوال دي كلام فاغغ (فارغ)، تشيح صفية بوجهها بعيدا: «كفاية أخويا أسعد في السجن والسياسة خربت بيتنا.» تزم سامية شفتيها بازدراء: الطلبة دول كلهم عملاء للأحزاب السياسية المتنافسة على الحكم، ما فيش إخلاص في البلد إلا في الحزب الشيوعي.
كلمة الشيوعية ملبدة بالغموض والإشاعات، الحزب الشيوعي غير شرعي، يعمل تحت الأرض، زعيم الشيوعيين كان طالبا في السنة النهائية، اسمه إسماعيل شلبي، نحيف الجسم يرتدي بدلة سوداء، فوق عينيه نظارة سوداء تتدلى منها سلسلة ذهبية، قصير القامة يلقي خطبة طويلة عن الفقراء من العمال والفلاحين، يتململ الزملاء في مقاعدهم، ينظرون في ساعاتهم، ينهض زعيم الإخوان المسلمين «عمران عبد الموجود» بجسمه المربع داخل البدلة الضيقة، الصديري تتدلى منه سلسلة ساعة فضية من قبر الرسول بأرض الحجاز، يقف على المنصة مائلا بجذعه ناحية اليمين، واضعا يده اليسرى في جنبه، رافعا يده اليمنى، شفتاه الممتلئتان منفرجتان، يبتسم لقوة ما في السماء، يقف صامتا في هذا الوضع بضع ثوان، كأنما عدسة سحرية في الفضاء تلتقط له صورة، ثم يستدير ببطء ليواجه الحاضرين بصوت أشبه بالرعد، يبدأ خطبته بسم الله العلي العليم ويختمها بالصلاة على خاتم الأنبياء أجمعين، يتململ الزملاء في مقاعدهم، يتسلل بعضهم من الباب الخلفي، ينهض أحدهم معترضا: «يا أخ عمران كفاية إنشا عاوزين كلام مفيد»، ينهض فؤاد محيي الدين، كان من أطباء الامتياز أو النواب في قصر العيني، أطولهم قامة شديد النحافة كالعصا الخيزران، شديد الأناقة بدلته خطوطها مستقيمة مكوية، ياقة قميصه منشاة ناصعة البياض بلا ذرة تراب ولا عرق، ربطة عنقه زهية الألوان معقودة بإتقان في نقطة الوسط بالضبط تحت ذقنه يشدها بأطراف أصابعه الطويلة الرفيعة، يشد عنقه الطويلة بحركة الديك الرومي أو الطاووس، كبرياء ربما أو اختناق، فالمدرج تحت الأرض، النوافذ كلها مغلقة، الهواء شبه معدوم، دخان السجائر يتصاعد إلى السقف، جميعهم ينفخون الدخان من أنوفهم، كأنما هذا النفخ جزء من طقوس السياسة أو الرجولة، يخبط فؤاد محيي الدين المنصة بقبضة يده القوية، لا تقل قوة عن قبضة زعيم الإخوان، صوته لا يقل جهورية عن صوته، يردد كلمات مصطفى كامل باشا: «لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا، نحن يا زملاء مصريون انتماؤنا إلى مصر مسلمين وأقباطا لا فرق، دستورنا هو القانون يصدر عن البرلمان وليس القرآن الدين لله والوطن للجميع يا إخوان!»
وينهض يوسف إدريس من مقعده، كان طالبا في السنة النهائية، يتجه نحو المنصة بخطوة واسعة سريعة، رأسه مائل إلى الأمام بقوة كأنما ينطح الهواء، متوسط الطول والنحافة، ليس أنيقا مثل فؤاد محيي الدين، بدلته واسعة قليلا، ربطة عنقه واسعة متهدلة حول عنقه، معوجة على جنب، ربما عقدها بسرعة دون أن ينظر في المرآة، لم يحرص أن تأتي العقدة بالضبط في نقطة الوسط مثل فؤاد محيي الدين، يقف على المنصة واضعا يده اليمنى في جيبه، يحرك يده اليسرى في الهواء، يحملق في الحاضرين بعينين لامعتين غائرتين تحت عظام الجبهة، يثبتهما بحدة في عيون الجالسين كأنما يبغي تنويمهم مغناطيسيا، صوته لا يقل ارتفاعا عن صوت فؤاد محيي الدين، يخلط الفصحى بالعامية: «يا أيها الزملاء، بلادنا تمر بمرحلة خطيرة علينا أن نكون جميعا فدائيين نحمل السلاح في القنال ونطرد الاستعمار، ويا زملاء، مش كفاية القضاء على الاستعمار، لا بد من ثورة شعبية تحقق العدالة بين الطبقات الكادحة والطبقات العليا.»
تسري الهمهمة بين الطلبة، يرفع أحدهم صوته: «ده كلام شيوعي.» يتصدى له طالب آخر: «اسكت يا أخ خلينا نسمع.» أسكت يعني إيه؟ لا يمكن أسكت! تنشب مشاجرة في ركن من أركان المدرج، ينهض زعيم الوفد «سليمان محمد» يسرع إلى المنصة، لا يتخلى يوسف إدريس عن مكانه، يقف الاثنان معا فوق المنصة، زعيم الوفد أقصر قامة من يوسف إدريس، أكثر نحافة، بدلته أكثر تهدلا واتساعا، كأنما أخذها من أبيه أو أخيه الأكبر، ربطة عنقه باهتة مفكوكة، ياقة قميصه مسودة قليلا، قبضة يده تضرب المنصة أقوى من الجميع، صوته أعلاهم فهو ينتمي إلى حزب الأغلبية وهو الحزب الحاكم أيضا بزعامة النحاس باشا، يهتف بعض الطلبة النحاس! النحاس! يشتد الهرج والمرج، يقفز زعيم الوفد فوق المنصة يضرب المنصة بقدمه القوية، حذاؤه له كعب سميك تبطنه قطعة حديد على شكل حدوة الحصان، صوته أعلى من صليل الخيل: يحيا النحاس زعيم الأمة.
في الصف الآخر بجوار الباب الخلفي كنت أجلس، لأخرج حينما أشاء دون أن يراني أحد، كانت عيونهم تتجه نحوي دائما، ربما لأنني الطالبة الوحيدة التي تحضر هذه الاجتماعات السياسية، الآلام الحادة في مؤخرة رأسي أو الصداع، ربما بسبب الاختناق «الإسفكسيا» بلغة الطب، الهواء تشبع بالدخان أو النيكوتين وثاني أكسيد الكربون وانعدام الأوكسجين، ارتفعت الحرارة ونسبة السموم في الدم، جالسة في مقعدي عاجزة عن النهوض لأخرج من الباب الخلفي، عقلي مشلول، توقف الدم النقي عن تغذية خلايا المخ يؤدي إلى ضمور العقل أو البلادة، هل غفوت أو سقطت في غيبوبة تشبه النعاس؟ ثم أفقت فجأة على صوت يقول: فين أحمد حلمي؟
انتفخت عيناي لسماع الاسم، تحركت الأعناق نحوه، كان جالسا في الصف الأخير مثلي، لكن في الناحية الأخرى قرب النافذة، تفصلني عنه مساحة طويلة من المقاعد الخالية، يرتدي القميص الأبيض المفتوح، لم يكن يتعجل الكلام، لا يلقي خطبة، لا يضرب المنصة بقبضة يده، لا يضغط على مخارج الألفاظ، مع ذلك صوته مملوء بالحماس، يدخل في الموضوع مباشرة دون مقدمات: «يا زملاء كتائب الفدائيين في القنال تلزمهم ذخيرة ومؤن وخطوط خلفية، لا وقت للصراعات الحزبية، نحن في حاجة إلى الوحدة الشعبية!»
وعاد إلى مقعده بالخطوة الهادئة نفسها التي سار بها إلى المنصة، التقت عيوننا لأول مرة عبر الصف الطويل الخالي، لم يكن يرتدي نظارة الشمس، عيناه رأيتهما في لحظة خاطفة، وميض من الضوء يشف من تحته ضوء أشد، نافذتان مفتوحتان إلى عمق البحر، داخل المحارة العميقة في جوف المحيط.
عدت إلى البيت سيرا على القدمين، كان يوما خريفيا من أيام نوفمبر عام 1951م، الشمس على وشك الغروب أو غربت منذ لحظات، وصلت كوبري عباس وألوان الغسق تنتشر في السماء، مهرجان من الأحمر والأزرق والأخضر والأصفر والبرتقالي والذهبي والفضي كلها تتعانق وراء السحب، تتخذ أشكالا لها رءوس وأذرع مثل آلهة الهند ومصر القديمة، تتغير أشكالها مع توهج السماء بلون الدماء ثم تذوب الحمرة في لون برتقالي فاتح، لا يلبث أن يتلاشى في اللون الرمادي، وهذا أيضا يتلاشى بدوره، يسري الليل في الكون لا صوت، لا حركة، إلا نسمة باردة خفيفة تهز أوراق الشجر، مياه النيل تمشي فوق الأرض، إيقاع صوته يرن في أذني داخل الصمت، أصل إلى شارع الهرم وأمشي وأمشي بالخطوة نفسها غير السريعة، أمشي وأمشي كأنما إلى آخر الدنيا.
تأخرت في العودة إلى البيت، سخنت أمي لي العشاء، شوربة الدجاج والأرز المفلفل، التهمت الطعام بشهية الطفلة، أمي جلست أمامي ترمقني، تحوطني بعينيها كما كانت تفعل حين أعود من المدرسة، البريق في عينيها يشف ضوءا قويا كالنافذة المفتوحة إلى أعماقي، صوتها يخترق المتاريس التي أقمتها حول القلب تحت القفص الصدري: «فيه حاجة يا نوال حصلت النهاردة في الكلية؟»
السؤال عادي تسأله أمي كل يوم، أدفن وجهي في الصحن أتفادى النظر إليها، سحابة من الشك تطفو على ملامحها، تعاود السؤال: «فيه حاجة حصلت يا نوال؟» أمضغ الكلمات مع الأكل وأغمغم: «أبدا ما فيش حاجة حصلت.»
في غرفتي وحدي أغلق الباب، أفتح النافذة أحملق في السماء، هل لأمي قرون استشعار؟ أو هما عيناي مكشوفتان كالكتاب المفتوح؟ في المرآة أحملق في وجهي، عيناي لم يتغير فيهما شيء، المقلتان السوداوان يكسوهما البريق، أشد بريقا من المعتاد، هذه الفتاة داخل المرآة أهي التي كنت أراها كل يوم؟ يأتيني الصوت الهامس في أعماقي كالصمت: ماذا حدث يا نوال؟ لا شيء! لا شيء! مجرد لقاء صامت عبر الصف الطويل من المقاعد الخالية.
منذ هذا اللقاء الصامت في نوفمبر 1951م حتى الطلاق في يناير 1957م التقينا كثيرا، تكلمنا وعشنا تجربة الحب والزواج والإنجاب، إلا أن هذا اللقاء الصامت لأقل من نصف الثانية هو الباقي في ذاكرتي، هي اللحظة غير القابلة للضياع، أتذكرها من بين ملايين اللحظات الأخرى، أهم حدث وقع في حياتنا على مدى السنوات الست من اللقاء حتى الفراق، كم من عقبات مرت بنا، وكم افترقنا ثم التقينا، ولا شيء يدفعنا إلى اللقاء إلا هذه اللحظة الواحدة الصامتة عبر الصف الأخير من المقاعد الخالية في المدرج الصغير.
أهي رسالة أو شفرة سحرية تنتمي إلى عالم غير عالمنا تحدث في اللازمان واللامكان واللاكلام، لحظة خارج الكون فوق قوانين الطبيعة ومنطق العقل، مع ذلك تبدو أكثر اللحظات اتساقا مع الطبيعة والمنطق تفرض نفسها على العقل والذاكرة، على الزمان والمكان وحركة التاريخ، إلا فلماذا أذكرها هي بالذات دون السنوات الست، مع أنها لن تستغرق إلا نصف الثانية أو أقل؟
ما بين هذه اللحظة من نوفمبر 1951م حتى يناير 1957م تغيرت حياتي كما لم يحدث في أي فترة من العمر، في هذه السنين أيضا تغيرت الحياة في مصر وانقلب نظام الحكم.
كان أحمد حلمي أحد الفدائيين الذين شاركوا في حرب القنال ومهدوا الطريق لقلب نظام الحكم، الفدائيون كانوا وقود الثورة، جنودها المجهولون يقفون في الصفوف الأولى، صدورهم عارية يتلقون أول الضربات، يدفعون ثمن الثورة أو النصر لا يذكرهم أحد، الجنود المجهولون ليست لهم أسماء ولا وجوه إلا قطعة حجر تسقط مع الزمن.
في المدرج الصغير يدوي صوت الزعماء، يحثون الطلبة على الانضمام إلى كتائب الفدائيين، لكن أحدا من هؤلاء الزعماء لم ينضم، لم يسافر واحد منهم إلى الحرب في القنال، لم يصب أحد منهم بخدش، تخرجوا جميعا وصعدوا إلى مراكز الحكم، قد ألتقي بأحدهم صدفة في اجتماع أو مؤتمر، لا أحد منهم يذكر ما حدث قبل الثورة، لا يذكرون اسم واحد من الفدائيين.
قبل أن يسافر أحمد مع كتائب الفدائيين تقدم إلى أبي، كان أبي مع العمل الفدائي ضد الإنجليز بشرط ألا يكون أحد الفدائيين زوجا لابنته: «يعني إيه تسيب الكلية وتروح تحارب؟! الزواج مسئولية يا ابني.» يرمقني أبي بعينيه السوداوين، يرى خيبة أملي فيه، ألم يملأ طفولتي ببطولته في ثورة 19؟ يتراجع أبي، يستعيد ثقتي فيه: «طيب يا ابني، أنا موافق على الخطوبة، لكن عقد القران والزواج لن يكون إلا بعد أن تتخرج وتصبح طبيبا.»
التف الخاتم الذهبي حول إصبعي محفورا عليه اسم أحمد حلمي، أرادت أمي أن يلتف شيء آخر حول عنقي أو معصمي يسمونها الشبكة، رنت كلمة «الشبكة» في أذني مفزعة، أيمكن أن أكون مشبوكة للعريس؟ كلمة «عريس» سيئة السمعة منذ طفولتي تدربت منذ العاشرة من عمري على تطفيش العرسان، لم أحلم مرة واحدة بفستان الزفاف، لكن الحب شيء آخر، يحملني فوق جناح الريح، أطير في السماء، أحلق مثل نجمة الزهرة، إلى جواري نجم آخر يحلق معي، مصنوع من الضوء، بلا جسد إلا العينين، ولا شيء ماديا يلامسني إلا خاتم رفيع من الذهب محفور عليه اسمه.
صوت أمي يدوي في الصالة: «العريس لازم يقدم الشبكة ... الناس تقول علينا إيه يا نوال؟» - «الناس مين يا ماما؟» - «طنط هانم وطنط فهيمة وكل القرايب لازم حيقولوا فين الشبكة ... أقول لهم إيه يا نوال؟» - «قولي لهم ما فيش شبكة، قولي لهم نوال بنتي غير مؤمنة بالشبكة.»
يشحب وجه أمي كأنما أعلن عدم إيماني بربنا.
كانت قيمة العروس تتحدد بقيمة الشبكة، وقيمة العريس لا يحددها شيء إلا الشبكة، في عائلة أمي وأبي وكل العائلات، في الكلية أيضا شهقت الزميلات: خطوبة من غير شبكة وكمان لواحد من بتوع حرب العصابات ... إنت مجنونة يا نوال!
في غرفة الطالبات كنت أعطيهن دروسا في الحب، يشتعل البريق في عيني، أحلق بخيالي في السماء السابعة: «يا جماعة إنتو مش فاهمين الحب، لحظة الحب أهم من مليون شبكة، أهم من مال قارون.» تكركر بطة بضحكتها المرحة مثل كركرة الماء داخل قلة من الفخار عنقها ضيق: «أنا باموت في الحب بشرط إنه يكون أستاذ دكتور وعنده خمسة عين مش فدائي ما حيلتوش حاجة!» تعود صفية إلى قصة حبها القديمة مع الدكتور مرقس، كان طبيبا ناجحا عنده ثلاثة عيون فقط (عيادة وعربية وعزبة) إلا أنه قبطي وهي مسلمة، وهو مستعد للتخلي عن المسيح من أجل الحب، لكن أمه ترفض، وهو لا يمكن أن يتخلى عن أمه من أجل صفية.
سامية أيضا أصابتها عدوى الحب، كان لها زميل في كلية الصيدلة اسمه رفاعة، شيوعي مثلها «طبعا لازم يكون شيوعي يا أخواتي لا يمكن إني أحب راجل برجوازي!» تكركر بطة بضحكتها الممطوطة: «أنا باموت في الغجل (الرجل) البغجوزاي (البرجوازي).» وتنفجر البنات بالضحك إلا سامية تزم شفتيها الرفيعتين بامتعاض: «الرجل البرجوازي لا يمكن يحب المرأة حب حقيقي، الرجل البرجوازي (وتنفجر) لا يعرف حاجة غير مصلحته الخاصة زي الاستعمار بالضبط!» يتصاعد الغضب إلى وجه صفية بلون الدم الأحمر: «يعني الراجل الشيوعي بس هو اللي بيعرف الحب يا سامية؟! قطيعة تقطع الشيوعية واللي جابوها!» وينشب الشجار بين سامية وصفية لا ينتهي إلا بصوت بطة الحانق: «يلعن دين البغجوازية على دين الشيوعية ربنا ياخد الاتنين.»
مصر في نهاية عام 1951م تنوء تحت نظام ملكي فاسد، وأحزاب تتنازع السلطة، واستعمار بريطاني حول مصر إلى مزرعة قطن أهلها عبيد، حزب الأغلبية (الوفد) يتأرجح بين مطالب الشعب ومطالب الملك والإنجليز، أحزاب الأقلية تتآمر للقفز إلى الحكم، تارة مع الملك، تارة مع الإنجليز، مصر حبلى بالثورة، الشباب طلاب الجامعات هم وقودها ومخاضها.
فوق الدكة الخشبية بجوار ملعب التنس في الكلية كنا نجلس أنا وأحمد، ينتظرني حتى أنتهي من مباراة التنس، أو أنتظره حتى يراجع العدد الجديد من مجلة شعلة التحرير، حديثنا يتجاوز المجال المألوف بين الجنسين، يخاطبني كما لو كنت زميلا له.
تمر الساعة وراء الساعة، نرشف الشاي بالنعناع أو الكازوزة المثلجة، محور الأرض يميل بسرعة نحو المغرب ومعه قرص الشمس، الليل يهبط فجأة وكان أذان الظهر ينطلق من الجامع منذ لحظة.
بدايات الشتاء كانت باردة نوعا، تغلف القاهرة شبورة بلون الضباب، رذاذ المطر خفيف، أنا وأحمد جالسان فوق الدكة الخشبية، وهو متكئ بكوعه على المسند، يدخن سيجارة «البلمونت»، عيناه من وراء النظارة شاردتان في الأفق، صوت المؤذن من بعيد ينادي، حي على الصلاة ... حي على الفلاح، يرتفع الصوت من المئذنة إلى السماء، يتعلق كذرات البخار في جسد الشبورة، يرتل المؤذن آيات الله، الدعاء لله الواحد الأحد لا شريك له، يشق الدعاء عقلي الشارد، صوته يعلو من نغمة إلى نغمة حتى تبدو السماء ملبدة بضباب الشك.
أستمع إليه يتحدث عن الكفاح المسلح في القنال، سوف يسافر إلى التل الكبير مع الفدائيين، يتكلم بصوته الهادئ، ينفخ الدخان مع أنفاسه البطيئة كالأسد النائم، يده كبيرة مثل يد أبي، يمدها فوق الدكة الخشبية ويمسك يدي، أغمض يدي كالنائمة في حلم، أراه حاملا السلاح يضرب الإنجليز ويحرر الوطن، النساء في القرية يطلقن الزغاريد، الرجال يحملونه فوق الأعناق ثم أسمع صوت الانفجار، طلقات رصاص، يسقط إلى الأرض ينزف، شريط الدم أراه يلمع فوق الأسفلت، أهب من النوم فأراه جالسا إلى جواري، سلسلة المفاتيح في يده يمدها حتى جذع الشجرة يحفر بسن المفتاح رسما له شكل القلب، ينقش اسمي واسمه داخل القلب، يحفره في جذع شجرة الكافور كأنما يحفره في التاريخ.
عاشت الشجرة ثلاثة وعشرين عاما بالحروف المحفورة عليها، كنت أمر بها أحيانا بعد الزواج وبعد الطلاق، كانت الحروف باقية تتعانق داخل الشجرة رغم الانفصال، ثم جاء شباب آخرون حفروا أسماءهم وطمست السنون أسماءنا، الشجرة كلها راحت في العدم، في عام 1974م جاء بلدوزر واقتلعها، أقاموا مكانها مبنى من الأسمنت.
قبل أن يسافر أحمد مع الفدائيين فكرت: هل أسافر معه؟ في طفولتي كنت أحمل السلاح في الحلم وأحرر الوطن، لكن الكفاح المسلح كان للرجال فحسب، لم يكن للمرأة أن تنال شرف تحرير الوطن، إن تطوعت في جبهة القتال لا تعمل إلا ممرضة أو مرفهة عن المقاتلين إن ماتت فداء الوطن لا تحمل لقب فدائية، مجدها الوحيد في التمريض أو في الترفيه، بدت المهنتان مهينتين لفتاة تريد أن تحمل السلاح لا جردل البول أو بدلة الرقص.
كنت أحب الوطن، يمكن أن أضحي بحياتي من أجل الوطن، لكن كرامتي أغلى من حياتي، لا أضحي بها من أجل شيء وإن كان الوطن، هل أهبط بنفسي من أجل الوطن لأرقص للمقاتلين أو أحمل بولهم وبرازهم؟
إلا أن جبهة القتال كانت تجذبني، كلمات مثل: التضحية، الوطن، الفداء، الخطر، الموت، ترن هذه الكلمات في أذني ساحرة، اللذة العارمة في كشف المجهول، الزهو بنفسي وارتداء زي البطولة، الثقة بالنفس إلى حد عدم تصور الموت، كنت أتصور موت الآخرين لكن موتي أنا مستحيل، أهي حماقة طبيعية في تلك المرحلة؟ لكني حتى اليوم وبعد أن تجاوزت الستين لا أتصور نفسي ميتة، كم حاولت وتخيلت دون جدوى، كم تمددت فوق الفراش لأموت دون أن أموت.
رياح الشتاء جاءت من ناحية الشمال تحمل البرد والصقيع، جو من الكآبة يخيم على مدينة القاهرة، كلية الطب صامتة كأنما مات كل من فيها، منذ سافر أحمد إلى القتال أصبح الكون مهجورا، شبورة سوداء تحجب الشمس، والهواء ثقيل تشبع بالحزن والهزيمة، كنت أصحو من النوم على صوتي يهتف في الحلم: يسقط الإنجليز! يسقط الدكتور دري! كان الدكتور «دري» هو الأستاذ الإنجليزي الوحيد الباقي في كلية الطب، رحل الآخرون مع تصاعد الحركة الوطنية، يشبه النمر المتوثب داخل معطفه الأبيض القصير حتى الركبتين، يحمل قلما أسود ضخما يطل من جيبه كالمسدس، يصوبه نحوي حين يكلمني، وفي الحلم يطلق علي الرصاص، أهب من النوم صارخة: يسقط الإنجليز، يسقط الدكتور دري! منذ تخرجت في ديسمبر 1954م لم أره، مضت أربعون سنة منذ رأيته آخر مرة، لكن وجهه باق في ذاكرتي، بشرته بيضاء حمراء مشربة بدمائنا، مجدولة بعناقيد الاستعمار، قصير نحيف الجسم، فكاه عريضان، عيناه تخرقان زجاج نظارته الطبية، يتمشى فوق المنصة منتفخا بالكبرياء، ذراعاه معقودتان خلف ظهره، يتلو المحاضرات بصوت حاد مثل طلقات المسدس، لا يكف عن ترديد كلمة: هواي؟ بعد كل جملة يرشقنا بالسؤال: هواي؟
ذلك اليوم استدار الدكتور دري ليكتب كلمة «هواي» على السبورة
Why
أصبح ظهره ناحية الطلبة، رءوسهم منكفئة فوق الكشاكيل يكتبون، الصمت مطبق في المدرج الكبير والأنفاس مكتومة، فجأة انطلق صوت من وسط الطلبة يهتف بلغة إنجليزية ركيكة:
Why you English here in country? «لماذا أنتم في بلادنا يا إنجليز؟» ثم اختفى الصوت في الصمت كفص الملح يذوب في مياه المحيط.
تجمد الدكتور «دري» في مكانه قبل أن يستدير ثم استدار ليواجه الطلبة، عيناه زرقاوان تحملقان، مئات الوجوه مصفوفة على شكل أنصاف دوائر تصعد حتى السقف، عيناه ككشافين يدوران فوق الوجوه، كما كان يدور فوق وجوهنا كشاف ضابطة الداخلية ونحن نائمات في العنبر، ثم انطلق صوته:
if you are a man stand up «إذا كنت رجلا انهض واقفا!»
لا أحد يقف، لا صوت يسمع، مات المدرج بكل من فيه حتى الدكتور دري، لم أسمع إلا صلصلة جرس الترام في شارع قصر العيني، دوت في الصمت كصفارة وابور الطحين في منوف، أو صرخات متقطعة لطفلة تشهق، ثم بدأت الحياة تعود إلى المدرج، أول من تحرك كان الدكتور دري، أخرج من جيب معطفه الأبيض منديلا حريرا كبيرا مسح جبهته وأنفه الأحمر، مسح يديه من الطباشير والعرق، طوى المنديل بحركة مسرحية بطيئة ، أربع طيات، طوى المنديل ... أعاده إلى جيبه، انفرجت شفتاه عن ابتسامة ساخرة، مد يده وأغلق كتابه المفتوح أمامه، وضعه تحت إبطه، سار نحو الباب الأمامي بخطوة بطيئة، فتحه بهدوء ثم استدار، قبل أن يخرج حملق في الوجوه ثم صاح:
We are here because you are cowards «نحن هنا لأنكم جبناء» كلمة «كواردز» بالإنجليزي يتضاعف مذاقها المر حين تنقل إلى اللغة العربية.
انطلقت الكلمة من فمه مثل القذيفة بيضاء بلون البصاق، رأيتها تطير من فمه بحجم حبة الفول، حلقت في الجو وانقسمت إلى مئات الذرات الصغيرة، بعدد الطلبة في المدرج، فوق وجه كل واحد منهم التصقت البصقة، لم يرفع أحدهم يده ليعترض أو يمسحها عن وجهه، في الليل وأنا نائمة أنتفض بالغضب، أكثر ما يغضبني أن البصقة فوق وجهي أيضا، يدي لم ترتفع لتمسحها، ملتصقة بوجهي لا تزول وإن اغتسلت بالماء والصابون. •••
جاءني خبر استشهاد أحمد المنيسي، صفرت أذناي وأنا أسمع الخبر، الصغير الحاد الممطوط كصفارة وابور الطحين في منوف، سمعت الجزء الأول من الاسم «أحمد» ثم كفت أذناي عن السماع.
في فناء كلية الطب أقاموا له الصوان فوق الأعمدة الخشبية يشبه خيمة السيرك في منوف، القماش السميك الأحمر يرفعونه في الأعياد والمآتم، يرصون الكراسي الصفراء من الخيزران، يمتلئ الصوان بالرجال، يشربون القهوة السوداء في فناجين صغيرة بيضاء، أو الشربات الأحمر اللون في أكواب طويلة من الزجاج، تهتز رءوسهم مع الترتيل الممطوط للقرآن، أو طرقعات الصاجات في الرقص والغناء.
كان هو حفل تأبين أحمد المنيسي، امتلأ الصوان بطلبة الطب والكليات الأخرى، جلس الأساتذة في الصفوف الأولى يتوسطهم العميد، زعماء الطلبة يروحون ويجيئون داخل بدل رصاصية اللون وربطة العنق سوداء، فؤاد محيي الدين يغطي عينيه بنظارة سوداء، يزم شفتيه علامة الحزن بشدة أكثر من اللازم، إبراهيم الشربيني من خلفه يمشي أقل قامة، أقل أناقة وأكثر حزنا، يوسف إدريس من حول عنقه ربطة سوداء غير معقودة بإحكام، يصيح بصوت غاضب في عمران عبد الموجود زعيم الإخوان: «يعني المنيسي شهيدكم إنتم بس يا إخوان يا مسلمين ولا شهيد مصر كلها؟!» - «المنيسي شهيدنا كلنا يا أخ يوسف لكن البرنامج مليان وفيه حفلات تأبين كثيرة جاية في السكة تقدر تتكلم فيها.»
تحول المنيسي إلى كلمة من أربعة حروف «شهيد»، ترن في أذني ثم تتوقف في حلقي، يداي باردتان كالثلج، ترتعدان فوق حجري وأنا جالسة في الصوان، أمسك يدي اليسرى باليمنى، أدفئ الواحدة في الأخرى، هواء بارد يتسرب من بين الفتحات في القماش.
يهتز الصوان مع حركة الهواء، زعيم الإخوان فوق المنصة يلقي خطبة طويلة، لم أسمع منها شيئا، صورة المنيسي تعود، واقف إلى جواري في معمل البيوكمستري، أصابعه الطويلة القوية حول أنبوبة الاختبار، تعلوها رعشة خفيفة، صوته يهمس مترددا: «أستودعك الله.» عيناه رموشها غزيرة مملوءتان بالبريق، طويل القامة، أطول قامة من أحمد حلمي وأكثر وسامة؛ فلماذا لم يخفق له القلب كما خفق للآخر؟!
كانت لقلبي مقاييس خاصة، لا يعترف بالقيم الموروثة ولا الرجولة المألوفة، ولا الوسامة ولا شيء، إلا ذلك المجهول المتخفي داخل عناصر الدم أو الكيمياء، داخل اللاوعي أو الوعي الطفولي، حلم الطفلة في السابعة من العمر، فتى الأحلام تنسجه الأيام من حكايات الأم والأب والجدة، ذلك البطل يحمل السلاح يحرر الوطن يشبه أبي في طفولتي، له ملامح سعد زغلول باشا إلا أن البريق في عينيه أشد، أنفه أكثر شموخا، إرادته لا تلين والنظرة في عينيه لا تنكسر.
أحمد المنيسي كانت له نظرة رغم البريق منكسرة، لا ترتفع عيناه إلى عيني، مثل زعيم الإخوان المسلمين «عمران عبد الموجود» وكل الطلبة في هذه الجماعة، لم تكن عيونهم تنظر مباشرة في العيون الأخرى، فهي دائما مطرقة إلى السماء، لا ترى إلا الله أو الفراغ.
الصوان من حولي يغرق في الضباب، كل شيء يبدو غير حقيقي حتى الموت، الوجوه تتراءى لي كما في النوم، الأصوات تختلط بعضها ببعض، الخطب المدوية في الميكروفون مثل الانفجارات في معسكر التدريب بجوار الكلية، صراخ النسوة وراء الميت الخارج من قصر العيني مثل الزغاريد في حفلات الزفاف، وأقف على صوت ينادي اسمي: «الأخت نوال السعداوي» كلمة الأخت ترن في أذني غريبة، لم أكن واحدة من الأخوات المسلمات، لم أنضم في حياتي إلى حزب من الأحزاب، تكرر النداء «الزميلة نوال» رن في أذني «الشهيدة نوال»، نهضت من مقعدي كما ينهضون من الموت، سرت فوق ممر طويل مفروش بالسجاد الأحمر، الحمرة قانية بلون الدم فوق الأسفلت، أمشي بحذر كأنما أمشي فوق الدم، أحسه تحت قدمي ينبض وينزلق، أمسك بعمود السلم الصاعد إلى المنصة، بضع درجات خشبية تهتز تحت جسدي، أقف وراء الميكروفون، أثبت قدمي في الأرض، أثبت عيني في آلاف العيون الشاخصة نحوي، يدوي الصوت الجهوري: «والآن أيها الإخوة كلمة الزميلة نوال السعداوي.»
أحملق في الوجوه لا أعرف ماذا أقول، لم أحضر في حياتي حفل تأبين، كلمة «حفل» تبدو لي مناقضة للموت، والمنيسي لم يمت في خيالي، حروفه لم يجف حبرها داخل كشكولي، صورته محفورة لا تختفي عن عيني، ماذا أقول لهؤلاء الرجال الجالسين يرمقونني بعيون محدبة ومقعرة، أجل! مات المنيسي أيها السادة، استشهد في سبيل الله والوطن، وفي سبيل ماذا نعيش نحن أيها السادة؟! لنلقي الخطب من فوق المنابر؟! لنقيم حفلات التأبين؟! لكن التأبين يعني الموت والمنيسي لم يمت، إنه حاضر أمامي في هذه اللحظة، أكثر حضورا من كل الحاضرين في الصوان، الذين يمجدون الشهداء دون أن يموتوا مثلهم، أليس الصمت أبلغ من الكلام وما جدوى أن نكون هنا؟! لماذا لا نكون هناك في جبهة القتال لتشرب الأرض دماءنا كما شربت دماء الشهداء؟!
كان أحمد حلمي هناك في الجبهة، والآخرون من الفدائيين، انقطعت أخبارهم عنا، لم نعرف هل ماتوا؟ هل أخذهم الإنجليز أسرى؟ هل قبضت عليهم الحكومة وأخفتهم في سراديب السجون؟! الأجانب أو الحكومة المصرية كلاهما تاريخ أسود، يتعاونان في الباطن، وفي الظاهر يتبادلان العداء، مصالحهما تتلاقى أو تتعارض إلا أن عداءهما للشعب المصري واحد، أيمكن أن يذهب دم المنيسي وغيره من الشهداء هدرا؟!
أنهيت كلمتي وهبطت إلى مقعدي، صعد إلى المنصة بعدي واحد من زعماء الجامعة في كلية الحقوق، اسمه «حسن دوح»، كان يحمل لقب خطيب الجامعة، وقف وراء الميكروفون مطرقا صامتا، آلاف العيون مرفوعة نحوه، الأنفاس مكتومة، الصمت يدوي في الصوان كالصفير، انتظرنا ماذا يقول، كان مشهورا بالخطب السياسية النارية، لم يقل حسن دوح شيئا، عبارة واحدة قالها ثم ترك المنصة: «أيها الإخوان ليس عندي ما أقول بعد سماعي كلمة الزميلة نوال.»
في نهاية الحفل تجمع من حولي بعض الزملاء: «كلمتك كانت رائعة! الكلمة اللي خرجت من القلب ودخلت القلوب، أقصر كلمة وأحسن كلمة، خطيب الجامعة ما عرفش يقول حاجة بعدها!»
عيونهم ترمقني بإعجاب، تحملني عيونهم فوق الأعناق، كأنما أصبحت سعد زغلول باشا، والشهيد المنيسي هل نسوه؟! أينتهي الموتى بانتهاء حفلات التأبين؟ سرت من الصوان إلى محطة الأتوبيس أحمل حقيبة كتبي.
هذه الحقيبة حملها إلي المنيسي منذ أسابيع، رغم الحريق في المعمل صعد إليه وعاد يحملها إلي، فوق جلدها أرى بصمات أصابعه، غائرة في الجلد مثل الجرح، سوادها داكن بلون الموت، بلون تأنيب الضمير، لماذا لم يخفق له قلبي؟ هل ذهب إلى الحرب يأسا من الحب؟ الكون من حولي يبدو كالحلم، الناس تمشي في الشارع كالخيالات، الأتوبيس يأتي ويذهب إلى العدم، الطلبة يهرولون إلى الكلية كالأشباح، ينظرون في ساعاتهم بعيون جاحظة، يقبضون على حقائبهم تحت إبطهم، يقبضون على أرواحهم داخل أجسادهم، يقبضون على عقولهم داخل جماجمهم، يتدافعون من الأبواب، يدوسون على أقدام بعضهم بعضا، يتنافسون على جثث المشرحة، على المقاعد الأمامية في المدرج، الدرجات العليا في الامتحانات، يسرعون من الكلية إلى البيت ومن البيت إلى الكلية، يتخرجون أطباء، يفتحون العيادات، يشترون السيارات، العمارات، يتزوجون وينجبون ويموتون كما مات المنيسي، إلا أن المنيسي مثل الشهداء لا يموت، يعيش هناك في الدار الآخرة مع الأنبياء.
كنت واقفة عند محطة الأتوبيس أحمل حقيبتي، جاء الأتوبيس مزدحما لا محل لقدم، وقفت أكثر من ساعة أنتظر، العربات كلها محشورة بالبشر، أهو يوم القيامة حين يقوم الموتى أفواجا؟ في طفولتي لم أتصور الموتى ينهضون من القبر، أيمكن أن يكون هناك حياة أخرى غير هذه الدنيا؟! مات المنيسي وهو في العشرين من العمر، مر سريعا عبر العالم مثل طيف أو خيال، أتكون الحياة حلما قصيرا نصحو منه بعد الموت؟ بدت الحياة الدنيا خيالا والحياة الأخرى هي الحقيقة، كان عقلي يتلاشى مع المنيسي مرتين، مرة في الدنيا ومرة أخرى بعد الموت.
كان يوما طويلا حزينا، خرجت في الصباح دون فطور، أقبل الليل وأنا واقفة عند المحطة، أسند ظهري إلى العمود المرشوق في الأرض، أفقت على صوت ينادي اسمي: زميلة نوال. تعرفت على وجهه، عمران عبد الموجود زعيم الإخوان واقف أمامي بلحمه ودمه، بجسمه المربع داخل البدلة الضيقة، الصديري تتدلى منه سلسلة الساعة الفضية، يقف على الرصيف مائلا بجذعه ناحية اليمين، واضعا يده اليسرى في جنبه، يده اليمنى ممدودة نحوي تقبض على ورقة صغيرة مطوية، شفتاه الممتلئتان منفرجتان، يبتسم لقوة ما في السماء، وقف صامتا في هذا الوضع بضع ثوان دون أن ينظر إلي، عدسة سحرية في الفضاء تلتقط له صورة، ثم ناولني الورقة وهو يقول بصوت مرتبك قليلا: «الرسالة دي لك يا زميلة نوال.»
صعدت إلى الأتوبيس وسط الزحام، شققت طريقي بين الأجساد المنهوكة في العمل طول اليوم، العرق يفوح من الملابس القديمة المبقعة بالزيت، يقفون الجسد ملاصق للجسد، معلقون مثل شرائح السردين في العمود الحديدي في السقف، احتل جسدي بين أجسادهم مكانه، رغم الزحام لا أحد منهم يلتصق بي، وإن مال الأتوبيس فجأة يحرصون على عدم ملامستي، عيونهم مطرقة إلى الأرض، وجوههم شاحبة ممصوصة مثل أقاربي الفلاحين في كفر طحلة، إلا أنهم يحترمون المرأة أكثر من الأفندية أو البهوات ذوي البدل الإفرنجية، أهو احترام حقيقي أم مجرد خوف دفين نابع من الفقر؟!
هبطت في المحطة أول شارع الهرم، اجتزت الكوبري الصغير فوق ترعة الزمر، شارع الترعة مظلم بلا مصابيح، حي العمرانية يرقد في أول الليل كأنما منتصف الليل، لا أسمع إلا وقع قدمي على الأرض، سؤال يدور في عقلي، هل أفتح الحقيبة وأقرأ الرسالة المطوية؟ في أعماقي شيء يزهو، الأنوثة الكامنة منذ الطفولة كالعملاق النائم، كالمارد الراقد في سبات عميق، يصحو فجأة ويطل برأسه يفحص وجوه الرجال، يبحث عن وجه معين مصنوع من مادة الخيال، لا يشبه أحدا من الطلبة وخاصة ذلك الزعيم الإخواني، يده صغيرة، قبضة مملوءة باللحم، جسمه سمين بلا عظام مكبوس داخل البدلة، عيناه تنظران في الفراغ مملوءتين بالفراغ، ماذا كتب لي في الرسالة؟
كان أبي جالسا في الصالة وأمي تحضر لي العشاء، حكيت له عن حفل التأبين، سمعت صوت أمي من المطبخ تقول: مسكين المنيسي ضيع حياته على الفاضي، صمت أبي طويلا ثم قال: أبدا يا زينب مش على الفاضي، الإنجليز مش خايفين إلا من الفدائيين والنحاس باشا شرابة خرج!
أردت أن أسأل أبي: هل يبقى المنيسي خالدا في التاريخ؟ كلمة الخلود في عقلي مقدسة مثل كلمة الله، الوطن، التضحية، الفداء، التاريخ. الكلمات المقدسة أحفظها عن ظهر قلب، تروح وتجيء في رأسي وأنا جالسة إلى المائدة.
ثم وضعت أمي أمامي صحن مرق الدجاج ساخنا يتصاعد منه البخار، والنكهة تسربت من البخار إلى الصدر والرئتين، والقلب والمعدة ثم صعدت إلى خلايا المخ، حيث كانت الكلمات المقدسة لا تزال تروح وتجيء محدثة رنينها البراق، الذي بدأ يجف ويشحب إلى جوار نكهة مرق الدجاج.
بعد تناول الطعام ثقلت جفوني بالنوم، ثم تذكرت الرسالة المطوية في اللحظة الساقطة بين اليقظة والغيبوبة، في هذه اللحظة تصحو الذاكرة لا أعرف كيف، عادت إلي أحداث اليوم كشريط سينما يعود إلى الوراء، رأيت عمران عبد الموجود زعيم الإخوان واقفا أمامي، يده اليمنى ممدودة نحوي تقبض على ورقة صغيرة مطوية، بأصابع نصف نائمة وأنا في السرير، نصف صفحة من ورق الكشاكيل المسطر: «قبل أن أسمعك في حفل تأبين الشهيد المنيسي كنت أؤمن بالله والوطن ونفسي، لكن الآن أصبحت أومن بك قبل نفسي.»
بدت الرسالة بريئة لوجه الله والوطن، أعطيتها لأبي ولأمي، كنت أزهو بها، ها هو مخلوق يؤمن بي بعد الله والوطن مباشرة، كأنما صعدت إلى درجة واحدة عالية، في مستوى الله والوطن أو بعدهما بدرجة واحدة أو نصف درجة، مع ذلك لم يخفق قلبي له خفقة واحدة، كنت ألتقي به أحيانا في فناء الكلية، يصافحني بتلك اليد الصغيرة القبضة الطرية، يكلمني وعيناه شاخصتان إلى الفراغ، تخرج قبلي بعامين أو ثلاثة، أصبح طبيبا لأمراض النساء، بعد انفصالي عن أحمد تقدم لي، لم أتصوره زوجا، لم أتصور يده الصغيرة القبضة الطرية تلامسني، وإن تصورتها تسري في جسدي قشعريرة، كأنما هي يد حيوان مائي ذو ذنب قرموط من السمك، ثم مضت عشرون سنة قبل أن أراه على شاشة التليفزيون، أصبح في عهد السادات داعية إسلاميا كبيرا، سافر إلى أرض الحجاز أو السعودية وعاد محملا بالذهب والفضة، اشترى قصرا كبيرا في مصر الجديدة، وجامعا في مصر القديمة، ثم مضت عشرون سنة أخرى قبل أن ألتقي به في زيورخ في المؤتمر الدولي للأديان، قدم بحثا طويلا عن الإسلام والديمقراطية، بعد أن ألقيت كلمتي جاء إلي وصافحني، يده لم تتغير منذ أربعين عاما، قبضة صغيرة طرية ندية بالعرق، وجهه تغير كثيرا، أصبح شاحبا متهدل العضلات، شعر رأسه سقط، نما الشعر فوق وجهه وذقنه، طالت لحيته حتى لامست صدره، يقف على المنصة بالطريقة نفسها منذ كان طالبا بالكلية، يميل بجذعه ناحية اليمين، يده اليسرى في جيبه، يده اليمنى تتحرك في الهواء، يتوقف صامتا عن الكلام لحظة أو بضع لحظات، شاخصا في الفراغ كأنما عدسة سحرية في السماء تلتقط له صورة.
عاد أحمد من القنال إلى الكلية، عاد شخصا آخر يخفي عينيه وراء نظارة سوداء داكنة، وجهه أصبح طويلا شاحبا، متهدل الملامح منكسرا كالأسد الجريح، كانت هزيمة مفجعة له ولكل الفدائيين، الشتاء كان باردا مليئا بالغيوم، ريح باردة قادمة من الشمال تضرب رءوس الأشجار، النسوة بالجلاليب السود يولولن وراء الميت، ملاعب الكلية مهجورة والبوفيه مغلق، عم محمود مريض في بيته، على الدكة الخشبية في ملعب التنس نجلس، الحزن يغلف الكون، سحابة سوداء تحجب الشمس، يصمت أحمد طويلا شاردا، يدوي الصمت في أذني مثل صفارة وابور الطحين في منوف، جرس الترام يصلصل في شارع قصر العيني مثل صراخ النسوة، صوت الأذان من فوق مئذنة الجامع يتصاعد داخل السحب، قطرات المطر تبلل الدكة الخشبية، أتحسسها بيدي أمسحها بمنديلي الأبيض، حول إصبعي يلتف خاتم الخطوبة من الذهب، محفورا عليه اسم أحمد حلمي، يشع ضوءا رفيعا نحيلا في كون مظلم، ناعم حول إصبعي كالخيط الحريري، له كثافة مادية في عالم من الخيال، رفيع كالشعرة له متانة الذهب يربطنا معا حتى الموت.
الهزيمة كالموت، لم يكن ينسى الهزيمة، الدم المراق على أرض القنال، صوته يسري في أذني رغم مرور أكثر من أربعين عاما: «تصوري يا نوال إحنا الفدائيين اللي كنا بنحارب الإنجليز في القنال أصبحنا مطاردين من البوليس مثل المجرمين!»
هذه العبارة محفورة في ذاكرتي، سمعتها لأول مرة في حياتي من أحمد حلمي في أول الشتاء بعد حريق القاهرة في 26 يناير 1952م، وسمعتها للمرة الثانية في نهاية عام 1956م بعد الاعتداء الثلاثي على مصر وتطوع الأطباء في جبهة القتال من بورسعيد إلى الإسماعيلية والسويس، وسمعتها للمرة الثالثة بعد حرب 6 أكتوبر 1973م، في كل أزمة يمر بها الوطن ويهب الشباب للتطوع والفداء تحدث المأساة؛ يتحول الفدائيون من أبطال وطنيين إلى مطاردين من البوليس، يدخلون السجون أو يهربون أو يهاجرون، إلا من يستسلم منهم ويدخل حظيرة الحكومة أو السلطة الحاكمة كما تدخل الزوجة إلى بيت الطاعة. •••
في هذا المنفى البعيد وراء البحر والمحيط، وعلى بعد أكثر من أربعين عاما، يعود إلي الصوت يحكي قصة الشاب الفدائي في نهاية 1951م وبداية 1952م قبل حريق القاهرة، صوت أحمد المنيسي وغيره من الشهداء، الجنود المجهولون في التاريخ، وهم أجدر بأن يعرفهم الناس، أن يحفظوا أسماءهم ويعرفوا قصصهم أكثر من قصص الملوك والحكام أو رؤساء الدول والحكومات، الذين يتربعون على العرش في الدنيا والتاريخ، في القصور فوق الأرض وفي جنة الخلد، الفدائيون يموتون وتضيع أسماؤهم وحكاياتهم، ألهذا السبب كرهت حصص التاريخ في المدرسة؟! فضلت تشريح الصراصير والضفادع على قراءة حياة الملوك وغزواتهم.
من هذه المسافة البعيدة عن الوطن، يعود إلي صوته رغم انقضاء أربعة وأربعين عاما، يحكي الحكاية كما حدثت على أرض القنال، حيث ترك كلية الطب ولقب «دكتور» ليحمل لقب «فدائي»:
بعد إلغاء المعاهدة في أكتوبر 1951م أصبح الكفاح المسلح واجبا وطنيا، قرأت في مجلة روز اليوسف مقالات لإحسان عبد القدوس يدعو الشباب للتطوع للعمل الفدائي لطرد الإنجليز من قناة السويس، ذهبت إلى إحسان عبد القدوس في مكتبه بالمجلة ومعي مجموعة من اثني عشر طالبا جامعيا يريدون التطوع، أرسلنا إحسان عبد القدوس لعزيز المصري، كانت له ميول ألمانية من أيام الحرب العالمية ويكره الإنجليز، كان عزيز المصري حذرا لم يمنحنا الثقة في أول لقاء، كانت الحكومة المصرية ترسل إليه جواسيس الحكومة أو الملك، قابلنا عزيز المصري عدة مرات حتى تأكد أننا لا نعرف شيئا عن البوليس السياسي وليس لنا صلة بجواسيس الحكومة أو الملك، أرسلنا عزيز المصري إلى وجيه أباظة، تدربنا على السلاح في قشلاقات العباسية، وصل عددنا حوالي ثلاثين فدائيا، قابلنا أشخاصا آخرين مع وجيه أباظة، منهم أنور السادات ومجدي حسنين، تدربنا على الدبابات، إحكام التصويب، الضرب بالدشم، أصبحنا كتيبة فدائية مستعدة للسفر للقنال، المسئول العسكري عنا كان اسمه بهاء، المسئول الإداري كان اسمه سعد زغلول فؤاد، من أفراد كتيبتنا عزت المصري من الفيوم، عباس الأعسر من الشرقية، وسمير رضا كان عمره ثمانية عشر عاما، وزميل آخر اسمه رزق، وآخرون نسيت أسماءهم، استلم كل منا سلاحه، حملت مدفعا رشاشا من نوع «تومي جان» يضرب رصاص 9 ميللي، زملائي الآخرون حملوا رشاشات «ستين» وقنابل ضد الدبابات «بريجا» وقنابل يدوية وبنادق، أول عملية خرجت فيها كانت في منطقة بالقرب من التل الكبير اسمها المحجر، منطقة غنية بالفحم تحوطها حراسة إنجليزية مشددة، كانت الخطة تهدف لتفجير معسكر الإنجليز في المحجر والعودة بأسرى أحياء منهم، تلقينا أوامر كالآتي: الزحف على بطوننا مسافة نصف كيلو متر بين التل الكبير والمحجر، فوهة السلاح تكون إلى أعلى بعيدة عن التراب، نتخذ الكمين في بطن الترعة عند الكوبري الصغير، ننتظر حتى يبدأ بهاء رئيس الفرقة الإشارة، وهي إلقاء قنبلة على فرقة الحراسة الإنجليزية، بعدها نبدأ إطلاق النار وتنفيذ الخطة، إلا أن كل هذا لم يحدث، فوجئنا بسماع صوت فرقعة غير متوقعة، وبدأ كشاف ضخم يدور مثل قرص الشمس وفوقه شيء أشبه بالبرج، تحول الليل فجأة إلى نهار من شدة الضوء، يدور مع الكشاف رشاش يضرب علينا رصاصا قبل أن نطلق نحن النار، كان شيئا مفاجئا لنا، لس عندنا علم بوجود هذا الكشاف، وليس عندنا أوامر كيف نتصرف معه، لكن الفدائي المتعلم في الجامعة غير الجندي العادي؛ ولهذا تصرفنا على مسئوليتنا، كان إلى جواري في الكمين سمير رضا، ضربنا النار فورا في عين الكشاف ذاته، لم يكن أمامنا شيء آخر نفعله لإنقاذ حياتنا، شعار الفدائي (اضرب واجر)، لا تسمح لهم أن يقتلوك أو يأخذوك أسيرا ... اكتفينا بتحطيم الكشاف وانسحبنا دون تحقيق الهدف الأول من العملية، رجعنا زاحفين على بطوننا نشعر بفشل العملية، بعد يومين قمنا بعملية ناجحة عوضنا بها الفشل، كانت العملية على طريق المعاهدة الذي يصل إلى الإسماعيلية، عرفنا أن سيارة محملة بالذخيرة في طريقها للقوات الإنجليزية في الإسماعيلية، رابطنا على الضفة الأخرى من ترعة الإسماعيلية، كنا خمسة من الفدائيين، لمحنا سيارة الذخيرة قادمة على الطريق، أمامها عربة عسكرية واثنان من الموتوسيكلات، انتظرنا حتى أصبحت أمامنا فضربنا النار، انفجرت السيارة وانسحبنا دون خسائر في الأرواح أو السلاح، تشجعنا وفجرنا سيارة أخرى كانت تقل القائد الإنجليزي لمنطقة الشرق الأوسط، ضربنا السيارة ونجحت العملية، لكن قائدها بهاء أصيب في قدمه برصاصة ورجع بدون سلاحه، لم نفرح للأسف بهذه العملية، فقد مات زميل لنا دون داع، اسمه عباس الأعسر كان معي في مجموعتي، وكنا نسكن في بيت ريفي من الطوب النيء مثل معظم البيوت في القرى الفقيرة، بدأ أحدنا اسمه رزق ينظف سلاحه، تومي جاك 9 ميللي، فجأة انطلقت رصاصة من مدفعه وهو ينظفه واخترقت جدار الصالة حيث كنا نجلس، ثم انطلقت إلى الجدار الثاني للغرفة الداخلية اخترقته ونفذت إلى الحائط الثالث للغرفة الأخرى حيث كان يجلس عباس الأعسر مسندا رأسه إلى الحائط، دخلت الرصاصة إلى رأسه وخرجت من الناحية الأخرى، شيء أغرب من الخيال، كان قائدنا بهاء غير موجود، وكنت أتولى القيادة في غيابه، سمعت الطلقة وجريت لأتبين ماذا حدث في الغرفة، داخل الغرفة الداخلية رأيت عباس الأعسر في غيبوبة كاملة، طلبنا الإسعاف لكنه مات داخل سيارة الإسعاف، في الليلة السابقة كان معنا عباس الأعسر حين نجحنا في تفجير سيارة القائد العام الإنجليزي وعدنا جميعا سالمين، فكيف نفقد زميلنا عباس الأعسر في البيت بهذا الشكل العبثي لمجرد أن رزق كان ينظف سلاحه؟ أصاب الغضب الشديد أفراد الكتيبة وصمموا على عقاب رزق بالطرد، كان علي أن أنفذ هذا القرار بصفتي القائد، كنت أعرف أن رزق تسبب في موت عباس دون قصد، إن الرصاصة اخترقت ثلاثة جدران لتدخل في رأس عباس، مهزلة أو سخرية القضاء والقدر، إلا أن الخبر وصل إلى القاهرة، في اليوم التالي جاء وجيه أباظة ومعه والد سمير رضا، هكذا فقدنا سمير أيضا، أخذه أبوه معه إلى القاهرة، قال له إن أمه أصابها مرض القلب من شدة القلق عليه، انخفضت الروح المعنوية بعد فقدان عباس الأعسر وسمير، لكننا واصلنا العمليات الفدائية، أحد أغنياء الصعيد اسمه لملوم عبد الرحمن لملوم كان يمدنا بالذخيرة والسلاح، له أرض في الفيوم استطاع فيما بعد أن يحمينا من البوليس والحكومة، ثم تلقينا الأوامر بتغيير محل إقامتنا فورا، لقد كشف الإنجليز مواقع الفدائيين ويستعدون لحركة تمشيط واسعة، حملنا سلاحنا وسرنا في الصحراء لا نعرف إلى أين، لم تأت إلي أي أوامر عن المكان الأمين الذي نتجه إليه، سرنا في الصحراء ثلاثة أيام ولياليها هي أيام التيه الأعظم كما سميناها، فقدنا الطريق وأشرفنا على الموت من شدة العطش، قابلنا قافلة من البدو الرحل أنقذونا، بحثنا عن موقع جديد نمارس منه العمل الفدائي، كان هناك رجل وطني اسمه عبد الحميد صادق، كان يورد العمال المصريين للجيش الإنجليزي، لكنه انضم إلى العمل الفدائي وأصبح يشجع العمال على سرقة الأسلحة من الإنجليز وإعطائها لنا، تشجعنا وتحسنت حالتنا المعنوية، تزايد عددنا بوصول كتائب جديدة من الإخوان المسلمين والشيوعيين وبعض الشباب من حزب الوفد، استمرت عملياتنا ضد الإنجليز حتى يوم 26 يناير 1952م يوم حريق القاهرة، دبر الإنجليز الحريق للقضاء على العمل الفدائي، هل استخدموا حزب مصر الفتاة أو أحمد حسين؟ هل دخل فيها أعوان وجواسيس الملك؟ لماذا تخلت حكومة الوفد عنا تماما بعد أن كانت تشجعنا؟ وزير الداخلية فؤاد سراج الدين لماذا لم يؤمن مدينة القاهرة؟ كان عنده من رجال البوليس ما يكفي تأمين جبهة القتال في مدن القنال أيضا، لكنه ترك القاهرة تحترق، وأصبحنا نحن الفدائيين بلا حماية، جاءتنا أوامر غريبة من وجيه أباظة تقول: كل مجموعة تدافع عن نفسها وتحمي نفسها لا تحاولوا الاتصال بنا أو الحكومة، أصبح ظهرنا مكشوفا وقائدنا بهاء عاد إلى القاهرة وحده، عرفنا أنه في البوليس السياسي، أصبحنا وحدنا في مواجهة الإنجليز، اختبأنا في منطقة اسمها العباسة، سلاحنا فوق أكتافنا، لا يمكن لمن حمل السلاح أن يتنازل عنه بسهولة، قررنا الاستمرار في العمل الفدائي بدون معونة الحكومة، كان معنا الأهالي والفلاحين والبدو، لكن الناس بدأت تخاف بعد حريق القاهرة، والفلاحون والبدو جاءتهم أوامر من البوليس بعدم حماية الفدائيين، بدأ شعور الأهالي يتغير نحونا، والخوف يتزايد ويمنعهم من حمايتنا، هكذا أصبحنا معزولين تماما بلا سند من أحد، بدأ الإنجليز حركة تمشيط للقضاء علينا، كدنا نسقط أسرى في يد نقطة تفتيش إنجليزية، استطاع زميلنا الذي كان يقود سيارتنا واسمه إسماعيل رضا أن ينقذنا، فقد لمح على بعد 10 أمتار منه مدفعا رشاشا ونقطة تفتيش إنجليزية، رجع إسماعيل بظهر السيارة حوالي ثلاثة كيلو مترات، يمكن لو أطلقوا النار أن يصيبونا جميعا لكنهم لم يطلقوا النار، ربما أرادونا أحياء وليس أمواتا، أو ربما كانت لديهم أوامر ألا يطلقوا النار إلا للضرورة حتى لا يثيروا الأهالي ضدهم، كان غضب الأهالي قد تزايد بعد حريق القاهرة، إلا أن الخوف كان أشد من الغضب، وأخيرا اجتمعنا وقررنا إنهاء العمل الفدائي والعودة إلى القاهرة، حيث وجدنا حكومة جديدة، والأوامر باعتقال الفدائيين وتسليم سلاحنا للبوليس، اختفينا في الفيوم داخل مغارة في منطقة أثرية اسمها هرم اللاهون، حاولنا الاتصال بوجيه أباظة دون جدوى، عزيز المصري اختفى، بهاء عاد إلى البوليس السياسي، اكتشفنا غلطة عمرنا، وهي أن العمل الفدائي يبدأ في الداخل، ضد العدو الداخلي، ثم يتفرغ للعدو الخارجي؛ لأن العدو الداخلي يمكن أن يضربنا في الظهر وفي البطن ويقضي علينا تماما، كما حدث، وأصبحنا في نظر الحكومة مطاردين مثل قطاع الطرق، نرقد في مغارة في جبل اللاهون، يتسلل واحد منا في الظلام ليجلب لنا بعض الطعام، دفنا سلاحنا في بطن الأرض، وقلنا لا يمكن أن نسلمه لحكومة خائنة، كنت أنام وأحلم أني أحارب الإنجليز، في اليقظة أستعيد ذكريات القنال، في يوم خرجنا في إحدى العمليات الناجحة، فجرنا معسكر الإنجليز وعدنا إلى البيت سالمين، لكن اكتشفت أن زميلا لنا غير موجود، كان الواجب أن أخرج إلى الطريق وأبحث عنه حتى أجده وإلا عثر عليه الإنجليز أسيرا، وعن طريق تعذيبه يكشفون مواقعنا، مشيت في الليل وحدي بدون المجموعة أبحث عن زميلنا، كان الفجر لم يطلع بعد وأنا أزحف الطريق كله عائدا حيث كنا، نصف جسمي كان في الأرض والنصف الآخر في الطين ومياه الترعة، أخفي سلاحي في صدري أحميه من التلوث، سلاحي كان أغلى من جسدي، مدفع رشاش تومي جام 9 ميللي، أخيرا عثرت على زميلنا، كان غارقا في النوم في بطن ترعة الإسماعيلية وسلاحه نائم فوق صدره يحوطه بذراعيه كالأم تحتضن طفلها، جلست إلى جواره أتأمله وهو نائم يحلم بتحرير الوطن، عمره كان عشرين عاما مثل عمري وكل الفدائيين، لم يكن يدور بخيالنا أننا كنا فريسة بين الحكومة والملك والإنجليز، وان قيادتنا التي سلمناها حياتنا مثل بهاء ووجيه أباظة وعزيز المصري وأنور السادات ومجدي حسنين، هؤلاء جميعا تركونا وحدنا نواجه مصيرنا تحت رصاص الإنجليز أو مغارات جبل اللاهون، وجميعهم حصلوا على مناصب عالية في الدولة ودخلوا التاريخ على أنهم الأبطال الذين طردوا الإنجليز وقاموا بالثورة، أما نحن الذين حملنا السلاح وحاربنا فقد أصبحنا مطاردين مثل المجرمين. •••
قبل حريق القاهرة انتقلت من مرحلة المشرحة في الكلية إلى مرحلة المستشفى، نقوم نحن الطلبة والطالبات بالمرور على عنابر المرضى نتدرب على الفحص وتشخيص الأمراض، بعد الحريق في 26 يناير 1952م أصدر الملك فاروق قرارا بإقالة النحاس وحكومة الوفد، بدأت الحكومة الجديدة في ضرب الحركة الوطنية والعمل الفدائي، امتلأت الزنازين بالشباب الوطني من مختلف الاتجاهات، الإخوان المسلمين، الشيوعيين، الوفديين، الشباب من اتحاد العمال والنقابات والطلاب المستقلين والفدائيين العائدين من القنال، ثم إعلان قانون الطوارئ، صدر قرار بحل اتحاد العمال، غرقت مدينة القاهرة في الظلمة والصمت، رائحة الدخان تفوح من الجدران السوداء المتفحمة في قلب المدينة.
ثم جاء يوم 23 يوليو 1952م، كنت في حصة المرور على عنبر الجراحة في مستشفى قصر العيني الجديد، الأستاذ قصير القامة نحيف الجسم، عيناه الواسعتان تطلان من وراء النظارة البيضاء تحت جبهة عريضة تصل إلى منتصف الرأس أو أكثر يسمونها الصلعة، صوته خافت، ملامحه خافته بلا جاذبية للعين أو الأذن إلا النحافة الشديدة أو الهزال، يشبه المهاتما غاندي زعيم الهند، الوجه الناحل والعينان الكبيرتان تطلان من تحت العدسات البيضاء الكبيرة.
كان يلقي علينا محاضرة طويلة عن سرطان المثانة، مريض راقد فوق السرير، عظام وجهه بارزة من شدة الهزال، أكثر هزالا من غاندي، يلتف حوله الطلبة يتنافسون على فحصه، خراطيم سماعتهم ممدودة نحو الجسد النحيل، تتلوى وتتعارك فوقه كخراطيم الذباب من حول قطعة لحم، رائحة الدم والصديد العفن تبعثان على الغثيان، أقف في الصفوف الخلفية مكتوفة الأيدي، أتلفت حولي في العنبر الواسع ، وجوه المرضى الناحلة الشاحبة تطل من فوق السراير، فلاحون فقراء كلهم، جاءوا من قرى تشبه قريتي كفر طحلة، دودة البلهارسيا تمص دماءهم، لا يبقى منهم إلا القليل يمصه الأطباء الكبار في العيادات الخاصة، ثم ينتهي بهم المطاف فوق السرير في قصر العيني، تقضي عليهم أصابع الطلبة في حصص التدريب، يخرجون من المستشفى إلى المشرحة، أو يحملهم النعش إلى القبر، تولول من خلفهم النسوة بالجلاليب السود.
بعد انتهاء الحصة خرجنا من العنبر، كانت معي الزميلتان بطة وصفية، خرجنا إلى الممر الطويل، له نوافذ كبيرة تكشف النيل، التراب يغطي النوافذ والزجاج مكسور، أتوقف لحظة لأستنشق الهواء النقي، أغسل الرئتين من أدران المرض والجراثيم، تتعلق عيناي بالأفق، أشعة الشمس تتموج فوق مياه النيل، سبائك من الذهب، قلبي يئن رغم الطبيعة المملوءة جمالا وفرحا، كأنما الحزن لا يظهر إلا بجوار الفرح، لا أعرف لماذا يغمرني الحزن دائما في لحظة الفرح، أهو الحزن المتراكم منذ ولدت؟ أم هذه الآلام التي تحوطني كل صباح في عنابر المرضي؟ أم هو غياب أحمد عن الكلية؟ لم أكن أعرف أين هو، في السجن مع المعتقلين؟ أو جثة مقتولة على شط ترعة الإسماعيلية؟ أو داخل مغارة في جبل اللاهون؟
فجأة رأيت المرضى يندفعون خارج العنابر يهتفون: تحيا الثورة، كان الراديو قد أذاع الخبر، استولى الجيش على الحكم في مصر وانتهى عصر الملك فاروق، سمعوا الخبر وهم راقدون فنهضوا من المرض، كأنما هي وجوه الجثث في المشرحة، نهضت من الموت، أصبحت تتحرك وتمشي، تفتح أفواهها عن آخرها وتهتف: تحيا الثورة، شاب مبتور الساقين في الحرب قفز من فراشه بدون ساقين بدون العكازين، كان يهتف تحيا الثورة.
من عنابر الرجال انطلق الهتافات، من عنابر النساء انطلقت الزغاريد، اندفع الجميع إلى الخارج، المرضى والمريضات بالجلاليب الدمور والشباشب، الممرضات والتمورجية بالمرايل البيضاء والصنادل، أطباء الامتياز والنواب بالمعاطف والسماعات حول الأعناق، الطلبة والطالبات وتلميذات التمريض وعمال المراحيض والمطبخ والمغسل والمشرحة، جميعهم اندفعوا إلى الشارع يهتفون: تحيا الثورة.
أصبح جسدي يندفع معهم وصوتي يهتف مع أصواتهم ، صفية أيضا رأيتها تجري معنا وتهتف: تحيا الثورة، بطة فوق كعبها العالي الرفيع يطرقع مع صوتها الجاد تصيح: تحيا الثوغة (الثورة)، توقفت جنازة ميت خارج من المستشفى، وضع الرجال النعش فوق الرصيف وانطلقوا مع الناس يهتفون: تحيا الثورة، تحولت ولولة النسوة الثكالى إلى زغاريد.
في تلك اللحظة كنت أبحث عن أحمد حلمي، أبحث عن وجهه بين الوجوه، أريد أن شاركه الفرح، كان مقبلا من فوق الكوبري الصغير بين المستشفيين القديم والجديد، خرج من المخبأ في جبل اللاهون، كانت الثورة هي الأمل الجديد، لأول مرة في حياتنا نتعانق بالأذرع، اكتشفنا أن لنا أذرعا يمكن لها العناق، لم يكن لنا إلا الأيدي في المصافحة، بعد الزواج والمشاركة في الفراش لم يكن جسدي يهتز كما كان يهتز في المصافحة، لم أعرف لماذا، أهو الخيال الجامح في الحب يضاعف المشاعر، أم أن «الجنس» مخيب للآمال مثل العمل الفدائي؟
في العناق الأول أحسست أن أحمد ليس هو أحمد، لم أعرف ذلك بعقلي، عرفته بالأعمق، بالأصدق، بإحساس الجسد الفطري لم تلوثه العلوم، شيء فيه راح لم يعد، شيء فيه تركه على شط الإسماعيلية وعاد وحده، أهو قلبه تركه هناك وعاد بلا قلب؟! إلا أننا نسير إلى شجرة الكافور، نتحسس حروف اسمه واسمي داخل القلب المحفور، نتحسس الخاتم الذهبي في أصبعه وأصبعي منقوشا عليه اسمي واسمه، الشيء المادي الوحيد في عالم من الهيولة والضباب، نمسكه بأصابعنا، نتشبث به كالغريق يتشبث بقارب نجاة أو الأعمى يبحث في الظلمة عن خيط من ضوء.
في 26 يوليو اعتلى الملك فاروق اليخت الملكي لآخر مرة في حياته، كان واقفا داخل بدلته البحرية البيضاء، فوق بحر الإسكندرية، سبحت فيه وأنا طفلة، صوت أبي في الفرندة البحرية يهتف: يسقط الملك، سقط الملك وتشكل مجلس وصاية على ابنه الطفل أحمد فؤاد، ورث اسم جده، كنت في الخامسة من العمر حين مات الملك فؤاد عام 1936م، جاء الصبي الصغير فاروق من بريطانيا ليرث عرش أبيه، الهتافات في شوارع الإسكندرية تدوي، مات الملك يحيا الملك، الراديو يغني : ملك البلاد يا زين يا فاروق يا نور العين، يطل الغلام الملك على الناس بوجه أبيض مستدير، وجه طفل أصبح ملكا فجأة، لا يعرف شيئا عن دهاليز السياسة، حوطته القوى الثلاث كالسلسلة الحديدية، القصر والإنجليز والأزهر، ثلاثة رجال هم أركان الحكم، أحمد حسنين، علي ماهر، الشيخ المراغي، كان أبي يسميه الشيخ المرائي (بدل المراغي) أو الشيخ الأزعر (بدل الأزهر).
كيف تحول الطفل إلى ملك مثل أبيه؟ إلى قاتل وعربيد كأبيه؟ واقفا في اليخت يلقي على مصر النظرة الأخيرة، ملؤها الحزن أو الندم، ربما كان الأفضل له ألا يكون ابن ملك، كنت أسمع الناس في قريتي يقولون: «السلطان من ابتعد عن السلطان.» أهناك مرض في السلطان يشبه السرطان ؟! يأكل الخلايا السليمة، ينمو بشراهة وجنون حتى يأكل ذاته، بلغ به النمو السرطاني أن يسعى لتناول التاج من يد الله ويكون خليفة المسلمين.
أسمع أبي يقول: إن الله ليس له يد أو لسان، فكيف تمتد يد الله حاملة تاج العرش لتناوله للملك فاروق؟ أو الماروق كما سماه أبي، يحلو لأبي أن يكتشف التشابه في الحرف والمعنى، فالنحاس هو النحاس حين ينظر بعينه اليمنى إلى الملك والعين اليسرى تفر بعيدا إلى الناحية الأخرى، لم يسلم أحد من سخرية أبي إلا جمال عبد الناصر، أشار إليه في الصورة بإصبعه وقال: «هو ده اللي فيهم لكن محمد نجيب مجرد يافطة.» «محمد نجيب» أول حاكم مصري منذ الملك مينا في مصر القديمة، ملامح وجهه ريفية بسيطة تطفو عليها ابتسامة خالية من الدهاء، صوته فيه بحة تقربه من قلوب الفقراء.
في بداية الثورة صدر قرار العفو عن المسجونين السياسيين، انفتحت أبواب الزنازين وخرج زملاؤنا من حزب الوفد والإخوان المسلمين والمستقلون وغيرهم، إلا الشيوعيين لم يشملهم قرار العفو، بقي داخل السجن شقيق صفية «سعد» وخطيب سامية «رفاعة»، أعلن زكريا محيي الدين «أحد الضباط الأحرار» أن الشيوعيين مجرمون اجتماعيون وليسوا مجرمين سياسيين، مطت سامية شفتيها بازدراء: «بقة دي ثورة يا نوال؟ دول شوية عساكر عملوا انقلاب وأمريكا معهم لتدخل مصر بدل الإنجليز!»
تحديد الملكية الزراعية بدأ بمائتي فدان للأسرة، وخمسين فدانا لكل ولد أو بنت، ثم إلغاء الألقاب والأحزاب وإسقاط النظام الملكي وإعلان الجمهورية في يوليو 1953م.
وجوه الناس في الشارع تغيرت، تغير الشارع، سقطت الحواجز بين الغرباء، كانوا يسيرون بوجوه شاحبة عابسة كل في طريقه، لا أحد يبتسم لأحد، لا أحد يقول صباح الخير لأحد، أصبح الشارع مثل البيت، الناس تكلم بعضها بعضا، يتصافحون دون سابق معرفة، يتساءلون عن الصحة وعن أخبار الثورة، يهنئون بعضهم بعضا، يتناقشون في السياسة، يتنبئون ماذا يحدث غدا، يتوقعون كل يوم قرارا جديدا.
في طريقي إلى الكلية ألتقط بعض تعليقاتهم على الأخبار: «أخيرا ربنا فرج علينا! حد كان يصدق يا ناس إن عرش الملك ده كله يسقط في يوم وليلة؟! خلاص يا عم ما فيش حاجة اسمها باشا ولا بيه! يعني هي كلمة «باشا» دي عربية؟ دي كلمة تركية يا عمي من أيام المماليك والعثمانيين! يعني خلاص البلد اتحررت يا ناس؟ يعيش محمد نجيب يعيش!»
لم يكن للأحزاب القديمة أن تستسلم، لم يكن للباشوات وأصحاب الأراضي أن يتنازلوا عن أملاكهم دون معركة، نشب الصراع بين القديم والجديد، تكتل القديم وراء محمد نجيب، كونوا جبهة قوية تحت اسم الديمقراطية أو الحريات أو إعادة الأحزاب المنحلة، ضمت الجبهة قيادات الوفد والإخوان والشيوعيين، بين الثلاثة عداء مشهود وبحور من الدم، في السياسة يتكتل الأعداء في حلف واحد ضد عدو أكبر، في الغابة أيضا قد يتحالف القط والفأر ضد النمر أو الأسد.
لم يكن الأسد ظاهرا في الصورة، بدأت الثورة بصوت أنور السادات في الراديو، ووجه محمد نجيب في الصحف، رأى أبي الأسد في الصورة واقفا إلى جوار محمد نجيب أشار إلى وجهه بإصبعه وقال: «هذا هو القائد الفعلي للثورة يا نوال!» كان الناس يهتفون لمحمد نجيب ولا أحد يعرف جمال عبد الناصر، سألت أبي: كيف عرفته؟ قال: عرفته من عينيه، عيناه تأملتهما في الصورة، نفاذتان غائرتان تحت جبهة عريضة عظامها قوية، أنفه كبير بارز مقوس في الجانب ، شفتاه رفيعتان مزمومتان في ثورة أو غضب منذ الطفولة، ملامح محمد نجيب إلى جواره تبدو بريئة ساذجة كالأطفال.
التقيت بجمال عبد الناصر أول مرة وجها لوجه في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية عام 1962م، كان أبي قد مات منذ ثلاث سنوات، الثورة في عنفوانها تحطم القلاع الإقطاعية وتعلن القرارات الاشتراكية، ملامح عبد الناصر في الحقيقة أكثر جاذبية من الصور، عدسة الكاميرا لا تنقل البريق في العينين، اللون البرونزي لبشرة بلون طمي النيل، القامة الطويلة الفارعة تشبه قامة أبي وجدتي الريفية، انحناءة خفيفة وهو يمشي تذكرني بمشية أبي، أيحمل العبء ذاته فوق كتفيه؟ يميل بهما إلى الأمام ويمشي بخطواته الواسعة، كأنما لا يحمل شيئا لولا هذه الانحناءة الخفيفة، تذكرني بالعبء، كان يحمله أبي ليطعم تسعة من الأطفال وأمهم وأمه وأخته المطلقة في القرية، العبء حملته بعد أبي.
لم يحمله أخي الأكبر، اجتمعت الأخوات والإخوة الصغار واتخذوا قرارا بعد موت أبي: «الوصاية علينا تكون لأختنا نوال.» لم يكن معاش أبي يكفي الأسرة الكبيرة، كان علي أن أعمل لأدبر مصاريف أخواتي في المدارس والجامعة وابنتي بعد الطلاق.
ألهذا زحف الشيب إلى رأسي وأنا في ربيع العمر؟ أم أنني ورثت الشعر الأبيض عن أبي كما ورثت عنه العبء؟ في طفولتي كأنما أرى الشعرات البيض تزحف إلى شعره الأسود الغزير، فاحم بلون الليل، لون شعري، تسري فيه الشعرات البيضاء كأنما خلسة، تشق سواد الظلمة كخيوط الفجر.
تخرجت في كلية الطب في ديسمبر 1954م، الدراسة كانت ست سنوات ونصفا من الأشغال الشاقة، محاضرات طويلة مملة تتلى علينا، نحفظها عن ظهر قلب ننساها بعد الامتحان، تعلق أسماء الناجحين على السبورة في مدخل الكلية، العبقرية المفاجئة لأبناء الأساتذة تظهر، يحتلون المراتب الأولى، يحصلون على المناصب العليا في المستشفى الجامعي والكلية، العرش يرثه الابن عن الأب عن الجد، النظام الوراثي في المملكة المصرية وكليات الطب.
الانهيارات العصبية تصيب الطلبة في الامتحانات النهائية، الإدمان على المنبهات «الآنفيتامجين» للسهر في المذاكرة، المنومات «الفاليون» لعلاج الأرق، ثم «الماكسيتون» لليقظة في الامتحان، الأساتذة لا يرحمون المرضى الفقراء فهل يرحمون الطلبة أطباء المستقبل المنافسين لهم في السوق؟!
كنت شديدة الانتباه للدروس، لا تفوتني محاضرة أو حصة في المعمل أو المستشفى، الأساتذة والمدرسون يعبرون عن إعجابهم بهذه الطالبة النجيبة، أذناها عيناها حواسها الخمس تلتقط الكلمة قبل أن تسقط من أفواههم، لا تغيب حتى في الإجازات، يرونها في عنابر المرضى تراجع التشخيص والعلاج، خطوتها وهي تمشي سريعة مستقيمة لا تتلكأ في الفناء مع زميل أو أستاذ، لا تتلفت حولها هنا أو هناك، كالسهم تنطق داخل الكلية وخارجها، قدماها لا تلتويان فوق الكعب العالي، عيناها تنظران مباشرة في عيون الناس.
كان يدرس لنا في قسم الجراحة أستاذ مساعد أو مدرس اسمه الدكتور رشاد، أصابعه طويلة صلبة كالمسامير الحديدية ينقر بها على صدور المرضى، يخرق بها الصدر أو البطن، يدوس بسماعته المعدنية بين الضلوع كما يدوس بحذائه على الأرض، طفل كان هناك في العنبر مريض بالقلب، اسمه مصطفى لا أنساه، ملامحه تشبه ابن عمتي نفيسة وكل أطفال القرية، عمره عشر سنوات، مثل عمري في منوف وأنا أحلم بالحب الأول، بشرته سمراء بلون بشرتي، عيناه سوداوان واسعتان باتساع عيني، مملوءتان بالبريق، انطفأ البريق بعد أيام من دخوله قصر العيني، كست عينيه سحابة من الحزن، الألم يكتمه حين تدوس السماعات فوق صدره، أربعون أو خمسون سماعة أو أكثر، بعدد الطلبة المتزاحمين حول السرير، المتنافسين على سماع الخشخشة في الدم، أو اللغط في صمام يرشقه الدكتور رشاد بنظرة صارمة، إن رفض أن يخلع الجلباب يرتفع الصوت الآمر: «اقلع يا ولد لأقلعلك عينك.» إن أصر على الرفض أو تردد قليلا هبطت اليد الحديدية فوق صدغه صفعة واحدة، يخلع بعدها مصطفى الجلباب الفلاحي الباهت، ضلوعه صغيرة هشة تنتفض كضلوع الفرخ الصغير، تطقطق تحت السماعات المعدنية، تنكسر بصوت مسموع للأذن، هل كانت الآذان كلها صماء؟! مسدودة بخراطيم من الكاوتش، تتدلى من أعناقهم مع رأس السماعة الغليظ.
لم يكن اللغط مسموعا لآذانهم، محشوة بالصمغ ربما وذرات التراب المتراكمة في الشوارع، ومدرجات الكلية وعنابر المستشفى والسنين ... يسلك الواحد منهم أذنيه بعود كبريت، ويظل اللغط غير مسموع ... خافتا هامسا كحركة الدم داخل صمام القلب، كحفيف الهواء يلامس ورقة وليدة في أول الربيع.
يخرج الدكتور رشاد من جيبه قطعة نقود فضية يلقي بها فوق المنضدة كمن يلقي الرهان في سباق الخيل أو البورصة: «الشلن ده مكافأة لمن يقول لي ما هو نوع هذا اللغط.» هذه العبارة كلها يقولها بالإنجليزية، الدراسة في كلية الطب لم تكن باللغة العربية، المراجع والكتب وأسماء الأمراض وأنواع اللغط، وكل شيء باللغة الإنجليزية، حتى النكت، ويندفع الطلبة من جديد نحو الطفل المريض، يدوسون على أقدام بعضهم، يتدافعون بالمناكب والأذرع والأكتاف، يضرب الواحد منهم كوعه في بطن الآخر، يشق طريقه نحو الصدر المكشوف، رأس سماعته منتصب أمامه كالقضيب يلمع سطحه المعدني مثل رأس الكوبرا يتلوى فوق خرطوم من الكاوتش يستقر في النهاية داخل الحفرة في اللحم بين الضلوع، وتنطلق من الطفل صرخة لا يسمعها أحد.
لم يكن للطالبات مجال في هذه المنافسة، معركة بالأجساد فهل تدس البنت العذراء جسدها بين الذكور لتسمع خشخشة في الدم أو تحصل على خمسة قروش؟ وكنت أقف في الصفوف الخلفية يتراءى لي وجه الطفل من بين الأجساد، تلتقي عيناه بعيني، تتشبث عيناه كأنما بعيني الأم أو العمة أو الأخت الكبيرة، يرمقني بنظرة استجداء طويلة تذكرني بعيني خروف العيد في طفولتي، كانت عيناه ترمقاني من وراء جسد الجزار بنظرة الاستجداء نفسها، وكنت أقف صامتة عاجزة عن إنقاذه كما أقف الآن.
في النوم تطاردني العينان، عينا الطفل المريض أو عينا الخروف المذبوح؟ متشابهتان واسعتان دامعتان بلا دموع، تشوبه صفرة تطفو عليها شعيرات دقيقة بلون الدم.
ترمقني العينان في الظلمة، مفتوحتين بلا جفون بلا رموش، لا صوت، لا حركة، فقط هذه النظرة الخرساء بذلك الاستجداء حتى أهب من النوم مبللة بالعرق.
كان الدكتور رشاد في قسم الجراحة يشبه الدكتور عمرو في المشرحة، يقف أمام الأستاذ رئيس القسم مكتوف الذراعين، مكتوف الساقين، كالتلميذ المؤدب أو البنت العذراء، يختفي الرئيس فيفرد الدكتور رشاد ذراعيه وساقيه، يتمشى في العنبر لاويا عنقه إلى الوراء كالطاووس أو الديك الرومي، يقلد الأستاذ رئيس القسم في مشيته، في الطريقة التي ينطق بها الحروف، يقلب حرف القاف إلى كاف كنوع من الرقة، أو الانتماء إلى الطبقات العليا المقلدة للأجانب، يضحك بصوت عال في غياب الرئيس، مقلدا قهقهة الأساتذة، ملقيا برأسه إلى الوراء، عيناه تتجهان نحو الطالبات: «الآنسات الكوارير (القوارير) ساكتين ليه؟ ما فيش واحدة فيكم عاوزة تكسب الشلن؟ ياللا يا ست بطة شدي حيلك، وانتي يا ست صفية وانتي يا ست فوزية ويا ست سميحة ويا ست نبيلة ...» ويأتي الدور علي، يهم أن ينطق اسمي بالسخرية نفسها لكنه يتوقف، لا أعرف لماذا، كنت أرمقه بنظرة مشبعة بالغضب، كلمة القوارير ترن في أذني الجوارير أو الجواري، تشتعل عيناي بنار سوداء أثبتها في عينه لا يطرف لي جفن.
لم أرفض في حياتي رجلا كما رفضت الدكتور رشاد، لم أكن أعرف أن الرجل ينجذب إلى المرأة التي ترفضه، لا يهدأ حتى يرفض الرفض، معركة يخوضها حتى آخر نفس، يشهر فيها كل أسلحته الخمسة عين، عمارة تطل على النيل في المعادي، عزبة في الشرقية، عيادة في ميدان الإسماعيلية، عربة «شيفروليه» زرقاء طويلة يتهادى بها أمام محطة الأتوبيس، يراني واقفة، يوقف السيارة بجانب الرصيف، يطل برأسه من النافذة: «تعالي يا نوال أوصلك.» أنتزع من عضلات وجهي ابتسامة: أشكرك يا دكتور، لا يستسلم الدكتور رشاد لهذا الرفض المؤدب، يكرر الطلب: «تعالي أوصلك بدل زحمة الأتوبيس.» أشكرك يا دكتور، شكرا يا دكتور، أهز رأسي بالشكر والرفض، وهو يكرر الطلب، يزداد رفضي بازدياد إصراره، يزداد إصراره بازدياد الرفض.
في أعماقي كنت أرفضه، جسدي يرفضه حين يصافحني بيده كالقبضة الحديدية، عقلي يرفضه أيضا والروح الكامنة في جسدي، الغامضة غموض الملائكة والشياطين، حتى اليوم لا أعرف لماذا رفضته بهذا العنف.
لكن الكراهية كالحب تحدث بلا سبب، أو ربما ذلك السبب غير المدرك بالعقل، مثل الحقائق الكبرى لا يدركها العقل البشري ومنها حقيقة وجود الله، وقد تشككت في هذه الحقيقة وغيرها من الحقائق الكبرى، لكني لم أتشكك في مشاعري تجاه الناس، تتحدد مشاعري دائما في أول لقاء، يحدث الحب أو الكره من النظرة الأولى للوجه، العينان نافذتان أطل داخلهما وأعرف الإنسان، عظام الوجه مع الأنف والفم تستكمل الصورة، منذ كنت طفلة في السابعة حتى تجاوزت الستين من العمر لم تتغير نظرتي لوجوه الناس، لم أفقد ثقتي في الانطباع الأول، النظرة الأولى تلهمني أشياء كثيرة يعجز عنها العقل أو العقل الظاهر، لم أكن أعرف الكثير عن العقل الباطن، قرأت شيئا مما كتبه سيجموند فرويد عن أجزاء العقل الواعية والأجزاء غير الواعية شيئا فشيئا مع تزايد العلم بخلايا المخ وأسرار الخلية الحية، تجارب الحياة تكشف الحجاب أكثر من العلم.
في صيف عام 1957م قبل وفاة أمي جاء الدكتور رشاد إلى بيتنا في حي العمرانية، تقدم لأبي يطلب يدي، كان يوما حارا مليئا بالغبار، توقفت سيارته الزرقاء الشيفروليه أمام بيتنا، أطلت عليها عيون الجيران من النوافذ، انبهرت بها النساء والرجال من عائلة أمي وأبي، وانفتح بابها وخرج العريس طويلا ممشوقا داخل بدلة أنيقة بيضاء من الشاركسكن، كنت أكره البدل اللامعة والأحذية اللامعة والشعر اللامع المدهون والدبوس اللامع في الكرافتة والفص اللامع في الخاتم.
في غرفة الصالون جلس الدكتور رشاد، كل شيء فيه يلمع خاصة النظارة الزجاجية، ولا شيء فيه منطفئ إلا العينين، أنظر في عينيه أبحث عن البريق، لم أعرف متى انطفأ البريق في عينيه؟ في طفولته؟ في شبابه وهو طالب؟! أم مؤخرا بعد أن أصبح أستاذا مساعدا في كلية الطب؟! - أهلا رشاد بيه. - أهلا سعداوي بيه.
يتبادلان لقب البكوية رغم سقوط الألقاب منذ الثورة، الأب والعريس جالسان في الغرفة الشديدة الإضاءة، تدخل الخادمة حاملة الصينية الفضية العتيقة، حملتها وأنا في العاشرة من العمر وانقلبت فوق صدر العريس، تعثرت الخادمة في خيط السجادة العجمية، عتيقة أيضا منذ ليلة زفاف أمي، بهتت ألوانها بمثل ما بهت وجه أمي، كادت الصينية تنقلب فوق بدلة الدكتور رشاد، أفلتت من فمي ضحكة مسموعة وأنا جالسة في الركن، تذكرت طفولتي في منوف حين كانت تزورنا مس إيفون، أمد قدمي وأخفي الثقب في السجادة، منذ الثورة لم أعد أخجل من مظاهر الفقر، لم أعد أخفي عمتي الفلاحة عن أعين زملائي وزميلاتي. - أهلا رشاد بيه. - أهلا سعداوي بيه.
كنت أرتدي ثوبا قديما من قماش رخيص اسمه جباردين، لونه رمادي حزين، قلبي ثقيل مملوء بالحزن، أبي عيناه تلمعان بالفرح، هذا هو الزوج المناسب لابنته الدكتورة، وليس الزوج السابق، الطالب الفاشل أو الفدائي الموهوم.
لم تدخل أمي إلى غرفة الصالون، كانت في فراش المرض قبل وفاتها بثلاثة شهور، على طرف السرير تجلس خالتي نعمات، جاءتنا في زيارة ذلك اليوم، تأملت الدكتور رشاد من شق الباب، وعادت إلى أمي تشهق بالفرح: «زي القمر والله ودكتور أد الدنيا ... أي بنت في الدنيا تتمناه، ليه بنتك نوال ترفضه يا زينب؟» «مش عارفة يا نعمات اسأليها.» سألتني طنط نعمات ذلك اليوم: إيه عيب الدكتور رشاد يا نوال؟ لم أعرف بماذا أرد، لم يكن فيه عيب واضح، «مش عارفة يا طنط مش باحبه.» تشوح طنط نعمات بيدها في الهواء: «حب إيه وكلام فارغ إيه، أخدتي إيه من الحب يا بنتي غير إنك بقيتي مطلقة.»
كلمة «مطلقة» اخترقت أذني بصوت طنط نعمات كالكلمة النابية، كان طلاق المرأة نوعا من العار، المرأة المطلقة لا يتزوجها أحد، يقولون عنها امرأة نصف عمر تم استخدامها من قبل، إن تزوجها أحد فهو يشرب من إناء شرب منه غيره، هكذا كان يكتب عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي ونجيب محفوظ وغيرهم من الأدباء الرجال.
حاربت في البيت لأرفض الدكتور رشاد، كما حاربت من قبل لأتزوج أحمد، لم أكن أؤمن بالزواج إلا لسبب واحد هو الحب، كلمة زواج أو عريس لها منذ طفولتي تاريخ سيئ، استطاع الحب أن يطمس هذا التاريخ فأقدمت على زواجي الأول، إلا أن الحب عمره قصير كزهور الربيع، أو ربما هو الزواج يفسد الحب، هناك شيء غير طبيعي في مؤسسة الزواج، أيكون هو قانون الطاعة؟ أول بند من القانون يقول: الرجل يمتلك زوجته وهي لا تملكه، واجب الزوج الإنفاق وواجب الزوجة الطاعة.
كلمة «الطاعة» ترن في أذني كالكلمة النابية، كنوع من السباب أو إحدى صفات العبيد، الناس من حولي يقولون الطاعة فضيلة، وأنا أراها رذيلة، الطاعة معناها أن ألغي عقلي وإرادتي وأصبح مطية للإرادات الأخرى، الطاعة معناها أن أفقد إنسانيتي وأتحول إلى فصيلة أخرى، يسمونها الإناث، أو الزوجات المطيعات، أو الحيوانات المستأنسة في البيوت، لا ترفع الواحدة منهن عينها في عين زوجها، واجبها الطاعة وواجبه الإنفاق.
كلمة «الإنفاق» ترن في أذني كالسباب، كلمة مهينة مشبعة بالإهانة، الإنفاق مقابل الطاعة، الأسياد بالخدم والعبيد، أو علاقة الذكور بالإناث في بيوت البغاء، الرجل يدفع الفلوس والمرأة تلبي أوامره، الطاعة هنا مثل طاعة الزوجة مقابل الإنفاق وليس بسبب الاقتناع.
البند الثالث في قانون الزواج أسوأ من البند الأول، من حق الرجل أن يطلق زوجته حين يشاء ويتزوج عليها امرأة أخرى إذا شاء، وليس للزوجة أن تطلق زوجها إلا في المحكمة إذا أراد القاضي، ولا يمكن لها أن تتزوج رجلا آخر وإلا اعتبرت زانية؛ لأنها تجمع بين زوجين، الرجل لا يكون زانيا إذا جمع بين أربع زوجات.
قانون الزواج ينتهك قانون الأخلاق، المبدأ الأول في الأخلاق هو أن الناس جميعا متساوون أمام القانون بصرف النظر عن الجنس أو النوع أو الطبقة أو العرق أو العقيدة، المبادئ الأخلاقية تسري على الجميع لا فرق بين ذكر وأنثى أو فقير وغني أو حاكم ومحكوم.
لم يكن لي أن أقرأ بنود قانون الزواج دون أن يتملكني الغضب، ينتفض جسدي بالغضب، هل يمكن أن أضع نفسي تحت طائلة هذا القانون؟ أليس هذا نوعا من الجنون أن أقدم على الزواج من أي رجل، وإن أحببته، فما بال رجل لا أحبه؟!
كان الطلاق الأول في حياتي هو الانطلاق، كالعصفور ينطلق في السماء، بعد توقيع القسيمة، انفتح باب السجن وخرجت إلى الحرية، قبضت بأصابعي الخمسة على ورقة الطلاق كالغريق يقبض على قارب النجاة، لحظة من لحظات العمر المتألقة، تشبه لحظة نجاحي وحصولي على شهادة الطب، أو اللحظة حين تسلمت أول مرتب عن عملي، تحررت وأصبحت أنفق على نفسي، كان أبي هو الذي ينفق علي، لم يكن يطلب مني الطاعة مقابل الإنفاق، علمني الكرامة واحترام نفسي، علمني الجدل ومناقشة كل شيء حتى وجود الله، كنت أناقش أبي وأناقش الله، فهل أنحدر إلى مرتبة الزوجات واجبهن الطاعة مقابل الإنفاق؟! لم أكن في حاجة إلى زوج ينفق علي، أحمل لقب دكتورة، لي كيان جديد ليس هو أنثى أو ذكر، أفحص أجساد الذكور كالإناث، أصعد فوق التقسيمات المفروضة بالجنس، أصعد فوق القانون الذي يحكم النساء، يسمونه قانون الأحوال الشخصية، تنحدر تحته المرأة من إنسانة كاملة الأهلية إلى زوجة ناقصة الأهلية، كالطفل أو القاصر لم يبلغ سن الرشد، كالمريض بعقله المجنون في حاجة إلى وصي، زوجها هو الوصي عليها، يمتلك جسدها وعقلها تحت اسم الشرع، يضربها إن عصت الأوامر تحت اسم التأديب، يتزوج عليها ثلاث نساء أخريات، يطلق عليها الرصاص إذا لمحها مع رجل آخر، ويخرج من ساحة المحكمة بريئا شهما مدافعا عن الشرف.
كلمة «الشرف» ترن في أذني غريبة، ينتفض جسدي بالغضب، كان الشرف قاصرا على سلوك المرأة، يرتبط بجزء معين في نصفها الأسفل، لم يكن الشرف يتعلق بسلوك الرجل، لا يعيب الرجل إلا جيبه، إذا امتلأ جيب الرجل بالفلوس أصبح شريفا وإن مارس الجنس مع عدد من النساء داخل الزواج أو خارجه.
صوت النسوة والرجال من عائلة أمي وأبي يرتفع في نفس واحد: ما له الدكتور رشاد؟ عيبه إيه؟ الرجل ما يعيبه إلا جيبه! عنده عمارة وعزبة وعيادة وعربية شيفروليه، ناقصه إيه؟ ناقصه إيه الدكتور رشاد؟
السؤال يدور في رأسي وهو جالس أمامي في غرفة الصالون، أبي منشغل بالحديث في السياسة، تضاعف حماسه لجمال عبد الناصر بعد تأميم قناة السويس عام 1956م، كاد يتطوع في المقاومة الشعبية ضد الاعتداء الثلاثي. - من أول ما قامت الثورة ومن أيام محمد نجيب وأنا أقول إن جمال عبد الناصر هو القائد الفعلي للثورة ... ولا إيه رأيك يا رشاد بيه؟ - أنا معك يا سعداوي بيه، لكن عبد الناصر رايح شمال خالص ناحية الاتحاد السوفييتي وده فيه خطورة على بلدنا يا سعداوي بيه ... - خطورة إيه يا رشاد بيه؟ - الشيوعية يا سعداوي بيه. - عبد الناصر لا يمكن يكون شيوعي يا رشاد بيه، ده راجل مسلم ومؤمن بالله والرسول، لكن أمريكا رفضت تمويل السد العالي وأصبح تأميم القناة وتأميم الشركات الأجنبية شيئا ضروريا، يعني إحنا ما صدقنا خلصنا من الاستعمار الإنجليزي لازم نقع في الاستعمار الأمريكي يا رشاد بيه؟ - أنا ضد الاستعمار الأمريكي يا سعداوي بيه، لكن أنا كمان ضد الاستعمار الروسي. - جمال عبد الناصر راجل وطني رفض كل الأحلاف يا رشاد بيه، ولا يمكن يقع تحت الاستعمار الروسي أو غيره.
في غرفة الصالون كان يدور الحوار بين أبي والدكتور رشاد، كنا في صيف عام 1957م، في بيتنا في حي العمرانية، أجلس في مقعدي صامتة أتابع الحوار، لا أحد منهما يسألني الرأي، الحديث يدور بعيدا عني، كأنما أنا غير موجودة، لماذا يتلاشى وجود المرأة لمجرد وجود الزوج؟ لم يكن الدكتور رشاد زوجي بعد، كان عريسا يتقدم لأبي، يعني مجرد مشروع زوج فقط، لكنه استطاع أن يلغي وجودي، وأبي أيضا الذي دربني على الجدل والنقاش لم يحرك رأسه ناحيتي ليسألني رأيي في جمال عبد الناصر أو الدكتور رشاد نفسه!
ناقصه إيه الدكتور يا نوال؟ سألني أبي بعد أن انتهت الزيارة، لم أكن أملك الإجابة، رأيته جالسا في غرفة الصالون داخل بدلته اللامعة، الدبوس الذهبي في الكرافتة يلمع، أسنانه تلمع، شعره الأسود يلمع، الخاتم في إصبعه يلمع، كل شيء فيه يلمع إلا العينين؛ لم يكن يجذبني شيء في الكائنات الحية إلا بريق العينين، ليس أي بريق، فالقط المتوحش أو النمر المفترس في عينه بريق، كنت أبحث عن بريق خاص لا أراه إلا في عيني الإنسان، لماذا ضاع هذا البريق من عيني الدكتور رشاد؟! لم أعرف، كل ما عرفت أن في عينيه نظرة مليئة بالقسوة وإن كان صوته رقيقا مليئا بالحنان.
لم يغفر لي الدكتور رشاد أنني رفضته، كالجرح الغائر في جسده لم يلتئم، كانت البنات والنساء يتمنينه، فلماذا لم يرغب إلا فيمن ترفضه؟ أهي الرجولة الهشة تتهاوى عند أي هزة؟ أو الغرور الذكري ينقلب إلى النقيض عند أي تهديد؟!
ولم يؤنبني أحد على ضياع هذا العريس كما فعلوا مع العريس الأول حين كنت في العاشرة من العمر، صمت الجميع في وجوم، إلا طنط نعمات قالت بصوت كنعيق البوم: «منفوخة على إيه يا ست نوال ... ده جواز المطلقة زي أكل الطبيخ البايت! ويا ريت مطلقة وبس لكن كمان مخلفة وعندك بنت!»
رنت في أذني كلمة «بنت» كطلقة الرصاص، كتلة متجمدة من الحزن لها كثافة الرصاص، متراكمة في جسد طنط نعمات منذ ولدت من أمها حتى تزوجت بلا حب، وطلقت بلا سبب، وماتت قبل أن تموت، خرجت الكلمة من فمها متجمدة كالبصمة، رمادية بلون النني في عينيها، اخترقت رأسي وعادت بذاكرتي إلى الوراء، حين ولدت بنتا وليس ولدا مثل أخي، حين دب الصمت في الكون ولم تنطلق الزغاريد من أفواه النسوة، أيكون مجيئي إلى الحياة سببا لحزن أهلي؟!
هذا السؤال لم يكف في طفولتي عن الدق في رأسي، مثل المطرقة فوق رأس مسمار، لماذا يكون وجودي في الحياة سببا لحزن أهلي؟ كنت أحب أهلي رغم حزنهم على وجودي، يدور في رأسي سؤال آخر: كيف يتحول وجودي من سبب للحزن إلى سبب للفرح؟! كيف أنتزع البسمة أو الضحكة من تلك الأفواه المزمومة؟! كان الفرح الوحيد بالبنت يوم يأتيها العريس، تنفرج الأسارير وتنطلق الزغاريد، كان فرحي الوحيد حين أنجح في الدراسة، في العلم أو الطب أو الأدب، هذه المجالات كانوا يسمونها رجولية، وما هي المجالات الأنثوية عندهم؟! دعك المراحيض أو مسح البلاط وتقشير البصل والثوم.
أصبح السؤال يدور في رأسي منذ الطفولة: كيف تتغير قلوبهم فيدخلها الفرح بنجاحي في الطب أو الأدب أكثر من نجاحي في دعك المراحيض؟ كيف تتغير أحلام أمي وأبي فيريانني داخل معطف الأطباء أو الأدباء وليس داخل فستان الزفاف.
كان الطريق طويلا شاقا مليئا بالحفر والانتكاسات، قد يفرح أبي وأمي بنجاحي في الطب، لكن سرعان ما يتبدد الفرح حين لا أخضع لإرادتهما فيما يخص حياتي، أو حين لا أنجح في ولادة الذكر وإنما هي أنثى، بنت، بنت، بنت! الكلمة بأصواتهم خاصة صوت طنط نعمات يملؤني بالغضب، بالتحدي، سوف تكون هذه البنت رغم أنوفهم سببا للفرح، سأفرح بابنتي وإن حزنوا، سأطلق زغرودة طويلة ممدودة في الزمان حتى ألف عام، ممدودة في المكان حتى السماء السابعة، حتى آذان الآلهة أو الشياطين إذا كانت لهم آذان، سأعلن في الكون أنني ولدت بنتا وأنني أتحدى بها العالم، أغير بها العالم ليفرح بالبنت كما يفرح بالولد وربما أكثر وأكثر.
في قمة الربيع عام 1956م، في اليوم الثامن من شهر أبريل جاءت ابنتي «منى» إلى الوجود، آلام الولادة تبددت لحظة الولادة، كأنما هي آلام وهمية مفروضة على النساء منذ نزول الآية: «تلدين في الأسى والألم ويكون اشتياقك لزوجك وهو يسود عليك.»
في المدرسة الابتدائية في منوف قرأت هذه الآية في «الإنجيل»، قال أبي إن الإنجيل كتاب الله مثل التوراة أنزلهما الله هدى ونورا للناس يؤمن بهما المسلمون كالقرآن، لم يكن عقلي الطفولي قادرا على هذا الإيمان، تتكور الآية في حلقي كالغصة: «تلدين في الأسى والألم ويكون اشتياقك لزوجك وهو يسود عليك.» لم أكن اعرف ماذا يعني الله بعبارة «ويكون اشتياقك لزوجك وهو يسود عليك.» تصورت أن المرأة إذا اشتاقت لزوجها فهو يسيطر عليها، قلت لنفسي: لن أتزوج أبدا، وإن تزوجت فلن أشتاق لزوجي، وإن اشتقت فلن يسود علي.
تفجر في كياني لحظة الولادة شلال عجيب من الفرح، شلال عجيب من الأحاسيس اسمه الأمومة، قبل أن تأتي ابنتي إلى الوجود لم أعرف ما معنى الأمومة، في أحلامي لم أر نفسي أما تحمل على كتفها طفلا، أو ترضعه من ثديها، كنت أحمل سلاحا لتحرير الوطن، أو مشرطا لتشريح الجسد، أو قلما أكتب به القصص، لحظة الولادة تغير جسدي، تفجر منه الشلال المتراكم في التاريخ، المخزون في خلايا الجسد والعقل والروح، التحم ثلاثتهم في شيء واحد اسمه الأمومة ، أصبح الجسد والعقل والروح كيانا واحدا صلبا هو الأم، بين ذراعي الأم كانت الطفلة المولودة أشبه بالمعجزة، هذه القدرة على تكرار نفسي داخل جسد آخر له ملامحي، وشكل أصابعي، والمقلتان تشعان الضوء كإشراقة الشمس، وهذا الاكتشاف الجديد كالنهر المتدفق باللبن الدافئ، يسري من جسدي في طفولتي، أنا وهي كيان واحد، أفتح عيني وأصحو فوق صدرها كالشاطئ الوحيد في البحر الواسع، النبض في صدرها يدق مع النبض في صدري، تمديدها الصغيرة تمسك يدي، عيناها عسليتان بلون عيني أمي، تتطلعان نحوي باندهاش بفرحة اكتشاف الأم، أصابعها الخمسة الصغيرة تلتف حول يدي كما التفت أصابعي الخمسة حول يد أمي وأنا أرقد بجوارها ليلة مولدي.
أستعيد اليوم وجه طفلتي حين كانت تضحك، كم كان عمرها حين سمعتها تضحك لأول مرة؟ كانت لها ضحكة مميزة عن كل الأطفال في العالم، ترن في البيت تتجاوز الجدران إلى الشارع إلى الكون، أسمعها وأنا أمشي في الشارع، أو واقفة في غرفة العمليات بالمستشفى، أو جالسة أكتب في مكتبي، أو راكبة القطار أو الترام أو الأتوبيس، لها رنين عجيب في أذني، كالماء المقطر يهتز داخل إبريق من الفضة، أسمعها وأنا غارقة في النوم تبدو كالحقيقة، وأسمعها وأنا صاحية يقظة تبدو كالحلم، أحملها فوق صدري وأطعمها كما كانت أمي تحملني فوق صدرها وتطعمني، رائحة طفلتي في أنفي كأنما هي رائحة أمي في طفولتي، واللبن الدافئ يسري داخل عروقي كالدم.
في عيد ميلادي يأتيني صوتها عبر أسلاك التليفون، يجتاز البحر الأبيض المتوسط وقارة أوروبا والمحيط الأطلسي والشاطئ الشرقي الجنوبي لأمريكا الشمالية حتى مدينة دير هام، يخترق صوتها المساحات والمسافات، لا توقفه أرض ولا بحر ولا سماء، يأتيني وأنا نائمة في السرير عند طلوع الفجر، يسري في أذني مثل أول شعاع للشمس «كل سنة وانتي طيبة يا ماما.» لا يمكن أن تنساه، في كل عام تذكرني به، يأتيني صوتها حيث أكون، في المنفى حيث تلقي بي الرياح خارج الوطن، يرن جرس التليفون بجوار سريري، أرفع السماعة: «كل سنة وانتي طيبة يا ماما .» يأتيني صوتها كأنما في الحلم، كنت أنسى دائما يوم مولدي، لم أحتفل أبدا بعيد ميلادي، النهاردة إيه يا منى؟ تضحك ابنتي ضحكتها المميزة تسري عبر الأسلاك إلى أذني، تمشي كالدم الدافئ إلى جسدي النائم: «النهاردة عيد ميلادك يا ماما.» أصحو فجأة كأنما من غيبوبة «مش معقول يا منى دي الأيام بتجري بسرعة أوي.» يعود إلى ذاكرتي صوت جدتي الريفية وأنا طفلة: «اللي متغطي بالأيام عريان.» أردد العبارة بصوت جدتي، تضحك ابنتي كما كانت تضحك وهي طفلة، أستعيد طفولتي، يتدفق الحماس إلى عقلي الناعس، أقفز من السرير كما كنت أفعل وأنا في السابعة من العمر، أفتح النوافذ على آخرها، أستقبل الشمس والهواء، هذا عام جديد يضاف إلى عمري الطويل، هذه ابنتي تذكرني رغم البعد، تشدني إلى الوطن، تحوطني كذراعي أمي، صوتها يأتيني وإن صمتت كل الأصوات، إن نسيني الجميع لا تنساني، تفسح لي مكانا دائما في سريرها، في مدخل بيتها، في قلبها أجدني وإن امتلأت المساحات في قلبها، إن تعبت أو مرضت أجدها بجواري، تمتد ذراعاها نحوي تحملني فوق صدرها كما كنت أحملها فوق صدري، كبرت ابنتي وأصبحت هي الكاتبة المعروفة «منى حلمي»، يخفق قلبي حين أرى اسمها مطبوعا فوق الورق، أصابعها تلتف حول القلم تشبه أصابعي، حروفها قوية بارزة محفورة فوق وجه القمر.
في طفولتي تصورت أن قلب أبي أكبر من قلب أمي، كان يتسع قلبه لحب الله والوطن، لم أسمع أمي تتحدث عن الله أو الوطن، تصورت أن الأبوة تعلو على الأمومة كما يعلو الرجل على المرأة أو يسود عليها، ثم اكتشفت أن قلب الأم أكبر من قلب الأب، لا شيء في الكون أكبر من قلب الأم، لا تشترط الأم الطاعة مقابل الحب، الأمومة راسخة في التاريخ قبل أن يعرف الأب أطفاله، لم تنشأ الأبوة إلا بنشوء النظام الطبقي الأبوي وفرض قانون الزواج على المرأة، الأمومة كالشمس والمطر والزرع، ظاهرة من ظواهر الطبيعة من غير حاجة إلى قوانين.
تعلمت الحب بلا شروط من خلال أمومتي، ثم امتدت الأمومة خارج جدران البيت وروابط الدم، أصبحت أحب الحب بصرف النظر عن صلة الرحم، بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو الطبقة أو الدين، عشت قصصا متعددة من الحب وأصبح لي في كل شبر من العالم قصة حب.
بعد مولد ابنتي في ربيع 1956م امتد الفرح ليشمل الوطن كله، في 8 يونيو 1956م تم إعلان الدستور الجديد وإلغاء الأحكام العرفية، والإفراج عن المعتقلين في 2 يوليو 1956م، ولم يلبث أن دوى الصوت في الراديو يعلن تأميم قناة السويس، إنه صوت جمال عبد الناصر، واليوم هو 23 يوليو 1956م عيد الثورة الرابع، والشهر الرابع من عمر ابنتي، والأفراح في كل بيت، والسجون انفتحت أبوابها وخرج كل المسجونين السياسيين ومنهم الشيوعيين، خرج أسعد شقيق صفية التي أصبحت الدكتورة صفية في مستشفى الأطفال، وتزوجت مدير المستشفى ، خرج من السجن رفاعة خطيب سامية، حضرت فرحهما، واشتغل الاثنان في صيدلية بشارع قصر العيني، تزوجت بطة أحد الأساتذة وشاركته عيادته الكبيرة في ميدان الدقي، أما أنا فقد اخترت طريقا آخر، كنت أبحث عن شيء جديد، لا أريد أن أكون مثل الطبيبات النساء، يسعين إلى العمل في القاهرة في حضن الأهل والأسرة، كنت أبحث عن عمل يأخذني بعيدا في أحضان الريف، أكنت أشتاق إلى قريتي أو هي ابنتي أعادتني إلى طفولتي؟! أم أنني مللت القاهرة بكل ما فيها؟!
منذ جاءت ابنتي للوجود دار سؤال لم يخطر أبدا لعقلي: هذه الابنة! أهي السبب الأول لوجودي؟ أي الهدف الأول من الحب والزواج والطلاق وكل شيء؟ لا شيء خارج كيان هذه الابنة يرتبط بوجودي، مثل ذكر النحل ينتهي دوره بانتهاء الإخصاب، ولا يبقى للمرأة منه إلا الأسى والألم.
أهي الأمومة في قوتها الكاسحة تحطم كل شيء إلا نفسها وموضوع حبها؟! كان الرجل البدائي يقتل أطفاله أو يأكلهم، لم يمنعه إلا الأم، كانت تقتل الأب قبل أن يأكل أطفاله، لولا هذه الأمومة القاتلة في حبها لانقرضت الحياة فوق الأرض واندثرت في التاريخ فصيلة الإنسان.
الفصل الثالث
طبيبة القرية
كان يوما دافئا من أيام سبتمبر 1956م، مدينة القاهرة تركتها وراء ظهري، ليست هي الأرض التي خرجت منها، هذه الشوارع الأسفلت لا تنبت فيها زهرة، إن نبتت تدوسها الأحذية، الكعوب السميكة المربعة أو العجلات الحديد، خطوتي فوق الأرض واسعة قوية، كخطوة جدتي الفلاحة، في أعماقي حنين لرائحة الزروع وخبيز الفرن، ابنتي أحملها فوق صدري، عمرها ستة شهور، أغطيها بشال لونه وردي، اشتغلته بيدي بخيوط من الحرير، دقات قلبها تنبض مع الدقات تحت ضلوعي، أحوطها بذراعي أخفيها عن العيون.
أجري لألحق بالقطار كما كنت وأنا طفلة، أحمل قلب الطفلة داخل جسد المرأة، أفرح بركوب القطار والجلوس إلى جوار النافذة، التلاميذ والتلميذات يجرون نحو القطار يتصايحون بالفرح، صورة جمال عبد الناصر تعلو جدار المحطة، بطل تأميم القناة وأحداث أخرى كانت تتوالى منذ خطابه الشهير في 17 مارس 1953م، كنت طالبة بكلية الطب، والطلبة يتجمعون حول الراديو في الفناء ويصفقون، صوت جمال عبد الناصر يدوي: «نحن نرفض الأحلاف العسكرية الأجنبية تحت اسم الدفاع المشترك، إن الدفاع عن الشرق الأوسط يهم دول المنطقة أكثر من غيرهم، لن يستطيع شعب رازح تحت نير الاستعمار أن يدافع عن استمرار هذا الاستعمار في وطنه بحجة تخوفه من اعتداء آخر قد يتعرض له هذه الشعب وقد لا يتعرض، إننا نريد جلاء ناجزا غير مشروط.»
لم يتم الجلاء إلا بعد ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر من هذا الخطاب، وفي 17 يونيو 1956م أقلعت الباخرة «إيڨان جيب» من قناة السويس حاملة آخر الجنود الإنجليز، انتهى الاحتلال البريطاني الذي دام اثنين وسبعين عاما، ليعود من جديد بعد أربعة شهور فقط، حين وقع الاعتداء الثلاثي على مصر.
في المقعد أمامي جلست تلميذة في العاشرة من عمرها تقريبا، حقيبة كتبها فوق ركبتها، مريلتها من الدمور بالمربعات الصغيرة الزرقاء، تشبه مريلتي في المدرسة الابتدائية، أول رحلة لي بالقطار من منوف إلى القاهرة منذ أربعة عشر عاما، كنت طفلة تهرب من القرية إلى المدينة، اليوم أنا شابة تهرب من المدينة إلى القرية، في الرحلة الأولى لم أكن أملك إلا قلمي الرصاص وكشكولي الأزرق، اليوم أملك شهادة الطب ولقب دكتورة.
تخرجنا أطباء دون أن نعطي حقنة واحدة في العضل أو الوريد، دربت نفسي بنفسي في سنة الامتياز، اختلست بعض الجراحات الصغيرة، أجريتها في غيبة الأستاذ والنائب، أولها عملية إجهاض وآخرها عملية استئصال الزائدة الدودية.
كنت أسمع أبي يقول: الجامعة ليس فيها تعليم مثل وزارة المعارف (المقارف)، إذا تعلم الناس فيها فلن يبقى حاكم على عرشه، كلية الحربية لا تخرج إلا الجهلاء، إن أصبحوا هم الوزراء ماذا يكون الحال؟! تضحك أمي وتسأله: يعني لو عملوك وزير التعليم حتعمل إيه يا سيد؟ كلمة سيد لم تخرج من فم أمي حتى أنجبت منه طفلها الخامس، منذ تزوج أبي لا تتحدث عنه إلا بضمير الغائب «هو»، أنجبت منه أطفالها التسعة دون أن تخلع ملابسها أمامه، أنا أيضا لم أخلع ملابسي أمام زوجي الأول .
ضحكت على نفسي وأنا جالسة في القطار، انتبهت التلميذة الجالسة أمامي، ضحكت هي الأخرى، عيناها السوداوان تلمعان بالبريق، يشبه البريق الذي كنت أراه في عيني وأنا طفلة، حقيبة يدي داخلها مرآة صغيرة مستطيلة، اختلست إليها نظرة سريعة، لمحت البريق فابتسمت لنفسي، كان القطار يجري بعيدا عن القاهرة، كالسجين يهرب من وراء القضبان، البيوت تتراجع إلى الوراء سوداء بالدخان، الكون ينفتح على الأفق، زرقة السماء والحقول الخضراء تتسع مع اتساع دلتا النيل.
الحقيبة الكبيرة إلى جواري فوق المقعد، نصفها ملابس ونصفها كتب، مؤلفات جديدة في الطب والفلسفة، روايات بالعربية والإنجليزية، ومفكرتي السرية، لم أكن أفتح مفكرتي إلا بعد أن ينام الجميع، في ضوء القمر أكتب أخشى أن أضيء النور، لا أحد يراني إلا عين الله التي لا تنام.
اهتز القطار منتفضا فوق العجلات، أطبقت ذراعي حول ابنتي، أيخرج عن القضبان وينقلب؟! الخوف من عقاب الله مدفون في أعماقي، منذ الطفولة أخاف منه!
دخل القطار محطة بنها، استيقظت ابنتي من النوم، ابتسمت امتلأت عيناها بالضوء، منذ ولدت ابنتي تمتلئ عيناها بالفرح حين تراني، لم يفرح أحد بوجودي في الحياة مثل ابنتي، عيناها عسليتان بلون عيني أمي، ترمقني أحيانا بنظرة تشبه أمي، يختلط علي الأمر، أظنها أمي عادت طفلة، تمتد يدها لتطبق على يدي كما كانت أمي بأصابعها الخمسة تطبق على يدي.
لم يكن عقلي يلتقط هذه اللحظة من قبل، هذه اللمسة الحميمة بين الأم والابنة، كان عقلي محشورا بأشياء ثقيلة، مشغولا عن هذه اللمسات الرقيقة بالقضايا الكبرى.
كيف خلت مفكرتي من أحاسيس الأمومة؟! هذا الشلل الطاغي بالفرح، هذه اللمسات بين جسد الأم وجسد الابنة، التيار المتدفق باللذة يسري مع الدم في الأوردة والشرايين، ينقلب الألم سعادة وينقلب الخوف شجاعة، إذا انقلب القطار في هذه اللحظة يمكن أن أطير من النافذة وابنتي بين ذراعي، يمكن أن أفعل أشياء خارقة للعادة.
في مدينة بنها هبطت من القطار، رصيف المحطة كان مزدحما بالناس، موظفون بالبدل الإفرنجية، العجائز منهم بالطرابيش، فلاحون بالجلاليب والطواقي، نساء البندر بالفساتين القصيرة حتى الركبتين، الفلاحات العجائز بالجلاليب السوداء الطويلة، رءوسهن ملفوفة بالطرح، الشابات بالجلاليب الملونة والضفائر الطويلة، ناظر المحطة ينفخ في صفارته، ينتفخ صدغاه بالهواء مثل ناظر محطة منوف، بائع السميط والجبنة الرومي ينادي بصوته القديم، القطار ينفث الدخان الكثيف مطلقا صفارة طويلة حادة، صورة جمال عبد الناصر تغطي الجدران، التلاميذ والتلميذات يتسابقون في الجري فوق الرصيف، يصرخون بالفرح يتقاذفون بالحقائب بالكراريس بالقراطيس.
أتوقف دائما لأرقب هذا المشهد في المحطات، حركة الناس المسافرين، يجرون بالحقائب هنا وهناك، صاعدين أو هابطين، رائحة الدخان تملأ الجو، مع رائحة السميط والجبنة الرومي، مع الكازوزة والصفافير واللهجات من كل نوع، الحركة النشيطة مع الحماس، كالعدوى يدب النشاط في جسدي، أحرك قدمي فوق الأرض بخفة، أجري وسط الناس كمن تسبح في البحر، الحقيبة في يدي والطفلة فوق صدري، يهتز جسدها مع حركة جسدي، تضحك بشهقات الأطفال المتقطعة، عيناها تلمعان بالدهشة: إلى أين تجري أمها بهذا الحماس؟ عيناها تتساءلان، لم تتعلم عنها بعد، العينان تنطقان قبل اللسان، لغة العيون تعجز عنها الكلمات، همست في أذنها بالأغنية: إجري إجري إجري ... وديني أوام وصلني! ضحكت ابنتي وراحت تهز رأسها مع اللحن كما كنت أهز رأسي وأنا في عمرها وأغني: دي دي تيا ... دي دي تيا ...
ركبنا سيارة أجرة من محطة بنها، المسافة بينها وبين قرية طحلة عشرة كيلو مترات، الشوارع في مدينة بنها ترابية مليئة بالحفر والمطبات، يصعد الطريق بنا إلى جسر النيل، السيارة قديمة مكسورة النوافذ، تصطك عجلاتها وأبوابها بعضها ببعض، تعلو وتهبط مع المطبات مثل المرجيحة، تضحك ابنتي وهي تتأرجح فوق صدري، أضحك معها والسائق يشاركنا الضحك، ويقول: العربية دي فيها البركة زي القطط بسبع أرواح، كان عندي حنطور ما شاء الله عليه، والحصان كان زي الحصان، لكن ربنا افتكره، دفنته في التربة مع المرحوم أبويا، وحزنت عليه أكثر من أبويا - الله يرحمه - كان حصان أصيل ابن ناس، ياكل قليل ويشتغل كثير، عشان كده ربنا أخده، ربنا دايما ياخد الحاجات الغالية الأصيلة! - البقية في حياتك يا أسطى وحياة العربية الجديدة. - دي عربية قديمة من أيام سيدنا نوح، لكن ربنا عوضني بيها عن الحصان، وأهي ماشية زي الحصان، مع إنها صفيح في صفيح لا تاكل ولا تشرب ولا تموت، سبحان الله ربنا حط الروح في الصفيح، مش روح واحدة لكن سبع أرواح!
ابنتي ترمق السائق بانتباه، رأسه ملفوف بكوفية بيضاء لها شراشيب حمراء تهتز مع اهتزازات رأسه، تضحك وتمد يدها لتمسك الشراشيب، يداعبها السائق، يشير إلى النيل: شوفي البحر حلو إزاي ما فيش بحر زي ده عندكم في مصر!
الهواء منعش له رائحة الطمي والزرع، دخان القاهرة يتسرب من مسام جسدي وعقلي، حياتي الماضية تتقهقر إلى الوراء ومعها المدينة، كأنما لم تكن لي حياة إلا في هذه البقعة من الأرض، فوق هذا المكان من جسر النيل، في هذه اللحظة الحاضرة الممدودة في الكون إلى ما لا نهاية.
على باب الوحدة تجمع الفلاحون والفلاحات، وانطلقت الزغاريد والأصوات: يا ألف مرحب بالضكطورة! الدنيا نورت من طحلة لكفر طحلة لدجوي والرملة لغاية بنها كمان! دي الضكطورة بتاعتنا، السعداوية بنت السيد بيه، أبوها ربنا يطول عمره أفضاله على الجميع! يا ألف مرحب المجمع نور يا ضكطورة!
كلمة المجمع تعني عندهم الوحدة المجمعة، وهي مجموعة من المباني الجديدة البيضاء، ترقد وسط الزرع مثل حمامات السلام، تشمل الوحدة ثلاثة أقسام: القسم الصحي، القسم الاجتماعي، والقسم التعليمي أو المدرسة.
كان مشروع الوحدات المجمعة الريفية في بدايته عام 1956م، أحد مشاريع الثورة، يشرف عليه في القاهرة جهاز إداري ضخم اسمه المجلس الأعلى للخدمات، يرأسه رجل من أعوان جمال عبد الناصر اسمه محمد فؤاد جلال، يحتل القصر الفخم في شارع قصر العيني، خلف البرلمان، أصبح هذا القصر في عهد أنور السادات مقر هيئة جديدة أطلق عليها اسم مجلس الشورى وباللغة العامية الشورة، الشوربة باللغة الشعبية الساخرة، وتعني اختلاط الحابل بالنابل أو الفوضى في الدولة، تطورت إلى كلمة شعبية أخرى «كوسة» ثم بمية، وتعني الفساد وانتشار الواسطة والرشوة.
لم ألتق بفؤاد جلال إلا مرة واحدة، في الاحتفال الكبير بتعيين أول فوج من الأطباء، كانوا جميعا من الذكور، رفض المجلس الأعلى للخدمات تعيين الطبيبات في الريف.
على المنصة العالية يجلس فؤاد جلال من حوله أعضاء المجلس الأعلى، فوق رأسه صورة جمال عبد الناصر، إطارها ذهبي سميك، الجدار تعلوه الزخارف منقوشة بماء الذهب، مقعد فؤاد جلال يشبه كرسي العرش، في هذا المقعد داخل هذا القصر كان يجلس قبل الثورة رجل فوق رأسه صورة الملك فاروق، بعد موت جمال عبد الناصر جلس رجل آخر فوق رأسه صورة أنور السادات، اليوم يجلس في المقعد نفسه داخل القصر نفسه رجل آخر فوق رأسه صورة حسني مبارك.
داخل الإطار الذهبي السميك تتوالى صور الحكام واحدا وراء الآخر، تعلو الصورة فوق رءوس الرجال، رجلا وراء رجل، تنحني ظهورهم أمام الصورة، يؤدون لها التحية كعبدة الأصنام، يتحدثون بصوت هامس يخشون أن تسمعهم، يرمقونها بطرف عين كأنما تراهم، يقلدون صاحبها في كل شيء، الصوت والحركة، وحبات المسبحة بين أصابعهم كأنما هي أصابعه، إن كانت عنده لازمة معينة أصبحت لهم، لدغة أو تأتأة أو فأفأة، إن قال والله يقولون والله، وإن قال بسم الله يقولون بسم الله، يبدءون كلامهم دائما بهذه الكلمات الأربع: «حسب توجيهات السيد الرئيس.»
من فوق المنصة العالية بدأ فؤاد جلال يخطب: «حسب توجيهات السيد الرئيس بدأنا مشروع الوحدات المجمعة في الريف، في العهد البائد أيها السادة عانى الفلاحون ثالوث الفقر والمرض والجهل، وجاءت الثورة المباركة المجيدة لتنصف المحرومين الكادحين في القرى والنجوع، وهذه هي مهمتنا الأولى في المجلس الأعلى للخدمات، وهي خدمة الشعب!»
وجوه الرجال الجالسين إلى المنصة العالية لا توحي أنهم في خدمة الشعب، وجوههم العسكرية مشدودة كأنما بالأسلاك، البدل من الصوف الإنجليزي مشدودة بالمكواة الحديدية، الأكتاف عريضة محشوة بالقطن، يدسه الترزي في أكتاف الرجال لتصبح أعرض من الحقيقة، وكانت أمي تدسه في أكتاف العريس، نلعب به ونحن أطفال، الدمى نتفرج عليها في مسرح العرائس، أكتافهم المحشوة وأعناقهم المشدودة إلى أعلى بالخيوط.
كانت القاعة مليئة بالأطباء، صدر القرار بتعيينهم في الوحدات المجمعة، ثلاثمائة طبيب أو أكثر، رءوسهم محلوقة، أكتافهم مدكوكة، والكتف تلاصق الكتف.
انتهى فؤاد جلال من إلقاء خطبته، دوت القاعة بالتصفيق، كان التصفيق واجبا وطنيا، يؤكد به الإنسان ولاءه للحكومة، إن لم ترتفع اليدان بهذه الحركة التصفيقية، أو إن جاءت الصفقة فاترة، رمقته العيون بالشك، قد يسقط اسمه الثلاثي من أهل الثقة، ليدخل في قائمة أخرى بوزارة الداخلية.
توالت الخطب من أعضاء المجلس الأعلى، أربعة عن يمين الرئيس وأربعة عن يساره، سقطت جفوني في إغفاءة، عاد إلي كابوس الامتحان يكاد يشبه امتحان الهيئة في الجيش، الكلية الحربية لم تكن لها علاقة بالحرب، يتخرج الضابط أحد الوجهاء، لا تربطه بالحرب إلا البدلة العسكرية، يزهو بها أمام البنات، كتفاه المحشوتان تلمع فوقهما النجوم، جلست في الامتحان أمام رجلين من أعوان فؤاد بيه، الأول اسمه محمد بيه والثاني اسمه مصطفى بيه، متشابهان كالتوءمين، أحدهما أبيض البشرة، والثاني داكن السمرة، نسخة من الكربون. - اليوزباشي السعداوي قريبك يا دكتورة. - ليس في عائلتنا أحد يوزباشي. - وكفر طحلة تبقى فين يا دكتورة؟ - في محافظة القليوبية. - يا دكتورة نوال العمل في الريف صعب وأنت طبيبة ممتازة بلا شك، لكن مهما كنت فأنت من الجنس اللطيف، مش كده يا محمد بيه؟ - طبعا يا مصطفى بيه الدكتورة نوال من الجنس اللطيف.
صوته وهو ينطق كلمة اللطيف رقيق، أكثر رقة من صوت النساء، يده يحركها في الهواء أصغر حجما من يدي، أنامله أكثر نعومة من أناملي، بشرته بيضاء متوردة بالحمرة كوجوه العذراوات، يرتدي قميصا حريريا له أزرار ذهبية لامعة، كنت أرتدي قميصا من تيل المحلة السميك، بشرتي سمراء محروقة بالشمس. - والجنس اللطيف يا محمد بيه لا يمكن يتحمل خشونة الحياة في الريف بدون كهرباء ولا مياه نقية من الحنفية ... مش كده ولا إيه؟ - أيوه كده يا مصطفى بيه، وعندي سؤال لك حالة مستعجلة في نص الليل تقدري تخرجي في الظلمة؟ ما تخافيش الديابة تأكلك في الطرق الزراعية؟ وإذا الكعب العالي انغرز في الطين أو كوم السباخ تعملي إيه يا دكتورة؟
كنت أرتدي حذائي الجلدي الأسود، كعبه مربع سميك يشبه كعوب الكادحين من الرجال، مدقوقة فيه قطعة حديد على شكل حدوة الحصان، يعلوه تراب الشوارع من الجيزة إلى شارع قصر العيني، سمعتهما يضحكان بخلاعة موظفي الحكومة في غيبة رئيسهم، وميوعة الأزواج في غيبة زوجاتهم، أحدهما أبيض له وجه عرائس المولد والثاني داكن السواد رغم الاختلاف في اللون ملامحهما متشابهة، كأنما الحكومة تصكهم كما تصك النقود، يصبح الواحد منهم باهت الملامح كالقرش الممسوح.
أفقت على صوت التصفيق يرج القاعة، انتهت الخطب، وارتفع صوت من فوق المنصة يقول: أهناك أسئلة يا حضرات الدكاترة؟ دب الصمت، لم يتقدم أحد، لم أسمع إلا الأنفاس المكتومة، رأيت يدي ترتفع، صوتي ينطلق وحده يطلب الكلمة، تفضلي يا دكتورة، وجدتني أسير إلى الميكروفون، لمحت العيون ترمقني، تترقب ماذا أقول، الضربات تحت ضلوعي قوية متصاعدة، الغضب المتراكم يتجمع في حلقي، أبتلعه وأتكلم بصوت أبي الهادئ، أعدت إلى ذاكرتهم مبادئ ثورة يوليو، العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، ثم تساءلت: لماذا لم تعين الطبيبات في الوحدات المجمعة مثل الأطباء؟ قلت إنني من قرية اسمها كفر طحلة، تخرج فيها النساء كل يوم قبل الفجر، يشتغلن بالفئوس في الحقول، في صقيع البرد وتحت لهيب الشمس ، عند الغروب يرجعن إلى البيوت، يطبخن ويغسلن ويخبزن، لا يأكلن إلا بعد أن يأكل الجميع، يرتدين في الصيف والشتاء جلبابا واحدا، يمشين في الطرق الزراعية حافيات، وتساءلت: أليست هؤلاء النساء ينتمين إلى الجنس اللطيف؟!
بعد انتهاء الحفل هب فؤاد جلال من فوق المنصة، الموظفون يحيطون به من كل جانب، رآني واقفة وسط الأطباء، أقبل نحوي وصافحني: أعجبتني كلمتك يا دكتورة نوال، سيصدر قرار تعيينك في وحدة طحلة المجمعة، يمكنك الحضور إلى مكتب الدكتور عبده سلام غدا لاستلام القرار.
كالحمامة البيضاء وسط الحقول الخضراء، كان بيتي الجديد الصغير من دورين، يسميه الفلاحون «الفيلا» بحرف الفاء، وليس الڨاء، وليس ذات النقط الثلاث، لا توجد باللغة العربية هذه الحروف اللاتينية، يصعب على المصريين نطقها (مثل الباء الثقيلة)، كان بالوحدة المجمعة ثلاث فيلات (ڨيلات) متشابهات، الأولى قريبة من البوابة يسكنها الاختصاصي الاجتماعي، إلى جوارها الثانية مخصصة لناظر المدرسة، كانت خالية لأنه يسكن في القرية مع أسرته، الڨيلا الثالثة للطبيب، أصبحت هي بيتي، تتكون من صالة الاستقبال ومائدة الطعام والمطبخ في الدور الأول، في الدور الأعلى غرف النوم والحمام، وشرفة تطل على الحقول الممدودة إلى الأفق.
أول يوم دقت بابي امرأة فلاحة فارعة القامة مرفوعة الرأس ذكرتني بجدتي أم أبي، ربطت حمارتها البيضاء أمام البيت، دقت الباب بكفها الكبيرة المحروقة بالشمس، جلبابها الأسود الطويل والرائحة ذاتها، خليط من الزرع والجميز والذرة المشوية وخبيز الفرن، الضحكة نفسها حتى تدمع عيناها السوداوان اللامعتان، وطرف الطرحة السوداء تخفي بها فمها المملوء بالضحك والعبارة بالصوت نفسه: الله اجعله خير يا رب!
اسمها أم إبراهيم، قالت لي حين دخلت من الباب: «يا ضكطورة نوال احنا قرايب من ناحية المرحومة ستك الحاجة مبروكة وأنا وحيدة، العيال كبروا وتركوا الدار، والراجل راح مطرح ما راح، خديني عندك في البيت أخدمك إنتي والمحروسة بنتك بعيني الاتنين.»
أعطيتها لقب «دادة أم إبراهيم»، ومفاتيح البيت والدولاب وابنتي الطفلة، وماهيتي الشهرية، ومفكرتي السرية، علمتها القراءة والكتابة، أصبح عندها ساعة يد كبيرة ونوتة صغيرة تدون فيها المصاريف والمواعيد، اشتريت لها جلابيب ملونة، ومناديل بيضاء تربط بها شعرها الأسود الطويل، تضفره على شكل ضفيرة واحدة، تهتز وراء ظهرها المرفوع حين تمشي، خطوتها فوق الأرض قوية، تدب بقدمها الكبيرة وصوتها يملأ البيت بالفرح: نهارنا أبيض يا ضكطورة زي الشهد!
روائح الفل والياسمين تملأ الجو، زرعت ثلاث شجرات في الحديقة الصغيرة أمام البيت، واحدة فل، والثانية ياسمين، والثالثة شجرة اليوجانفيليا الحمراء، دم الغزال، كنت أنام في غرفة النوم الكبيرة إلى جواري تنام ابنتي في سريرها الصغير الهزاز، في الغرفة الثانية تنام أم إبراهيم، تصحو مع زقزقة العصافير عند الفجر، تسخن لي صفيحة الماء في الحمام، تهبط إلى المطبخ، تجهز الفطور والشاي، حين يلتصق العقربان داخل قرص الساعة فوق الرقم سبعة، تهتف من الدور الأول، صوتها يصلني في الدور الأعلى وأنا غارقة في النوم: «الساعة سبعة يا دكتورة، صباح الخير، النهاردة الشمس طالعة والزرع فتح، يا حلاوة النورات يا دكتورة.» تفتح نوافذ البيت، تفتح الشرفة المطلة على المزارع، تدخل الشمس حتى السرير، وأنا نائمة، تفتح النافذة في الصالة المطلة على مباني الوحدة، تهتف بصوتها المرح: «صلاة النبي أحسن الطوابير مالية المجمع، العيانين واقفين على باب الوحدة من الفجر، قومي يا ضكطورة، الشامي جاهز وسخنت لك فطيرة في الفرن!»
أخرج من البيت في الثامنة صباحا، أخترق الحديقة والمزرعة الخاصة بالوحدة، أسير تحت التكعيبة إلى العيادة الخارجية، كل شيء في غرفة الكشف الطبي جاهز، التمورجي عبد الفتاح واقف كالألف عند الباب داخل المريلة البيضاء الطويلة، جسمه لا يكف عن الحركة، كالسهم ينطلق، كالسهم يعود، كل شيء تحت يديه يتحول من الفوضى إلى نظام، طوابير المرضى والمريضات تصبح خطوطا مستقيمة، قد يصل عددهم إلى مائة أو أكثر، النظام يجعل كل شيء ممكنا، أنتهي من العيادة الخارجية في ثلاث أو أربع ساعات، أصعد إلى الدور العلوي حيث القسم الداخلي وغرفة العمليات، دربت الممرضات الثلاث على العمل، أكثرهن نشاطا كان اسمها «زينات»، تخرجت من مدرسة التمريض الملحقة بمستشفى قصر العيني، أعطيتها لقب الحكيمة، كانت تسكن مع الممرضات في القسم الخاص المواجه للقسم الداخلي، امرأة في الثلاثين من عمرها، لم تتزوج، متوسطة القامة، بيضاء البشرة، عيناها خضراوان مستديران تشبهان عيون القطط، تلمعان في الليل، تمر على المرضى، في يدها كشاف كهربي صغير، حول شعرها الملفوف «الكاب» الأبيض، فوق ثوبها القصير حتى الركبتين المريلة البيضاء المربوطة حول وسطها بحزام رفيع.
كان معي في الوحدة عدد من الموظفين الرجال، دربت أحدهم على أعمال الصيدلية وقراءة الروشتة وصرف الدواء، دربت موظفا آخر على أعمال الثقافة الصحية، والمرور على البيوت في القرى التابعة للوحدة، يشرح لهم وسائل الوقاية من مرض البلهارسيا والإنكلتوستوما أو الملاريا، الأمراض المتوطنة والأمراض المعوية التي تصيب الأطفال، يسكن في القرية مع زوجته وطفلين، تخرج من المعهد الصحي، كان قصير القامة ممتلئ الجسم يرتدي بدلة وكرافتة مثل الموظفين في الحكومة.
يوم السبت كان يوم العمليات الجراحية وهو أول يوم في الأسبوع، يوم الخميس كان للمرور على البيوت، وبقية الأيام للعيادة الخارجية، يوم الجمعة هو إجازتي، أتمشى فوق جسر النيل تحت أشعة الشمس، أدفع عربة الأطفال أمامي ذات الكبوت، يطل منها وجه ابنتي، عيناها العسليتان تلمعان بالضوء، بشرتها البيضاء متوردة بالصحة، تضحك بصوت يشبه الزقزقة، تقبض بأصابعها الصغيرة على يدي حين أرفعها من العربة، أحملها عاليا فوق رأسي لترى النيل.
في منتصف الليل سمعت الدق على باب بيتي، كان هو التمورجي عبد الفتاح، واقفا في الظلمة كالسهم الأبيض داخل مريلته الطويلة، رأسه الأصلع يلمع تحت ضوء القمر، يسكن في القرية مع زوجته وأطفاله الثلاثة، يأتي إلى الوحدة عند الفجر، لا يغادرها حتى منتصف الليل، يعرف المرضى واحدا واحدا باسم الأب والجد. - محمود ابن الحاج حسنين من دار أبو هشام جابوه دلوقتي من الكفر حالته متأخرة أوي يا ضكطورة. - عنده إيه يا عبد الفتاح، أنت دلوقتي بقيت أحسن مني في تشخيص الأمراض! - العفو يا ضكطورة، أنا آجي إيه جنب سعادتك، جايز يكون المصران الأعور أو حصوة في الكلية اليمين، عنده مغص شديد أوي وجسمه سخن نار! - افتح أوضة العمليات وجهز كل حاجة إنت والحكيمة زينات وأنا جاية حالا.
بعد دقائق كنت أجتاز الحديقة الصغيرة والمزرعة، جسمي الطويل النحيف يندفع داخل المعطف الأبيض، في يدي كشاف نور على شكل مسدس، أشق به الظلمة، على باب غرفة الكشف رأيت القبيلة من آل أبو هشام، الأم داخل جلبابها الأسود الطويل، رأسها ملفوف بالطرحة السوداء، تمسح عينيها بطرف الطرحة: ربنا يخليكي يا ضكطورة، محمود ابني ماليش غيره هو الوحيد على ست بنات، إلهي ربنا يحط في إيدك البركة، إلى جوارها يقف الأب حسنين داخل قفطان طويل وعمامة كبيرة حول رأسه، من حولهما حشد من العائلة الكبيرة الممدودة من كفر طحلة، يتطلعون نحوي في رهبة كأنما أنا الإله الشافي.
بعد الفحص الطبي أصبحت داخل غرفة العمليات، داخل المريلة المعقمة الطويلة، وجهي اختفى وراء القناع من الشاش، شعرت بالراحة لهذا الاختفاء، في أعماقي شيء من التردد، في الطب لا يكون التشخيص أبدا مائة في المائة، ليس عندي جهاز أشعة، وسائل التشخيص الحديثة غير موجودة، أعتمد فقط على أصابعي، وحواسي الخمس، وحاستي السادسة، مع خيالي الفني، في كلية الطب لم نتعلم الجراحة، في سنة الامتياز دربت نفسي على بعض الجراحات الصغيرة، اختلست من وراء الأستاذ أو النائب عملية فتاق أو إجهاض أو عملية لوز أو مصران أعور في أحسن الحالات، كان المشرط يثبت في يدي دون رعشة، تعودت الإمساك به في سنوات المشرحة، فتح بطن الميت ليس مثل فتح الإنسان الحي، الأحشاء الميتة خالية من الدم مملوءة بالفورمالين، فاقدة الحركة، كنت أقطع فيها بالمشرط دون وجل، وأغور في بطن الجثة الميتة دون أن يهتز لي جفن.
أول مرة فتحت بطن إنسان حي أصابتني الرجفة، لأول مرة تلمس أصابعي الأحشاء المتحركة النابضة بالحياة، الاهتزازة من طرف المشرط تجعل الدم كالنافورة الحمراء، كالموجات الكهربية الصاعقة، لا أعرف من أين تتفجر ومتى تتوقف، لها سرعة أشد من الضوء، وأشد من الأحمر القاني.
أنفاسي كانت تلهث أمام حركة الدم في الجسد الحي، كأنما للدم حياة خاصة مستقلة عن الجسد، مادة أخرى غير جسدية، أشبه بالروح السائلة المتدفقة دون توقف، أمد يدي إليها أمسكها، أوقفها، أسدها عند الفوهة، أقاومها بكل قوتي، وهي تقاومني، صراع بيني وبين هذا الخرطوم المنطلق في وجهي مثل لسان اللهب.
كان الدم هو الروح المقدس عن المصريين القدماء، الحياة سرها يكمن في الدم، هكذا قال أبو قراط، جسد الإنسان يتكون من الدم أساسا، وعناصر أخرى ثانوية كالماء والصفراء والملح، إذا مرض الدم مرض الجسد كله، إذا مات الدم مات الإنسان. - عرق!
إنه صوتي يرن في غرفة العمليات، يشبه صوت أستاذ الجراحة في الكلية، كان اسمه الدكتور أحمد أبو ذكري، تبرز قطرات العرق فوق جبهته العريضة، يرفع وجهه من فوق البطن المفتوح الغارق في الدم، تمتد يد الحكيمة الممسكة بقطعة من الشاش، تمسح عن جبينه العرق قبل أن يتساقط في الجرح. - عرق!
انتفضت الحكيمة زينات الواقفة إلى جواري، أمسكت قطعة من الشاش المعقم، مسحت العرق عن جبهتي، لم تكن لحسن الحظ تسمع الدقات المتصاعدة تحت ضلوعي، كأنما البطن المفتوح أمامي هو بطني أنا، وهذا الدم المراق تحت يدي هو دمي، وهذه الأمعاء التي تنقبض وتنبسط هي أمعائي.
هل كان المصران الغليظ محشوا بالفطير المشلتت والبطة المحشية بالفريك؟! أطعمت الأم ابنها محمود حتى لكمته، كان في زيارة للقرية في إجازة العيد، هو طالب في الأزهر بالقاهرة، عمره عشرون عاما، الوحيد على نصف دستة من البنات، أرقب البالونة في جهاز التخدير، تنقبض وتنبسط مع حركة الرئتين والقلب، أقلد حركة الدكتور أحمد أبو ذكري، أشمخ بأنفي العالي المطل من فوق القناع. - عرق!
صوتي العالي يزعق مع أنفي الشامخ، لا شيء يخفي الرعب إلا الصوت الزاعق والأنف الشامخ، أيمكن أن تتوقف هذه البالونة عن الحركة؟! لماذا لم أرسله مع أمه إلى مستشفى بنها المركزي؟ لم يكن في الوحدة سيارة للإسعاف، لا شيء يمكن أن يركبه إلا الحمارة أو الدراجة بدون فرامل، قديمة صدئة يملكها طباخ الوحدة، كنت أستعيرها منه أحيانا لإسعاف الحالات الطارئة في البيوت، أرسلت إلى المجلس الأعلى في القاهرة أطلب سيارة ، لم يرد المجلس الأعلى، أرسل إلي بعد عام كامل سيارة قديمة على شكل «البوكس»، تمشي يوما وتتعطل شهرا، أصبحت الحمارة تجر السيارة، أمام القصر الفاخر في شارع قصر العيني كنت أرى السيارات الفاخرة الطويلة، يركبها كبار الموظفين في المجلس الأعلى، لكل واحد منهم سيارة أو سيارتان، واحدة للعمل العام والثانية للعمل الخاص. - عرق!
البالونة لا تزال تتحرك والحمد لله، تذكرت الله في هذه اللحظة: يا رب أنقذ محمود من الموت، أنت يا رب الذي تحيي وتميت، كل شيء بإرادتك، لماذا أتدخل في إرادتك العليا وأنقذه من الموت؟ كان يمكن أن أرسله إلى مستشفى بنها على ظهر الحمارة؟ إذا مات في الطريق فهي مسئولية وخلعتها على الله.
أصابعي حول المشرط ثابتة تقطع المصران الملتهب، كيف ظل المشرط في يدي ثابتا؟ في أعماقي صوت أمي ينتشلني من الغرق : نوال ترميها في النار ترجع سليمة، نوال أشطر واحدة في الدنيا! تيار من الثقة بالنفس اندفع في عروقي كالروح تدب في الجسد، أمسكت المصران الأعور بين طرفي الملقط، رفعته عاليا لتراه عيون الحكيمة والممرضات، كان متضخما منتفخا يقطر دما، ألقيت به في الجردل مع الفوط والشاش والدم المتجمد.
أفاق محمود من البنج بعد ساعة أو أكثر، أول كلمة نطقها كانت «آه»، رنت في أذني أعذب من لحن الحب الأول، فتح عينيه ورآني إلى جواره، عيناه واستعان «والنني» أزرق أجمل من زرقة السماء، أغمض عينيه فاتحا شفتيه، تصورت أنه يلفظ النفس الأخير، نجحت العملية لكن المريض مات، هكذا كنت أسمع من أساتذة الجراحة. - أمه!
خرجت هذه الكلمة من بين شفتيه المنفرجتين، كلمة «أمه» باللغة الريفية تعني أمي، لا ينادي الإنسان على أمه إلا لحظة الموت، أو لحظة البعث إلى الحياة بعد الموت، يوم القيامة لا يحمل الناس إلا اسم الأم، يندثر اسم الأب في التاريخ مع زوال الدنيا الفانية والنفاق، مهما ارتفع الأب إلى مصاف الإله تظل الأبوة غير مؤكدة وهشة تذروها الريح.
ضحكت الحكيمة زينات وهي تلمس شفتيه الجافتين بقطعة من الشاش المبللة بالماء : عاوز أمك يا محمود؟ أهي واقفة برة على الباب هي وأبوك الحاج حسنين وأخواتك وخالاتك وعماتك وأعمامك وكل أهل الكفر قاعدين في الحوش ومعاهم حميرهم كمان يا سيدي!
مرت أربعون سنة من هذه اللحظة، انفرجت الشفتان الباهتتان عن ابتسامة واهنة، هي أجمل ابتسامة رأيتها في حياتي، لا أنساها هذه الابتسامة، الوجه الشاحب يسري فيه الدم بالتدريج، والشعر الأسود الناعم الغزير، خصلة ساقطة فوق الجبهة البيضاء بلون الشهد، أمه سمراء سوداء العينين، أبوه أشد سمرة، عيناه أشد سوادا، من أين جاءته زرقة العينين والبشرة البيضاء؟! - يمكن يا زينات كان له جد أبيض أو جدة عيونها زرقاء ورث عنها الجينات. - جينات يعني إيه يا دكتورة؟ - حاملات الوراثة في الخلية. - لأ يا دكتورة مش الجينات دي الجنيات، لازم أم محمود كانت جنية من جنيات البحر لافت على واد حليوة أبيض وعيونه زرق!
أطلقت أم محمود زغرودة طويلة حادة اخترقت السحب حتى السماء السابعة، مثلا هذا الصوت لا يصدر إلا عن جنية بنت جنية، امتدت الزغاريد من طحلة إلى كفر طحلة إلى دجوي والرملة حتى مدينة بنها، كان الشفاء من المرض عند الفلاحين والفلاحات كالبعث من الموت، كان الموت كثيرا والشفاء قليلا ينتهز الناس فرصة نهوض أحدهم بعد الرقاد ليفرحوا وتنطلق الزغاريد، أو فرصة موت أحدهم ليحزنوا يلطمون الخدود يشقون الجيوب، الفرح والحزن كلاهما نشاط جمعي، لا يتخلف عنه أحد، يتوزع الحزن والفرح على الجميع، فيخف الحزن أو يشمل الفرح كل البيوت.
مع الزغاريد انطلقت الدعوات من أفواه الرجال والنساء: إلهي يحميكي يا ضكطورة نوال، إلهي يطول عمرك يا رب، إلهي ينصرك على أعدائك دنيا وآخرة. بعد الغروب يجلس الرجال على المصاطب، يشربون الشاي والمعسل، يكركرون بالجوزة ويتسامرون. - الضكطورة بنت بلدنا، ربنا وضع البركة في إيدها، يا سلام يا جدعان، سبحان الله! أهي الضكطورة دي واحدة من الحريم! أي والله صحيح قلنا كده وأكثر من كده كمان، لكن دلوقتي إيه اللي حصل يا جدعان؟ طابور الرجالة على باب أوضة الكشف بقى أطول من طابور النسوان!
يضحكون في هدأة الليل، يكركرون بالضحك مع كركرة الجوزة، تتوهج الشعلة تحت النسمة، تتضاحك النسوة المتربعات في مدخل الدار أو فوق جسر النيل.
ما يدور على ألسنة الناس تنقله إلي دادة أم إبراهيم، لم تكن الكهرباء دخلت هذه القرى، الظلمة في الليل دامسة، في البيت توقد أم إبراهيم الفانوس، أقرأ عليه وأنا في السرير، أصبحت عندي مكتبة، رفوفها من الخشب تصعد حتى السقف، تطل منها الكتب القديمة والجديدة في الطب والفلسفة والأدب والتاريخ والفن، ألتهم الكتاب وراء الكتاب باللغة العربية والإنجليزية، لم تنقطع صداقتي بالزميلات القديمات، أولهن سامية وزوجها الدكتور مصطفى المدير أو نائب المدير، في ميدان الدقي، كانت الدكتورة بطة «كاميليا»، وزوجها الدكتور حمدي الأستاذ بقصر العيني، أصبحت بطة تقود سيارة «بويك»، تأتي بها أحيانا إلى القرية، قد تحمل معها صفية وسامية، قد يأتي معهن أزواجهن، تمتلئ «الفيلا» بالضيوف، لا يكف الأهل والأقارب عن زيارتي من القاهرة والقرية، تتألق أم إبراهيم بالفرح، يتصاعد صوتها من الدور الأول إلى الثاني، تتصاعد معه رائحة الفطير المشلتت، والملوخية بالأرانب أو الحمام المحشي بالفريك.
حين لا يأتينا زوار يصبح البيت هادئا، أحب الهدوء بعد الضجيج، أعشق الدخول إلى سريري، معي كتاب أو رواية جديدة أو قصة أكتبها لإحدى المجلات، أو مفكرتي السرية أدون فيها مذكراتي، قد أحمل ابنتي من سريرها لتنام في حضني، تأتي أم إبراهيم بالطشت المليء بالماء الساخن والملح تدلك قدمي وساقي، تقدم لي الينسون المغلي، المغات، أو السحلب، الأعشاب تلمها من الغيطان، تغليها في الماء على النار، تصبها في كوب الفخار على شكل السلطانية يتصاعد منها البخار.
بعد الغروب في القرية تهبط الظلمة، أخرج لأتمشى على جسر النيل، أشهد قرص الشمس ينحدر في الأفق البعيد، تنعكس صورته في الماء، تتلون السماء، تتجسد السحب بأشكال لا حدود لها، وألوان بلا نهاية، تتغير وتذوب حتى آخر قطرة، يهبط الظلام كالعباءة السوداء تخفي القرية.
أحيانا أرتدي المعطف الأبيض وأمر على البيوت مع الممرضات والحكيمة زينات، نجلس مع الرجال على المصاطب، أو مع النسوة في مدخل الدار، إذا أردت التنكر أرتدي جلابيب الفلاحات، أربط رأسي بمنديل أسود من حوله الطرحة السوداء، أمشي في الأزقة لا يتعرف علي أحد، يواصل الرجال أحاديثهم فوق المصاطب دون أن يقطعوا الحديث أو ينهضوا وقوفا هاتفين: «يا ألف مرحب بالضكطورة، اتفضلي، الدنيا نورت، هات الشاي يا ولد، حصلت لنا البركة.» كنت أحب هذه الجولات الحرة، أملك الطريق، لا يستوقفني أحد، لا يعرفني أحد، أمشي كما يحلو لي المشي، بلا اسم، يداي فارغتان أفتحهما، ذراعان أفردهما عن آخرهما، أعانق بهما جسمي والكون، لحظات الحرية والسعادة، أنسى من أنا وماذا أكون، وأتذكر كل شيء، فأعرف من أنا وماذا اكون، كأنما الذاكرة كالضوء لا نراه إلا في الظلمة.
المدرسة في الوحدة كان لها ناظر اسمه الأستاذ عبد المنعم، أشيب الشعر قصير القامة، يرتدي بدلة إفرنجية وطربوشا، في أيام الإجازات يرتدي الجلباب، فوقه العباءة في الشتاء وكوفية رمادية، يتحدث عن أبي باحترام وإجلال: السيد بيه السعداوي راجل عظيم لو كان فيه عشرة زيه في البلد كان التعليم انصلح.
الاختصاصي الاجتماعي حسب اللائحة كان المسئول الإداري عن الوحدة، اسمه الأستاذ خير الله، له صلعة كبيرة يحوطها شعر أسود خشن على شكل دائرة فوق منتصف رأسه، بشرته تميل إلى الشحوب أو الصفرة، له أنف كبير مقوس، شاربه أسود يمتد فوق شفته العليا، يخفي عينيه وراء نظارة سوداء، كرجال المباحث السرية.
لم تكن الصحف والمجلات تصل إلا بالبريد، متأخرة شهرا أو شهرين، لا أعرف ماذا يدور في العالم إلا راديو صغير بالبطاريات، تقول عنه أم إبراهيم «الراديون» تذكرني بستي الحاجة حين تقول: افتحي الراديون يا ضكطورة عاوزة أسمع أم كلثوم، كانت مثل ستي الحاجة تحب أغنية: مدام تحب بتنكر ليه ده اللي يحب يبان في عينيه.
سألتها كما سألت جدتي وأنا طفلة: هل عرفت الحب؟ رمقتني بعينيها السوداوين الغائرتين تحت جبهة عريضة سمراء حرقتها الشمس: «أيوه يا ضكطورة حبيت زي كل الناس.» كانت واقفة عند باب الشرفة تحمل طفلتي بين ذراعيها، تهدهدها، صوتها المرح يغني مع أم كلثوم، طويلة فارعة القوام مملوءة بالشباب، ذراعاها قويتان ترفعان الطفلة حتى السماء دون عناء، جلبابها الطويل من الكستور المشجر ينسدل فوق جسمها الممشوق حتى القدمين. - حبيتي مين يا دادة أم إبراهيم؟ - حبيت ربنا سبحانه وتعالى وحبيت سيدنا محمد ألف صلاة عليه وحبيت الإمام الشافعي والسيدة زينب وستنا مريم العدرا. - قصدي الحب التاني يا أم إبراهيم. - الحب التاني أنهوه يا ضكطورة؟ - اللي بتغني له أم كلثوم.
توقف جسمها عن الحركة فجأة، عيناها كستهما سحابة، تجاعيد ظهرت فوق جبهتها العريضة، تقلصت الابتسامة فوق شفتيها، شدت منديلها حول رأسها، عقدته ثلاث عقدات عند منتصف الجبين، بدت في الخمسين مع أنها لا تزال في الثلاثين أو الأربعين. - وراني المر يا ضكطورة خمسة وعشرين سنة، خلفت منه الولدين والبنتين، لولا ربنا أخده كنت ضربته بالفاس وخلصت منه. - وراكي المر إزاي يا أم إبراهيم؟ - «كان يضربني كل ليلة، لا يمكن تفوت ليلة من غير ما يضربني بفلقة الحمارة، من غير سبب والله يا ضكطورة، أصل الضرب ده عادة في بلدنا من ليلة الدخلة لازم العريس يضرب عروسته عشان تعرف إن الله فوق وجوزها تحت، وراني المر يا ضكطورة من أول ليلة لآخر ليلة خمسة وعشرين سنة، كنت عيلة صغيرة ألعب مع العيال، بزازي ما طلعوش، والعادة ما جاتنيش، ويا لا هوب مسكوني وجوزوني أبو إبراهيم، وهربت منهم في الجرن، لكن الولية الداية الآرحة مسكتني هي وأمي وخالتي وعمتي، وكتفوني زي الفرخة، وخبوا راسي بالبشكير عشان أبو إبراهيم ياخد وشي، نزف الدم يا ضكطورة وكنت هاموت وبدل الجوازة تبقى جنازة.»
صوتها يذكرني بالمرحومة جدتي، كنت طفلة أجلس إلى جوارها في صحن الدار وهي تنقي الغلة، اليوم أنا الطبيبة في القرية، لا تزال هذه العادة موجودة، ليلة الزفاف تفض بكارة العروس بإصبع الداية أو العريس، يشق بظفره المدبب غشاء البكارة، يتلقى الدم الأحمر فوق البشكير الأبيض، يرفعه عاليا لتراه العيون المجتمعة في الحفل، تنطلق الزغاريد من حلوق النساء، يرفع والد العروس رأسه في زهو، لم يعد له زهو في حياته المرة إلا دم ابنته العذراء، إن لم ينزف الغشاء ليلة الزفاف يضيع شرف الرجل، لا يسترد شرفه إلا بإراقة دم ابنته، منذ نشوء الزواج في التاريخ أصبح لدم المرأة دور ثلاثي تجاه شرف الرجل: (1) إثباته (2) إنكاره (3) استرداده. ليس للرجل دور فيما يخص شرفه، الرجل لا يعيبه إلا جيبه، إذا امتلأ جيبه بالفلوس أصبح شريفا، لا يتعلق شرف الرجل بسلوكه بل بسلوك بناته ونسائه: «يا أم إبراهيم لازم العادات دي تتغير.» - «يا ريت يا ضكطورة يا ما بنات نزفوا الدم ليلة الدخلة وبنت عمي ماتت موت، دفنوها ليلة فرحها، كله من الدايات يا ضكطورة.»
الدايات؟ رنت في أذني الكلمة، أضاءت نقطة ضوء، أيمكن الوصول إلى هؤلاء الدايات، كانت الداية هي الحكيمة في القرية، مثل حلاق الصحة، يقوم بعمل الجراحات الصغيرة، فتح الدمامل والخراريج ، خلع الأسنان، طهارة الأولاد، والداية تقوم بطهارة البنات، كلمة «الطهارة» باللغة العامية تعني «الختان».
في كلية الطب لم ندرس شيئا عن العادات الصحية الضارة المنتشرة في الريف والمدن منها عادة ختان الذكور والإناث، تخرجت طبيبة دون أن أعرف شيئا عن «البظر» أو غشاء البكارة، بدأت أعلم نفسي بنفسي، أحضر مع أم إبراهيم الأفراح والمآتم، أشهد حفلات الزواج، فض غشاء البكارة، ختان الأولاد والبنات، لم تكن الدايات وحلاقو الصحة يرحبون بوجودي، في يوم رأيت حلاق الصحة يعطي حقنة في فخذ امرأة فلاحة دون أن يرفع جلبابها «إزاي تعمل كده يا راجل؟» «أعمل إيه يا ضكطورة أصلها مكسوفة ومش عاوزة وركها يتعرى!» في إحدى عمليات الختان لطفل عمره ثمانية أيام بتر حلاق الصحة رأس القضيب، نزف الطفل، كاد أن يموت لولا أن نقلناه بسرعة إلى الوحدة، تم إيقاف النزيف، بقي بالقسم الداخلي حتى التأم الجرح، لكن القضيب ظل بلا رأس، في إحدى حفلات الزفاف ثقب ظفر العريس مثانة العروس وهو يفض بكارتها، حملوها فوق الحمارة بعد منتصف الليل، أتوا بها إلي وهي بين الحياة والموت.
النزيف الناتج عن ختان البنات كان شائعا، تلوث الجرح شيء طبيعي ، لم يكن لدى الدايات من وسائل تطهير الجروح إلا تراب الفرن.
يوم الخميس كان المرور على البيوت، تخرج فرقة الممرضات مع المثقف الصحي، يتحدثون مع النساء والرجال عن وسائل الوقاية من الأمراض، البلهارسيا والإنكلستوما والملاريا والدرن الرئوي، أضف إليها الأمراض الاجتماعية: ختان الذكور والإناث، فض غشاء البكارة، بدأ حلاقو الصحة والدايات يحاربون فريق الثقافة الصحية، عقدت لهم اجتماعا في الوحدة، بدأت برنامجا من الندوات في القسم الصحي لرفع الوعي لدى الدايات وحلاقي الصحة، كنت كمن ينفخ في قربة مقطوعة، وقالت أم إبراهيم: «ومنين ياكلوا يا ضكطورة إذا ما كانش فيه طهارة ولا أخد وش العرايس؟»
الفصل الرابع
الاعتداء الثلاثي
صوت جمال عبد الناصر يدوي في الراديو: سنقاتل، سنقاتل! كان الاعتداء الثلاثي قد وقع في 29 أكتوبر 1956م، الجيوش الثلاثة ضربتنا من البر والبحر والسماء، إسرائيل وإنجلترا وفرنسا، بدأت المقاومة الشعبية في القاهرة، تطوعت سامية ورفاعة وأسعد شقيق صفية، صوت جمال عبد الناصر في الإذاعة يحث الشعب على القتال، منذ الطفولة أحلم بجبهة الحرب، تلوح لي في النوم كأنما هي الحب، أرتدي بدلة الصاعقة أضرب العدو أحرر الوطن، أهتف بصوت أبي: تحيا مصر حرة!
خلعت معطف الأطباء وارتديت بدلة حرب العصابات، نسيت ما حدث للفدائيين قبل حريق القاهرة، كان ذلك أيام الملك والحكومة الخائنة، اليوم أصبحت الحكومة وطنية، جاءنا من مدينة بنها بعض رجال الجيش، تحولت الوحدة إلى معسكر للتدريب على السلاح، تطوع الممرضون والممرضات، تكونت فرقة الإسعافات الأولية، ارتفع علم مصر فوق مباني الوحدة البيضاء، في الليل أجلس في الشرفة أتطلع إلى النجوم، أطرز في ضوء القمر الحروف فوق بدلة الصاعقة: «سنقاتل حتى النصر»، منذ عشر سنوات في حلوان وقفت في نافذة المدرسة الثانوية، إلى جواري زميلاتي فكرية وفاطمة وصفية، نطرز فوق البادج الكلمتين: «الجلاء بالدماء»، فوق أصابعي أستعيد خدوش السلسلة الحديدية، وضربات المسطرة الحادة، وصوت الناظرة يهددني بالطرد، في قلبي جرح لم يلتئم، وجه الشهيد أحمد المنيسي، وصوت أحمد حلمي يأتيني كأنما من قاع البئر: «تركونا وحدنا نواجه مصيرنا تحت الرصاص وأصبحوا هم الأبطال، أما نحن الذين حملنا السلاح وحاربنا فقد أصبحنا مطاردين مثل المجرمين.»
تراني أم إبراهيم داخل المعسكر فوق كتفي البندقية، تمسح دموعها بطرف طرحتها السوداء: «مالك وماللحرب يا ضكطورة، قطيعة تقطع الحرب واللي جابوها، قلبي انكوى من الحرب تمان سنين، ابني البكر إبراهيم راح فلسطين، كان مع جمال في الفلوجا، كل ليلة أشوفه في المنام، يقولي أنا راجع يامه، تمان سنين يا ضكطورة ما اعرفش إن كان ميت ولا حي!»
في الخامسة والعشرين من عمري لم أفكر في الموت، كان بعيدا عني أبعد من نجوم السماء، لم تكن الحرب في خيالي تعني الموت، حلم الطفولة هو الباقي في ذاكرتي، ورثته عن أبي، ضاعت من مخيلتي الأحداث الأليمة، فجيعة القلب في الحب، يذوب الحزن في جسدي كما تذوب السموم، في أعماقي الطفلة لا تموت، الفتاة الصغيرة العذراء لم يمسها بشر، أصحو في الصباح مشرقة متجددة كالشمس، أغني لطفلتي في سريرها:
طلعت يا محلا نورها شمس الشموسا ... ياللا بنا نملا ونحلب لبن الجاموسا.
تضحك ابنتي تكركر بالضحك، أحوطها بذراعي، بدأت أعطيها لبن الجاموسة الطازج المخفف بالماء، تحلبه عمتي فاطمة في كفر طحلة، ترسله إلي فوق الحمارة مع الزبدة والقشدة والجبنة القريش، لم تكن طفلتي تأكل إلا عصيدة القمح، الأرز المسحوق المطبوخ على النار مع اللبن المخفف بالماء، نصف صفار البيضة المدهوك بقطعة جبن، مع قليل من عصير العنب أو البرتقال، تجلس في كرسيها العالي إلى المائدة أمامها حاجز يمنعها من السقوط، كرات حمراء وخضراء وزرقاء وصفراء، تحركها بأصابعها الطفولية، تتصادم الكرات بصوت الموسيقى، تهز رأسها مع اللحن وتغني: دي دي تيا ... دي دي تيا ...
في الدور الأرضي أسمع صوت أم إبراهيم تدندن لنفسها بالموال القديم:
في البر لم فتكم في البحر فتوني، بالتبر لم بعتكم بالتبن بعتوني ...
يتصاعد صوتها العذب مع نكهة الشاي والفطيرة الساخنة في الفرن، تعود إلي رائحة أمي وصوتها يغني وأنا طفلة. - صباح الخير يا ضكطورة، الفطور جاهز ع السفرة.
أصبحت دادة أم إبراهيم جزءا من أسرتي الصغيرة، تهدهدني في السرير، تدللني، تغمرني بالحب، تعوضني عن الأم الغائبة والحب المفقود، تتربع فوق الشلتة بجوار السرير، تحكي لي قصتها من يوم ولدتها أمها، وقصة أمها وجدتها ونساء طحلة وكفر طحلة، قبل أن تنام تطل على ابنتي في سريرها، تحكم إغلاق النوافذ والأبواب، تأتيني إلى سريري لتحكم من حولي الغطاء، تمسك قدمي اليمنى تدلكها بين يديها الكبيرتين القويتين، ثم القدم اليسرى، وتعود إلى القدم اليمنى، حتى يذوب التعب المتراكم طوال السنين. - يا ضكطورة طول النهار واقفة على رجليكي في أوضة الكشف، واللي زاد علينا كمان المعسكر، إلهي يعينك وينصرك على أعدائك وأولهم الراجل اللي اسمه «خير الله»، الرجل ده كله شر، ولازم يكون اسمه شر الله! وهو اللي كان لازم يشيل السلاح ويروح الحرب مش يقعد هنا زي المره!
كلمة «المره» خرقت أذني بصوتها الحاد ، تعني باللغة الدارجة «المرأة»، أكبر إهانة للرجل المحترم أو غير المحترم أن يقال له «أنت مره»، كيف نطقت أم إبراهيم بهذه الكلمة؟ ألا ترى أني امرأة وهي أيضا امرأة وهذه الإهانة تشملني وتشملها؟ - سامحيني يا ضكطورة إلهي يشل لساني إن نطقت الكلمة دي تاني! أصل لساني واخد على كلام الفلاحين الزفر، لكن المره ما لها يا ضكطورة، فيه مره بعشرين راجل من زي اللي ما يتسماش خير الله!
أصبح المعسكر في الوحدة خلية من النحل، الشباب من القرى الأربع تسابقوا للتدريب على السلاح، الفتيات دخلن فريق الإسعافات الأولية، لم تقبل على حمل السلاح إلا الحكيمة زينات، كانت تتدرب معي على الرماية، أحد المدربين ضابط في الجيش ينادونه «اليوزباشي علاء»، أبيض البشرة طويل يميل إلى البدانة عريض الكتفين، تلمع فوقهما النجوم العسكرية، يأتي كل يوم داخل عربة جيب، شاربه أسود كثيف، عيناه زرقاوان ضيقتان تنغلقان حين يضحك، يقفز لحم وجهه ليصبح مستديرا كوجوه الأطفال، تتلاشى العينان إلا من خطين رفيعين تحت الحاجبين الكثيفين، صوته يخرج من الأنف، تشوبه رنة استعلاء، كبرياء الطبقة الجديدة مع التهاب الجيوب الأنفية. - يا دكتورة الشعب فقير وجاهل لو مسك السلاح في إيده أول ما يضرب الحكومة، وعندي أوامر من القيادة العليا بعدم توزيع السلاح على الشباب في المعسكرات.
كان متحمسا لتدريبي على الرماية وإطلاق النار، لم يكن متحمسا لسفري إلى بورسعيد ضمن المقاومة الشعبية. - «هي بلدنا ما فيهاشي رجالة يحاربوا؟ المرأة رقيقة زي ورق السوليفان، معقول تروحي الحرب يا دكتورة نوال وتقتلي زي الرجالة؟»
لم يكن يكف عن ترديد هذه العبارات، نوع من الغزل الركيك يصيبني بالنفور، يده يتركها فوق كتفي حين يعلمني كيف أحمل البندقية، عيناه تختلسان النظر إلى صدري تحت بدلة الصاعقة، ترتعش يده السمينة بحركة ملحوظة، إذا التقيت عيوننا يتراجع إلى الوراء كالفأرة أمام القط، أعطاني لقب «الكابتن»، وأطلق علي اسم «وايلد كات»، تعني بالإنجليزية القطة المتوحشة
Wild cat .
انتهيت من فحص المرضى في العيادة الخارجية، جاء اليوزباشي علاء، «تسمحي يا دكتورة نوال أتكلم معاكي ؟» طلبت له فنجان قهوة، يحلو له الحديث عن نفسه، بطولاته في القوات المسلحة، الميدالية التي أخذها من يد عبد الحكيم عامر، شهادة التقدير حصل عليها من الكلية الحربية، جائزة التفوق في الإبراهيمية الثانوية، الفائز الأول في مسابقة الجري بالمدرسة الابتدائية، يضع يده البيضاء السمينة داخل صدره، يخرج محفظة جلدية منتفخة يشد منها جراب من البلاستيك الشفاف «دي صورتي في المير دي دييه يا دكتورة نوال.»
تخرج كلمة «المير دي دييه» من تحت شاربه الأسود الضخم رقيقة منفردة، صديقتي بطة تخرجت من هذه المدرسة الفرنسية، كانت تتفاخر بها، تمد عنقها كالديك الرومي وتقلب الراء إلى غين «الميغ دي دييه» الكلمة تعني بالعربية «أم الله»، عبارة كافرة في الإسلام، الله ليس له أم، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، كان اليوزباشي علاء في الإخوان المسلمين من أعوان كمال الدين حسين، «إزاي يا أستاذ علاء تبقى مسلم وموحد الله وتدخل مدرسة أم الله؟»
السؤال كان مفاجئا، ربما لم يكن يعرف أن المير دي دييه تعني أم الله، تصاعد الدم إلى وجهه، أخرج من الجراب صورة والده: «أنا كنت طفل يا دكتورة وطبعا والدي هو اللي دخلنا المدرسة، مستوى التعليم فيها كان مرتفع عن مدارس الحكومة، كل العائلات المحترمة في مصر كانت تعلم أولادها في المدارس دي، والدي كان أميرالاي في الجيش أيام الملك فاروق، بعد الثورة أصبح في البيت، مالوش شغلة غير أنه يشتم جمال عبد الناصر، وكل ليلة يحلم إنه ضربه بالرصاص، يصحى من النوم يسمع صوته في الراديو يعرف إنه لسه صاحي، يتنكد طول النهار، رفع إيده عليها وضربها، صممت على الطلاق بعد ثلاثين سنة زواج.»
كان يرشف القهوة ويحكي، ملامح أبيه في الصورة تشبه السفاحين، «وكان والدك بيضربك وأنت طفل؟» أعاد الصورة إلى الجراب وابتسم: «والدي كان راجل عسكري يؤمن بمبدأ الطاعة أو الضرب.»
في المعسكر يدربنا اليوزباشي علاء على الرماية، رئيس الوحدة العسكرية في بنها كان يزور المعسكر أحيانا، يقف أمامه اليوزباشي علاء كالتلميذ المؤدب «حاضر يا افندم» يؤدي التحية الموروثة منذ الاحتلال التركي، يخبط كعبيه، يرفع ذراعه اليمنى حتى يلامس إبهامه جبهته، مع الشباب من الفلاحين ينقلب الحمل الوديع إلى أسد، يخاطبهم بلهجة آمرة، إن أخطأ أحدهم يشتم أمه وأباه «يا ابن ال ...» وفي يده عصا من الخيزران يلسع بها أجسامهم، في يوم رأيته يضرب أحد الشباب في المعسكر، تذكرت طنط نعمات حين كانت تضرب الخادمة شلبية، وأمي حين كانت تضرب السجادة العجمية، كان الشاب غلاما تطوع في فريق المقاومة الشعبية، نحيف الجسم يرتدي جلبابا قديما، بشرته سمراء تعلوها بقع بيضاء علامة المرض بالأنيميا أو فقر الدم، مرض معروف في الطب باسم البلاجرا، نقص في الغذاء يصيب نهايات الأعصاب بالتبلد، منتشر بين أبناء الفلاحين الفقراء، يؤدي إلى الخمول والفهم البطيء، لم يكن الغلام يلبي الأوامر بالسرعة الواجبة، ينهال عليه اليوزباشي علاء بالعصا الخيزران، يهبط بها على الجسم الهزيل، لا يلين للتوسلات، يزداد قسوة كلما ازداد الغلام ضعفا، العصا الخيزران في يده كالكرباج، يمسكها بأصابعه الغليظة، ينتقض جسده الضخم كالدب الأبيض، ينفض عن فروته الغضب كرذاذ الماء، كالمياه الراكدة تحت الجلد، مكبوتة في ثنايا اللحم منذ الطفولة، ينتفض مع انتفاضة الغلام المضروب، الضارب نفسه بنفسه، ويغمض عينيه، يجز على أسنانه، يرفع العصا عاليا في السماء، كأنما يضرب السماء، بالضبط كان يضربها، كأنما هي الهدف، أو الوجه المتخفي وراء السحابة، له ملامح أبيه، مرسوم عليه كلمة الله.
وقع الاعتداء الثلاثي، دخل جيش إسرائيل سيناء، تبعته جيوش إنجلترا وفرنسا في دخول بورسعيد، منذ أنشأها الإنجليز في عام 1948م أصبحت دولة إسرائيل هي أداة الاستعمار في العالم العربي، كلمة الاستعمار غير صحيحة مشتقة من الفعل «يعمر»، ما يفعله الاستعمار هو «الخراب» وليس العمران، الكلمة الصحيحة هي «استخراب».
منذ تأميم قناة السويس يتأهب الجيش البريطاني لاستردادها، منذ مساندة مصر للثورة الجزائرية يتأهب الجيش الفرنسي للانتقام، كانت الخطة هي أنه تضرب إسرائيل الضربة الأولى وتحتل سيناء، هكذا تفسح المجال لبريطانيا وفرنسا للدخول تحت الحجة المعروفة: الحماية أو فك الاشتباك!
كان يوم جمعة ، وكنت أتمشى فوق جسر النيل تحت أشعة الشمس، نسمة الهواء خريفية ناعمة، لم تفقد بعد حرارة الصيف، لم تكتسب بعد برودة الشتاء، أحيط كتفي بشال من الصوف الخفيف، لونه أزرق، اشتغلته بيدي، أدفع أمامي العربة ذات الكبوت داخلها ابنتي، بلغت مشارف الحدود بين طحلة وكفر طحلة، رأيت المظاهرة مقبلة نحوي، عددهم يقارب المائة أو أكثر، تلاميذ وطلاب الأزهر والجامعة جاءوا في الإجازة، يحملون لافتة طويلة من الدمور كتبوا عليها بالخط النسخ «يسقط الاعتداء الثلاثي الغاشم»، بعضهم يحمل صورة جمال عبد الناصر، يتقدم المظاهرة تلميذان يحملان صورة كبيرة لبريطانيا على شكل دب أبيض تربعت فوق رأسه امرأة في قدميها حذاء له كعب عال مدبب كالمسمار يعلو رأس بريطانيا العظمى، يدوي الهتاف. - يسقط الإنجليز اللي بتحكمهم مره! - يسقط الجيش البريطاني جيش النتاية!
كلمة «النتاية» اخترقت رأسي مثل طلقة الرصاص، باللغة الدارجة تعني الأنثى، ترن في أذني أكثر إهانة من كلمة مره، تنطوي على معنى الجنس المدنس، تشملني من رأسي إلى قدمي كأنما أنا هذه النتاية التي يهتفون بسقوطها، كنت أعرف أنهم يشتمون ملكة بريطانيا، فلماذا يشملون معها كل امرأة وكل أنثى؟ كان يرأس فرنسا رجل، فلماذا لا يهتفون «يسقط جيش الذكر!» لماذا لا يشتمون معه كل رجل وكل ذكر؟ إذا أخطأت امرأة واحدة أصبحت كل النساء آثمات كأمهن حواء، وإذا أخطأ رجل واحد فإن رجلا واحدا أخطأ وآدم بريء وكلهم أبرياء.
كنت واقفة جامدة كالتمثال، سارت المظاهرة في طريقها فوق الجسر، تصاعد الغبار تحت أقدامهم يضربون الأرض بقوة، ملأ أنفي التراب مع المهانة، لم أعد الطبيبة التي تعالجهم من الأمراض، الفدائية المتأهبة للسفر إلى جبهة القتال، تحولت إلى كلمة نابية، نتاية، يلفظونها من أفواههم كأنها «نتانة».
كان الشال الأزرق فوق كتفي، هبت عاصفة باردة من ناحية البحر، طيرته في الهواء، جريت وراءه لم ألحقه، رأيته يحلق في الفضاء ثم يهبط إلى بطن الجسر، يرتجف كالحمامة المذبوحة تنزف بدم أزرق.
عدت إلى البيت أرتجف من البرد، ابنتي تسعل وتعطس، عيناها حمراوان، استقبلتنا أم إبراهيم عند الباب: حصل إيه يا ضكطورة كفى الله الشر؟! إيه الهيصة اللي ع الجسر دي؟! ادخلي يا دكتورة من العفرة، مالك صافرة كده زي الليمونة؟ والمحروسة بنتك لازم أخدت برد، قلت لك بلاش خروج النهاردة والدنيا كلها غيام. - سعادة الباشا يا ضكطورة! - سعادة الباشا مين عبد الفتاح؟ - الباشا الكبير من دار عبد العليم!
دخل إلى مكتبي رجل طويل نحيف يرتدي بدلة أنيقة، من خلفه رجل يرتدي قفطانا من الصوف الإنجليزي فوق جبة حريرية وعمامة بيضاء كبيرة، ومن خلفهما دخل الأستاذ خير الله الاختصاصي الاجتماعي، ومن خلفه ناظر المدرسة الأستاذ عبد المنعم، يلهثان.
كنت أرتدي بدلة المقاتلين، أنتظر من القاهرة إشارة للسفر إلى جبهة القتال في بورسعيد، رمقني الباشا أو البك بعينين متسعتين، تطوع الأستاذ خير الله بالحديث قبل أن أتكلم، صوته تشوبه سخرية خفيفة: الدكتورة نوال يا سعادة البيه من المتحمسين للثورة وجمال عبد الناصر.
امتقع وجه عبد العليم بيه لسماع الاسم «جمال عبد الناصر»، تسرب منه الدم، أصبح شاحبا أكثر طولا ونحافة، شفتاه الرفيعتان تقلصتا بحركة عصبية، أسنانه صغيرة مدببة بلون الدخان، أخرج سيجارا غليظا داكن اللون، ثبته بين شفتيه بأصابع مرتعشة، أشعله بعود كبريت، عود ثان حين انطفأ، عود ثالث، نفخ من فمه وأنفه دخانا كثيفا أسود، تمتم بصوت لا يكاد يسمع: الراجل ده مش هايجيبها البر!
انكمش الناظر داخل بدلته الرصاصية وأخفى نصف وجهه بالكوفية حول عنقه، أسدل جفونه كأنما لم يسمع شيئا، كان يكفي أن يسمع المرء كلمة ضد جمال عبد الناصر حتى يصبح من أعداء الثورة.
كان الأستاذ خير الله مثل الناظر موظفا بالحكومة، أعلى درجة أو درجتين، ينتمي إلى طبقة خريجي الجامعة المثقفين، له قطعة أرض يملكها، وصلات بأصحاب الأراضي، عائلة عبد العليم ذات سطوة وأرض ومال، وأعضاء في مجلس النواب والشيوخ في عهد الملك، وصداقات ومصاهرات بالطبقة العسكرية الجديدة بعد الثورة، لهم أمام الوحدة قصر كبير يخلو من السكان معظم شهور السنة، يمتلئ بالرجال في موسم الانتخابات أو جمع المحاصيل.
كانت الزيارة قصيرة، أبلغني عبد العليم بيه بصوت رقيق من خلال دخان السيجار أنه سمع عن كفاءتي الطبية، جاء في إجازة أسبوع مع زوجته للاستجمام في العزبة، أصابها نزيف من الرحم فجأة. - يا ريت يا دكتورة نوال تفتحي عيادة خاصة في طحلة. - ليه يا أستاذ عبد العليم؟! - فيه ناس لا يمكن يدخلوا الوحدة أو أي مستشفى حكومي. - ليه يا أستاذ؟ - مستوى الخدمة دائما أقل من العيادات الخاصة. - الوحدة دي فيها كل الأدوية والأجهزة وفيها خدمة أعلى من العيادات الخاصة، ثم إن قانون الوحدات المجمعة يمنع الدكاترة من فتح العيادات الخاصة.
لم يكن الأستاذ خير الله مسرورا من هذا الحوار، لم تعجبه طريقتي في الرد على سعادة الباشا أو البيه: «وتقوليله «أستاذ» كده حاف، مش عارفة إنه ممكن يوديني في داهية.» - «وإنت مالك يا أستاذ خير الله.» - «أيوه مالي يا دكتورة، لأني أنا رئيس الوحدة وأنا المسئول.» - «يا أستاذ أنا المسئولة عن كلامي مش إنت!»
تحت اسم رئيس الوحدة لم يكن خير الله يكف عن التدخل في شئوني، كان عاطلا طول النهار، بلا وظيفة إلا الجلوس تحت التكعيبة والدردشة مع ضيوفه، يشربون الشاي ويدخنون، يكركرون بالضحك والجوزة، يتمشى معهم في مزرعة الوحدة، كأنها جزء من أملاكه، يرمق المزارعين من طرف أنفه كأنهم عبيد الأرض، يستعرض سلطته بالشخط في الموظفين، يقتحم مع ضيوفه القسم الصحي، يتباهى أمامهم بغرفة العمليات، والمرضى الراقدين في القسم الداخلي، والممرضين والممرضات بملابسهم البيضاء النظيفة، يفتح غرفة الكشف دون استئذان، قد أكون منهمكة في فحص مريض أو مريضة. - يا أستاذ خير الله دي أوضة الكشف مش المزرعة. - أنا رئيس الوحدة يا دكتورة نوال، من حقي المرور في أي وقت. - لأ يا أستاذ، مش من حقك دخول أوضة الكشف، ومش من حقك التفتيش على القسم الصحي، دي مسئوليتي أنا!
هكذا كان يدب الصراع بيني وبينه، كانت اللائحة تقول إن رئيس الوحدة مسئول عن الأعمال الإدارية فقط، لم يكن يأبه بالقانون، له معارف من ذوي النفوذ، يتفاخر بأنه قادر على الإطاحة بأي أحد لا يخضع للأوامر.
يوم 6 نوفمبر 1956م تحولت مدينة بورسعيد إلى قطعة من النار، صوت عبد الناصر يدوي في الراديو، «سنقاتل حتى النصر»، القنابل والصواريخ تتساقط من الطائرات، والأسطول يضرب من البحر، الدبابات نزلت في الشوارع، القناصة هبطوا بالطائرات الهليوكبتر على سطح البيوت، أطلقوا النيران على الناس في النوافذ والمارة في الشوارع، دافعت النساء والأطفال عن حياتهم من حارة إلى حارة، ومن بيت إلى بيت بالحجارة والشوم والسكاكين، تكونت فرق من الفدائيين، فتيان وفتيات وأطفال من أهل بورسعيد، أمسك الإنجليز غلاما صغيرا كان يقاتل، ضربوه، عذبوه ليعترف على زملائه الفدائيين، لم ينطق بكلمة واحدة، قلعوا عينيه ثم قتلوه دون أن يفتح فمه، غلام آخر في حي المناخ قتلوه أمام أمه، عذبوها لتدلي بشيء عن الفدائيين ماتت دون أن تنطق. - ماتت يا ضكطورة؟ - أيوه ماتت يا أم إبراهيم. - يا كبدي عليها لازم قلبها انحرق على ابنها، لكن الموت أهون من اللي أنا فيه، لا أنا عارفة ابني حي ولا ميت، لو عرفت إنه مات يمكن قلبي يبرد شوية، خايفة يكونوا بيعذبوه في السجن جوه إسرائيل!
قلب الأم المكلومة منذ حرب 1948م، قلوب الأمهات المكلومات في حرب 1951م، في حرب 1956م، في حرب 1973م، الحروب الخمس شهدتها في حياتي، أريقت فيها الدماء، أغلب الضحايا بنات وأبناء الفلاحين الفقراء الجنود المجهولين والمجهولات، لا يملكون من أرض الوطن شبرا، لا تمنحهم الحكومة إلا الفقر أو الطعن في الظهر، الصوت الحزين يأتيني من قاع البئر: «نحن الذين حملنا السلاح وحاربنا أصبحنا مطاردين مثل المجرمين ...» في فناء كلية الطب قطعة من الحجر عليها أسماء الشهداء، سقطت تحت المبنى الجديد واندثرت في التاريخ. - بلدنا زي الغولة يا ضكطورة تأكل ولادها، ياما بهدلوني في الحكومة، وأنا رايحة جاية من طحلة لمصر، زي الفرخة الدايخة، أسألهم ابني فين يا ناس، ما شفتش منهم إلا البهدلة، ما شفتش قرش واحد من معاش ابني اللي راح الحرب ولا رجعشي، تمان سنين يا ضكطورة سنة ورا سنة لغاية ما روحي طلعت وخلاص بطلت أسافر مصر!
عاشت مدينة بورسعيد ثمانية وأربعين يوما تحت الحصار، في منتصف ليلة 7 نوفمبر أصدرت الجمعية العمومية للأمم المتحدة قرارها بوقف القتال، هدد الاتحاد السوفييتي بضرب لندن وباريس بالصواريخ، أعلنت الولايات المتحدة موافقتها على القرار بإيقاف النار، لم يعد أمام الجيوش الثلاثة إلا الانسحاب، وخرج آخر جندي بريطاني من بورسعيد يوم 23 ديسمبر 1956م.
كنت أحرك مفاتيح الراديو لأسمع الأخبار، إذاعة صوت العرب في القاهرة ضربت بالقنابل، أعلنت سوريا أنها ستنطلق من إذاعة دمشق، أناشيد النصر من محطة القاهرة لم تتوقف، في أعماقي إحساس غامض بالهزيمة تدربت على السلاح مع مجموعة من شباب القرية، تأهبا للسفر إلى بورسعيد، كل يوم نسأل اليوزباشي علاء: لماذا لا نسافر؟ ماذا ننتظر؟ لم يكن عنده إلا رد واحد: ننتظر الإشارة من القاهرة.
انتهت الحرب دون أن تأتي الإشارة، هل كانت المقاومة الشعبية مجرد تهديد سياسي للأعداء، أيمكن لهذه الحكومة أن تسلح الشعب؟! أيمكن أن يتحول الشعب المصري إلى جيش التحرير كما كان الراديو يقول؟
لم تغير الثورة من جوهر الحكومة المصرية، أقدم حكومة مركزية في التاريخ البشري، تمرست منذ عهود العبودية على قهر الشعب، الثقة مفقودة بين الشعب والحكومة منذ آلاف السنين، تناقض معروف في التاريخ بين الحكام والمحكومين، لا يمكن لحكومة أن تستمر على عرشها! دون أن تسلب الشعب حقوقه الأساسية، أولها المعرفة وثانيها السلاح.
إذاعة القاهرة تحجب عنا الحقيقة؟! لم نعرف ماذا يحدث بالضبط، كنا نتجمع حول الراديو، فريق الإسعافات الأولية، والفريق الذي تدرب على السلاح، نحرك مفاتيح الراديو بحثا عن الإذاعات الخارجية، كان معنا شاب فدائي من قرية طحلة، اشتبك مع اليوزباشي علاء في حوار ساخن، قرر السفر إلى بورسعيد دون انتظار الإشارة، تعقبه اليوزباشي علاء وأمسكه في محطة بنها، سلمه لرجال البوليس في مركز الشرطة، ضربوه ثلاثة أيام، عاد إلى القرية ذراعه مكسورة، تجمع الشباب في المعسكر غاضبين، هتفوا ضد اليوزباشي علاء، تصدى لهم الأستاذ خير الله، هتفوا ضده هو الآخر، كنت في بيتي حين سمعت الهتاف: يسقط الخونة!
في اليوم التالي جاءت إلى القرية فرقة من رجال الشرطة، يتقدمهم رجل من المباحث، قصير مربع يخفي عينيه وراء نظارة سوداء، تم القبض على بعض الشباب، فتشوا البيوت بحثا عن السلاح، ضربوا الآباء والأمهات، أشاعوا جوا من الإرهاب، ضابط المباحث رأيته يدخل مكتبي في القسم الصحي: «تسمحي يا دكتورة آخذ من وقتك دقيقتين؟ مجرد سؤال أو سؤالين.»
هذه هي لغة البوليس، لم أكن أعرفها بعد، لم أعرف أن الدقيقتين قد تصلان إلى ساعتين أو ثلاث ساعات، وقد تعني ما هو أكثر، حين أخذوني من بيتي في 6 سبتمبر 1981م لم أسمع منهم إلا هذه العبارة: «مجرد سؤال أو سؤالين يا دكتورة» ثم وجدت نفسي داخل السجن. •••
شتاء عام 1957م في قرية طحلة كان باردا مغبرا، الأغاني لا تكف في الراديو، انتصرنا انتصرنا! في أعماقي أدرك الهزيمة، الجرح الغائر في القلب لم يلتئم، أصابع ضبابية تلتف في النوم حول عنقي، أفتح فمي لأصرخ، صوتي لا يطلع، أتكور تحت الغطاء أخفي وجهي، كالطفلة تخاف العفاريت، أهل القرية يؤمنون بوجودها كإيمانهم بوجود الله، كانت أم إبراهيم مثل أهل القرية، تقرأ قبل أن تنام سورة يس، تطرد بها العفاريت وأرواح الجان «ربنا ذكرهم في القرآن يا ضكطورة»، العرافة تقرأ الغيب في الودع والفنجان، العاقرات من النساء يذهبن إلى الشيخ حمدان، يحبلن في الأوضة الضلمة، يزوره الله في المنام، رفع عنه الحجاب رغم أنه أعمى اصطفاه الله وأفقده البصر، أعطاه القدرة على تحبيل النساء وطرد العفاريت من أجسادهن. - «البت مسعودة بنت الحاج زيدان ركبها العفريت يا ضكطورة.» - «عفريت إيه وكلام فارغ إيه يا أم إبراهيم؟!»
تبصق أم إبراهيم في فتحة جلبابها عند العنق: «أستغفر الله العظيم، ربنا يجعل كلامك خفيف على قلوبهم يا ضكطورة، ضصطور يا سيادنا ضصطور.» تنهض واقفة، تهش بذراعيها العفاريت من حولها كما تهش الذباب: «الحاج زيدان أخد بنته مسعودة للشيخ حمدان لكن العفريت فضل راكبها يا ضكطورة.» - «الشيخ حمدان ده راجل نصاب يا أم إبراهيم.» - «أستغفر الله العظيم، ده ولي من أولياء الله يا ضكطورة.»
لا يمر يوم دون أن تحكي أم إبراهيم شيئا عن العفريت الذي ركب مسعودة بنت الحاج زيدان، كان أبوها يدور بها على المشايخ العميان في القرى المجاورة: «ربنا كشف الحجاب عنهم يا ضكطورة، ما حدش يعرف ربنا إلا العميان.»
الفصل الخامس
عودة المكبوت
قصة مسعودة والعفريت حديث القرية، لم يكن عفريتها مثل العفاريت الأخرى، يتحدى أولياء الله الصالحين، ربما يكون هو الشيطان ذاته، «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» عبارة تجري على ألسنة أهل القرية من المهد إلى اللحد، لا تكف أم إبراهيم عن الاستعاذة بالله من الشيطان والجن والعفاريت، أصبحت أطارد هذه الكائنات داخل عقلها، وعقول النساء والرجال في القرية، يوم الخميس كان المرور على البيوت، الحكيمة زينات والممرضات والمثقف الصحي جبهة واحدة ضد الخزعبلات، «ما فيش حاجة اسمها عفاريت يا ناس، ما عفريت إلا بني آدم.» هذه العبارة سمعتها من جدتي وأنا طفلة «ما عفريت إلا بني آدم.»
لم يكن سهلا مقاومة هذه الأرواح الخفية، وردت في كتاب الله الكريم، أيمكن لعلوم الطب أن تحارب كلمة الله؟! أكثر الناس مقاومة لنا هو العمدة وأصحاب الأراضي الكبيرة، وشيخ الجامع، وحلاقو الصحة ورجال الأمن من الخفراء، وشيخ الخفر، والشيخ حمدان، كانوا جبهة واحدة، الطبقة الحاكمة في القرية مثل أختها في المدينة، لا يمكن أن تعيش دون وجود العفاريت.
تملكتني إرادة التحدي، أصبحت أمشي في الليل عيناي تشقان الظلمة، أيمكن أن ألتقي بالعفاريت وجها لوجه؟ في طفولتي كنت أخاف السير في الظلام، اليوم أصبحت طبيبة في السادسة والعشرين من عمري، أحمل في يدي كشافا صغيرا، أضرب في الظلام ضد القوى الغيبية. - قوليلي يا مسعودة العفريت ركبك إمتى وفين؟ - ما اعرفش يا ضكطورة وحياة ربنا ما اعرفش.
كانت راقدة في صحن الدار، أبوها الحاج زيدان يؤمن أن الله هو الشافي وليس الأطباء، أمها الحاجة فطنة ترى أنها ورثت الجنون عن عمتها شقيقة أبيها، ركبها العفريت ولم يغادرها حتى حرقت نفسها، سكبت صفيحة الجاز فوق رأسها ثم أشعلت عود الكبريت، صورة مسعودة تؤرقني في الليل، تطاردني في النوم، أراها تجري فوق الجسر والنار مشتعلة فيها، صراخها يأتيني من تحت الوسادة، كالطنين في أذني، كالأنين الممدود يناديني، يذكرني بأنين جدتي وأنا طفلة، وأنين أمي وطنط نعمات وكل امرأة سمعتها تئن في الليل. - أنا رايحة لمسعودة في بيتها لازم أسمع منها حكاية العفريت ده! - يا ضكطورة الشغل عليكي بيزيد وطوابير العيانين مالهاش نهاية، بلاش زيارة البيوت ما ينوبك منها إلا البراغيث. - يا أم إبراهيم حكاية العفاريت دي مش داخلة مخي، المسألة فيها سر لازم أكشفه. - يا ضكطورة حاتكشفي على إيه والعفاريت دول ربنا يكفيكي شرهم، مالهومش إلا الأقوى منهم. - أنا رايحة لمسعودة يا أم إبراهيم، لا يمكن أكون الدكتورة هنا وأسيبها وحدها للعفاريت.
في أعماقي صوت يدفعني إلى مسعودة، صوت عميق بعيد يأتي من الطفولة، فوق شاطئ البحر أراها تمشي، سعدية الخادمة تكبرني ببضع سنوات قليلة، طفلة جسمها نحيف كالبوصة، هربت من البيت بعد أن ضربتها أمي، أرادت العودة إلى أمها في كفر الشيخ، تاهت على شاطئ الإسكندرية وفي أذنها حلق من الصفيح. - قوليلي يا مسعودة العفريت ركبك إزاي؟ - مش عارفة يا ضكطورة. - حاولي تفتكري يا مسعودة. - مش فاكرة حاجة يا ضكطورة.
صوتها يذكرني بشلبية الخادمة الصغيرة في بيت المرحوم جدي، لهجتها وملامحها، نحيفة الجسم سمراء البشرة، عمرها كان أربعة عشر عاما، ترتدي جلبابا واسعا، متكورة حول نفسها، تشد أطراف الجلباب حول جسمها، عيناها سوداوان واسعتان ترفعهما نحوي ثم تخفي رأسها بين ركبتيها، أخذتها طنط فهمية إلى محطة القطار، ثم عادت بدونها. - يا مسعودة حاولي تفتكري أنا ممكن أساعدك. - مش فاكرة حاجة يا ضكطورة. - العفريت جالك منين يا مسعودة، من قدامك ولا من وراكي؟ - من ورايا يا ضكطورة. - من وراكي إزاي يا مسعودة؟ - كنت راكعة يا ضكطورة بعد ما صليت العشا جه من ورايا وركبني.
انتفضت أمها الحاجة فطنة، كانت جالسة إلى جوارها متربعة داخل جلبابها الأسود، أخفت نصف وجهها بطرف طرحتها السوداء: «إلهي يخزيكي يا بت يا مسعودة، العفريت يخاف من ربنا يا بت ويخاف من سجادة الصلا، إلهي يخليكي يا ضكطورة شوفيلها دوا أصلها مجنونة زي المرحومة عمتها.» نهضت مسعودة فجأة كادت تضرب أمها: «إنتي المجنونة يامه ربنا ياخدك!» رنت العبارة في أذني، أضاءت شيئا في رأسي، ماذا فعلت الأم حتى تتمنى لها الابنة الموت؟ لم يكن للابنة أن تنطق في حضور أمها، حاولت التخلص من الأم، تلازم ابنتها كظلها، إن دخلت المرحاض تدخل وراءها: «خايفة تعمل في نفسها حاجة يا ضكطورة، المرحومة عمتها حرقت نفسها.»
حالة مسعودة تزداد سوءا يوما بعد يوم، تنهض أحيانا من النوم وتجري هاربة فوق الجسر، يمسكها خفراء الليل، يعودون بها إلى أهلها، أركبها أبوها الحمارة ذات يوم وجاء بها إلي: «خديها عندك في المستشفى يومين يا ضكطورة يمكن ربنا يشفيها.»
في القسم الداخلي أعطيتها غرفة خاصة، تحت رعاية الحكيمة زينات، أمر عليها في الصباح قبل العيادة الخارجية، وفي الظهر بعد الانتهاء من فحص المرضى، قبل أن أنام أزورها في غرقتها، أتحدث معها، أحاول أن أعرف حكايتها، زينات تحنو عليها أكثر من الأم، تعطيها جرعات صغيرة من المهدئات، «هذه الحالات يا زينات لا تعالج بالعقاقير، أو الصدمات الكهربية، لا بد من البحث عن السبب الحقيقي للأزمة.» تفرغت زينات لمسعودة، تشاركها الغرفة، تنام فوق السرير الآخر، تأكل معها، تسهر معها في الليل، «احكي لها عن حياتك يا زينات يمكن تتشجع وتحكي لك عن حياتها.»
في إحدى الليالي جلسنا نحن الثلاث في غرفة مسعودة، كانت زينات تحكي عن طفولتها، هربت من أبيها في حي الشرابية، أراد أن يزوجها من جزمجي عجوز، له حفيدة من عمرها، احتضنتها امرأة من عائلة أبيها كانت ممرضة في قصر العيني، بلا زوج ولا أطفال، أصبحت هي ابنتها، أدخلتها مدرسة التمريض «أنا عمري دلوقتي واحد وتلاثين سنة عاوزة أبقى حكيمة في القصر العيني زي المرحومة خالتي والناس كلها تقول لي اتجوزي يا زينات عشان يكون لك طفل ولا اتنين، لكن الدنيا مليانة أطفال على قفا من يشيل، وياما أطفال اتولدوا على إيديا دول، وياما أطفال في الملاجئ، وإذا كنت عاوزة أطفال أقدر أتبنى طفل منهم، ولا إيه رأيك يا دكتورة؟» - طبعا تقدري يا زينات لكن يمكن تقابلك مشكلة من الناحية القانونية أو الشرعية؛ لأن التبني ممنوع في الإسلام. - ممنوع ليه يا دكتورة، ده كله خير وبركة، لولا خالتي الحكيمة كان زماني عند الراجل العجوز الجزمجي يعمل في اللي هو عاوزه، كان أكبر مني بخمسين سنة وأنا يدوبك كده من عمر مسعودة أربعتاشر سنة، وكان جسمي يتنفض لما أشوفه يا دكتورة كأنه عزرائيل الموت.
انتفضت مسعودة فوق سريرها لحظة، انفرجت شفتاها عن صوت مبهم، ثم أطبقتهما بإحكام، عيناها ثابتتان فوق زينات وهي تحكي، «لكن يا دكتورة ليه التبني ممنوع في الإسلام، ده سيدنا محمد كان دايما يعطف على اليتامى والأطفال، والملاجئ يا دكتورة حالتها تصعب على الكافر، أنا عشت فيها شهرين قبل ما أعرف طريق بيت خالتي الحكيمة، كان عندنا مشرف بعين واحدة نقوله يا فندي، أخدني مرة في الأوضة بتاعته وقفل الباب، وهات يا ضرب بالخيزرانة، وبعدين لقيته فوقي راكبني زي الحمارة و...»
أطبقت زينات فمها حين انطلقت الصرخة من فم مسعودة، حادة ممدودة ثم انقطعت فجأة ، أخفت رأسها تحت الملاءة، جسمها يرتعد، همست في أذن زينات: «كلامك مس وترا في حياتها، كفاية كده إديها نص قرص في اليوم.»
قبل أن أنام تلك الليلة دلكت أم إبراهيم قدمي المتورمتين، ثلاث ساعات قضيتها جالسة في غرفة مسعودة، الكرسي من القش غير مريح وحكاية زينات غير مريحة، تملؤني بالحزن الغامض، في طفولتي فكرت في الهرب من الأهل والعريس، كنت أنام وأحلم أنني أمشي في الليل وحدي، أتوه في الطريق اللانهائي كما تاهت سعدية، يقابلني في الظلمة رجل تناديه البنات في المدرسة يا أفندي، يغلق علي الباب، يقترب بجسده من جسدي، تخرج من فمه رائحة غريبة ودخان، ويزحف شيء بين فخدي كالإصبع الغليظ: «يا ضكطورة إنتي تاعبة نفسك مع البت مسعودة ما فيش لها علاج إلا الزار، أصل العفاريت يا ضكطورة تخاف من الطبل والرقص.» - «اسكتي يا أم إبراهيم، زار إيه وكلام فارغ إيه.» - «أنا يا ضكطورة ياما ركبتني العفاريت وما في حاجة تطردها من جتتي إلا الزار، اسأل مجرب ولا تسأل طبيب.»
العبارة تسري في أذني وهي تدلكني، اسال مجرب ولا تسأل طبيب، يداها مدربتان تعرفان موضع الألم، تمشي أصابعها فوق سلسلة العمود الفقري، تتوقف فوق ظهري عند فقرة معينة، تضغط بإصبع واحد فوق نقطة محددة، تعرفها بحكم الخبرة والتجربة: «هي دي الحتة اللي بتوجعك يا ضكطورة؟» - «أيوه يا أم إبراهيم هي دي بالضبط.»
تدور يداها تبحث في مؤخرة القدم، والكتفين، والذراعين، والساقين، والقدمين، وبطن القدم، وغضاريف الأصابع: «يا ضكطورة إنتي جواكي تعب كتير أوي.» هذه العبارة ذاتها سمعتها بعد ثمان وثلاثين سنة باللغة الإنجليزية، في مدينة «سياتل» على الشاطئ الشمالي الغربي للمحيط الهادي «الباسيفيك» في أمريكا الشمالية، قضيت ستة شهور من 1994م أستاذة زائرة في جامعة واشنطن، كانت لي زميلة صينية تجاوزت الستين مثلي، سمعتني أتحدث عن آلام الانزلاق الغضروفي، جاءت إلى بيتي معها علبة صغيرة مستطيلة داخلها مجموعة من الإبر الصينية، بأصابعها الرفيعة المدببة حددت مواضع الألم، فوق كل موضع غرزت إبرة في اللحم، كانت هي بالضبط المواضع التي حددتها أم إبراهيم بأصابعها في قرية طحلة وصوتها يكاد يشبه صوتها رغم اختلاف اللغة:
You have a lot of pain inside you Nawal
ومياه البحيرة من نافذة بيتي في ضاحية «كوين آن» تبدو في حركتها الهادئة كنهر النيل.
في طفولتي شهدت بعض حفلات الزار مع ستي الحاجة وعماتي، منذ السادسة من عمري لم أشهد الزار، ذهبت إليه وأنا طبيبة القرية مع أم إبراهيم، ومسعودة وأمها وخالاتها وعماتها كلهن أصبحن داخل حلبة الرقص وأنا معهن، دقات الطبول ترج الجسد، ترج الروح، يذوب الجسد في الروح، دقات الطبول ترج الأرض والسماء، تذوب الأرض في السماء، الأجساد كلها تذوب في جسد واحد، لا أكاد أعرف أم إبراهيم من أم مسعودة، ولا مسعودة من شلبية، الأبخرة تتصاعد مع البخور المحروق، والشبة تتشكل داخل النار، تصبح جسدا من الدخان، هو العفريت أو الشيطان بعينه، الصراخ ينطلق من الحناجر كالزغاريد، «شيخ محضر يا شيخ محضر واللي عليه عفريت يحضر!»
الأجساد انطلقت من عقالها، تتلوى حول ألسنة النار كالثعابين الحمراء، الأثداء والأرداف تنتفض مع انتفاضات الطبول، الشعور الطويلة انفكت ضفائرها تتطاير منكوشة كرءوس جنيات البحر، الأفواه مفتوحة عن آخرها يصرخن في نفس واحد: شيخ محضر يا شيخ محضر واللي عليه عفريت يحضر! حضرت كل العفاريت وكل من ركبهم العفاريت، والعرق أصبح يتصبب والأنفاس تلهث كأنما في سباق الزمن، الصراخ والعويل يختلط بدقات الطبول، العرق يختلط بالدم، من أين جاء الدم؟ ربما هو ديك أو فرخة ذبحت، أو امرأة غرزت أظافرها في لحمها أو لحم آخر، لا يمكن التمييز بين اللحم واللحم، ذابت النسوة في جسد واحد، الشعر الأسود المنكوش يقذف نفسه إلى الأمام فيغطي النهدين، ثم يقذف نفسه إلى الخلف فيغطي الظهر تضرب أطرافه الردفين، الجلباب أصبح مشقوقا من الصدر حتى الذيل، القدم اليمنى تضرب الأرض فينفتح الجلباب، تظهر استدارة الفخذ، ترتفع الساق في الهواء، تضرب الأرض بالقدم اليسرى، يتسع الشق في الجلباب، تظهر من الجانب استدارة الثدي هابطة إلى البطن، ترتعش البطون مع ارتعاشات الطبلة، تتهاوى الرءوس إلى الأرض تلامس الأرض، تلعق التراب ثم تنهض من جديد: شيخ محضر يا شيخ محضر واللي عليه عفريت يحضر!
انفلت الجسد من سياج العقل، وانفلت العقل من سياج الجسد، صدمة النقاء المطلق في مواجهة الفساد المطلق، صدمة الشيطان يلتقي وجها لوجه مع الله، صدمة الحرية تواجه الاحتباس كالصدمة الكهربية، كالأسياخ المحمية، والأفواه مفتوحة عن آخرها تصرخ من الألم واللذة، بالفرح بالخلاص الأبدي، بالحزن الأزلي، منذ ولدن من بطون أمهاتهن، منذ امتدت الموسى تقطع في أجسادهن، منذ ضربن ليلة الزفاف ونزفن الدم حتى الموت، منذ حرقت الأرض أقدامهن، وحرق الملح بطونهن، وكوى المر أكبادهن، منذ امتصت الدودة دماءهن، وأكلت الحرب أولادهن، والتهم الموت صبيانهن وبناتهن.
اصرخي يا بت يا مسعودة خلي العفريت يطلع من جتتك يا بت! اصرخي بأعلى صوتك يا مسعودة اصرخي!
تصرخ أم إبراهيم بصوت أعلى من مسعودة وجميع النسوة، صراخها يعلو في الكون، يخترق السموات واحدة وراء الأخرى حتى السماء السابعة ، يخترق أذان الملائكة والشياطين، تنادي على رب الكون الله الواحد الأحد، تنادي على الأنبياء واحدا وراء الآخر من سيدنا إبراهيم حتى سيدنا محمد آخر المرسلين، تنادي على السيدة خديجة والسيدة زينب والسيدة مريم العذراء، أم المسيح، تطلب منهم جميعا أن يعيدوا إليها ابنها الغائب في الحرب منذ ثماني سنين، تفرد ذراعيها عن آخرهما تحتضن ابنها الهابط من السماء، يمسك بيديه الاثنتين مظلة مفتوحة أشبه بالبراشوت، قدماه ثابتتان فوق بساط الريح، يتحول الصراخ إلى زغاريد، تنطلق الزغرودة من حلق أم إبراهيم، أعلى من كل زغاريد النسوة: «باب السما مفتوح وابني إبراهيم نازل أهو بالبراشوت تعال يا حبيبي تعال في حضن أمك!» دموعها تنهمر من عينيها يكسوهما بريق الفرح، تعانق ابنها بذراعيها تضمه إلى صدرها، تضم الحلم والحقيقة، الروح والجسد، الوعي واللاوعي، تضمهم جميعا بين ذراعيها الاثنتين.
هل فقدت أم إبراهيم عقلها أم أنها بلغت العقل؟ السؤال يلازمني، يروح ويجيء في رأسي، في الليل تحت ضوء الفانوس أفتح مفكرتي السرية وأكتب: أيكون العقل الحقيقي هو القدرة على فقدانه؟
في هدأة الليل، تحت ضوء القمر المكتمل بدرا، تمددت مسعودة قرب الفجر، نام الجميع، كانت تهذي بصوت خافت يشبه حفيف الهواء، وجهها مغسول بالعرق الغزير، أوراق الشجر تلمع بقطرات الندى، العصافير في أعشاشها لم تنهض بعد، صوت مسعودة يسري في أذني من بعد الزمان والمكان كالحلم:
كان عمري عشر سنين، وكنت في المدرسة شاطرة ونفسي أبقى ضكطورة، مسكوني أبويا وأمي، وجوزوني غصب عني من ابن عم العمدة، راجل كبير أكبر من سيدي أبو أبويا، والناس كلها تخاف منه، أصله كان حرامي وقتال قتلا، قتل مراته، وعنده أولاد وبنات في مصر متجوزين ومخلفين، وكنت أقوله يا سيدي، وكان ينادي علي في الظلمة وأنا نائمة ويقول قومي يا بت قامت قيامتك، أعمل نفسي مش سامعاه، وأهرب بره الدار في المزارع، كان زي العفريت يعرف أنا فين، يجيبني من سابع أرض، يشدني من ذراعي ويقول: لما سيدك ينادي عليكي يا بت تيجي على طول، قولي حاضر يا سيدي، يناولني كف على صدغي ويركب فوقي زي ما يركب الحمارة، ويكتم فمي بإيده عشان صوتي ما يطلعش، وكنت أموت يا ضكطورة وروحي تطلع وهو فوقي زي الجبل، وكان لازم قبل ما ينام أدلكه من فوق لتحت، يتمدد فوق الفراش وأنا تحت رجليه، يحط قدمه في بطني وأنا قاعدة متربعة، أدلك صوابعه صباع صباع، ومشط القدم أدلكه، يضربني بكعبه في بطني ويقول: ادعكي يا بت أوي، مالك خرعة كده؟ فين الأكل اللي بوكلهولك يا بت؟ يضربني بكعبه في بطني ويقول: الأكل بينزل يروح فين يا بت؟ افتحي يا بت رجليكي عشان أشوف الأكل بيروح فين؟ كان يغمي راسي بالجلابية ويقول: انطقي يا بت قولي الأكل بيروح فين، وأقول له ما اعرفش يا سيدي والنبي ما اعرفش، ربنا يخليك ويطول عمرك فيه حاجة بتحرقني زي النار، يقول لي بتحرقك فين يا بت انطقي، ما اعرفش يا سيدي والنبي ما اعرفش، كنت يا ضكطورة أحس حاجة زي النار في جسمي، ما اعرفش كان يمسك إيه في إيده، زي ما يكون عمود حديد أو رجل الكرسي الخشب، يضربني في بطني، لما أصرخ يضربني بكفه على فمي، يكتم نفسي بإيده، ويقول مش عاوزة تقولي الأكل بيروح فين يا بت، لازم أشوفه بيروح في أنهي داهية، لازم أجيبه يا بت من الحتة التايهة، عارفاها الحتة التايهة فين يا بت؟!
لم تكن مسعودة تصل إلى هذا الحد من حكايتها حتى يصيبها الإغماء، تفقد الوعي، تفقد النطق، تكسو عينيها نظرة مرعبة، تتلفت حولها، ناحية السماء، ناحية الأرض، ترفع ذراعها وتشهق: حوشوا عني العفريت! تتصلب عضلات وجهها، أشبه بنوبة صرع، تهدأ بعد قليل وتغط في النوم العميق مبللة بالعرق، في تشخيص المرض كتبت هذا التقرير:
المريضة مسعودة زيدان مصابة بمرض عصبي وتحتاج البقاء بالقسم الداخلي حتى يتم لها الشفاء تحت الرعاية الطبية، أنصح بعد شفائها ألا تعود إلى بيت زوجها، فهو سبب المرض، يكبرها بواحد وخمسين عاما، يضربها كل ليلة ويغتصبها جنسيا من الخلف وهي ساجدة تصلي لله ، أرغمها أبوها على الزواج منه وهي في العاشرة من العمر، كانت تظن أنه الإله، بعد أن كبرت قليلا تصورت أنه الشيطان أو العفريت الذي يركب النسوة في القرية، بالكشف الطبي عليها اتضح أنها مصابة بالتهابات مزمنة وقروح في فتحة الشرج، ناتجة عن العنف في إدخال العضو الذكري لرجل كبير داخل جسد طفلة صغيرة، وتكرار هذا العنف كل ليلة لمدة ثمانية أعوام، لم تعرف الزوجة وهي في الثامنة عشرة من عمرها كيف تخرج من أزمتها إلا عن طريق المرض العصبي إذ ارتد الخوف المكبوت على شكل عفريت. - «والنبي يا ضكطورة تخليني هنا على طول، إلهي ربنا يطول عمرك.»
هذا هو صوت مسعودة بعد أن تماثلت للشفاء، القروح والجروح التأمت، أصبحت تمشي في ردهات القسم الداخلي تتحدث مع الممرضات، لأول مرة يرينها تبتسم، أشرق وجهها بالأمل، جاء زوجها يستلمها من المستشفى، أغلقت على نفسها باب غرفتها، هددت أن تحرق نفسها، زوجها سمين الجثة له كرش تحت الجبة من السكروتة، يلف رأسه بعمامة خضراء، في يده مسبحة صفراء، يبسمل ويحوقل ويسعل بصوت المصابين بالربو، يخرج من جيبه بخاخة يلصقها بفتحتي أنفه الواسعتين. - مسعودة مراتي يا ضكطورة لازم أخدها في إيدي ع الدار. - اعقلي يا مسعودة وارجعي مع جوزك أنا أبوكي وقلبي عليكي. - يا حاج زيدان البنت مش عاوزة ترجع، خليها على راحتها. - على راحتها إزاي يا ضكطورة دي مراته على سنة الله ورسوله وإذا مارجعتش بالذوق يرجعها بالعافية ده راجل عارف ربنا والآنون.
كلمة الآنون باللغة العامية تعني القانون، زوجها كان يعرف حقه الشرعي، لم يكن للزوجة أن تخرج من بيت زوجها بدون إذن، إن خرجت يمكن أن يعيدها حسب قانون الأحوال الشخصية، إن رفضت العودة يمكن أن يطلب مركز الشرطة، يحملها رجال البوليس إلى بيت زوجها، يسمونه بيت الطاعة في القانون.
تحصنت بالطب لأبقي مسعودة بعيدا عن زوجها، القانون أقوى من الطب، يستند إلى شرع الله، أصبحت كمن تصارع الله والشرع، لم يكن لي أن أتخلى عن مسعودة، سبق أن تخليت عن سعدية وشلبية، كنت طفلة بلا حول ولا قوة، اليوم أنا طبيبة الوحدة المجمعة، فهل أتخلى عن المسئولية؟!
لم تخرج مسعودة من المستشفى إلا بمجيء رجال البوليس، أخذوها بالقوة إلى بيت زوجها، كان معهم رئيس الوحدة الأستاذ خير الله، أرسل شكوى ضدي إلى المجلس الأعلى بالقاهرة، ثلاث صفحات فولسكاب، بالآلة الكاتبة، من ثلاث نسخ، واحدة لمكتب رئيس المجلس الأعلى فؤاد بك جلال، الثانية لمكتب الدكتور عبده سلام، أمين عام المجلس، الثالثة لمكتب رئيس الجمهورية، قرأت الشكوى بعد عام كامل في القاهرة بمكتب الدكتور عبده سلام، ملخصها الآتي: «الدكتورة نوال السعداوي طبيبة وحدة طحلة المجمعة بمحافظة القليوبية تظهر ازدراء للقيم والآداب العامة وتحرض النساء على التمرد على الشريعة الإسلامية والقانون.» •••
هذه العبارة أصبحت هي التهمة الموجهة إلي، تحاصرني في كل عمل أقوم به، تنقض علي في كل كلمة أكتبها، تطاردني في كل خطوة، تنتقل في دهاليز الحكومة من عهد إلى عهد، العام وراء العام، أربعين عاما حتى اليوم.
لم أعرف حينئذ أن المدافعين عن القيم والآداب والشريعة هم المنتهكون لها في الواقع والحقيقة.
في بيت زوجها المطل على النيل عاشت مسعودة أسبوعا واحدا، في الأسبوع الثاني اختفت، بحث عنها البوليس أسبوعا كاملا، في القرى المجاورة والحقول، في محطات القطارات، في أقسام الشرطة، في المستشفيات والملاجئ، في بيوت الغوازي والعوالم، جاءوا إلى الوحدة فتشوا ركنا ركنا، دخلوا بيتي فتشوه، ثم ظهرت مسعودة طافية فوق سطح النيل، عثروا على جثتها عند الحدود ما بين قرية الرملة ومدينة بنها.
كان يوما ترابيا أغبر، وقفت فوق الجسر داخل معطفي الأبيض، يداي إلى جواري مشلولتان، واقفة مثل النسوة المقهورات داخل الجلاليب السود، أرقب مسعودة ينتشلونها من مياه النيل، كالعروسة الصغيرة كانوا يلقونها للإله العجوز، عمره عشرة آلاف عام، لا يشتهي إلا العذراوات الصغيرات، تزف الواحدة منهن إليه تحت اسم «عروس النيل»، يبتلعها كما ابتلع سيول المطر بعد ذوبان الثلوج في العصر الجليدي الأخير، يشق قلب أفريقيا عبر الصخور والصحاري والقفار، يجري مسافة 6825 كيلومترا، يرتفع بالفيضان ليلة الثاني عشر من شهر بئونة، يسمونه يونيو، تسقط من السماء نقطة مطر واحدة فيفيض النيل، يسمونه ليلة النقطة، كانوا ينقشونها على الجدران منذ خمسة آلاف عام، باللغة الهيروغليفية يكتبون: «هذا هو الإله الذي يخرج من النيل ولا يجرؤ أحد على الكلام عنه.» كانوا يسمونه أوزوريس الطلسم ملك الموتى، يشعلون له المصابيح في الليل، يسجدون بين يديه، يبنون له البيت يسمونه المعبد، يقدمون الطعام ويذبحون له الوز والبط والحمام.
انتشلوها من بين ذراعيه العجوزين، رأيتها محمولة بين أذرع الرجال، جلبابها ملتصق بجسدها النحيف كالبوصة، أبوها وأمها وزوجها وأهالي القرية كلهم واقفون، من أين جاء كل هؤلاء الناس؟ سماء القرية رمادية، الرياح محملة بالغبار، أنا واقفة داخل معطفي الأبيض أنتظر، إلى جواري زينات والممرضات، رجال ونساء جالسون فوق الجسر ينتظرون، صوت الطاحونة ونباح كلاب من بعيد وعويل، نتف سحب رمادية تعبر سماء ميتة، كل شيء نائم شبه مخدر، صياد وحيد كان يرمي شبكته، يلمها يشمر جلبابه يأتي إلى الجسر يقف وينتظر، النسوة تركن الحقول والبيوت وجئن سائرات على أقدامهن المشققة، وقفن عند الجانب الخلفي من الجسر ، عجوز تتكئ على عكازها، حزامها حول جلبابها، قدماها مسودتان، امرأة وحيدة تعيش في خص من قش تشد طرحتها حول رأسها، تسير نحو الجسر وهي تعصر عينيها الذابلتين، يلوح من تحت جلبابها كعبان ملطخان بالطين، رجال بالجلابيب الكاشمير والصداري الحرير أقبلوا يسيرون بكبرياء، أيديهم معقودة خلف ظهورهم، العيال الأولاد والبنات فضوا ألعابهم وجاءوا من الحارات والأزقة، وقفوا بعيدا واجمين ذاهلين ينتظرون ظهور الجثة الطافية فوق النيل، كأنما ينتظرون ظهور العذراء مريم فوق قبة الكنيسة، أو ظهور المهدي المنتظر، جاءوا وأنا أيضا جئت، واقفة داخل معطفي الطبي بلا حراك، في أعماقي أشعر بالذنب، عجزت عن إنقاذ مسعودة كما عجزت عن إنقاذ شلبية منذ اثني عشر عاما، تركتها وحدها تواجه العالم، في بطنها الجنين السفاح، هل قذفت بنفسها من القطار؟ هل عادت إلى أهلها في الصعيد فقتلوها؟ أتتسول طعامها في شوارع القاهرة فوق كتفها طفلها؟ في أحد البارات أو بيوت الدعارة؟ في زنزانة بسجن النساء؟ في عنبر بمستشفى الأمراض العقلية بالعباسية؟
في ذاكرتي تعيش مسعودة وشلبية، توءمان متشابهان، أراهما من بعد الزمان والمكان، تطلان علي من فرجة في السحب، الوجه النحيل الشاحب، البشرة السمراء بلون طمي النيل، العينان المملوءتان بالخوف وحزن الطفولة، الجسم الصغير الممصوص كالبوصة، راحت شلبية ضحية الاغتصاب غير الشرعي، وسعدية ضاعت من ذاكرتي كما ضاعت على شاطئ البحر الأبيض منذ سبعة وخمسين عاما.
في المدرسة الابتدائية في منوف وقفت على خشبة المسرح، كنت في العاشرة من عمري ألعب دور الإلهة إيزيس، كانت ربة الحكمة والمعرفة، أعادت الحياة إلى جسد زوجها الميت أوزوريس، أمها الإلهة نوت كانت إلهة السماء، كتبت لها في الوصية قبل أن تموت: «لا أوصي ابنتي التي ستلي العرش من بعدي أن تكون إلهة لشعبها تستمد سلطتها من قداسة الألوهية بل أوصيها أن تكون حاكمة رحيمة عادلة.»
هذه العبارة منقوشة على الحجارة منذ سبعة آلاف عام، بالضبط عام 4988 قبل الميلاد، كيف انقلب الوضع في كتاب التوراة وأصبح الإله يستمد سلطته من قداسة الألوهية والوحدانية وليس من العدل والرحمة ؟! وفي كتاب الله توقفت عند هذه الآية:
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ، وبدأت أفكر كيف انقلب النظام في العالم ليصبح الشرك بالله أكبر الجرائم وليس الظلم؟
وجاءت الإشارة العاجلة من المجلس الأعلى للخدمات بالقاهرة مطلوب حضور الدكتورة طبيبة الوحدة المجمعة بقرية طحلة، وصدر القرار بلا تحقيق بنقل الدكتورة من وحدة طحلة إلى قسم الأمراض الصدرية بوزارة الصحة، لم يكن يذهب إلى القسم إلا الأطباء الراسبون في الامتحانات أو ذوو العاهات، تقذف بهم الوزارة إلى قسم أمراض الدرن الرئوي أو قسم الجذام أو الأمراض العقلية.
حملت طفلتي وحقيبتي وغادرت القرية، لم تودعني أم إبراهيم، حزمت متاعها القليل داخل صرة من الدمور: «أنا معاكي يا ضكطورة لآخر العمر.» فرحت أمي بعودتي إلى جوارها، لزمت الفراش بعد أن أقعدها المرض: «أيوه يا نوال خليكي معايا عشان تعالجيني.» فرح أبي بعودتي إلى البيت: «افتحي عيادة في ميدان الجيزة مستقبلك هنا مش في الوحدات الريفية.» فرحت صديقتي صفية: «أيوه يا نوال عشان نروح النادي سوا ونلعب تنس زي زمان.» حوطتني بطة بذراعيها تكركر بالضحك: «فلاحين إيه وزفت إيه خليكي هنا معانا نروح السينما والمسرح.» وسامية جاءتني في زيارة إلى بيتي: «وإنتي بعيدة يا نوال حسيت إني وحيدة، رفاعة هربان من البوليس؛ عاوز الوحدة الفيدرالية بين مصر والعراق، وعبد الناصر عاوزها اندماجية، وأنا وحدي في الأجزخانة.»
الفصل السادس
الحب واليأس
في أعماقي حنين مكبوت لشيء بلا اسم، لم تعد الأسماء المتداولة تصلح، كلمة الحب قاصرة عاجزة محملة بالتحريمات، بالإباحات، بالقيم المعكوسة.
في الليل أحلم به، في النهار أبحث عنه، عنها، عنهم، عنهن، بالمفرد، بالجمع، بالمذكر، بالمؤنث، فهو يتجاوز هذه التصنيفات، مصنوع من مادة ليست الروح وليست الجسد وليست العقل، هي مزيج الثلاثة في تكوين جديد لا يشبه أحدا من البشر، ليس له لحية ولا شارب، ولا أثداء ولا أرداف ولا رحم ولا قضيب، مع ذلك له ملامح الإنسان، العينان لا أرى فيهما إلا الضوء، الذراعان لا يحوطاني إلا بالحنان، اليدان لا تحملان أساور ولا خواتم ولا سلاسل، يدان مفتوحتان لا تحملان من الهدايا إلا الحب.
وأنا أمشي ألمح وجها يشبهه، أتوقف فجأة كأنما أصحو من الحلم، أو أسقط في غيبوبة النوم، نظرة العينين تذكرني، حركة الجسم وهو يمشي، الطريقة التي يحمل بها رأسه وتدوس قدماه الأرض، رنين صوته في أذني، لم أسمعه من قبل وسمعته قبل أن أولد، يختلف عن أصوات الرجال والنساء، مع ذلك يبدو مألوفا، يهمس في أذني كل ليلة، يناديني نوال، يعرفني، يلتقطني من بلايين الأجرام السابحة في الكون، يحوطني، لا أدرك من كيانه إلا العناق، تغرقني اللذة كالمياه الدافئة في بحر الإسكندرية، منذ طفولتي يراودني هذا الحلم، أكثر من ستين عاما يراودني في النوم واليقظة، هو الوحيد بين الكائنات الحية يعرف كيف يعانقني، كيف يذوب كيانه في كياني، بلا ألم بلا أسى بلا إثم بلا توبة، بلا إذن، ولا مأذون، ولا استئذان، أستجيب له كالسماء تحن إلى الأرض، كالصحراء لم تعرف المطر، كالطير يندفع تجاه البحر، كالفراشة تنجذب إلى اللهب، تنحرق تصير رمادا، مع ذلك لا تكف عن الانجذاب والاحتراق حتى الموت والحياة من جديد دون توقف.
أهي اللذة المستحيلة إلا في الخيال؟! في طفولتي كنت أسمع النسوة يتهامسن بها، يقربن رءوسهن، يسري بينهن الهسيس، الشبق المحترق في عيونهن، الشهوة المكبوتة في أعماق الجسد، والروح والعقل، يتزوجن وينجبن ويبلغن سن اليأس وهي مكبوتة، يعشن ويمتن ويدفن في القبور وهن عذراوات، لماذا يعجز رجال العالم عن فض بكار النساء في الحياة الدنيا؟! أهي مشكلة تاريخية منذ انفصال الروح عن الجسد والسماء عن الأرض؟! ألهذا ليس للرجال عمل في جنة عدن إلا فض بكارة العذراوات؟
لكل واحد منهم اثنتان وتسعون عذراء، ويعود الغشاء سليما ليتمزق ثم يعود سليما ليتمزق وهكذا إلى ما لا نهاية؟! •••
عام 1958م قضيته في مستشفى الأمراض الصدرية بالعباسية، أركب الأتوبيس من الجيزة إلى ميدان التحرير، ثم الترام إلى العباسية، أهبط في نهاية الخط، أمشي في الصحراء مسافة الساعة بخطوة سريعة، أمر في الطريق بمستشفى الأمراض العقلية، الأشجار الكثيفة الأوراق تطل من وراء السور العالي، رءوس المرضى المنكوشة، يقفز أحدهم من فوق السور، يقبل نحوي داخل مريلته البيضاء مربوطة بحزام رفيع حول الوسط، يقهقه باندهاش إنتي مجنونة ولا إيه؟!
أمي اشتد عليها المرض، أسمع أنينها طول الليل، أبي كالجمل المنهوك يحمل العبء، أخي الأكبر تخرج واشتغل في مديرية التحرير، مشروع جديد بدأته الثورة لزراعة الصحراء، بقية الأخوة والأخوات في المدارس والجامعات، وأنا أصابني الهزال، أخرج كل صباح في السادسة لأصل المستشفى في الثامنة، ساعتان أقضيهما في الطريق، ساعة داخل الأتوبيس والترام، وساعة أمشيها في الصحراء، أصابتني ضربة شمس، تهب العاصفة فيغرقني الرمل، يدخل تحت ملابسي، بين القدم والحذاء، بين الجفن والعين، العرق يغرقني وأنا أمشي، أحمي رأسي من الشمس بحقيبتي، عيناي حمراوان، أصابع قدمي تسلخت، أصل إلى المستشفى منهوكة الجسد، هياكل بشرية تتحرك داخل العنابر، كالأشباح معلقة بين الحياة والموت، لا يكفون عن السعال، لكل منهم كوز من الصاج الصدئ مملوء بالدم والبصاق، بعضهم لا كوز ولا سرير ولا مرتبة، يرقدون على الأرض في الممرات، يبصقون على البلاط، بقع الدم كاللطع الحمراء، أدوس عليها وأمشي، أنفاسي محبوسة، الهواء معدوم والرائحة غير محتملة.
وجهي أصبح طويلا نحيلا، عيناي السوداوان اشتد سوادهما، علامة المرض بالسل، فالدرن الرئوي يضفي على العيون بريقا كالضوء، الاقتراب من الموت يشعل الرغبة في الحياة، والرموش تزداد غزارة، وشعر الرأس يزداد نعومة وكثافة، يضفي الدرن على الإنسان جاذبية خاصة، رهافة الحواس مع الألم واليأس، والسير على الحافة بين الحقيقة والوهم.
في هذه الحالة تصير الكتابة هي الملاذ الوحيد، تتحول الحياة إلى حروف فوق الورق، المرض والموت والحب، الثالوث المترابط يصبح الإنسان فريسة له، يلتقط العدوى لأقل نفس، ينزف حتى الموت بلا صوت، ويسقط في الحب دون أن يكون هناك أحد.
كتبت قصة بعنوان: «الحرباء والحب»، لم ينشرها أحمد بهاء الدين في مجلة صباح الخير: «أرجوك يا نوال ابعدي عن الموضوعات الحساسة.» - «وإيه هي الموضوعات الحساسة يا بهاء؟» - «الثالوث إياه مش عارفاه؟» عارفة اتنين بس: ربنا وعبد الناصر، والثالث مش عارفاه؟ - «الثالث هو الجنس يا دكتورة.» - «لكن القصة دي مافيهاش جنس خالص!»
كانت القصة تدور حول حرباء بلون الرمال، ألتقي بها في الصحراء كل يوم وأنا في طريقي إلى المستشفى، تهز ذيلها فرحا حين تراني، أخاف منها، أتصور أنها حية، في خيالي منذ الطفولة خوف من الحية، أراها في الحلم تسعى كالأفعى، ألم تكن هي الشيطان الذي أخرج آدم وحواء من الجنة؟ لكن هذه الحية تفرح بلقائي، تقفز فوق تل الرمل رافعة ذيلها، عيناها الصغيرتان تلمعان في ابتسامة، أتفاءل بها، أفرح بوجودها، كانت صديقة لحواء، أليست هي الحية التي دلتها على شجرة المعرفة؟! قالت حواء في كتاب الله التوراة: «قال الله لا تأكلا من ثمر هذه الشجرة ولا تمساه لئلا تموتا، فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر، فرأت حواء أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون شهية للنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضا معها فأكل، فانفتحت أعينهما، وسأل الله آدم: هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها، فقال آدم: المرأة أعطتني من الشجرة فأكلت، فقال الله لحواء: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت: الحية أغرتني فأكلت، فقال الله للحية: لأنك فعلت هذا ملعونة أنت، على بطنك تسعين وترابا تأكلين كل حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وقال للمرأة: تكثيرا أكثر أتعاب حملك بالوجع تلدين أولادا وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك، ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي، وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد، فطرده الله من الجنة، وأقام آدم وحواء شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة.»
لم تكن الحية عدوة المرأة، الرب هو الذي وضع العداوة بينهما، وهو يؤكد هذه الحقيقة في سورة البقرة:
وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ، وفي سورة طه
فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى * فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى * قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى .
ترن كلمة «عدو» في أذني، أتوقف عندها، لماذا خلق الله العداوة بين حواء والحية وبين آدم وحواء؟ ألأنهم أكلوا من شجرة المعرفة؟ هل يمكن أن تكون المعرفة هي الإثم؟!
كل صباح، الحرباء تبتسم لي، أتوقف أبادلها الابتسام، إن لم أجدها فوق التل أبحث عنها، عيناي تفتشان عن جسمها النحيل الأصفر، إن لم تظهر ينتابني القلق، هل أصابها شيء؟ هل ضربها أحد وماتت؟ أنادي عليها بلا صوت، تحس خطوتي على الأرض، تخرج من تحت الرمل، ترقص حول نفسها بالفرح، ترفع ذيلها في الهواء علامة التحية.
في الطريق إلى المستشفى أمشي بنشاط، تخفف قلبي من العداوة، عصيت تعاليم الرب وأحببت الحية، ينتابني الإحساس بالذنب، يعود إلي الخوف، أيعاقبني الله على هذا الحب الآثم؟ ••• - اكتبي طلب للوزير يا نوال تطلبي فيه النقل من مستشفى الأمراض الصدرية.
صوت أبي يتردد في أذني قبل موته بشهر واحد، كنت أسعل طول الليل كالمرضى بالسل، يسمعني أبي فيصحو من النوم، ينهض يسقيني الدواء ويغطيني، لم أذهب إلى طبيب ليكشف على صدري، كنت أكره الأطباء وأريد الموت، يسقيني أبي الدواء كالطفلة رغم أنفي: «دكتورة إزاي ومش عارفة تعالج نفسها، باب النجار مخلع!» أكتم السعال في الوسادة حتى لا يسمعني، تصحو أم إبراهيم قرب الفجر، تناولني الكوب يتصاعد منه البخار: «اشربيه ع الريق يا ضكطورة اللبان الدكر المغلي أحسن من ميت دوا؛ اسأل مجرب ولا تسأل طبيب.» يوم الجمعة تأخذني أشم الهواء في الخلاء، شاطئ ترعة الزمر يمتد وراء حي العمرانية، الحقول الخضراء الممدودة حتى الأهرامات، تمسك أم إبراهيم يدي وتمشي بين المزارع، تنقلني رائحة الفول الحراتي إلى القرية والطفولة، أفك يدي من يدها وأجري في المساحات الواسعة، عيناي تشربان الخضرة كالروح الظمأى، مسام جسدي تتفتح تحت أشعة الشمس، أفرد ذراعي أعانق الهواء الطلق، أحركهما كالجناحين أكاد أطير كما يحدث في الحلم: «الله يا أم إبراهيم الدنيا حلوة أوي.» - «أيوه يا ضكطورة اضحكي كده زي زمان لما بتضحكي الشمس بتطلع.»
تحوطني بذراعيها كالطفلة في حضن الأم، أبكي فوق صدرها، أطلق سراح الدموع المكبوتة منذ ولدتني أمي حتى ماتت: «فضفضي عن نفسك يا ضنايا أنا أمك.» تتربع وسط الزرع داخل جلبابها الواسع، تحكي لي الحكايات بصوت جدتي، تستعيد وجه ابنها المفقود في الحرب، وابنتها المريضة في القرية، تمسح دموعها بكفها الكبيرة، تتطلع نحو الشمس وتضحك: «ما حدش واخد منها حاجة يا ضكطورة.» تمد يدها إلى الزرع، تقطف الفول الحراتي، تفصصه بأصابعها السمراء الطويلة، تناولني الحبة وراء الحبة، أقضمها بأسناني، وصوتها يسري في أذني تغني:
في البحر لم فتكم في البر فتوني ... بالتبر لم بعتكم بالتبن بعتوني ... آه يا ليل يا عين.
انتقلت إلى مستشفى الأمراض الصدرية بالجيزة، كان أقرب إلى بيتي من مستشفى العباسية، وسط الحقول في نهاية حي العمرانية، لم أعد أضيع في الطريق أربع ساعات، أسير من باب البيت إلى باب المستشفى على القدمين، مسافة أقطعها بالخطوة السريعة في ساعة واحدة رياضة يومية في الصباح الباكر على شاطئ الترعة، أستنشق رائحة الزرع والماء، لم يكن أبي مطمئنا على صحتي، ما إن يسمعني أسعل حتى يقول: «اكتبي طلب للوزير، سيبي الأمراض الصدرية يا نوال، وافتحي العيادة في ميدان الجيزة.»
كانت العيادة حلم أبي وأمي، ماتت أمي قبل أن أحقق لها الحلم، فهل أحققه قبل أن يموت أبي؟ لم يكن معي ما يكفي لفتح عيادة، راتبي من الحكومة أربعة عشر جنيها، أنفقها كلها في البيت، أبي بلغ الستين وأحيل إلى المعاش، انخفض راتبه إلى النصف، الأسرة عددها بعد موت أمي عشرة أفراد، أنا وابنتي وأم إبراهيم والأخوان وأخواتي البنات الأربع، أختي ليلى تزوجت وتركت البيت، وأخي الأكبر طلعت سافر إلى مديرية التحرير. •••
أول مبلغ أحصل عليه من الكتابة كان ثلاثة جنيهات، مكافأة عن قصة قصيرة، لم أعرف أن الأدباء يتقاضون رواتب ومكافآت، الكتابة عندي كالحب لا تنتمي إلى عالم الماديات.
أمسكت الجنيهات الثلاثة في يدي، قبضت عليها بأصابعي الخمسة، لأول مرة أدرك الترابط بين المادة والروح، لأول مرة ترتفع قيمة الفلوس في نظري، منذ الطفولة أسمع أبي ينطق الكلمة بازدراء «فلوس» يلفظها من فمه كالبصقة، لا يحب الفلوس إلا التجار، أصحاب الذمم الخربة، لا يقرءون الكتب، لا يشاركون في المظاهرات الوطنية، يضعون المليم على المليم ويكسبون الملايين، أصبحت محصنة ضد الثراء، كلمة تاجر تملؤني بالنفور.
وضعت الجنيهات الثلاثة في يد أبي ونظرت في عينيه، عادت إليهما اللمعة القديمة كالدمعة الشفافة المحبوسة، لم يكن لنجاحي معنى إذا غابت هذه اللمعة، كنت أضع شهادة المدرسة في يده وأنا تلميذة أنظر في عينيه، أنتظر ظهور الضوء، إن لم يظهر انقلب النجاح سقوطا. - التلاتة جنيه دول عن قصتي اللي نشروها في المجلة! - مبروك يا نوال عقبال ما تفتحي العيادة في ميدان الجيزة.
هل أجهض أبي فرحتي بهذه العبارة؟ في أحلامه كان يراني طبيبة، مع أنه يعشق الأدب والشعر، هو الذي جعلني أحب اللغة العربية، منذ الطفولة يقرأ علينا أبيات المتنبي وأبي العلاء المعري وبشار بن برد والعقاد وحافظ وشوقي. - الأدب عندي أهم من الطب يا بابا. - الأدباء بيموتوا من الجوع في بلدنا ويدخلوا سجون، خليكي في الطب يا نوال وافتحي العيادة.
في أحلامي لم أكن أرى نفسي طبيبة، لم تجذبني مهنة الطب، مهنة عاجزة أمام مآسي البشر، في قريتي يموت الأطفال في الشتاء قبل بلوغ الثانية من العمر، مثل الكتاكيت يرتعشون بالبرد ويسقط عنهم ريشهم، في الصيف يموتون قبل بلوغ الخامسة من العمر، النزلات المعوية والإسهال يسمونها أمراض الصيف، إذا نجا الطفل من الموت حتى سن العاشرة أصابته دودة البلهارسيا، تأكل كبده وطحاله، يموت في العشرين من العمر، إن عاش فهو ينزف الدم في البول، يتضخم الكبد والطحال، يمتلئ البطن بالماء، يسمى في الطب «استسقا»، إن عاش الفلاح بعد الثلاثين فهو ناحل شاحب ممصوص الوجه، تشاركه في دمه الديدان والعمدة والحكومة، يشتغل طول العام دون عائد إلا الخبز المقدد وقطعة من الجبن الحادق مع المخلل، زوجة الفلاح هي عبدة العبد، تأكل ما يبقى منه، يشغلها كالجاموسة في الحقل والدار، يضربها كالحمارة بالعصا إن عصت الأوامر، يطردها من البيت بعبارة واحدة ينطقها ثلاث مرات: إنت طالق إنت طالق إنت طالق، تصبح الزوجة في الشارع، تدخل طابور الشحاذات إن كانت عجوزا أو المومسات إن كانت شابة.
أبي كل يوم يلح علي: «افتحي العيادة يا نوال! تحرري من وظيفة الحكومة، الوظيفة مقبرة وإن كنت وزيرة، يصنعونك بقرار ويخلعونك بقرار، في عيادتك الطبية لا أحد يصنعك ولا أحد يخلعك.»
لم تكن العيادة حلم حياتي، وليس معي ما يكفي لفتحها، كنت في حاجة إلى سبعين جنيها، ثمن الأجهزة الطبية والأدوات والأثاث وإيجار الشقة في العمارة العالية بميدان الجيزة، كانت شقة صغيرة في الدور الأول، قال لي صاحب العمارة وهو يفرجني عليها: إذا كانت التكاليف عليك كثيرة يا دكتورة هناك طبيب أسنان في الدور الثاني يبحث عن طبيب آخر يشاركه العيادة.
كنت أريد عيادة لا يشاركني فيها أحد، لم تكن الجنيهات معي تكفي، عيادة دكتور الأسنان يدخلها الضوء أكثر من الشقة الأرضية، الصالة واسعة فيها كراسي أنيقة ملونة زرقاء وحمراء وخضراء وصفراء، الجدران مطلية بالزيت تبرق، دورة المياه نظيفة لامعة، التمورجي يرتدي مريلة بيضاء ناصعة البياض، ينحني لي: «أهلا بالست الدكتورة»، دكتور الأسنان عيناه فيهما نظرة مستقيمة، حركته نشيطة مليئة بالحماس: «أهلا وسهلا يا دكتورة نوال، ممكن تاخدي الأوضة الجوانية أوسع من الأوضة بتاعتي وبعيدة أكثر عن دوشة العيانين في الصالة.»
انخفض المبلغ المطلوب للعيادة إلى النصف، أدفع نصف إيجار الشقة، نصف راتب التمورجي، الأثاث لغرفتي بسيط، طاقم مكتب ومكتبة صغيرة، منضدة للفحص الطبي والعمليات الجراحية، جهاز تعقيم وأدوات طبية بالتقسيط عن طريق نقابة الأطباء، وافتتاح العيادة بحفل صغير، حضره أبي، والأصدقاء والزملاء من الأطباء والطبيبات، والزملاء الجدد من الأدباء والأديبات، والشريك في العيادة طبيب الأسنان وزوجته، وأطباء آخرون لهم عيادات في العمارة، صاحب العمارة أيضا حضر الحفل، ولأول مرة في حياتي أسمع أبي يضحك بصوت عال، يلقي رأسه إلى الوراء مقهقها، كانت بطة كعادتها تحكي آخر النكت.
بالأمس كانت الليلة الأخيرة من عام 1958م، أقامت بطة حفلا كبيرا في بيتها بالزمالك، رقصنا بالأطواق الهولا هوب، أنا وبطة وصفية، رقصة جديدة انتشرت في مصر بين الشباب في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، كان لي طوق من البلاستيك لونه أخضر، أتدرب عليه في البيت، لم تشاركنا سامية الرقص، انهمكت في الحديث مع الدكتور حمدي زوج بطة، أصدر جمال عبد الناصر أمرا باعتقال الشيوعيين، في الصباح صحوت على صوت سامية عبر التليفون: «رفاعة مسكوه امبارح يا نوال بعد نص الليل، مش حاقدر أحكي في التليفون، حافوت عليكي في العيادة.»
زوجة طبيب الأسنان اسمها سعدية عثمان، تعرفت على صديقتي سامية، تميل سعدية عثمان إلى الفلسفة الماركسية، زوجها الدكتور عزت عبد الغفور يتحدث بحماس عن المادية الجدلية، وكتاب أصل العائلة لفردريك إنجلز «الزوجة في البيت هي البروليتاريا زي العمال في المصنع» تكركر بطة بالضحك: «والبغوليتاغيا يعني إيه يا دكتوغ عزت؟ ... باين عليها كلمة شيوعية.» تتقلص ملامح صفية، يشحب لونها: «هي الشيوعية ورانا ورانا، الجمعة اللي فاتت بابا جت له أزمة قلبية، أخويا أسعد أخدوه زوار الفجر لسجن أبو زعبل.» أرادت بطة أن تروح عن صفية: «سمعتوا آخر نكتة عن جمال عبد الناصر؟» كركرت بالضحك قبل أن تحكي النكتة، منذ صدور قانون الإصلاح الزراعي تقول إنه «دكتاتوغ»، بعد صدور القرارات الاشتراكية أصبحت تقول عنه «شيوعي»، «إيه هي النكتة يا بطة؟» «كان فيه واحد ماشي في الشارع بيزعق ويقول الله ياخدك يا راجل طلعت روحنا، جه البوليس مسكوه وحطوه في السجن، قالهم تمسكوني ليه يا ناس؟ قالوا له أنت شتمت جمال عبد الناصر، قالهم أنا قلت يا راجل ما جبتش سيرة عبد الناصر يا ناس، قالوا له هو فيه راجل غيره في البلد مطلع روحنا؟!»
كان هو أول يناير 1959م وأول يوم في عيادتي بميدان الجيزة، التمورجي داخل المريلة البيضاء يروح ويجيء، حاملا أكواب الشربات والشاي بالنعناع أو السحلب الساخن باللبن، فوق الجدار علقت صورة كاريكاتير رسمها لي صلاح جاهين، واقفة داخل معطفي الأبيض، السماعة تتدلى من جيب المعطف، فوق سرير الكشف يرقد صلاح جاهين بجسمه الضخم، كان هو أول فنان مريض يدخل عيادتي، نهض أبي من مكانه فوق الكنبة الجلدية، سار بقامته الفارعة نحو الصورة، وقف يتأملها، إلى جواره وقف صلاح جاهين: «خطوطك يا أستاذ صلاح تدل على موهبة كبيرة في فن الكاريكاتير.» ضحكت بطة وكركرت: «الكايغاتيغ فن جميل فعلا ، لكن أجمل لوحة هي لوحة الأسعاغ، فين هي يا نوال؟!» - لا يمكن يا بطة أعلق في عيادتي لوحة الأسعار، هي دكانة أبيع فيها الصحة للناس؟ - حتبقى عيادة مجانية يا ست نوال هانم؟!
كانت الأفكار الجديدة تغزو عقولنا نحن الشباب، في مجال الطب كانت الاشتراكية تعني أن الصحة حق للإنسان، إذا مرض لا بد أن يحظى بالعلاج والشفاء دون قيد أو شرط، اتسع مفهوم الصحة وشمل الجسد والعقل والحياة الاجتماعية والثقافية، الفقر مرض اجتماعي سياسي وإن جاءني مريض فقير فهل أطرده من العيادة لمجرد أنه لا يملك ثمن الكشف؟
كان أبي لا يزال واقفا يتأمل صورتي فوق الجدار، يدور بعينيه على الأجهزة الطبية، أدوات الجراحة تلمع كالفضة داخل دولاب صغير من الزجاج، جهاز التعقيم منتصب في الركن كالإله البرونزي الصغير، منضدة العمليات يعلوها مشمع أحمر يوحي بالرهبة، مكتب كبير تعلوه بنورة لامعة، لوحة نحاسية مستطيلة فوق المكتب، منقوش عليها الاسم واللقب، دكتورة نوال السعداوي، يتأمل أبي اسم «السعداوي» طويلا، يبتسم لنفسه في زهو، كأنما هي عيادته أو عيادة المرحوم جده السعداوي .
كانت المرة الأولى التي يزور فيها أبي عيادتي وكانت أيضا الزيارة الأخيرة، مات بعدها وهو واقف، كالشجرة تسقط فجأة وهي منتصبة. •••
أرمق نفسي داخل معطف الأطباء، لست أنا هذه الواقفة داخل المرأة، إنها الدكتورة السعداوي، ابنة أبيها، فتحت العيادة من أجله، دخلت كلية الطب من أجله، نجحت وحصلت على الشهادة من أجله، تضعها داخل صندوق من خشب الزان المبطن بالجوخ ترقد فيه الشهادة كالتابوت أو النعش.
اكتبي طلب للوزير اطلبي النقل من القسم الموبوء ده!
صوت أبي يرن في أذني، أجلسني في يوم أمامه وجعلني أكتب الطلب، سلمته لمدير مكتب الوزير في وزارة الصحة، مات أبي ومضت ثلاثة أعوام لم يأتني الرد، كنت في مستشفى الأمراض الصدرية بالجيزة، انتقلت من القسم الباطني إلى قسم الجراحة، أحب الجراحة والمشرط في يدي كالقلم، في الدرن الرئوي لا يكون العلاج الباطني شافيا، يظل المرض كامنا في الرئة، يصحو فجأة ويقضي على المريض، في إحدى الغرف الخاصة كان يرقد شاب في الثالثة والعشرين من عمره، تخرج منذ عامين من قسم الفلسفة بكلية الآداب، لم يشتغل بسبب المرض، اسمه حنا سليمان، يجلس في شرفته المطلة على الحقول الممدودة حتى الأهرامات، في يده كتاب، عيناه شاردتان سوداوان يشتد سوادهما وبريقهما باشتداد المرض، رموشه تزداد غزارة وشعره الأسود، خصلة سوداء فوق جبهته العالية، عظام وجهه بارزة منحوتة في رأس تمثال من البرونز، جسمه نحيف يزداد نحافة يكاد يتلاشى، قميصه أبيض واسع يملؤه الهواء، كالروح تحلق فوق الأرض بلا جسد.
كنت مسئولة عنه ضمن مرضى آخرين كثيرين، حالته كانت متأخرة، صورة الأشعة تكشف الدرن في الرئتين، الأمل معدوم في الشفاء، لا أستطيع التحديق في الصورة، هل يمكن التحديق في الموت بالعينين المفتوحتين؟ مع ذلك كنت أنظر، لا أكف النظر، أحاول أن أعرف كيف تعمل جرثومة الدرن، كيف تكف الحياة في الخلايا الحية، عقلي مشدود إلى المعرفة، ظاهرة الموت تبدو معقدة، السر المغلق على نفسه، تعودت رؤية الموتى كل يوم، أصبح الموت جزءا من الحياة، مع ذلك أندهش حين يموت أمامي إنسان، كأنها المرة الأولى في حياتي، كيف تنسحب الروح من الجسد وإلى أين تذهب؟ وهل هناك شيء اسمه روح؟ من اخترع هذه الكلمة في اللغة؟!
كان الحوار يدور بيننا في شرفته المطلة على المزارع: «هناك أشياء يا دكتورة لا يمكن أن يدركها العقل، مثلا الروح، نحن لا نفهم ما هي الروح، مع ذلك نؤمن بوجودها، إذا لم يكن للإنسان روح فهو لا يعرف اليأس، الحيوان لا ييأس، اليأس صفة إنسانية، كيركجارد يقول عدم الوعي باليأس نوع من اليأس، حين أقول لست يائسا فهذا يعني أنني قهرت اليأس وأعيش في هدوء، لكن هذا الهدوء هو اليأس أو الاستسلام الكامل لليأس.»
كنت أستمع إليه، أحب الموضوعات إليه هو اليأس، أهو تأثير كيركجارد عليه أو الدرن الرئوي. - أتؤمنين بوجود الله يا دكتورة نوال؟ - منذ الطفولة، كنت أفكر كثيرا. - الإنسان يحتاج لوجود الله من أجل التوبة! - لكن هل هناك توبة بدون خطيئة ؟ - لا أعرف، هل نولد ومعنا الخطيئة؟ •••
كنت أقاوم فكرة اليأس والموت، الأرض لم تعد مسطحة بل كروية، الحياة لم تعد خطا مستقيما له بداية ونهاية، إنها أقرب إلى شكل الدائرة، تذوب البداية في النهاية بلا فاصل، كنت في التاسعة والعشرين من عمري، أقترب من الثلاثين، الرقم «ثلاثون» يبدو لي كبيرا، كأنما بلغت نهاية العمر، ماتت أمي ومات أبي، أصبحت الوصية على أخواتي القاصرات الأربع، وابنتي الطفلة، وأم إبراهيم أصبحت بديل الأم، ترعى أمور البيت وأخذت أنا دور الأب، واجبي الإنفاق والعمل خارج البيت في العيادة والمستشفى، ليالي النوبتشية كانت مرتين في الأسبوع، أقضيها في جناح الطبيبات داخل المستشفى، لنا غرف خاصة للنوم، الصالة وقاعة الطعام مشتركة مع الأطباء، كان معي زملاء وزميلات لا أذكر منهم أحدا، ملامحهم ممسوحة في ذاكرتي، كنت أشاركهم العشاء ثم أنسحب إلى غرفتي لأقرأ، ليالي النوبتشية لا أنام، أتمشى في الحديقة حول المستشفى، أخرج إلى شاطئ الترعة، الطريق المظلم يمتد بي عبر الأشجار، أمشي فوق العشب الأخضر دون أن أسمع وقعا لخطواتي، القمر في الأفق والنجوم ساكنة، مشيت إلى حافة الترعة وجلست، كان الصمت يدخل مسام جسمي كالهواء، يملؤني بحزن غامض يشبه الفرح، مرت دقائق وأنا أحدق في النجمة الثابتة لا يقهرها ضوء القمر، ثم تحرك الهواء ببطء ومعه الزمن، تحركت معه السماء والنجوم والأرض، كل شيء في الكون يتحرك يتمدد إلى ما لانهاية، ثم يتقلص ليصبح نجمتي الوحيدة الساهرة معي، وجسدي الوحيد الممدود على الأرض، عقلي يتساءل ... أتكون الأرض والسماء شيئا واحدا؟ أيكون المكان هو الزمان ولا فاصل بينهما؟
في طفولتي قال أبي إن الزمن هو الله وهو خالد إلى الأبد وموجود منذ الأزل في السماء، الله هو الثابت المطلق في حالة سكون دائم لا يتغير مثل الزمن، الأرض هي المكان المتحرك المتغير، هي الجسد الفاني الزائل، في مصر القديمة كانت «نوت» إلهة السماء، زوجها جيب كان إله الأرض، كيف انقلبت الأوضاع واصبحت الإلهة الأنثى ترمز إلى الأرض والجسد، وزوجها الإله يرمز إلى السماء والروح ؟ - يا نوااااااال، يا يا نواااااال.
صوت يناديني من السماء من بطن الأرض يشبه صوت أمي، ينقلب فجأة ليصبح صوت أبي، عيناه مملوءتان بالدموع، لم أر في حياتي أبي يبكي، أيكون هو أمي؟ تختفي الدموع المحبوسة، يدها باردة ميتة، أعرف أنها ماتت، مع ذلك أمسك يدها في يدي.
ألمح الضوء في نافذة حنا، لم يكن ينام مثلي، أراه جالسا في سريره كأنما هي آخر ليلة في حياتي، التوهج الأخير قبل الانطفاءة، كالطير الحبيس في القفص، هالة من الحزن تحوطه لها رهبة، لا أستطيع الحملقة في عينيه، لا أقوى على النظر في الموت، أخشى إن نظرت إليه أن يكف عن النظر، عيناه تنظران إلى خارج سياج العقل، تنطلق عيناه من القيود جميعا بما فيها العينان ذاتهما، أحرك يدي نحوه لأمسك يده، تتجمد ذراعي في منتصف الطريق، لا تفصلني عنه إلا مسافة نصف ذراع أجتازها في الحلم بسهولة، تصبح في الواقع كالبحر الواسع يفصلنا.
أمسك بأصابعه النحيفة القلم، كتب شيئا على قطعة من الورق، طواها وناولها لي: «الإنسان يعطي حياته للحب ثم عليه أن يموت، كان الموت ضروريا فلماذا لا أقول الحقيقة وأمضي؟ لا شيء يبدد الوهم إلا الموت، اليأس أحتضنه بين ذراعي كالأمل، والخطيئة في الحب هي الفضيلة، لا تمسحها إلا التوبة، إن راحت الخطيئة راح الله، آه يا ربي من كشف الحقيقة.»
كنت أجلس على طرف سريره وهو راقد، عيناه تتأججان بالبريق، كالنهار يولد من الظلمة، قلبي يرفرف تحت الضلوع، الحزن والفرح يذوبان في إحساس واحد، يتجاوزان قواعد المنطق، كنت حبيسة المخاوف الثلاثة: الله والخطيئة وعدوى الدرن، تضاءلت الثلاثة إلى جوار الموت، لا يرقى إلى مرتبة الموت إلا الحب، وهو مستغرق في الكتابة، أصابعه حول القلم كالوتر المشدود، كأنما هي آخر حروف يكتبها، يسعل وهو يكتب، ينساب الدم الأحمر فوق الورقة البيضاء، لا تتوقف أصابعه عن الحركة حتى يصيبه الإغماء، في ذاكرتي غرام مشبوب لفنان ينزف، يعزف البيانو وهو يموت، أكان هو شوبان؟ الملامح واحدة، خداه البارزان تكسوهما حمرة خفيفة، علامة المرض بالسل وعلامة الحب، عيناه سوداوان يكسوهما البريق، رموشه سوداء غزيرة، شعر رأسه أسود كثيف، خصلة أمامية تسقط فوق وجهه وهو يكتب، قميصه أبيض واسع يملؤه الهواء، كالروح بلا جسد، كالحب الأول وأنا في العاشرة من العمر، يعزف لحن الحلم المستحيل، أهناك علاقة بين المستحيل والحب؟!
كان معي في المستشفى زملاء أطباء، رجال أشداء متوردو الوجوه، أجسادهم قوية ممتلئة، بعضهم يحمل الدكتوراه، ودرجة الأستاذ، وعربة وعيادة وعزبة أو عمارة، ملامحهم خالية من التعبير، عيونهم بلا بريق، جفونهم بلا رموش، يهرولون من المستشفى إلى العيادة، المرضى في نظرهم أرقام في الملفات أو حالات داخل العنابر، لا أحد فيهم يقرأ الأدب أو الفلسفة أو يسمع الموسيقى، لا حديث لهم إلا عن أنواع الجراثيم وماركات السيارات، أتفادى الجلوس معهم في غرفة الأطباء، أربعة أعوام قضيتها في هذا المستشفى ليس في ذاكرتي إلا صورة هذا الشاب، أجلس على طرف سريره وهو راقد، النافذة العريضة تطل على الحقول الخضراء، تشبه الحقول أمام بيتنا في الطفولة، اللحن يسري في أذني يشبه لحن الحب الأول، الشمس تنحدر في الأفق عند الغروب، أرقب الغسق الأحمر ينتشر في السماء، تتصاعد الدقات تحت ضلوعي، أقضي الليل إلى جواره ساهرة، عند الفجر أرقب الشفق بلون الغسق، عيناي مشدودتان إلى قرص الشمس، كيف يسقط في بطن الأرض وكيف يظهر؟ يرفرف قلبي كجناحي الحمام، أفرد ذراعي عن آخرهما كالجناحين وأكاد أحلق في الجو.
من السهل جدا أن نحب، ومن الصعب جدا أن نحب، فالحب مثل الكتابة فيه السهل الممتنع أو السهل المستحيل، لم يكن في مقدوري أن أمد يدي وأمسك يده، مع أن الروح تعانق الروح، على طرف سريره كنت أجلس وهو راقد، أسمع صرير الهواء في رئتيه، لولا هذا الصرير لأفلتت مني اللحظة الحاضرة، أمسكها بيدي لأمسك الحقيقة، بيدي الأخرى أمسك جسمي قبل أن يتلاشى وأنا جالسة على طرف سريره، وجهه النحيل الشاحب ضارب إلى البياض، عيناه شاخصتان إلى السقف تلمعان، يداعب بأصابعه النحيلة القلم، يبتسم بالفرح ثم يغرقه اليأس، أنفاسه تتأرجح كالسفينة فوق أمواج البحر، أثبت عيني المفتوحتين في الجدار، أخشى إن لم أثبتهما أن يسقط جسدي من طرف السرير، أو أسقط أنا من فوق جسدي، لم يكن في مقدوري إغلاق جفوني، عيناي كالنافذة المفتوحة في مهب الرياح، والسماء كالصحراء السوداء، تلقي ظلها الثقيل على الأرض، المستشفى كالمحطة بين السماء والأرض، يعيش داخلها أحياء أموات، وجودهم معلق بين الحلم والحقيقة، نشوة الأمل واليأس، والبصاق الممزوج بالدم، يأتون ويذهبون كالمسافرين، أشعة الصدر متشابهة والسعال، والعدوى تجعل البشر كالجراثيم، والأطباء كالمرضى، والدخول كالخروج، والفضيلة كالرذيلة، لا توجد حسنات ولا سيئات، هنا تتساوى كل الأشياء، يتحقق العدل المستحيل، ينفتح القلب للحب كالزهر في الربيع.
في ساعة متأخرة من الليل قلبه يواصل النبض، لا يريد التوقف، جفوني لا تريد السقوط فوق عيني، إن سقطت جفوني أترنح كأنما أسقط في بئر، أسمعه يقول شيئا، يحرك شفتيه لينطق، كلمات لا يمكن سماعها، يلفظها في مواجهة المجهول، بعد لحظة يفتح عينيه ويسترد الحياة كأنما من أجلي فقط، يجاهد ليفتح جفونه يرفع عنها جبلا، يغدر بالموت ويفتح عينيه، يبتسم لي بزهو المنتصر، كان أملي أن يعيش وكان أملي ألا يعيش، حين استطعت الوقوف على قدمي شعرت بالانتعاش، الدم يجري في جسدي كالضوء يولد من الظلمة، خلعت معطفي الأبيض وانطلقت إلى الهواء الطلق، كنت أنجو بنفسي، أعانق الحياة بفرح لأني أعيش، تلوح لي صورته في ذاكرتي فأشعر بالإثم، تركته وحده يموت وهربت، أليست هي الخيانة للحب؟ •••
داخل الميكروسكوب أتأمل جرثومة الدرن، ألا يمكن أن أكتشف شيئا يقتل هذه الدودة الصغيرة؟! أتلفت حولي في معمل المستشفى، رفوف خالية يعلوها التراب، تشبه الرفوف في مكتبة المدرسة الثانوية، الكتب القديمة الصفراء الورق غلافها مقطوع، كالبرطمانات المشروخة الزجاج بلا غطاء، الموظف يرتدي مريلة بيضاء مبقعة بجميع الألوان، عيناه صفراوان كالمصابين بداء الوباء الكبدي: «عاوزة حاجة يا ست الدكتورة؟!» - «أيوه عاوزة أعمل بحث.»
كلمة «بحث» لم تكن واردة حينئذ، الأطباء يعالجون الأمراض، لا علاقة لهم بالبحث، قابلت مدير المستشفى يجلس وراء مكتب ضخم، لا أرى منه إلا الرأس الأصلع، تعلوه صورة رئيس الدولة داخل برواز ذهبي عريض، عيناه تتسعان تحت النظارة الزجاجية والحاجبان يرتفعان: بحث إيه يا دكتورة نوال؟ المعمل عندنا يا دكتورة يا دوب للتحاليل، والبحوث الطبية يلزمها عقول وإمكانيات مش موجودة، وعاوزة تعملي بحث عشان إيه؟ - «عشان أكتشف علاج للدرن الرئوي.»
هل نطقت شيئا خارج حدود العقل؟ لماذا يرمقني بهذه النظرة الساخرة؟ - الاكتشافات يا دكتورة تحدث في أوروبا مش في مصر، باستير في فرنسا، كوخ في ألمانيا، دارون في إنجلترا، بافلوف في روسيا، حتى البلهارسيا المرض المتوطن في مصر من مئات السنين لم يكتشفه طبيب مصري، عارفة اكتشفه مين؟ خواجة اسمه «بلهارس».
صوته يرن في أذني كنعيق البوم، ملامحه تبدو صلعاء مثل رأسه، يؤمن بتفوق العقل الأوروبي على العقل المصري، درس الجراثيم فقط ولم يدرس التاريخ: «يا دكتورة الطب في العالم بدأ في مصر، التشريح والتحنيط، ورئيسة الأطباء كانت امرأة هي الإلهة «سخمت»، الأطباء العرب معروفون في التاريخ منهم «ابن سينا» والطبيب «الرازي»، وأنا عندي عقل وممكن أكتشف شيء في الطب، إذا كنت مصرة على حكاية البحث يا دكتورة نوال اكتبي طلب على عرضحال وحطي عليه الدمغة وأنا أحوله لوكيل الوزارة، يمكن يكون لك حظ وتسافرين فرنسا، هناك معهد «باستير» تقدري تكتشفي فيه علاج للسل والسرطان وكل حاجة، يعني أنت أقل من الست مدام كوري اللي اكتشفت الراديوم؟»
كتبت الطلب وبدأت أحلم بالسفر، في الليل أحرك ذراعي وأطير فوق البحر المتوسط، أجتاز اليونان وإيطاليا وأهبط في فرنسا، لا أعرف كيف أهبط، ربما أنا داخل الطائرة، لم أركب طائرة من قبل، أراها فقط في الجو، لا يزيد حجمها عن الحمامة، كيف يدخل جسمي الفارع الطويل داخلها؟! كيف أتحول إلى نقطة سوداء داخل السحب البيضاء تذوب شيئا فشيئا؟!
لم أعرف أن وزارة الصحة مثل المستشفى، الداخل إليها مفقود والخارج مولود، لم تكن الطلبات فوق العرضحالات تخرج من الوزارة، إنها تدخل ولا أحد يعرف مصيرها إلا عفاريت الجن: «أصل السيد الوزير لازم يؤشر على الطلب يا دكتورة نوال.» - «طيب، والطلب فين دلوقتي يا أستاذ؟» - «مش عارف، المهم أنه مشي من عندي يا دكتورة، جايز يكون راح مكتب السيد المدير العام، أصله لازم يروح الأول للسيد المدير العام، بعدين يطلع للسيد الوكيل، بعد كده يروح لمكتب السيد الوزير.»
أخذت إجازة مرضية من المستشفى، الوجع في صدري يمتد من الرئة إلى القلب إلى الروح، أشعر بالتعب حين أصحو من النوم، لا يضيع الوجع إلا في الحلم، إنه طفلي المقدس، أهدهده وأنا نائمة، يتحول بين ذراعي إلى جسد دافئ ذراعاه تلتفان حولي كمياه النهر، إن هبت العاصفة يصبح شلالا يبتلعني، أفتح جفوني في الظلمة قبل أن يدمرني، أمد يدي تحت الوسادة أتحسس القلم والكشكول، دون أن أضيء اللمبة أكتب، أدفع اليأس بالكتابة، أثبت سن القلم فوق الورقة كأنما أثبت حياتي، إن لم أثبتها تفلت من يدي، يأخذها مني إله العدم، كالمحمومة ألهث وأنا أكتب، كأنما سأموت قبل أن أكمل العبارة، أريد أن أكملها وأمضي، لا يمكن أن أذهب دون أن أقولها، ما دمت موجودة فالموت غير موجود، وحين يحل بي الموت لن أكون موجودة، فلماذا لا أكتب ما أريد؟
لتذهب وزارة الصحة إلى الجحيم، لا أريد أن أبقى فيها ولا أريد السفر، كل ما أريد هو أن أحاجج الرب كما حاججه سيدنا أيوب، عندي من الصبر ما كان عنده ويزيد، فأنا ميتة والموتى خالدون، لم أدرك موت أمي إلا بعد موتها بوقت طويل، يعجز العقل عن إدراك الموت إلا بعد رحيله، أم إبراهيم كانت تقول: «السكينة سارقاكي يا ضكطورة.» الدجاجة المذبوحة لا تحس بالسكين، الموت أنواع ودرجات كالحب، كلها مصنوعة من الوهم ما عدا موت الأم.
الفصل السابع
ليس لأمي مكان في الجنة
الحزن على أمي هو أكبر حزن في حياتي، يزداد مع مرور الأيام لا يخف كالأحزان الأخرى، أدخل إلى البيت وأسير إلى غرفتها، فجأة ترتطم عيناي بسريرها الخالي، لماذا يعجز العقل عن إدراك الموت في حينه؟ أتسكن الروح المكان فترة من الوقت بعد غياب الجسد؟ لا أؤمن بانفصال الروح عن الجسد، مع ذلك أتجول في غرف البيت أبحث عنها كأنما سأجدها، أفتح باب المطبخ، ودورة المياه، والحمام، غيابها يصدمني مع أنني أعرف أنها ميتة، ملابسها معلقة في الدولاب، فستانها الحريري الأصفر ذو الحمالات، علبة البودرة، قلم الروج والمكحلة، المشط المربع من العاج، تمشط به شعرها وهي جالسة أمام المرآة، تستدير حين تراني، تميل نحوي، أمد لها ذراعي، تتحول فجأة إلى اللاشيء.
فوق الجدار صورتها داخل برواز أسود، عيناها مرفوعتان، نظرتها مستقيمة، أنفها عال، أسنانها الأمامية بارزة، جبهتها مرتفعة، خطوط وجهها واضحة محفورة لا يمسها الزمن.
كانت تحلم بالعزف على البيانو، ركوب الخيل، ركوب الطائرة واكتشاف العالم، تزوجت في الخامسة عشرة من عمرها، ماتت في الخامسة والأربعين، لم تحقق شيئا من أحلامها، كانت تصوم رمضان وتصلي أيام الامتحانات، تؤمن أن الله موجود، حين تمرض تنسى الله وتؤمن بالأطباء. •••
صوتها يناديني في ظلمة الليل: يا، يا، يا نوااال يا دكتورة مش عارفة تشوفيلي علاج، أصحو من النوم، أمشي على أطراف أصابعي حافية، لا أريد أن أوقظ أبي، كان ينام في الصالة، ترك لها السرير العريض وغرفة النوم، وجهها يطل من تحت الملاءة بلون الملاءة، أكل السرطان عظامها على مهل، الشهر وراء الشهر، السنة وراء السنة، لم تعد تستطيع تحريك ذراعيها وساقيها، أرفع جسدها لأغير الفراش المبلل. - الموت أهون يا نوال. - أنا بنتك يا ماما وجسمك هو جسمي. - لكن البول ده! لو كنت أمشي بس لدورة الميه!
أصبحت كالطفلة تبول وهي نائمة، تتأذى من بلولة فراشها، لا تطيق رائحة المرض، كانت شابة جميلة تتزين وتتعطر، ترى نفسها في المرآة أميرة، لا تخرج منها رائحة إلا معطرة، لا تعطس، إن عطست تكتم العطسة بيدها، لا تتجشأ، لا يصدر عن أمعائها صوت، جسدها لا يعرق، إن ظهرت قطرة عرق تمسحها بمنديلها الحريري، بشرتها ملساء لا ينمو عليها الشعر، إن نما تنزعه قبل أن تراه عين. - يا نوااال هاتيلي سم أشربه عشان أموت إذا كان في قلبك رحمة.
قلبي مليء بالرحمة، فهل أقتل أمي؟ هل يفيض حبي لها فأنهي حياتها؟! في الحلم وأنا نائمة أبحث عن وسيلة للقتل بلا ألم، أيمكن أن أزيد لها جرعة المورفين إلى حد الموت؟! ستموت دون أن تشعر بشيء، هل أكون إلهة الموت مثل سخمت في مصر القديمة، كانت تقبض الأرواح وتشفي المرضى، القادرة على منح الحياة والصحة هي القادرة على القتل ومنح الموت والرحمة، كانت سخمت رئيسة نقابة الأطباء القديمة، ليس في مصر اليوم نقيبة للأطباء، زميلتها «معات» كانت إلهة العدل ورئيسة القضاء منذ سبعة آلاف عام، ليس في مصر اليوم امرأة قاضية. - يا نوااال ارحميني من الألم ...
أسمع نداءها في الليل والنهار، تطلب الموت والرحمة، أصبح الموت هو الأمل، هو الحلم البعيد المنال، أيمتلئ قلب ابنتها بالحب والحنان وتحقق لها الرائحة؟
ابنتها ممزقة بين حبها لنفسها وحبها لأمها، تتردد في قتلها بجرعة زائدة من المورفين، عملية سهلة بالنسبة لطبيبة مثلها، مجرد أن تملأ الحقنة بالسائل الشفاف، تغرز الإبرة في وريد الأم وتضغط على المكبس، حركة بسيطة لا تزيد على دقيقة أو دقيقتين، لكن يدها ترتعش أصابعها مشلولة، أيحق للطبيب أو الطبيبة إنهاء الحياة إذا انعدم الأمل في الشفاء؟ ما جدوى استمرار الجسد الممزق بالألم واليأس المطلق؟ قلبها يقول لا شيء مطلق لا شيء مائة في المائة، هناك ذرة شك في كل يقين، لا يقين إلا رحمة الله أو معجزة وهذه مشكوك فيها أيضا.
وفي ليلة حين فاض بها الألم وفاض حب ابنتها لها أقدمت على إنهاء حياتها، قرار يحتاج إلى تضحية بالذات من أجل الأم، تضحية الابنة من أجل أمها لا يساويها إلا تضحية الأم من أجل أطفالها، هل كنت أرد دين الأمومة؟! وفشلت في المهمة! كان حبي لنفسي أكثر من حبي لأمي، تركتها تعيش مع الألم حتى ماتت وحدها بدوني.
حين ماتت أمي ماتت معها المدينة، أصبح الكون ميتا، ألهذا كانت الأم مقدسة أو ملعونة في الكتب السماوية؟! يوم 28 سبتمبر 1958م ماتت أمي، كتبت في مفكرتي السرية أقول: «كأنما ماتت مدينة القاهرة مع أمي، كيف تتحول المرأة إلى مدينة؟ أهي المرأة الأولى في التاريخ؟»
أبدا، ليست المرأة الأولى، مدينة بابل القديمة كانت امرأة ورد ذكرها في الكتاب المقدس، هي التي وقفت أمام الإله الذكر متحدية، أرادت أن تبني لأهلها مدينة لها برج رأسه عال، جمعت سكان المدينة، جعلتهم قوة واحدة تبني وتعمل وتتكلم لغة واحدة، لماذا أصبح الإله مهددا؟ لماذا كره العمل والوحدة بين الناس؟ لماذا حول المدينة إلى امرأة زانية وكانت هي الأم الكبرى الحانية؟! وهذه كلمات الله في التوراة: «فنزل الرب ينظر المدينة والبرج ... وقال الرب هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه، هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم بعضا، فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض، فكفوا عن بنيان المدينة؛ لذلك دعي اسم بابل، لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض.»
منذ المدرسة الابتدائية أتذكر هذه الكلمات، وأوصاف المرأة الزانية التي هي مدينة بابل، وصفها الإنجيل وصفا دقيقا حتى رسمتها في حصة الدين، امرأة طويلة فارعة القامة مثل جدتي، «تجلس على العرش في السماء تمتطي الوحش القرمزي، زنى معها ملوك الأرض وسكر سكان الأرض من خمر زناها، تقول عن نفسها: أنا جالسة ملكة ولست أرملة ولن أرى حزنا، وقد أمر الإله الرب أن يعطوها عذابا وحزنا وضربا وموتا وجوعا وأن تحترق بالنار؛ لأنه الرب الإله عيناه كلهيب النار وعلى رأسه تيجان كثيرة وهو متسربل بثوب مغموس بدم، ويدعى اسمه كلمة الله، من فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الأمم، وله على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب ملك ورب الأرباب.» •••
حين ماتت أمي لم ألبس ثوبا أسود، لم يكن عندي ثوب أسود، شغلني الحزن على أمي، لم يكن عندي الوقت لشراء الثوب الأسود، ولماذا اللون الأسود؟ يعلو الحزن فوق جميع الألوان، أرتدي ملابسي العادية لا أعرف ما لونها، لا أنظر إلى نفسي في المرآة، امتص الحزن الوقت واللغة، أصبح الصمت أبلغ من الكلام، أكثر النسوة صراخا أقلهن حزنا.
كانت هي خالتي هانم شكري، سمعتها تصرخ، من حولها أختها فهيمة ونعمات وأخريات من عائلة أمي، كانت في مقدمة الركب، مقبلة نحوي بجسدها البض داخل فستان أسود جديد من الحرير اللامع، يضيق عند الردفين ويكشف عن الشق العميق بين النهدين، عيناها مكحلتان، وظلال خفيفة فوق كل جفن، حاجباها المنتوفان مرسومان بالقلم الأسود على شكل قوسين، شفتاها مدهونتان بقلم روج «ناتوريل» طرحتها السوداء شفافة، تنحدر بميل إلى نصف الجبهة، تطل من تحتها خصلات الشعر المكوية، والحلق الألماظ يتدلى من الأذن، والعقد يحوط العنق، في يدها حقيبة يد تميل إلى اللون الداكن من جلد الثعبان، وفي قدميها حذاء من جلد الثعبان ذاته، له شريط رفيع يدور حول الرسغ، تشف نعومته من تحت جورب أسود شفاف، قدماها المقوستان تتأرجحان فوق الكعب الرفيع العالي. - يا حبيبتي يا زينب كان بدري عليكي!
بهذه العبارة كانت تصرخ، صراخها جاف تخشى على الكحل أن تذيبه الدموع، لا تكف عن الصراخ، وإن كفت تطلق تنهيدة طويلة عميقة كأنما تخرج من المبيضين، تشد عنقها إلى أعلى كالمختنقة ، تتنفس بعمق تلمع عيناها بالفرح، تشكر الله في سرها لأنه لم يأخذها إليه وأخذ أختها بدلا منها.
أرادت طنط هانم أن تدخل إلى غرفة أمي الميتة، منعتها من الدخول، أغلقت الباب دونها، لا أريد أن ترى جسد أمي العاري، كانت أم إبراهيم تغسلها، قبل أن تلفها بالكفن الحريري، وقفت وراء الباب أصد عن أمي عيون الغرباء، هذه العيون اللامعة بالفرح، تتأجج بشبق الاستطلاع، تتحرق شوقا لرؤية العورات.
لم تكن لجسد أمي عورة إلا الثدي الواحد كالإله ذي الثدي الواحد، هذا السر كانت تخفيه عن العالم، كأنما هي المسئولة عن غياب الثدي الآخر، تحشو الفراغ بالقطن كما كانت تحشو أثداء العرائس، يصبح لها مثل كل النساء ثديان، تمشي مرفوعة الرأس تختال بأنوثتها، لا أحد يراها إلا من الظاهر، لا شيء يحيرها إلا الظاهر، لا تصدقه كأنما هو الحلم، تخشى أن تفتح عينيها فتصحو.
اشتريت لأمي كفنا حريريا أخضر، علامة الموت في سن الشباب، عشرة أمتار من محل إسلام باشا في ميدان الجيزة، لفتها أم إبراهيم بعناية، كالأم تلف طفلتها، تحبس دموعها حتى لا أراها، تبتسم في وجهي: «البركة فيكي يا ضكطورة وفي السيد بيه ربنا يعينه على فراقها يا رب.»
في عربة الموت السوداء جلست إلى جوار الصندوق، يسمونه النعش، داخله أمي، لم يكن لي أن أفارقها حتى يواريها القبر، هبطت أيضا معها تحت الأرض أريد أن أرى أين تنام، مسحت التراب تحتها بكفي، نزعت الحصى وقطع الطوب الصغير، فرشت لها مهدا من الأرض الناعمة، وضعت رأسي فوق صدرها، أذني تتحسس قلبها، كأنما سأسمع أنفاسها أو الدقات تحت الضلوع، لم يكن هناك إلا الجسد النائم داخل الحرير، بلا نبض بلا حركة، أتصحو بعد قليل؟ الظلمة داخل القبر كاملة إلا من ضوء خافت، ينبعث من الثقب فوق رأسي، تطل منه طنط هانم، في يدها مقص كبير، تناوله لي، صوتها يأتيني كأنما من عالم آخر: «لازم تقصي الكفن كويس يا نوال عشان ما حدش يسرقه.»
كانت السرقة شائعة في الدنيا والآخرة، يسرقون الموتى كما يسرقون الأحياء، يفتحون المقبرة في الليل، يأخذون الكفن الحريري، ينزعون من الميت أسنانه الذهبية، يسرقون عظامه بعد أن يتلاشى اللحم، قد يسرقون الجثة كلها بلحمها وعظامها، لتستقر في بيت أحد الطلبة الأثرياء في كلية الطب. - يا طنط هانم فيه حارس بيحرس المقبرة في الليل. - حاميها حراميها يا نوال، لازم تقصي الكفن، كل الناس بتعمل كده.
كانت الفكرة هي صنع عدد من الثقوب في القماش ببوز المقص، هكذا يحدث الإتلاف للكفن الحريري ولا يصلح للسرقة، أمسكت المقص بيد ثابتة كأنه المشرط، باليد الثانية أمسكت الكفن فوق صدر أمي، رفعته عن جسدها حتى لا يصيبها المقص، ارتطم بوز المقص بصدرها فارتعشت، تصبب العرق يجري فوق ظهري وأنا متكورة داخل القبر، سمعت صوت أبي يناديني: يا نوال اطلعي، امسكي في إيدي!
رأيت ذراع أبي ممدودة إلي من فوق رأسي، كالحبل يمدونه إلى قاع البئر، ينتشلون به الغرقى، أمسكت بأصابعي الخمسة في يد أبي وصعدت إلى سطح الأرض، أنفض عن ملابسي التراب، وجهي وشعري بلون التراب، جسدي يغطيه التراب، كالموءودة يخرجونها من القبر، قلبي تحت ضلوعي لا ينبض.
في البيت أخذتني أم إبراهيم إلى الحمام، غسلت عني تراب القبر، دلكت قدمي وساقي: «خالتك هانم دي زي التعابين، ناعمة من بره ومن جوه سكين، كان لازم هي اللي تنزل وتقص كفن أختها شقيقتها بنت أمها وأبيها، وهي ست كبيرة وجامدة لكن أنت يا ضنايا لسه صغيرة، كان بدري عليكي تشوفي كل اللي شوفتيه يا ضنايا ... ربنا يعينك.»
في الليل أحاطتني بذراعيها، كنت أهذي بالحمى، راقدة في الفراش، أمد عنقي فوق الغطاء طلبا للهواء مدفونة في الأرض أبحث عن ثقب للخلاص، جسد أمي داخل الكفن معه جسدي، كلانا جسد واحد لا ينفصلان، تحوطني ذراعاها تحت الكفن ثم تتركني لتموت وحدها، ثم تعود تمسكني وتحوطني، جسمها يصبح جسمي ثم ينفصل عني، أصبح أنا وحدي وهي جسم آخر منفصل، نلعب معا تحت الكفن هذه اللعبة اللانهائية، الاتصال ثم الانفصال، ثم الاتصال والانفصال من جديد، كنا نلعبها في بحر الإسكندرية وأنا في الخامسة من العمر.
في منتصف الليل كنت أنهض من سريري، نسيت أن أمي ماتت، سمعت صوتها يناديني من غرفتها، أسير على أطراف أصابعي حتى لا أوقظها، في سريرها أبي نائم مكانها، كان ينام على الكنبة في الصالة وهي مريضة، فتح عينيه ورآني: صاحية ليه يا نوال؟ - الساعة كام يا بابا؟ - الساعة أربعة ونص يا نوال الفجر يا دوب طلع! - ياللا يا بابا نروح نشوف ماما يمكن الكفن انسرق وبقيت عريانة!
قضيت عدة ليال مؤرقة، جاء يوم الخميس ذهبت مع أبي لزيارة أمي في المقبرة، يسمونها القرافة، بالقرب من جبل المقطم اسمها «الغفير» بناها المرحوم جدي شكري بيه، من الحجر الأحمر، تشبه البيت الصغير، يحوطه حوش كبير وسور حجري، وباب حديدي صغير، له مفتاح في جيب الحارس، يرتدي جلبابا طويلا متربا ويداه مشققتان، يشبه الحانوتي وفراش المشرحة، يوم الخميس هو يوم زيارة الموتى، امتلأ الحوش الواسع بالكراسي الخيزران ، جلست عليها النسوة من عائلة شكري بيه، الفساتين الجديدة السوداء من الحرير اللامع، الطرح الشفافة الهفهافة تنحدر في أنوثة ناعمة على الجبين، الشق بين النهدين يطل من فتحة «العنق» «الدي كولتيه»، رائحة البودرة والعطور الفرنسية، كلمات عربية ركيكة تنقلب فيها الضاد إلى دال والقاف إلى كاف، تتخللها بعض كلمات فرنسية أكثر ركاكة، يتهامسن بأخبار العائلة وآخر الفضائح، فلان ماشي مع فلانة وفلان اتجوز على مراته وفلانة ماشية مع فلان، ثم تفتح الواحدة منهن فمها عن آخره وتطلق الصوت: كان بدري عليكي يا حبيبتي يا زينب!
تستريح وتسترخي في المقعد ثم تطلق التنهيدة العميقة كأنما تشدها من قاع الحوض، تطلق سراح الحزن المتراكم في جوفها، تسري التنهدات في أذني وأنا واقفة، أخشى أن أقترب وإلا أصبحت واحدة منهن، تتراخى أجسادهن بعد عدد من الصرخات، يتمدد اللحم داخل الفساتين الضيقة، تنفرج الشفاه المدهونة بالروج، تفرد كل منهن ذراعيها تتمطى، ترفع وجهها نحو السماء تتلقى شعاع الشمس، تلمع عيناها بالسعادة لأنها لم تمت وغيرها مات، ثم تنهال بأسنانها على فطيرة الرحمة تأكلها عن آخرها.
كنت آخر من غادر المقبرة، أدور حولها وأعود، هناك شيء نسيته، أبحث فوق الأرض وفي الأركان، يرمقني الحارس بعينين ضيقتين، إحدى عينيه مغلقة تماما، العين الثانية نصف مفتوحة تبربش، هل أحكم إغلاق المقبرة؟! هل تسلل في الليل وسرق الكفن رغم الثقوب بالمقص؟ أسرق أمي كلها وباعها لفراش المشرحة؟ - افتح يا عم محمد عاوزة أشوف ماما! - ما اقدرشي أفتح القبر يا ضكطورة. - ليه يا عم محمد؟ - حرام نفتح عليها، ربنا في كتابه الكريم قال ... - ربنا ما له يا عم محمد؟
تدخل أبي بيني وبينه: «يا نوال، اطمئني، عم محمد راجل طيب ولا يمكن حد يقدر يقرب من المقبرة.» خرجت مع أبي من الحوش، أغلق الحارس وراءنا الباب، يرمقني بعين مفتوحة والثانية نصف مفتوحة تبربش، كانت له عين مغلقة تماما فكيف انفتحت؟ الشكوك تملؤني، أستدير وأنا أمشي لأرمق الباب الحديدي الصغير، أتوقف لحظة كأنما سأعود، يحثني أبي على مواصلة السير، أمشي إلى جواره حتى نهاية الزقاق، أستدير وألقي نظرة على الباب المغلق كأنما سيفتح، كأنما الباب فعلا سيفتح وتخرج أمي عارية الجسد بلا كفن، أطرد الصورة عن عقلي وأسير إلى جوار أبي، خطوتي ثقيلة، والباب الحديدي لا يزال في عيني، في النوم أفتح الباب وأدخل، أحفر الأرض وأقفز داخل الثقب، أسقط في البئر فوق قدمي كما تسقط القطط، كانت المقبرة غويطة أكثر مما كانت، مظلمة شديدة الظلمة، سقفها منخفض، أحني ظهري وأنا أمشي، ذراعي ممدودة أمامي، في يدي كشاف أبحث بين الجثث عن أمي، عدد كبير من الموتى الملفوفين في الأكفان القديمة، رأيت المرحوم جدي والمرحومة جدتي وجميع الرجال والنسوة من عائلة شكري بيه، دست بقدمي على جمجمة تشبه الجمجمة الموجودة فوق مكتبي، لها شارب طويل يشبه شارب جدي، كدت أنكفئ فوق وجهي، لمحت كفن أمي الحريري الأخضر، ولمعة الحرير الجديد، ولأنني أعرف شكل جسد أمي، استداراتها الخاصة عند الكتفين والردفين، الثدي الغائب ناحية اليسار فوق القلب، نفضت الغبار عن صدرها الناعم، أحكمت الثوب الحريري الأخضر حولها، أغلقت النافذة والباب حتى لا تصاب بالبرد، تركتها نائمة وأطفأت النور. ••• - ماما رايحة الجنة يا نوال، الجنة تحت أقدام الأمهات.
صوت أبي يكلمني حين أفكر في مصير أمي، لم أعد طفلة أصدق كل ما يقوله أبي، أنا في السابعة والعشرين من عمري، طبيبة متعلمة، أعالج الأمراض، أعرف أن الموت حقيقة مثل الجسد، والجسد إن ذهب ذهبت معه الروح. - وأين تذهب الروح حين تذهب؟!
من هذا السؤال بدأت رحلتي الطويلة داخل الخضم المقدس، المحاط بالغموض والتناقض، المتسربل تحت اسم صاحب الجلالة، أول الرحلة هذه العبارة من أربع كلمات «الجنة تحت أقدام الأمهات.» قال أبي إنها حديث من أحاديث الرسول - عليه الصلاة والسلام - بدأت أبحث في الأحاديث النبوية عن حقوق الأمهات في الجنة، لم أكن أبغي إلا الاطمئنان على مصير أمي، لم أتصورها داخل النار، عاشت وماتت من أجل زوجها وأطفالها التسعة، اشتغلت من أجلهم الليل والنهار بلا أجر إلا طعامها، خرجت من بيت أبيها إلى بيت الزوجية وهي طفلة، ماتت في عز الشباب، لم تعرف في حياتها رجلا غير أبي، أخلصت له منذ ليلة زفافها حتى ليلة موتها، لم تشرب الخمر، لم تلعب الميسر، لم تدخن سيجارة واحدة، لم يكن لها أصدقاء رجال أو نساء، قضت عمرها ما بين غرفة النوم والمطبخ، ألا تستحق بعد كل ذلك أن تدخل الجنة؟!
في مكتبة أبي عثرت على مجلدات تحوي أحاديث الرسول محمد، كلها أحاديث صحيحة عن السيدة عائشة - رضي الله عنها - وعن الرواة من الصحابة والذين سمعوا الأحاديث من فم الرسول مباشرة دون وسيط، كانت هناك أحاديث مكذوبة يعرفها أبي، يعلم عليها في هامش الكتاب، يكتب بخط يده «هذا الحديث عن أبي هريرة وهو حديث مكذوب.»
نشأت فكرة الحياة بعد الموت قبل الأديان السماوية الثلاثة، بدأها قدماء المصريين من الفراعنة، تصوروا أن الجسد حين يموت تخرج منه الروح، إن الروح الصالحة المطيعة لفرعون تذهب إلى دار النعيم، مع الملائكة والملوك والأمراء، الروح المتمردة العاصية تذهب إلى دار الجحيم مع الشياطين والعبيد من النساء والرجال.
كان فرعون هو الحاكم فوق الأرض وهو أيضا الحاكم بعد الموت، هو الذي يحدد من يذهب إلى الجنة ومن يذهب إلى النار.
اندثر الكثير من أوصاف الجنة والنار عند قدماء المصريين، إلا أن النعيم في الجنة لا يختلف كثيرا عما جاء في الكتب السماوية، الفاكهة اللذيذة والأرائك المريحة والأنهار تجري بالمياه العذبة والعسل الشهي واللبن الطازج، والخمر تجري كالأنهر داخل كئوس من الفضة والذهب، بعد شرب الخمر تأتي نشوة الجنس، هناك ترابط بين لذة فقدان العقل واللذة الجنسية.
عثرت بين أحاديث الرسول على حديث يصف الحياة في الجنة على نحو تفصيلي، أدهشتني التفاصيل الخاصة باللذة الجنسية، وهي لذة قاصرة على الرجال، يشتمل الحديث على هذه الفقرة، تصف علاقة الرجل في الجنة بالحوريات العذراوات ولكل رجل اثنتان وسبعون حورية.
يدخل على الأولى في غرفة من ياقوتة على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ عليه سبعون زوجا من سندس وإستبرق، وإنه ليضع يده بين كتفيها ثم ينظر إلى يده من صدرها، ومن وراء ثيابها وجلدها ولحمها وإنه لينظر إلى مخ ساقه كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت، كبده لها مرآة يعني وكبدها له مرآة، فبينما هو عندها لا يملها ولا تمله ولا يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء، ما يفتر ذكره ولا يشتكي إلا أنه لا مني ولا منية، فبينما هو كذلك إذ نودي: إنا قد عرفنا أنك لا تمل إلا أن لك أزواجا غيرها، فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة كلما جاء واحدة قالت: والله ما في الجنة شيء أحسن منك وما في الجنة شيء أحب إلي منك. •••
أتقلب في الفراش مؤرقة، في الحلم أرى أمي تمشي في الجنة وحدها، ماتت في الخامسة والأربعين أما لتسعة من العيال، ليست حورية عذراء ولا تريد أن تنقلب بعد كل هذا العمر إلى فتاة صغيرة بلهاء تقف في الطابور الطويل ضمن اثنتين وسبعين عشيقة لرجل واحد، تنتظر دورها لتدخل حيث يفض بكارتها وهي تبكي بالألم، وما إن يتمزق غشاؤها حتى يخلق الله لها غشاء جديدا، لا يلبث أن يتمزق مع الألم ليعود سليما من جديد، وهكذا يستمر عذاب الحوريات في الجنة، لا يقل عذابهن عمن دخلوا النار، كلما احترقت جلودهم يخلق الله لهم جلودا جديدة لا تلبث أن تحترق ثم تعود سليمة من جديد، ويستمر العذاب الأبدي دون انقطاع.
سألت أبي ذات يوم: «أليس سيدنا محمد هو الذي قال: الجنة تحت أقدام الأمهات؟ لماذا إذن لم يرد حديث واحد له عن حقوق الأمهات في الجنة؟ لماذا لم ترد فقرة واحدة في القرآن أو التوراة أو الإنجيل عن حقوق النساء في الجنة؟»
موت أمي جعلني أفكر في حياتها داخل الجنة، عقلي لا يكف عن التفكير في هذا الموضوع، أعيد قراءة القرآن من الغلاف إلى الغلاف، لا شيء عن حقوق أمي في الجنة، كيف تكون الجنة تحت أقدام أمي؟ أتنقلب فتاة عذراء في ذلك الكابوس المرعب لإشباع شهوات الرجال؟! لا عمل لهم إلا شرب الخمر وممارسة الجنس مع أعداد غير محدودة من العذراوات البيضاوات البشرة؟!
كانت بشرتي سمراء بلون بشرة أبي وجدتي الفلاحة، ساورني الهاجس: أيقلب الله بشرتي فتصبح بيضاء بمثل ما يقلب أمي لتصبح عذراء؟
استمر البحث طويلا دون جدوى، لم أعثر في الجنة على حقوق للنساء إلا حديث لأحد الفقهاء يقول: «ليس للمرأة في الجنة إلا زوجها.»
إذن لا بد لأمي أن تنتظر في قبرها حتى يموت أبي، لا يزال أبي مملوءا بالقوة والصحة، جسمه ممشوق كما كان، خطوته فوق الأرض لم تتغير، أصابه الحزن بعد موت أمي، ارتدى ربطة عنق سوداء، بعد أربعين يوما نزع من عنقه علامة الحداد، بدأ يهتم بهندامه، يقف أمام المرآة يسرح شعره يقصقص شاربه، يضع قطرات ماء الكولونيا تحت إبطه.
في قبرها كانت أمي تنتظره، ليس لها في الجنة إلا زوجها، الإخلاص الزوجي مفروض عليها في الدنيا والآخرة، تصعد أمي إلى الجنة بقلب ثقيل، تجلس وحيدة على السندس الأخضر.
تنتظر موت أبي، مات أبي بعدها بأربعة شهور فقط لحسن حظها، فرحت بموته، أسرعت إليه مفتوحة الذراعين، صوتها يتألق: «أهلا يا سيد أخيرا نجتمع في الجنة.»
هنا أتوقف قليلا لأشرح موقف أبي، إنه رجل صالح مؤمن بالله والرسول، أخلص لأمي في الدنيا رغم أنه له الحق في أربع نساء، ها هو في الجنة له الحق في اثنتين وسبعين عذراء فهل يخلص لأمي؟
لم يكن الإخلاص الزوجي مطلوبا منه في الدنيا فما بال الحياة الأخرى في الجنة؟ وإذا كان الله والرسول قد منحاه كل هذا العدد من الحوريات فلماذا يخلص لأمي؟ وماذا تفعل أمي في الجنة إذا انصرف عنها رجلها الوحيد؟
منذ موت أمي وأنا أكتب القصة، أعطيتها عنوان «ليس لأمي مكان في الجنة»، بعد أن ينصرف عنها أبي إلى العذراوات تفكر أمي في العودة إلى الأرض، ربما تكون الأرض أفضل لها من الجنة، على الأقل كان زوجها مخلصا لا يخونها إلا في الحلم بالجنة.
قرأت القصة في الندوة الأدبية، كل أربعاء كانت الندوة تنعقد في عيادتي بميدان الجيزة، يحضرها عدد من الأدباء والشعراء ، كانت هناك نهضة أدبية في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات مع النهضة السياسية، كنا في ربيع العمر نتغنى بمبادئ الاشتراكية الجديدة، العدل والحرية وتكافؤ الفرص، مجموعة من الشباب والشابات، أطباء وطبيبات، أدباء وأديبات، شعراء وشاعرات، صحافيون وصحافيات، يملؤنا الأمل في المستقبل، شاركنا أيام الدراسة في المظاهرات الوطنية وإسقاط الملكية، إن عهد الجمهورية أمامنا، نشارك في صنعه، لنا دور في بناء المجتمع الاشتراكي الجديد.
كانت الندوات الأدبية لا تكف، نادي القصة في شارع قصر العيني، دار الأدباء، في الصحف والمجلات الجديدة تعقد الندوات، في وسط البلد في شارع شريف كان يحيى حقي يرأس تحرير مجلة أدبية جديدة، اسمها «المجلة» وفي مبنى روز اليوسف أحمد بهاء الدين يرأس تحرير مجلة الشباب الجديدة اسمها «صباح الخير»، وفي عيادتي كل أربعاء يجتمع شمل الأصدقاء والصديقات والزملاء والزميلات في مجال الطب والأدب.
بعد أن قرأت قصتي القصيرة «أمي ليس لها مكان في الجنة» دب الصمت، كان أحمد بهاء الدين حاضرا تلك الندوة، مر عليه يوسف إدريس بسيارته الصغيرة الفولكس فاجن، تركب إلى جواره أهداف محمود ، صحافية جديدة تتدرب في روز اليوسف، كانت صديقة لبهاء وهو رئيسها في المجلة، تتقرب منه بشكل ملحوظ، ترمقه بعينين صغيرتين غارقتين في الكحل مملوءتين بالإعجاب، ما إن ينطق كلمة حتى تصيح بصوت رقيق: «أيوه يا بهاء كلامك مظبوط.» يبتسم لها بشيء من الخجل، يتحرج من إعجابها به أمام الناس، يتفادى الجلوس إلى جوارها، يختار المقعد بجوار يوسف إدريس أو صلاح عبد الصبور أو صلاح جاهين، أو عبد الحليم عبد الله، أو أي رجل آخر، ينهمك معهم في الحديث عن جمال عبد الناصر وأنور السادات وكمال الدين حسين وغيرهم من رجال الثورة. - القصة دي يا نوال لا يمكن نشرها في المجلة إلا بعد مئة سنة إن شاء الله. - ليه يا بهاء؟ - موضوع الدين حساس جدا في بلدنا.
أكثر المتحمسين كان صلاح عبد الصبور، أعجبته الفكرة، يميل إلى الصمت في معظم الأحيان، بشرته سمراء بلون طمي النيل، عيناه واسعتان هادئتان لا تكشفان التمرد في أعماقه، رأيته ينهض واقفا ويقول: «نوال السعداوي مسكونة بإرادة شيطانية لتسمية ما لا يمكن تسميته، أتوقع أن يشنقوها في ميدان التحرير لو نشرت هذه القصة!»
ضحك يوسف إدريس بصوته العالي، يقهقه ملقيا برأسه إلى الوراء، يعاكس أحمد بهاء الدين بنوع من التحدي: «أنا لو مكانك يا بهاء لنشرت القصة وليكن ما يكون، يا جماعة لازم نتحدى الرقابة ونكسر التابوهات!»
انفعل أحمد بهاء الدين: «طبعا يا يوسف اللي على البر شاطر، لو كنت أنت رئيس التحرير لا يمكن تنشر قصة زي دي، وأنا في المجلة كسرت تابوهات كثيرة، وأنت عارف كده يا يوسف! وأنا أول واحد في مصر نشر لنوال السعداوي، مع أن قصصها عبارة عن قنابل زمنية، فاكرة الرسالة اللي بعتها لك بالبريد وإنت في طحلة؟!» - طبعا فاكرة.
كانت رسالته مشجعة رغم أنه اعتذر عن نشر قصة مسعودة والعفريت، كنت أعاني حالة من الإحباط والحزن، منذ رأيتهم ينتشلونها من النيل، في الليل أرى جثتها راقدة إلى جواري في السرير، جاءتني الرسالة في البريد من أحمد بهاء الدين:
عزيزتي الدكتورة نوال السعداوي
أود أن أشكرك على هذه القصة البديعة، فهي جديدة تماما شكلا ومضمونا، إلا أنني لا أستطيع للأسف نشرها في المجلة، هناك اعتبارات خارج نطاق وضعي كرئيس التحرير، وأرحب بلقائك حين تأتين إلى القاهرة، عندنا أطباء يكتبون القصة القصيرة منهم يوسف إدريس ومصطفى محمود، أما الطبيبات فلا أعرف طبيبة تكتب القصة في مصر إلا أنت، ويسعدني التعرف عليك وأن ترسلي إلينا إنتاجك بصفة مستمرة.
الرسالة مكتوبة بخط اليد، حروفه صغيرة دقيقة لا تكاد ترى فوق السطر، تنم عن الحذر والدقة، تخيلته رجلا صغير الحجم صغير اليدين والقدمين، خطواته فوق الأرض حذرة، يتردد قبل أن يكتب.
حين التقيت به لأول مرة تطابقت الصورة في خيالي مع الحقيقة، رغم ذلك صدمتني الحقيقة، قامته بدت أقصر مما توقعت، نظارته الطبية تجعل له ملامح الأطباء وليس الأدباء، من وراء العدستين تكسو عينيه لمعة ذكاء، وشيء من الدهاء.
منذ التقيت به في أوائل 1957م حتى مات في عام 1996م أصبح أحمد بهاء الدين أحد أصدقائي، كان يمتلك حاسة أدبية عالية، شديد الحساسية إلى حد المرض، نختلف ونتفق، تمر الأعوام العام وراء العام دون أن نلتقي، فإذا التقينا دار الحوار بيننا كأنما لم ينقطع، كان في نظري أديبا ضل طريقه إلى الصحافة.
أحيانا كنت أنسى أنني طبيبة، يستهويني الأدب، تتغلب الأديبة على الطبيبة، إلا أن الصديقات والأصدقاء لا ينسون، ما إن يشكو أحدهم أو إحداهن المرض حتى يصبح فوق سرير الفحص، خاصة أحمد بهاء الدين، كان يتوهم المرض دون أن يعرف أين يكون، أضع السماعة فوق قلبه لأسمع الدقات القوية تشق طريقها عبر القفص الصدري، يتطلع نحوي وهو راقد كأنما يراني لأول مرة، يضحك بصوته الخافت الخجول: ما كنتش أعرف إنك دكتورة بصحيح يا نوال!
في درج مكتبي الأسفل رقدت قصتي القصيرة «ليس لأمي مكان في الجنة»، ثلاثون عاما رقدت القصة كالجثة الهامدة، لم تكن في مصر مجلة واحدة تستطيع نشرها، عثرت عليها بالصدفة في بداية عام 1982م بعد خروجي من السجن، كنت أبحث في أوراقي القديمة لأكتب كتابي الجديد بعنوان «مذكراتي في سجن النساء»، أطلت علي قصة أمي من بين الأوراق، انتشلتها من العدم، حذفت بعض العبارات التي تمس المحظورات، جعلت البطلة امرأة فقيرة سمراء لا تشبه أمي، فيها ملامح جدتي، تحلم بالجنة، وهي تسير تحت قرص الشمس في لهيب الصيف، مات زوجها وهي في ريعان الشباب، فأخلصت له في موته كما أخلصت في حياته، لم يمسسها رجل إلا زوجها، في القبر بعد موتها كانت تحلم بلقائه في الجنة، بعد أن صعدت إلى الجنة راحت تبحث عنه لم تجده في أي مكان، رأت بابا مغلقا تتسرب من ورائه تأوهات رجل ينتشي باللذة، دفعت الباب بلا صوت، رأت زوجها عاريا في السرير مع واحدة من الحوريات، وطابور طويل من الفتيات واقفات ينتظرن دورهن، أغلقت المرأة الباب بلا صوت وعادت إلى الأرض، انتهت القصة. - إيه الفرق بين الفنان والشخص العادي يا رجاء؟ - الفنان يتجاوز حدود المناطق المحرمة ولا تهمه النتائج. - إيه هي المناطق المحرمة؟ - الثالوث إياه الدين والجنس والصراع الطبقي.
هذا الحوار يدور بيني وبين رجاء، إنه يفاجئني أحيانا بهذه العبارات المضيئة، يقف في صفي حين يشتد الصراع في الندوات.
يساندني في لحظات الانطلاق وراء الحدود المسموح بها، يميل إلى السخرية أحيانا: «تصوري نفسك يا نوال واحدة من اتنين وسبعين فتاة واقفة في الطابور على باب حمار مالوش شغلة غير تمزيق الأغشية؟!» - يبقى جهنم أحسن من الجنة يا رجاء!
رغم السخرية أشعر بالمرارة، في أعماقي بقايا إيمان بالحياة بعد الموت، أتوقف عند هذا الرقم اثنتين وسبعين، لماذا هذا الرقم بالذات؟ وكيف يتمدد خيال الرجل الجنسي إلى هذا الحد؟! اثنتين وسبعين امرأة في ليلة واحدة وخيال المرأة يتقلص إلى 72 / 1 من الرجل!
كان «رجاء» شاعرا يؤرقه كثير من الأسئلة مثلي، في خياله امرأة واحدة لا يريد إلا هي، أحيانا أسأله: مين هي يا رجاء؟ يبتسم: «مش عارف اسمها، يا ريت أعرف اسمها، كلما امتلكنا القدرة على تسمية الشيء زادت سيطرتنا عليه.»
كان يطوف المكتبات بحثا عن الكتب ، كتب قصيدة عنونها «حواء ومريم العذراء»، كانت أمه ممثلة معروفة ماتت في حادث غامض وهو طفل صغير، كانت أيام الحرب في الأربعينيات، في الإسكندرية وقت ضربها بالقنابل، في الشرفة المطلة على الميناء كان البحر ينتفض تحت النيران، أمه واقفة ظهرها ناحيته، كانت تبكي، أبوه يدفعها من الخلف، لا يرى من أبيه إلا ظهره العريض الطويل، داخل الجلباب الأبيض، يشده من ذيل جلبابه «بلاش تزء ماما يا بابا!» يستدير أبوه نحوه بوجه رجل غريب «اسكت أنا مش أبوك!»
يتوقف رجاء عند هذه الذكرى، لا يعرف بالضبط ماذا حدث، هل ألقت أمه نفسها من الشرفة؟ هل أبوه هو الذي قتلها؟ لماذا كان ينظر إليه بتلك النظرة الغريبة ويقول: أنا مش أبوك؟ قبل أن تسقط أمه من الشرفة يسألها: مين بابا يا ماما؟ حوطته بذراعيها وهي تبكي: «أبوك هو ده يا حبيبي» في أعماقه كان يحس أن هذا الرجل الغريب ليس هو أباه. - عاوز أقولك حاجة غريبة أوي يا نوال. - إيه يا رجاء؟ - وأنا طفل كنت أمشي على شط البحر أبحث عن أبي في وجوه الرجال، وفي البيت أشوف أبويا كأن له وجهين، وجه حقيقي هو أبويا ووجه تاني هو زوج أمي، كانت أمي فنانة، أنا ورثت عنها كل صفاتها، كانت أمي شريفة لكن أي فنانة في بلدنا لازم تكون غير شريفة، أبويا كان ياخد فلوسها يصرفهم على واحدة تانية في سيدي بشر، ويرجع البيت يضربها ويقول إنها مش شريفة، كرهت أبويا وفكرت إني أقتله، كان عمري تسع سنين، كراهية أبويا هي اللي أوحت إلي بقصيدة «حواء ومريم العذراء»، كانت أمي في نظري وأنا تلميذ في المدرسة الابتدائية زي مريم العذراء بالضبط، لم يمسسها بشر إلا روح طاهرة من عند الله، مع ذلك أبويا يقول عليها ساقطة، زي أمها حواء.
أكاد أفهم ما يعنيه رجاء ولا أفهمه، تنتابني رغبة ملحة في المعرفة، كيف تحولت حواء في التاريخ إلى مريم العذراء؟ ما علاقة اللذة الجنسية عند المرأة بالمعرفة والإثم؟ كيف هبطت نوت إلهة السماء لتصبح فوق الأرض حواء الآثمة؟
كان رجاء مثلي مسكونا برغبة المعرفة الآثمة، يريد أن يعرف كيف ماتت أمه، منتحرة أم مقتولة؟ قبل أن يرى المعركة بين أبيه وأمه كان يؤمن بالله والخير، أبوه كان هو الله والخير، ثم رأى المشهد العجيب، أبوه يضرب أمه حتى تنزف الدماء من أنفها، يدفعها من الخلف لتسقط من الشرفة، أكان حلما أم حقيقة؟ أمه ماتت وهو طفل، قالوا إنها ألقت نفسها من الشرفة، أبوه قال له: أنا مش أبوك، انقلبت السماء على الأرض منذ ذلك اليوم، أصبح للإله صورة أخرى، هي النقيض، كان يبحث مثلي عن الإلهة الأم، كيف اختفت الإلهة الأنثى من التاريخ، كيف تحولت الأم الطاهرة إلى الزانية الساقطة؟! الأسئلة الطفولية كانت تلح عليه، تحولت في شبابه إلى قصائد شعر، كان يقرؤها علينا في ندوات العيادة. - من حواء إلى مريم العذراء كان التحول. - في الأدب والشعر والدين. - كان الخيال سليما في الحضارة القديمة. - والروح داخل الجسد داخل العقل. - انفصلت الروح منذ مقتل الأم. - وانفصل خيال الرجل. - أصبح أبي يقول لنفسه: أنا والله واللذة والشرف. - وأمي تقول لنفسها: أنا الشيطان والألم والعار. - انحدرت من ربه المعرفة. - إلى العذراء بلا شهوة. - من مبدأ اللذة إلى مبدأ الألم. - سقطت جميع الأمهات. •••
أصبح رجاء صديقي الوحيد بين الرجال، كان لي أصدقاء كثيرون، أطباء وفنانون وأدباء، لم يكن فيهم من يتحدث معي مثل رجاء، كلهم ذكور يتطلعون إلى الجالس في مقعد الحكم، يتطلعون إلى الطبقة العليا وإن تكلموا على الاشتراكية والعمال والفلاحين. يقسمون النساء إلى فئتين اثنتين: (1) عشيقات ملتهبات بالشهوة والعار. (2) زوجات باردات بالاحترام والأمومة.
كنت في الثلاثين من عمري في أوج الشباب، طبيبة وأديبة معروفة، ممشوقة الجسم فارعة القامة، الرجال من حولي كثيرون كالذباب، ينجذبون إلى المرأة الحرة بلا رجل، خيالهم عاجز عن رؤية المرأة، هي في نظرهم واحدة من اثنتين: (1) زوجة مملوكة لرجل واحد. (2) امرأة حرة مملوكة لجميع الرجال.
الخيال العاجز منذ التحول في التاريخ، يتنافسون من حولي على نحو عجيب، يفكرون في أسرع الطرق للوصول إلى غرفة النوم.
كان عقلي أمامهم كالباب الموصد، يسد عليهم الطريق، يحول بينهم وبين جسدي، كلمة عشيقة ترن في أذني مهينة، كلمة زوجة لا تقل مهانة، لم يكن لرجل أن يتملكني وإن كان رئيس الدولة، لا أمسح اسمي لأحمل اسمه وإن كان هو الإله المعبود.
الفصل الثامن
موت أبي
بعد موت حنا لم أعد أؤمن بالعلاج الباطني، انتقلت إلى قسم الجراحة بمستشفى الأمراض الصدرية بالجيزة، تدربت على العمليات الصعبة، أصابعي الطويلة رفيعة عظامها قوية، هي الأصابع المطلوبة للإمساك بالمشرط، أساتذة الجراحة يتساءلون: كيف تكون المرأة جراحة؟ هذا المجال للرجال الذكور مثل الجزارة، لم أفهم ما الفرق بيني وبين زميلي الطبيب، أصابعه ترتعش حول المشرط وأصابعي ثابتة، أفتح الضلوع دون أن يطرف لي جفن، أستأصل فص الرئة المصاب بالدرن أو الرئة كلها إن كانت مصابة، يعيش الإنسان برئة واحدة حياة طبيعية، الجسد له قدرة خارقة للتعويض عما يفقده.
عامان قضيتهما داخل غرفة العمليات، في بحور من الدم، لا تفارقني الرائحة حتى في النوم، رائحة الإثير واليود وأنفس المرضى، أقف في اليوم الواحد سبع ساعات، أقطع في لحم الناس، تورمت قدماي من طول الوقوف، أصابتني الآلام في العمود الفقري، عاد إلي الشحوب والهزال، يؤرقني الألم، أسعل طول الليل، يأتيني صوت أبي الميت من بطن الأرض «اشربي الدوا يا نوال.» تفتح أم إبراهيم عينيها من عز النوم، أكانت تسمعه هي الأخرى؟ تسقيني اللبان الدكر المغلي، تضع قدمي في الماء الساخن والملح، تدلكهما بين يديها الكبيرتين: «حرام عليكي نفسك يا ضكطورة ريحي جسمك شوية.» - «يا ريت يا أم إبراهيم آخذ إجازة لنهاية العمر، مش عاوزة أشوف عيانين، مش عاوزة أشوف دم، مش عاوزة أروح المستشفى، مش عاوزة أروح العيادة، عاوزة أكتب أكتب أكتب وبس!»
أجهشت بالبكاء وأنا أصرخ: «عاوزة أكتب أكتب أكتب وبس! كان غلط إني أدخل الطب يا أم إبراهيم! خلاص مش عاوزة أروح المستشفى!»
هل كنت أمزق شعري وأنا أصرخ، حاطتني أم إبراهيم بذراعيها كالأم تحتضن طفلتها، صوتها القوي يرن في رأسي: «بلاش تروحيها يا ضكطورة، تروح المستشفى في ستين داهية!»
تشوح بيدها في وجه القضاء والقدر: «في ستين داهية المستشفى.» صوتها يشبه صوت جدتي الفلاحة، كفها الكبيرة وهي تشوح في وجه العمدة، صوت أبي وهو يلقي بالتقرير في وجه الناظر: «في ستين داهية وظيفة الحكومة!»
هذه اللحظة يصحو العملاق الراقد في أعماقي ينتفض واقفا متأهبا لفعل أي شيء، تتملكني قوة خارقة للعادة، يلتحم جسدي مع روحي مع عقلي في كيان واحد، عاقل ومجنون، من النار والطين، إرادة شيطانية أو إلهية، أيهما أقوى، روح أبي الميت تنهض، روح أمي في قبرها تصحو، روح جدتي وأمها الغزاوية والعامرية التي تمردت على رسول الله ونفرتيتي وحتشبسوت وعشتار وتوت وإيزيس حتى الآثمة الأولى حواء، كلهن يتجمعن داخل جسدي في روح واحدة يستحضرها صوت أم إبراهيم وهي تشوح بكفها المشققة الضخمة في وجه العفاريت الجن: «في ستين داهية الدنيا والآخرة كمان.»
لحظة الاستغناء المطلق، الانعتاق الكامل، تكررت هذه اللحظة في مراحل مختلفة من حياتي، أنقذني الاستغناء من الاستعباد، ينطلق صوتي عاليا يصل إلى السماء: في ستين داهية الدنيا والآخرة، أنا حرة أعمل اللي أنا عاوزاه واللي يحصل يحصل! - الساعة سبعة يا ضكطورة والنهاردة سبعة في الشهر والمرحومة أمي كانت دايما تقول السبعة كلها خير وبركة.
تفاءلت بالرقم سبعة كأنما بالعدوى، نتيجة الحائط تشير إلى يوم السبت سبعة من شهر سبعة «يوليو» عقارب الساعة تشير إلى رقم سبعة.
أهي مجرد صدفة أم حلقة متصلة في التاريخ منذ آلاف السنين؟! ولماذا كان رقم سبعة مقدسا؟ في مدينة بابل القديمة كان عدد الآلهة سبعة، في مصر القديمة كانوا يغنون للسبع سواقي، السماوات عددها سبعة والأرض من سبعة طوابق، أعمار الإنسان سبعة، والخطايا السبعة، وفي التوراة قتلت سارة ابنة طوبيا أزواجها السبعة، وفي الإنجيل المرأة في السماء لها سبعة رءوس، وسيوف الحزن السبعة في قلب العذراء، وفي القرآن السبع بقرات والسبع سنابل خضر ويابسات، والبحر يمده الله سبعة أبحر، ويمتد التقديس من سبعة إلى سبعين، فالمسيح له سبعون تابعا ، وفي الجنة لكل رجل اثنتان وسبعون حورية عذراء. •••
هذه اللحظة كنت واقفة أمام المرآة، عيناي تتأججان بالبريق، ابتسامة تحوم حول شفتي في استحياء: هل أؤمن بأساطير الأولين؟! أيمكن أن أتفاءل بالرقم سبعة مثل أم إبراهيم؟
رفعت وجهي إلى ساعة الحائط، إنها السابعة وسبع دقائق بالضبط، تضاعف التفاؤل ومعه البريق اللامع، اندفعت إلى الشارع بقوة ليس لها اسم، ركبت الأتوبيس، وجدت نفسي داخل وزارة الصحة في شارع مجلس الأمة، واقفة بقامتي الفارعة المشدودة في قلب مكتب الوزير. - لازم أقابل الدكتور نور الدين طراف دلوقتي حالا! - حاضر يا فندم!
انتفض مدير المكتب واقفا، لم يسمع هذا الصوت من قبل.
هذا الصوت لا يصدر عن الموظفين في الحكومة أو الموظفات، وليست هي لهجة الأطباء أو الطبيبات، ولا هي لهجة الضيوف من خارج الوزارة، صوت ينم عن جسارة لم يعرفها في النساء أو الرجال.
قامتها المرفوعة وعيناها المشتعلتان بنار سوداء، أتكون مبعوثة من مكتب رئيس الجمهورية؟! حركتها توحي أنها قادمة لتوها من عند جمال عبد الناصر. - أقول له مين يا فندم؟ - الدكتورة نوال السعداوي.
نطقت الاسم كأنما هو اسم إلهة السماء نوت، روح الإلهة الأنثى هي التي نطقت الاسم، هي التي تحمل رأسي عاليا فوق عنقي، لعبت دور الإلهة إيزيس على خشبة المسرح في المدرسة الابتدائية، لم تغادر جسدي روحها الإلهية، ترقد في السرداب العميق بين القلب والحجاب الحاجز، إن أقلقها شيء تهب من نومها كالمارد يستيقظ. - اتفضلي يا فندم استريحي دقيقة واحدة، السيد معالي الوزير عنده ضيوف أجانب، أول ما يخرجوا حاديله خبر إن سيادتك موجودة، تحبي تشربي إيه؟! - فنجان قهوة مضبوط!
دق الجرس إلى جوار مكتبه، ظهر على الفور الساعي، رجل عجوز يرتدي بدلة صفراء باهتة، أزرارها واقعة، ظهره محني، وجهه متغضن يشبه المومياء، أكان ساعيا منذ نشوء أول حكومة مركزية في عهد الملك مينا؟ - فنجان قهوة مضبوط لسعادة الدكتورة. - حاضر يا فندم.
الغرفة طويلة ضيقة نوعا ما، تشبه الغرف في القطارات، الكراسي من نوع «الفوتيي» الكبير، وكنبة طويلة تبتلع الغرفة، المكتب ضخم يحتل المساحة الباقية، حجم مدير المكتب ضخم أيضا، ليس فارع القامة لكنه ممتلئ باللحم، محشور في المقعد وراء المكتب، رأسه كبير أصلع، تعلوه صورة لجمال عبد الناصر داخل برواز ذهبي، لا تكف الأجراس عن الرنين، يرفع السماعة ويرد قبل أن يسمع الصوت عبر الأسلاك: أرجوك كلمني بعد ساعة مشغول دلوقتي! يرفع سماعة أخرى: حاضر يا فندم حالا يكون التقرير عند سعادتك! ويرن جرس آخر فإذا به ينتفض واقفا، يرفع السماعة بيد مرتعشة: حاضر يا معالي الوزير!
ينزلق جسده من وراء المكتب كالصابونة أو الشعرة تخرج من العجين، يتوقف لحظة أمام باب جانبي مبطن بالجوخ الأخضر، يلتقط أنفاسه، يساوي الشعرات القليلة فوق الصلعة، يزرر الجاكتة بأصابع منتفضة، يعدل ربطة عنقه لتصبح تحت ذقنه، يدفع الباب بيد رقيقة حانية، يدخل رأسه فقط، ثم النصف الأعلى من الجسم، يظل النصف الأسفل خارج الباب، ردفاه سمينتان كردفي الزوجة المطيعة القعيدة في البيت، ينزلقان داخل الباب الأخضر بلا صوت مع ساقيه وقدميه.
بعد دقائق قليلة يخرج من الباب الأخضر ذاته، يندفع جسده كله خارجا من الباب كالصاروخ، يلهث قليلا، في يده أوراق كثيرة، تبدو على ملامحه الأهمية، يشخط في مساعده الذي يظهر فجأة: الدوسيه ده حالا يروح للبيه الوكيل! يبتسم في وجهي علامة الإيجاب. - تفضلي يا دكتورة، معالي الوزير في انتظارك.
الغرفة الواسعة والمكتب الضخم والجدران المنقوشة والسجاجيد العجمي والنجف المتدلي من السقف، كلها تذكرني بأول مرة أدخل سراي عابدين بعد مظاهرة عام 46، وأول مرة أدخل مكتب عميد كلية الطب، الدكتور مصطفى عمر لأحصل على مجانية التفوق عام 1949م، وأول مرة أدخل إلى القصر الفخم في شارع قصر العيني حيث كان المجلس الأعلى للخدمات عام 1957م، أصبح اليوم مجلس الشورى، والمكاتب الفاخرة الأخرى رأيتها على مدى الأربعين عاما الماضية، وقصر العروبة في مصر الجديدة، قابلت فيه رئيس الجمهورية بعد خروجي من السجن في نهاية خريف 1981م.
هذه القصور الفاخرة منذ السلاطين والملوك الفراعنة، المكاتب ضخمة كالتوابيت تتحنط داخلها أجساد الحكام والوزراء، كالقبور الواسعة المزركشة ، مملوءة بالذهب وهيبة الحكم، كالأهرامات يجلس على قمتها الإله يرقد تحتها فرعون.
كان الوزير جالسا وراء مكتبه الضخم، رابضا كالأسد في عرينه، رأسه مربع ثابت كأبي الهول، فوقه صورة جمال عبد الناصر داخل برواز ذهبي عريض، كلمة «الله» منقوشة بماء الذهب إلى جوارها فوق الجدار، عبارة منقوشة فوق المكتب «الصبر مفتاح الفرج»، «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب.»
وقف وهو يصافحني، طويل القامة عريض، يده كبيرة قوية يشد بها على يدي، أكاد أعرف الرجل من الطريقة التي يصافحني بها، مستقيم الأخلاق لا يعرف الالتواء، يصافحني كما يصافح الرجل رجلا، عيناه تنظران إلي في خط مستقيم. - قريت لك يا دكتورة نوال قصة في مجلة نقابة الأطباء، عندك موهبة أدبية زي الدكتور كامل حسين أستاذ العظام، له قصة جميلة اسمها قرية ظالمة، يا ترى قرأتيها؟
آخر ما كنت أتوقعه أن يدور الحديث حول الأدب في أول لقاء لي مع وزير الصحة، يرفعني الأدب فوق الأطباء والموظفين في الحكومة، يسترخي جسدي في المقعد، أضع ساقا فوق ساق، أشعل سيجارة، أنفث الدخان من أنفي حتى السقف، عيناي تشردان بعيدا في الأفق، تتجاوزان رأس الوزير ورأس جمال عبد الناصر داخل البرواز، الأدباء في نظر أبي كانوا يرتقون عن الملوك والوزراء، الوزير يأتي بقرار ويذهب بقرار، الأديب لا أحد يعينه ولا أحد يخلعه. - وإنتي فين يا دكتورة نوال؟ - في الأمراض الصدرية يا دكتور طراف. - اشمعنى الصدرية يعني؟ - «عمتي بهية في كفر طحلة ماتت بالسل، كان عندي أمل أني أكتشف علاج يقضي على الدرن الرئوي، حلم طفولي انتهى تماما.»
ضحك الدكتور نور الدين طراف، أدركت من الطريقة التي يضحك بها أنه يائس مثلي في جدوى وزارة الصحة أو أي وزارة أخرى في الحكومة، منذ جاءت الثورة وهي ترفع شعار «هز الجهاز الحكومي.» - الحكومة دي ما فيهاش فايدة يا دكتورة نوال، جمال عبد الناصر راجل وطني مخلص لكن حواليه طبقة عازلة عزلته تماما عن الناس.
إذا يئس من حكومته الوزير فمن يكون عنده أمل؟ أليس الوزير جزءا من النظام؟ - إذا عجز الوزير عن اختراق الطبقة العازلة فمن يستطيع؟! - المشكلة أن الطبقة العازلة من أهل الثقة، لكن وزير الصحة ليس إلا من أهل الخبرة.
كأنما أطل على القاهرة من قمة هرم خوفو، عقلي يتفتح لمعرفة جديدة، تسري لذة المعرفة في جسدي، أشعر بالسعادة، عرفت شيئا جديدا اسمه الطبقة العازلة، وشيء آخر اسمه أهل الثقة، وشيء ثالث اسمه أهل الخبرة، بدأت أفكر كيف يشتغل جهاز الدولة.
مع اللذة يسري شعور آخر يشبه الإثم، هل عرفت شيئا لا يصح أن أعرفه؟ سرا من أسرار الحكم؟ الثمرة المحرمة فوق شجرة المعرفة؟
أصبح الدكتور نور الدين طراف صديقي منذ أول لقاء، يحدثني كأنني أحد الزملاء، يفتح قلبه، يحكي لي عن فساد الحكم الملكي، كان يحلم بتغيير النظام، دخل الحزب الوطني، لم يكن الطب هدفه وإنما السياسة والحكم، كان من المقربين لجمال عبد الناصر، لكن الطبقة العازلة أبعدته إلى وازرة الصحة، ثم خلعته عن الوزارة بعد قليل، رفسته إلى أعلى كما يقولون، أصبح مستشارا لرئيس الجمهورية، ومسئولا عن النقابات المهنية في الاتحاد الاشتراكي، مناصب ضخمة بلا مسئولية، يجلس بلا عمل إلى مكتب فخم داخل القصر المطل على النيل، اسمه الاتحاد الاشتراكي، الحزب الوحيد الذي انضم إليه جميع الموظفين في الحكومة بالأمر.
التقيت بالدكتور نور الدين طراف ثلاث مرات، المرة الأخيرة قبل أن يموت بفترة قصيرة، كان يسكن في شقة تطل على النيل في حي العجوزة، في البلكونة الزجاجية المستديرة بالدور الأول جلسنا، كان حزينا شاحبا بعد هزيمة 1967م. - الثورة دي خيبت آمالنا فيها يا دكتورة نوال، كان ممكن عبد الناصر ينتصر في الحرب ويحرر البلد، لكن المشكلة الناس اللي حواليه، كان لازم الجيش ينهزم إذا كانت القيادة في إيد عبد الحكيم عامر، وكان لازم الاتحاد الاشتراكي يفشل ومجلس الشعب يفسد إذا كانت القيادة في إيد أنور السادات! •••
كان الدكتور نور الدين طراف هو الذي أصدر القرار بنقلي من الأمراض الصدرية إلى الثقافة الصحية بوزارة الصحة، أدركت من عملي في الريف والمدينة أن الوقاية خير من العلاج، «وأن درهم وقاية خير من قنطار علاج» مثل شعبي يجري على ألسنة الناس، لا يمكن إبادة البلهارسيا دون أن يكف الفلاحون عن التبول في مياه الترع، وهذا يقتضي حملات من الثقافة ورفع الوعي، لا يمكن إبادة الدرن الرئوي دون أن يتعلم الناس كيف ترتفع مناعة الجسم، كيف يمكن القضاء على الثالوث المزمن: الفقر، الجهل، المرض.
كلمة الثقافة الصحية قريبة إلى قلبي، ترتبط كلمة الثقافة في خيالي بالأدب والكتاب، أصبح لي مكتب في وزارة الصحة، كان الدكتور نور الدين طراف قد خرج من الوزارة، جاء الدكتور النبوي المهندس وزيرا للصحة، كان أستاذا في طب الأطفال، يؤمن بالعلاج أكثر من الوقاية.
كلمة الثقافة تحولت إلى كلمة الإعلام، يتنافس الوزراء على نشر صورهم مع تصريحاتهم عن الاشتراكية، دخل جهاز إعلامي جديد إلى مصر اسمه التليفزيون، يتسابق إلى الظهور فيه المسئولون في الحكومة، لم يعد العمل في الميدان هو مقياس النشاط، بل الظهور فوق الشاشة الصغيرة، عدد مرات النشر في الصحف، حجم الصورة المنشورة والمساحة وكمية الكلام.
اصطدمت بوزير الصحة الجديد، تخصص في أمراض الأطفال، لا يعرف شيئا عن الطب الوقائي، يريد تحويل قسم الثقافة الصحية إلى قسم الدعاية للوزير. - أنا آسفة يا دكتور مش شغلتي. - إنتي موظفة في الوزارة وأنا الوزير، عليكي تنفيذ التعليمات. - أنا آسفة يا دكتور! أنا دكتورة مش موظفة!
كلمة «موظفة» أو «موظف» ترن في أذني محملة بالإهانة، لها تاريخ سيئ منذ طفولتي، كان يكفي أن يقول أبي: فلان «موظف» لأدرك أنه ممسوح الشخصية، مسحوق بالعبودية، واجبه الطاعة مثل النساء في بيوت الزوجية.
منذ الفراعنة يحتل «الوزير» مركزا مرموقا في الدولة، كلمة «وزير» تخلع القلوب، تخلخل المفاصل، إذا ابتسم الوزير في وجه موظف ابتسمت له الدنيا والآخرة، وإن كشر الوزير في وجه أحد كشرت له الأرض والبشرية والسموات السبع.
أصبحت أجلس إلى مكتبي في الوزارة بلا عمل، كان الوزير غاضبا علي، غضب الجميع لغضبه، أصبحت المنبوذة من بوذا المقدس، لا أحد يبتسم في وجهي لا أحد يقرئني السلام.
كان يشاركني غرفة المكتب مدير الإدارة، الدكتور إبراهيم الشربيني، تربطه بالوزير علاقة خاصة، زمالة قديمة في نقابة الأطباء أو شيء من هذا القبيل، أصبح الدكتور إبراهيم الشربيني شخصية هامة في الوزارة، يجلس إلى مكتب ضخم يبتلع نصف مساحة الغرفة، في النصف الآخر مكتبي الصغير يشبه منضدة المطبخ، يجاوره مكتب آخر صغير يجلس إليه طبيب من أعوان الدكتور الشربيني اسمه الدكتور صلاح، تربطه بالدكتور الشربيني علاقة خاصة، يتقرب الموظفون إليهما بسبب علاقتهما الشخصية بالوزير، يزدحم المكتب بالزوار طوال النهار، لا يوجد بالغرفة إلا كنبة جلدية واحدة تكفي أربعة أشخاص، بقية الضيوف يقفون على أقدامهم أمام مكتب الشربيني، يتصايحون ويضحكون ويقهقهون، أعلاهم صوتا هو المدير الدكتور الشربيني، يتطرق الحديث إلى نقابة الأطباء والانتخابات القادمة، يلقي عليهم الدكتور الشربيني خطبة رنانة عن الميثاق الاشتراكي الجديد لعمل النقابة والوزارة.
كان وجودي بالمكتب مثل عدم وجودي، لا ورقة واحدة تصل إلى مكتبي من عند المدير، فهو يعمل كل شيء وحده، يتلقى وحده البريد من مكتب الوزير والإدارات الأخرى، لا يشرك معه إلا صديقه الدكتور صلاح، وأنا جالسة إلى مكتبي أتفرج على ما يحدث.
بدأت أكتب القصص القصيرة في المكتب، إلا أن الأصوات العالية تقطع حبل التفكير، ورنين جرس التليفون فوق مكتب الدكتور الشربيني لا يكف عن الرنين، والساعي عم حسين يدخل ويخرج حاملا فناجين القهوة، يشربها الضيوف وهم واقفون، منهم أساتذة في كلية الطب، يريدون مقابلة الوزير، لا أحد يمكنه ترتيب اللقاء إلا صديقه الحميم الدكتور إبراهيم الشربيني، أهم الشخصيات التي تفد إلى مكتبنا هي مذيعة التليفزيون، شابة كاملة الزينة والماكياج، تتأرجح فوق الكعب العالي، تقلب الراء إلى غين مثل صديقتي بطة، تدخل من باب الوزارة كالأميرة، يحف بها الموظفون والسعاة، يترك الدكتور الشربيني الضيوف جميعا ويصعد بها إلى مكتب الوزير، يدخل بها إلى الوزير مباشرة من الباب الرئيسي الأخضر دون المرور على مدير مكتبه، يطرد الوزير أعضاء اللجنة الطبية إن كانت هناك لجنة، تدخل كاميرات التليفزيون، يضع الوزير الماكياج، يبتسم للشعب المصري وهو يدلي بالتصريحات الهامة عن المشروعات الصحية الاشتراكية الجديدة.
مكتب الوزير في حالة طوارئ، اللمبة الحمراء مشتعلة فوق الباب الرئيسي، والباب الفرعي، مدير مكتب الوزير يمنع الدخول: «السيد معالي الوزير عنده تسجيل في التليفزيون.» كلمة التليفزيون ترن في الجو مهيبة شبه مقدسة، كلمة جديدة دخلت قاموس اللغة العربية منذ شهور قليلة، لم يكن يمتلك جهاز التليفزيون في مصر إلا الأثرياء والوزراء ورئيس الجمهورية، كان ذلك منذ سبعة وثلاثين عاما، اليوم أصبح التليفزيون في كل بيت في المدن والقرى، بما فيها بيت زينب ابنة عمتي في كفر طحلة، في مدخل الدار الترابي يتربع التلفزيون كالإله فوق منضدة خشبية، مغطى بمفرش من القماش السميك، لا يقربه أحد إلا رب الدار، يعود على حمارته من الحقل عند الغروب، من خلفه البقرة والماعزة، يجلس في مدخل الدار بعد العشاء يدخن الجوزة، يمد يده ويفتح التلفزيون، ترمقه عيون النسوة وهن جالسات على الأرض، البقرة أيضا تطل برأسها من باب الزريبة وتتفرج على التلفزيون .
بعد موت الدكتور النبوي المهندس خلفه في مقعد وزير الصحة عدد من الوزراء بلغ عددهم ستة حتى غادرت الوزارة، لم يكن الواحد منهم يختلف كثيرا عن الدكتور النبوي المهندس، وتكرر الصدام بيني وبين كل وزير جديد حتى خرجت نهائيا من الوزارة في أغسطس 1972م، حملت أوراقي وغادرت مكتبي لآخر مرة، عند الباب الحديدي الخارجي للوزارة توقفت لحظة، استدرت لألقي بصقة على المكان، كالسجين يطلق سراحه بعد اثني عشر عاما داخل الزنزانة. ••• - الوظيفة في الحكومة مقبرة يا نوال.
هذه عبارة أبي قبل أن يموت بأيام قليلة، بلغ الستين من عمره وأحالوه إلى المعاش، فرد ذراعيه عن آخرهما كأنما يفردهما لأول مرة، كأنما كان حولهما قيد حديدي: «أنا تحررت بعد ثلاثة وثلاثين سنة سجن، أخيرا عندي وقت أقرأ وأكتب.»
كان جالسا في الصالة داخل الروب دي شامبر، اشتريت له هذا الروب من عمر أفندي، صوفه ناعم لونه رمادي ثمنه أربعة عشر جنيها، أول مبلغ يتجمع في درج مكتبي بالعيادة، كان الشتاء باردا، شهر فبراير عام 1959م، خرجت من عيادتي إلى محل عمر أفندي، في جيبي الأربعة عشر جنيها، المبلغ كبير جمعته من المرضى، مزيج من السعادة والألم، أيمكن أن أبيع الصحة للناس بالفلوس؟
الفلوس في جيبي تدفئني، سأشتري بها روب صوف لأبي، أراه ينتفض داخل البيجاما الخفيفة، كان يشتري لنا الملابس الشتوية ويظل هو بالبدلة الصيفية.
كان جالسا في الصالة، الشعر الأبيض يكسبه جلالا على نحو خاص، أو ربما شيء آخر في عينيه يشع منه الجلال، أو شيء في أعماق روحه، كان له حضور إذا حضر، وغياب إذا غاب، له هيبة غامضة خالية من السلطة، هيئة النبلاء دون أن ينحدر من طبقة النبلاء، عيناه قادرتان على اختراق أعماق الآخرين لو أنه ثبتهما في عيونهم، نادرا ما كان يفعل ذلك، لم يكن يستخدم قوته مع الأقل منه قوة، صدره مملوء بشيء آخر غير العضل، ربما هو قلبه الكبير يرفع ضلوعه، أمه الفلاحة كان لها هذا الكبرياء الطبيعي، رغم انحناءة الشيخوخة كانت تمشي مرتفعة الصدر، أبي كانت له هذه المشية، كتفاه تميلان إلى الأمام قليلا، انحناءة خفيفة كالجمل القادر على السير بخطوة ثابتة والأحمال فوق ظهره.
فتح الكيس مكتوب عليه عمر أفندي، رأى الروب شامبر: «ده لك يا بابا من الإيراد الأول في العيادة.» عيناه رأيتهما تلمعان يكسوهما الضوء يروح ويجيء كالدمعة الحبيسة. - مبروك يا نوال نجاح العيادة. - مبروك لك يا بابا دي عيادتك أنت. - كنت اشتريلك تايير جديد، أنا راجل فلاح مش واخد على الروب دي شامبر ده ... دي حاجة كمالية. - لأ يا بابا دي حاجة ضرورية في البرد. - المهم دلوقتي إنتي وإخوتك وبنتك. - اطمن يا بابا على كل حاجة. - أنا مطمئن يا نوال عليهم طول ما إنتي موجودة، أنا طبعا موجود لكن مين عارف يحصل إيه بعد يوم أو يومين والأعمار بيد الله.
هل أدرك أبي أنه سيموت بعد ساعتين بالضبط من هذه الكلمات؟! كانت الساعة العاشرة مساء، عاد لتوه من المقهى الذي كان يسهر فيه أحيانا مع زملائه المحالين إلى المعاش، ألمحه جالسا وسطهم بشعره الأبيض كالهالة تحوط رأسه المرفوع، يلعبون الطاولة أو الشطرنج، يتناقشون في السياسة، قد يرفع رأسه ويلمحني سائرة في طريقي إلى العيادة، يشير إلي لأدخل وأسلم على أصدقائه «الدكتورة نوال، بنتي!» عيناه تلمعان بالفخر وهو ينطق كلمة «بنتي»، واللهجة نفسها حين كان يناديني في منوف وهو جالس في مقهى «جرامينو» ويقول لأصدقائه: «دي نوال بنتي تلميذة شاطرة عند مس هيمر وعاوزة تطلع دكتورة.» واللوحة الكبيرة تحمل اسم «الدكتورة نوال السعداوي»، يراها أبي من نافذة المقهى في المبنى المقابل، أصدقاؤه يرونها والجالسون في المقهى، والراكبون في الترام والأتوبيس، والسائرون في الميدان، يتحدث أبي مع أصدقائه عن ابنته الأديبة أيضا، قد يحمل إليهم قصة منشورة في إحدى المجلات: «بنتي الدكتورة نوال عندها موهبة من الطفولة، كنت أشجعها وأقول لها تقدري تجمعي بين الطب والأدب زي الدكتور إبراهيم ناجي والدكتور كامل حسين.»
كان اليوم هو الخميس 19 فبراير 1959م، انتهيت من فحص المريض الأخير في العيادة، كانت الساعة الثامنة مساء، خلعت معطفي وخرجت إلى الميدان، في المقهى لم ألمح الرأس العالي بالشعر الأبيض، كان أبي يسهر أحيانا مع أصدقائه في المقهى حتى العاشرة مساء، أسرعت الخطى إلى البيت عبر شارع الربيع الجيزي ومحطة القطار، كان هذا الطريق أقصر قليلا من النفق الطويل حتى أول شارع الهرم، كنت مدعوة تلك الليلة إلى حفل نقابة الأطباء في الأوبرج، تبدأ الحفلة في العاشرة مساء تشمل العشاء ومشاهدة بعض الراقصات والاستماع إلى بعض المطربات، لم أكن أنجذب إلى هذه الحفلات، صديقتي بطة قررت المرور علي بالبيت لتأخذني إلى الحفل في سيارتها: «لازم يا نوال تشوفي نجوى فؤاد رقصها يجنن، نفرفش شوية ونبعد عن قرف العيانين.»
المسافة من عيادتي إلى بيتي خمس عشرة دقيقة بخطوتي الواسعة السريعة، وجدت أبي جالسا في الصالة داخل الروب دي شامبر، كان في يده كتاب يقرؤه، أزاح نظارة القراءة قليلا إلى أعلى، يبتسم تحت لمبة النور: «جيتي بدري من العيادة الليلة؟» - «بطة جاية دلوقتي، عندنا حفلة في الأوبرج، النقابة بعتت لي دعوة، لكن مش عاوزة أروح يا بابا.» - «ليه يا نوال، لازم تروحي تغيري جو شوية من العيادة والمستشفى.»
كنت أريد أن أبقى معه تلك الليلة، منذ انشغلت في العيادة لم أعد أراه إلا في الصباح قبل أن أخرج إلى المستشفى، أحيانا أخرج قبل أن يصحو فلا أراه إلا بعد الظهر إن لم يخرج إلى المقهى، في يده كتاب الجاحظ، أريد أن أتحدث معه عن نظريته في المعرفة، سمعت بوق السيارة يصرخ أسفل البيت، من الشرفة رأيت بطة جالسة في السيارة أطلت من النافذة: اتأخرنا يا نوال نص ساعة.
كانت الساعة العاشرة مساء، البيت كله نائم إلا أبي يقرأ في الصالة، وأخي الأصغر في غرفته يراجع دروسه، تركت له على قصاصة ورق رقم التليفون في الأوبرج، أبي موفور الصحة، لم أتوقع شيئا تلك الليلة، تركت رقم التليفون بحكم العادة، في جسدي إدراك يسري عبر العمود الفقري، أهو تعب النهار الطويل؟! وقفت في غرفة العمليات سبع ساعات، لم أسترح إلا ساعة الغداء وذهبت إلى العيادة ، أبي في الصالة يقرأ داخل الروب دي شامبر، رفع عينيه من فوق الكتاب وأنا أفتح الباب، التقت عيوننا، أكان يقول شيئا؟! كأنما كانت آخر نظرة يلقيها علي: «خليك صاحي لغاية ما أرجع يا بابا مش حتأخر.» - «أنا سهران الليلة يا نوال مع عمنا الجاحظ.»
كنت أرتدي ملابس عادية، جيب وبلوزة وبلوفر أسود، بطة كانت ترتدي ثوب السهرة، زوجها إلى جوارها يرتدي بدلة لامعة والبابيون، في الأوبرج تفرقنا، اخترت مائدة بعيدة عن الصحب، ينتابني الحزن في الحفلات والأعياد، جلست على طرف المائدة مطرقة شاردة، الأطباء والطبيبات من حولي يأكلون ويشربون ويضحكون، الراقصة تطرقع بالصاجات على أنغام الرق والطبل، أمامي صحن فيه طعام وكوب فيه شراب، لم تكن عندي شهية لشيء، جاء المصور والتقط لي صورة، لم أرفع وجهي إلى الكاميرا، انتبهت إلى ضوء الفلاش فوق وجهي الشارد في حزن، وسمعت الصوت ينادي اسمي: الدكتورة نوال السعداوي، لك تليفون يا دكتورة!
كان هو أخي الأصغر، لم يقل إلا كلمتين: «تعالي بسرعة .» أصبحت أجري خارج الأوبرج، وجهي نحو الجيزة، لم أستطع الوقوف لانتظار التاكسي، تصورت أن قدمي أسرع، أحد الأطباء أدركني بسيارته، هل رآني وأنا أنهض من المائدة؟! أعرف اسمه، أخذني إلى البيت، أعلى السلم رأيت أخي الأصغر واقفا، باب الشقة مفتوح، وجهه خال من الدم، دخلت إلى الصالة، نور اللمبة مضاءة، فوق المنضدة، نظارة أبي والكتاب مفتوح، مقعده خال، تقدمت نحو الداخل بضع خطوات، جسدي يتأرجح كالقارب فوق الأمواج، أمد ذراعي كمن تمشي في النوم.
رأيته ممدودا فوق البلاط، في الطرقة الصغيرة أمام باب الحمام، راقدا فوق ظهره، وجهه ناحية السقف، عيناه مفتوحتان، جسدي النائم ينثني إلى الأرض، يدي المخدرة تمتد إلى يده تمسكها، أكنت أجس النبض؟! هل غلبني النوم؟ سقط رأسي دون أن أشعر فوق صدره، كالطفلة في الرابعة من العمر تنام فوق صدر أمها. - البقية في حياتك يا دكتورة نوال.
صوت الطبيب صاحب السيارة، أول صوت أسمعه وأنا أفيق، البقية في حياتي؟ ما معنى هذه العبارة؟ - الأفضل ننقله على السرير يا دكتورة.
ضمير الغائب في كلمة ننقله تعود إلى أبي، أصبح غائبا عن الوجود، جسده لا يزال موجودا ممدودا فوق الأرض، نقلناه إلى السرير نحن الثلاثة أنا والطبيب وأخي الأصغر، بضع خطوات قليلة لهثنا فيها، فوق أذرعنا الست امتدت القامة الفارعة، أثقل ما فيها الرأس، حوطته بذراعي أحميه من الارتطام ونحن ندخل في غرفة النوم، فوق السرير النحاسي العريض، أصبح نائما، عيناه مفتوحتان، مد الطبيب يده وأسدل الجفون فوق العينين، غطاه بالملاءة من الرأس إلى القدمين.
في الصالة جلسنا نحن الثلاثة، الصمت يدب في البيت، أخواتي البنات نائمات في الغرفة الداخلية، ابنتي في غرفتي غارقة في النوم، أم إبراهيم في القرية تزور ابنتها المريضة، حكى أخي الأصغر ما حدث، كان في غرفته يراجع دروسه حين سمع الصوت يدوي في الصالة، كالجدار يسقط، كالشجرة تسقط وهي واقفة.
خرج الطبيب ودخل أخي غرفته، سرت على أطراف أصابعي، كشفت الملاءة عن وجهه، عيناه مغمضتان ملامحه ليست نائمة وليست صاحية، ملامح منحوتة داخل الجرانيت، تعلوها ابتسامة توحي بالراحة النهائية، السكون الإلهي الخالي من العبء، القائم بذاته لذاته، لا يشوبه شيء خارج الذات الأبدية.
قضيت الليل إلى جواره، هو غائب وجسده فوق السرير، وأنا أقف في مهب الحياة، كالشجرة الوحيدة سقطت من حولها الأشجار، عارية بلا أوراق في الشتاء، أرتعد بالبرد، أسناني تصطك، عيناي جافتان وحلقي جاف.
في الصباح أيقظت أخواتي الصغيرات، ابتسمت في وجوههن: «النهاردة الجمعة ما فيش مدرسة، تحبوا تروحوا فين؟» هتفت أصغرهن: «نروح جنينة الحيوانات.»
الموت جزء من الحياة والحي أبقى من الميت، انشغلت بأخواتي وابنتي عن موت أبي، حضرت لهن الفطور والغذاء أخذتهن إلى حديقة الحيوان، تركتهن يلعبن تحت أشعة الشمس، جريت إلى مكتب الصحة بالقرب من كوبري عباس لاستخراج شهادة الوفاة، جريت إلى محل إسلام باشا في ميدان الجيزة، اشتريت الكفن الحريري الأبيض، مررت على محل الحانوتي في شارع سعد زغلول، اتفقت معه على أجرة عربة الموتى من الجيزة إلى كفر طحلة.
رمقني الرجل بنظرة فاحصة وطلب ضعف المبلغ، منذ موت أمي عرفت الأسعار، ولا يمكن لهذا الحانوتي أن يضحك علي، ألأنه يراني امرأة؟! أيظن أن حزني على أبي سيطغى علي فلا أكتشف جشعه؟! وقفت أساومه رافعة صوتي بغضب: ده استغلال وأنا رايحة لحانوتي غيرك!
رضخ الرجل لإرادتي، شعرت بنوع من الزهو، لا يمكن لأحد أن يخدعني وإن كنت في قمة الحزن، لم أكن أشعر بالحزن، كانت السكينة «سارقاني» بلغة أم إبراهيم، للموتى مهام كثيرة: استخراج شهادة الوفاة، والغسيل والكفن والسفر إلى القرية والصلاة في الجامع والجنازة والدفن، لا بد أن أنتهي من كل هذا الساعة الخامسة مساء، موعد عودة أخواتي وابنتي من حديقة الحيوان.
من مكتب سنترال الجيزة أرسلت برقية إلى أخي الأكبر في مديرية التحرير، طلبت مكالمة تليفونية «ترنك» إلى عماتي في كفر طحلة: «بابا مات، خلوا حد يفتح المقبرة، العربية حتوصل عندكم الساعة اتناشر الضهر، قبل صلاة الجمعة والدفن على طول بعد الصلاة ما فيش صوان اللي عاوز يعزي يبعت تلغراف.» •••
هبط قلبي مع هبوط النعش من بيتنا محمولا فوق الأكتاف منها كتفاي، كان أبي يهبط هذه السلالم كل يوم فوق قدميه، الآن يهبط داخل الصندوق المغلق، قلبي تحت ضلوعي مثل قطعة حجر، يغوص في القاع، يثقل مع كل درجة يهبط فيها النعش، خرج الصندوق إلى الشارع داخله أبي، رأيته يغادر بيتنا للمرة الأخيرة.
داخل عربة الموتى السوداء جلست، الصندوق إلى جواري لا يزال فيه أبي، أستأنس بوجوده وأعلم أنه ميت، أريد أن أستبقيه إلى جواري أطول فترة ممكنة، إلا أن الرحلة كانت ساعة واحدة، عند الجسر رأيت رجالا كثيرين واقفين، من كفر طحلة وطحلة والقرى المجاورة، كان المنادي قد طاف يعلن خبر الوفاة وموعد الجنازة والصلاة في الجامع.
عند المقبرة هبطت تحت الأرض مع أبي الملفوف بالحرير الأبيض، أردت أن أقص الكفن كما فعلت مع أمي، همست عمتي فاطمة في أذني: «ما حدش هنا بيسرق الكفن يا ضكطورة.» خرجت من المقبرة وحدي بدون أبي، أبحث بين الوجوه عن وجهه، الهواء البارد يلفحني من كل جانب.
طابور طويل من آل السعداوي يتقدمهم أحد الأقرباء «الحاج محمد» كان أبي يسميه «مسيلمة الكذاب»، استولى على نصيب أبي من الأرض، سافر إلى الحجاز ليمسح ذنوبه، عاد يحمل لقب الحاج، يقترف من الذنوب ما يشاء، ثم يزور قبر الرسول ويمسح ذنوبه، يلف رأسه بعمامة كبيرة، في يده مسبحة صفراء، يبسمل ويحوقل بأسماء الله التسعة والتسعين، فوق جبهته زبيبة سوداء علامة التقوى والسجود الطويل، عيناه ضيقتان تلمعان كعيني الصقر، حاجبان كثيفان فوق أنفه كالنتوء في صخرة، شاربه الأسود طرفاه مبرومان إلى أعلى فوق الصدغين المدببين. - السيد بيه السعداوي لازم ينعمل له صوان كبير أوي يا ضكطورة عشان الناس تيجي تعزي من مصر وبنها وكل بلاد الدنيا! - اسمع يا حاج محمد، الصوان والحاجات دي كلها مظاهر فارغة، وبابا قال لما أموت مش عاوز صوان، والمصاريف أولى بيها إخواتي البنات. - لا يمكن يا ضكطورة! ده السيد بيه السعداوي على سن ورمح! لا يمكن يموت فطيس كده! - طيب يا حاج محمد اعمل أنت الصوان ومعاك فلوس الأرض بتاعة السيد بيه السعداوي!
كان أبي ينتمي إلى جيل ثورة 19، جيل يشعر بذاته الجديدة، يريد تأكيدها والظهور على مسرح الأحداث، كان يؤمن بالله والرسول، انتقل عن طريق التعليم إلى الطبقة الوسطى، عرف فساد الحكم الملكي والاحتلال البريطاني، الهوة الساحقة بين الفقراء والأغنياء، يقرأ القرآن مثل ما يقرأ المعري والمنفلوطي، يميل إلى الصوفية، يحلم بتحرير الوطن، يحب الأدب والشعر، يراوده حلم طفولي أن يكون كاتبا كبيرا أو شاعرا مرموقا مثل حافظ وشوقي، إلا أن الحكومة قضت عليه، أفنى عمره داخل الوظيفة، عاش حياته يعاني الإحباط، لا يجد العزاء إلا في قراءة القرآن، يرتفع عن متع الحياة الزائلة، يقاوم الشهوات بسعادة وحزن، يشتهي لذة الدنيا ويشتهي سعادة الآخرة، يضحي باللذة من أجل السعادة، اختيار مؤلم يمنحه بعض الراحة.
كان أبي يشعر بالتفرد، يمشي بقامته الفارعة شامخا قوي الجسم قوي الروح، يكبح جماح نفسه، يتغلب على الشيطان، يرى نفسه محشورا داخل الأتوبيس، قطعة من السردين، واقف في الطابور أمام المخبز، يشعر بالمهانة، يعيش في ظل حكومة تقتل كل تفرد، يعود إلى البيت محبطا مرهقا، القرآن يعيد إليه السلوى، الحزن نوع من العبادة، يركع ويسجد لله، يعشق امتهان النفس أمام الله، الله هو اليقين ما عداه قابل للشك.
لم يكن موت أبي مثل أمي، أربعة شهور ونصف تفصل الحدثين، لم تمت أمي إلا في حضوري، انتظرتني حتى أعود إلى البيت، لم تسلم روحها إلا ويدها ممسكة يدي، كالعصا تتكئ عليها لتغادر الدنيا، كانت تتكئ على ذراعي حين نمشي على شاطئ الترعة، طال بها المرض وهي راقدة في الفراش، من شدة الألم توسلت إلي أن أنهي حياتها، لم أملك شجاعة قتلها، لم يرتفع حبي لها إلى هذه الدرجة، كنت أحب نفسي أكثر، أشفق على نفسي من تأنيب الضمير.
كانت أحملها بين ذراعي كالطفلة، أطعمها في فمها بيدي، أدلك ظهرها ببودرة التلك، أغير فراشها المبلل، أضع وعاء البول تحت ردفيها، أراها عارية وأنا أحممها، لا يخدش عريها حيائي، جسدها يشبه جسدي، يحملها جسدي كأننا جسد واحد، ضاع الوجع من جسدي حين ماتت أمي، تلاشى جسدها المريض داخل جسدي، نهضت واقفة أفرد قامتي عن آخرها، أفرد ذراعي وأملأ صدري بالهواء.
موت أبي كان مختلفا، مات أبي في غيابي، انتهز فرصة غيابي في حفل الأوبرج ومات، أراد أن يموت وحده دون أن يمسك بيدي، مات فجأة، قبل أن يموت كان في المقهى مع أصدقائه يلعب الطاولة، ضحك معهم كثيرا على المقارف في وزارة المعارف، اشترى من الفاكهة في ميدان الجيزة ثلاثة كيلو برتقال بصرة، كيس آخر ملأه بالموز المغربي أبو نقطة، حمل الكيسين بين ذراعيه وعاد بخطوته الواسعة يدب فوق الأرض، كانت شهيته للحياة مفتوحة، خلع ملابسه وارتدى البيجاما والروب دي شامبر، جلس يقرأ في كتاب الجاحظ عن جوهر الحياة، نهض إلى الحمام ليغتسل قبل أن ينام، خرج من الحمام، فوق الطرقة بين الحمام وغرفة النوم سقط كالشجرة تسقط وهي واقفة.
الموت المفاجئ غير الموت البطيء، الجسد القوي حين يسقط يكون له دوي، كالجبل يتهاوى من الارتفاع، أحسست الدوي وأنا في حفل الأوبرج، اهتز جسدي رغم المسافة، هناك إشاعات كالردار تنطلق عبر الجو، يسمونها «تليباثي»، تعني التعاطف بين الأجساد رغم البعد.
كان بيني وبين أبي مسافة لا يمكن اختراقها، فهو من الجنس الآخر يختلف عني وعن أمي، حين مات أبي بدأ الوجع في جسدي، تلاشت المسافة بيننا وأصبح جسده الميت هو جسدي، سقطت إلى الأرض كما سقط، إن نهضت أشعر بالوجع، والريح الباردة تنفذ إلي كأنما أرقد فوق البلاط، أغفوت خارج البيت في العراء؟!
مع كل ذلك مات أبي دون أن أبكي، في أعماقي لم أشعر بالحزن، إنه الفرح الغامض، كالسجين يتلقى نبأ الإفراج.
ثمن الكتابة
لحظات سقطت في العدم
حدث من وراء الوعي
إهدار الدم
الصورة الممزقة
المشرط والقانون
الهزيمة الكبرى
تضامن النساء
الصديقات القديمات
الشرفة في الدور السادس والعشرين
من مفكرتي السرية عام 1947
الباحثة عن الحب
إجهاض الثورة
الطيران في الحلم
ثمن الكتابة
لحظات سقطت في العدم
حدث من وراء الوعي
إهدار الدم
الصورة الممزقة
المشرط والقانون
الهزيمة الكبرى
تضامن النساء
الصديقات القديمات
الشرفة في الدور السادس والعشرين
من مفكرتي السرية عام 1947
الباحثة عن الحب
إجهاض الثورة
الطيران في الحلم
أوراقي ... حياتي (الجزء الثالث)
أوراقي ... حياتي (الجزء الثالث)
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
لحظات سقطت في العدم
حدث من وراء الوعي
القلم بين أصابعي، والصفحة تحت يدي بيضاء، يتحرك القلم دون أن يكتب شيئا، ترمقني الصفحة البيضاء بسخرية، كأنما لم أكتب في حياتي سطرا. تبدو اللغة غريبة، كلماتها مبنية للمجهول، حروفها مقدسة، تخاطب المرأة بصيغة المذكر، كل شيء مذكر في اللغة، حتى الإله والشيطان والموت. الصفحة الخالية من الكتابة لونها أبيض بلون الموت، الكفن أبيض، وسرير المستشفى أبيض، معاطف الأطباء والطبيبات، ومرايل الممرضات والممرضين . عيناي مفتوحتان لا أعرف إن كنت الطبيبة أو المريضة، الكاتبة أو الصفحة البيضاء غير المكتوبة، المساحات الخالية بين السطور، الساقطة من حياتي والسنين، تسرب الروح من الجسد وغياب العقل.
هل عجزت عن الكتابة أم أشرفت على الموت؟ كانت هناك علاقة دائمة بين الموت وعدم الكتابة، فوق فمي كمامة، رائحة الأثير تملأ الجو، ربما هو المخدر، يلجئون دائما إلى المخدر في مواجهة الوعي، جسدي مصلوب فوق منضدة الجراحة في غرفة العمليات، أو ربما هي منضدة المشرحة في كلية الطب، مربوطة الذراعين والساقين بخراطيم من المطاط. أسمعهم يتكلمون عني بضمير الغائب، كلمة الضمير في اللغة مذكرة مثل كلمة إنسان، لا يوجد في اللغة مؤنث كلمة ضمير. أصواتهم متشابهة، ملابسهم بيضاء، رائحتهم واحدة، مزيج من الأثير وصبغة اليود ودخان سجائر. صوت ينادي اسمي واسم أبي، لم يكن لي أب واحد، هناك دائما أكثر من أب، اسم الأب الواحد أسطورة، في التاريخ يحجب الأصل تحت صورة أب رمزي، لغة تجعلها كائنات مذكرة أو لا نكون، صورة مقدسة تعيش على كبت الحقيقة، تحت تأثير المخدر تطل الحقيقة المكبوتة من تحت الماء مثل رأس جبل من الثلج. - وأين هي أمي؟
أتلفت حولي أبحث عن وجه أمي بين الوجوه، أصابع حديدية تثبت رأسي في المنضدة، تزحف الأصابع إلى عنقي تضغط عليه، أيحاولون خنقي لأني أسأل عن أمي؟ أين اختفت أمي؟ قتلوها؟ دفنوها في مقبرة ومعها اسمها؟ شطبوا على اسم أمي، مسحوه بالأستيكة، قالوا: ربما بعد الموت تحملين اسم أمك؛ لأن الحقيقة بعد الموت تظهر، ويختفي اسم الأب المزيف.
الصوت ينادي اسمي مرة أخرى، يرن الاسم في أذني مألوفا، سمعته مرارا في مراحل حياتي السابقة، رأيته فوق أغلفة كتبي ورواياتي، الصوت يناديني بلهجة خشنة ذكورية، صوت رجل ملامحه غريبة، هذا الرجل لا أعرفه، مع ذلك يمسك يدي المثبتة فوق المنضدة، يقول للأطباء والطبيبات إنه زوجي. - متى تزوجت هذا الرجل؟!
أرفع يدي لأمسك رأسي، يدي لا تتحرك، الصداع يقسم رأسي قسمين، ذاكرتي لا تسعفني، لحظات في حياتي سقطت في العدم، أحاول استعادتها دون جدوى، هذا الأثير يخدرني، يستخدمون المخدر لقتل الذاكرة، أقاوم، أفتح فمي لأصرخ، صوتي لا يخرج. •••
مربوطة الذراعين والساقين، فوق فمها كمامة، تفتح فمها نصف فتحة وتقول لهم: لا أريد مخدرا! لا أريد أن أفقد الوعي! أنا طبيبة ولست مريضة واسمي نوال وأمي اسمها زينب، أما جدي السعداوي فأنا لا أعرفه، مات قبل أن أولد. •••
الصوت يناديها باسمها وهي لا ترد، زوجها يقول لهم: إنها ليست نائمة، وليست غائبة عن الوعي، إنها فقط تكتب، وهي حين تكتب تصبح غائبة عن هذا العالم، لا تسمع أحدا، ولا ترد على أحد.
قالت لزوجها بعد ليلة الزفاف المؤلمة: سأكتب ما لا يكتب. كل يوم تجلس إلى مكتبها من أول النهار حتى آخر الليل، القلم بين أصابعها، والصفحة تحت يدها بيضاء، تمزق الورقة وراء الورقة، تمزق شعرها، تفتح فمها عن آخره تطلب الهواء، تختنق، تشد الكمامة فوق فمها، تعض بأسنانها الأصابع الملفوفة حول عنقها.
جسمها فوق المقعد أصبح جزءا من المقعد، مربوطة إلى المقعد بالحبال، نصفها الأسفل مربوط لا يتحرك، النصف الأعلى لا نرى منه إلا الرأس المطوق فوق المكتب، القلم بين أصابعها الطويلة السمراء يرسم على الورقة حروفا سوداء مبتورة، يحتك سن القلم بالصفحة البيضاء، يصنع صريرا خافتا، أذناها تلتقطان الصوت داخل الصمت، ينتصب رأسها وعيناها نصف مغمضتين.
كأنما لم أكتب في حياتي، لم تمسك أصابعي القلم، لا أعرف اللغة، واللغة لا تعرفني، هذه الحروف ليست حروفي، لم أتعلمها من أمي، يقولون عنها: لغة الأم، وهي لغة رجل غريب مات قبل أن أولد. أحاول النهوض من مقعدي وراء المكتب، قدماي وساقاي مربوطة بالحبال، أسير نحو السرير بجسدي المربوط، أستغيث في النوم بلا صوت، شريف نائم إلى جواري مستغرق في النوم.
أرمقه بشيء من الحسد، منذ تزوجنا عام 1964 وهو ينام بسهولة، يضع رأسه فوق الوسادة وينام في نصف ثانية، ضوء خافت يسقط فوق الجدار من خلال شقوق النافذة، نسمة خفيفة تحرك النتيجة المعلقة، التاريخ يشير إلى العام الجديد 2000، يبدو الرقم غريبا ، يفتح شريف عينيه، يرمق الرقم بدهشة، يا خبر بقينا في سنة 2000 كده بسرعة؟! أطفو فوق السرير كأنما أعوم فوق الزمان والمكان. •••
الزمن يمضي وأنا متجمدة تحت الغطاء، أحاول النوم دون جدوى، كأنما نسيت كيف أنام، أحاول الكتابة دون جدوى، كأنما نسيت اللغة. شريف نائم إلى جواري، ترك سريره في غرفته وجاء إلى غرفتي، تحدثنا قليلا قبل النوم، يكتب رواية جديدة وأنا عاجزة عن الكتابة، كأنما لم أكتب أبدا، عيناي مفتوحتان كأنما لم أنم أبدا، يفتح شريف جفونه، يراني محملقة في السقف. - ما لك يا نوال؟ - مش عارفة أكتب يا شريف، لا يمكن حاكتب أبدا أبدا، كل مرة تقولي كده يا نوال وتكتبين، المرة دي هي الأخيرة يا شريف، كل مرة تقولين هي دي الأخيرة، لأ خلاص هي دي الأخيرة، ولا يمكن حاكتب، خلاص فقدت القدرة على الكتابة، حاولي تنامي يا نوال، مش عارفة أنام، خلاص فقدت القدرة على النوم. •••
أنهض من السرير وأمشي في الظلمة، على أطراف أصابعي أمشي حتى لا يشعر بي شريف، أسير إلى الشرفة، نحن في الدور السادس والعشرين، في القرن الواحد والعشرين، أمد قدمي إلى السور وأقفز في الهواء.
ثم أفتح عيني، أرى جسمي ممدودا فوق السرير، إلى جواري القلم والصفحة البيضاء، تعلوها خطوط متعرجة بلا كلمات، بلا عبارة واحدة ذات معنى.
يفتح شريف عينيه، يراني صاحية شاخصة إلى السقف. يربت على كتفي: نامي يا نوال. أهمس بصوت خائر: تفتكر يا شريف إن فيه تناقض بين الزواج والإبداع؟ يضحك شريف، جايز يا نوال ... لكن خلاص نعمل إيه بعد خمس وثلاثين سنة؟! •••
الكتابة في حياتي كانت تأخذني إلى بئر عميقة في بطن الأرض، إلى مكان يخلو من البشر، إلى مساحة لا يشاركني فيها أحد، لا أسمع صوتا، لا شيء يتحرك، صمت مطبق كالموت. كنت أحمل قلمي وأوراقي وأغادر البيت، أمشي وأمشي دون توقف، أتلفت حولي كأنما أبحث، أتطلع إلى الأرض والسماء والبيوت والشوارع والعمارات والأزقة، أبحث عن شق أهرب فيه، أختفي داخله وأغلق ورائي سبعة أبواب، لا يكفي باب واحد لطرد الأصوات، أبحث عن الصمت داخل الصمت. أتلفت حوالي لا أعرف إلى أين أذهب، أسير بحذاء نهر النيل، أتوقف لحظة أحملق في المياه، أمد قدمي فوق السور وأقفز.
أصحو من النوم مبللة بالعرق، الأوراق مبعثرة فوق السرير، والقلم في يدي، إلى جواري رجل نائم.
النتيجة فوق الجدار مكتوب عليها التاريخ، اليوم والشهر والسنة، أحملق في الرقم 1956، هل عادت عقارب الساعة إلى الوراء أربعة وأربعين عاما وأنا غارقة في النوم؟ الرجل النائم يفتح عينيه، الظلمة شديدة لا أرى من ملامحه إلا العينين، من خلال الضباب الأسود يبرز الأنف، عظمة كبيرة تتوسط الوجه مقوسة قليلا، تحت الأنف شارب أسود كبير.
لا شيء ينفرني في الرجال مثل الشعر فوق وجوههم، يذكرني بالفصائل السابقة لنشوء الإنسان.
كان نائما على جنبه الأيسر، ظهره ناحية الحائط، وجهه ناحيتي، التاريخ فوق الحائط يشير إلى عام 1956، قشعريرة باردة تزحف إلى جسدي، ذاكرتي تعود إلى السطح بالتدريج، أخرج من بطن الأرض جزءا جزءا، أصحو فوق شيء يهتز، جفوني ثقيلة أفتحها بصعوبة، التاريخ فوق الحائط ثابت عند عام 1956، النافذة مفتوحة بدون زجاج ولا شيش، الهواء البارد ينفذ إلى جسدي، وأنا راقدة فوق ظهري، أسناني تصطك، أرتجف بالحمى، في حلقي غصة وفي أنفي رائحة دم، عيناي تدوران فوق الجدران، المكان غريب لم أره من قبل، الحائط بلا طلاء لونه أسود تعلوه بقع أكثر سوادا، الشقوق في الجدران تشبه الشقوق في الأرض، يتدلى من السقف سلك كهربي مات فوقه ذباب أسود. عيناه مغمضتان والزمن لا يتحرك، التاريخ ثابت عند عام 1956، بالضبط يوم 23 يوليو 1956، أشد جفوني لأصحو، عيناي مفتوحتان من قبل، لم أغمضهما لحظة واحدة طول الليل، كنت أفكر في الهروب، كيف أهرب وإلى أين؟
الليل كان طويلا بلا نهاية، مسمار في الحائط يتدلى منه معطف أبيض تعلوه بقعة دم، حقيبة صغيرة من الجلد الأسود، ملقاة في وسط الغرفة، من حولها تبعثرت أدوات طبية، سماعة لها خرطوم أسود طويل، حقنة لها إبرة طويلة، أربطة شاش وقطن، وصورتي فوق بطاقتي ممزقة ومعها اسمي.
لا يزال نائما على جانبه الأيسر، وجهه ناحيتي، ذراعه اليمنى ممدودة فوق السرير. كنت أترك مساحة كبيرة بيننا، مسافة طويلة أطول من ذراعه الممدودة، يده ضخمة كبيرة، أصابعه غليظة، لم أر في حياتي أصابع غليظة بهذا الشكل. أتلفت حولي أبحث عن مكان الباب، الظلمة شديدة لا أرى الباب، كأنما الغرفة بدون باب، أربعة جدران عالية سوداء، ولا منفذ للهروب.
هذه الليلة صيف عام 1956 تعود إلى ذاكرتي، ومعها ليلة أخرى في صيف عام 1941، بالضبط 30 أغسطس 1941، أردت الهرب من بيت أبي وأنا في العاشرة من العمر، لم تكن الليلة مفزعة مثل تلك الليلة 23 يوليو 1956. اللحظات المنسية في حياتي تطفو فوق سطح الذاكرة، عيون سوداء صغيرة تلمع وسط خضم من السواد، نجوم تظهر في الليل من وراء سحابة كثيفة سوداء. الهروب من بيت الأب أقل إفزاعا من الهروب من بيت الزوجية. كلمة «زواج» تعني باللغة العامية «الجواز»، كانت جدتي تقول: «ربنا كتب علينا الجواز يا بنت ابني، مصيرك الجواز زي كل البنات، القدر والمكتوب ع الجبين لازم تشوفه العين، جوازتي كانت جنازتي يا بنت ابني، نحمدك يا رب على كل المصايب ولا يحمد على مكروه سواك.»
منذ السادسة من عمري، وأنا أحفظ هذه الكلمات الثلاث عن ظهر قلب، أنطقها في نفس واحد: «ربنا، المصائب، الجواز.» •••
كلمة الحب لم تكن هي الجواز، كنت أغني مع الراديو للحب، لم نكف نحن البنات عن الغناء للحب، لم أسمع في حياتي أغنية واحدة عن الزواج.
الحب مصيدة الفئران تدخلها البنات آمنات مغمضات العيون مثل القطط المغمضة، يفتحن عيونهن مفزوعات، تحول الحب إلى أربعة جدران سوداء في بناء آيل للسقوط هو بيت الزوجية.
في العاشرة من عمري خفق قلبي بالحب الأول، لم أكن أرى من الرجل إلا عينيه، كان يمكن أن أموت من أجله، اختفى الرجل لحسن حظي قبل أن أهرب من بيت أبي، سافر ولم يترك إلا صورة ضوئية اختفت هي الأخرى، وسقطت في العدم. التقيت به صدفة بعد ثلاثين عاما، رأيت وجها غريبا له أنف طويل مدبب وشفتان رفيعتان إلى حد التلاشي، أيمكن أن يقبل بهما امرأة؟! عيناه صغيرتان غائرتان بلا بريق ولا ضوء، كيف كانت عيناه تغرقني كالشمس، لم أستطع الحملقة فيهما، كنت أسقط في ما يشبه الإغماءة إن رنت حروف اسمه في الجو.
في العشرين من عمري خفق قلبي بالحب الثاني، عيناه كالحب الأول كانتا هما الشمس، هربت من بيت أمي وأبي، تركت كتبي وأوراقي وأقلامي وملابسي وصور طفولتي، سرت في الطريق إليه لا ألتفت ورائي، تحول الحب لسوء الحظ إلى زواج، فتحت عيني على الجدران الأربعة السوداء، داخل مطبخ في بيت قديم آيل للسقوط في حي بمدينة القاهرة اسمه المنيل. •••
بالأمس رأيت فيلما مفزعا مخرجه «ستانلي كوبريك»، مأساة الجنود الأميركيين في حرب فيتنام، مكنة الحلاقة ذات الموسى الحادة تدور على رءوس الشباب في ربيع عمرهم، تجتز شعورهم عن فروة الرأس، الخراف يسلخون جلودها في المذبح. يتحول الشاب الفنان الرقيق إلى قاتل سفاح، يدرب على القتل دون أن يطرف له جفن ، يقول له المدرب العسكري: سلاحك في يدك مثل سلاحك بين فخذيك منبع القوة والرجولة.
تدور الكاميرا على أجسام الشباب في معسكر التدريب، يمسكون باليد اليمنى البندقية، وباليد اليسرى يمسكون العضو الذكري أسفل البطن، يسيرون في صف طويل يشبه القطار الطويل يسير فوق القضبان، كل منهم يمسك قضيبه.
كنت جالسة فوق الكنبة الزرقاء العريضة في الصالة، إلى جواري شريف يتابع الفيلم، دخل المدرب العسكري غاضبا إلى أحد الشباب يأمره أن يسلم سلاحه، نهض الشاب واقفا يرمقه بعينين يختفي سوادهما تحت الجفن، تحولت العينان إلى مساحة من البياض بلون الثلج، المدرب العسكري يقترب منه، يأمره أن ينزع سلاحه، الشاب واقف في مكانه ثابت، البياض في العينين ثابت، النني الأسود الصغير اختفى تماما تحت الجفن، اللون الأبيض في العينين كالثلج، تحرك إصبع واحد على الزناد، انطلقت الرصاصة في صدر المدرب العسكري، سقط إلى الأرض غارقا في دمه، توقف الشاب يلهث، جلس فوق المرحاض، وضع فوهة البندقية في حلقه، ضغط بإصبع واحد، تفجر الدم من حوله، فوق الجدار الأبيض اللامع من السيراميك، فوق السقف الأبيض، وبلاط الأرضية الأبيض، غرق البياض في دم أحمر.
منذ طفولتي يفزعني الدم الأحمر فوق الملاءة البيضاء، دم العذرية والحيض والختان، قطعة دم متجلطة تنزلق من جسدي وأنا أمشي في الشارع، نقطة دم تتركها الإبرة فوق ذراعي بعد أن ينزعها الطبيب، وجه الطبيب يشبه وجه المدرب العسكري في الفيلم، وجه ممسوح الملامح رمادي اللون كالجرانيت، والعينان ممسوحتان إلا من البياض الأبيض بلون الثلج، يقف أمامي شاهرا الإبرة في وجهي مثل البندقية.
انتهى الفيلم بعد منتصف الليل، أطفأ شريف جهاز الفيديو، ذهبنا معا إلى النوم، أصبح لكل منا غرفة نوم مستقلة، داخل كل غرفة مكتب صغير ومكتبة لها رفوف تحمل الكتب والأوراق والصور وخطابات الحب السرية، تعودت الكتابة والنوم داخل غرفة خاصة، لها باب لا يفتحه أحد، الكتابة مثل النوم تحتاج إلى الصمت المطبق، الصمت داخل الصمت.
منذ الطفولة تفزعني الأفلام كأنما هي الحقيقة، يفزعني الظلام في الليل، أتسلل من سريري لأنام بجوار أمي أو أختي، تجاوزت الستين عاما والطفلة في أعماقي هي الطفلة، أخاف الظلام حين أمشي وحدي في الليل، منظر الدم في الأفلام يرتعد له جسدي، يسألني شريف كيف اشتغلت طبيبة وجراحة في مستشفى الصدر بالجيزة؟ وكيف أمسكت المشرط في يدك وفتحت الصدر والبطن دون أن يطرف لك جفن؟
وأقول لشريف: إنها امرأة أخرى تلك التي اشتغلت بالطب والجراحة، أو ربما يختلف الدم المراق تحت أيدي الأطباء والطبيبات عن الدم المراق تحت أيدي العساكر والأزواج. •••
صور من الماضي ماتت وراحت في العدم، أحاول استعادتها دون جدوى، اللون الأحمر القاني يلطخ السطح الأبيض، مشهد أراه في النوم حين يغيب الوعي، حين يتسرب اللاوعي إلى الوعي، منذ الطفولة يرتعد جسدي لمنظر الدم.
قطرة حمراء فوق ملاءة السرير البيضاء، من أين يأتي الدم في الطفولة؟ ولماذا يتكرر دون انقطاع؟ منذ التاسعة من عمري رأيت الدم في الفراش، تعودت رؤيته الشهر وراء الشهر، السنة وراء السنة حتى أدبرت طفولتي.
لم تعد البقعة الحمراء فوق الملاءة تفزعني، أصبح غيابها هو المفزع، أفتح عيني كل صباح وأبحث عن البقعة الحمراء فوق الملاءة، في ملابسي، في ثنايا النسيج الأبيض أبحث عن قطرة واحدة حمراء.
تمط سامية شفتيها الرفيعتين وتقول: هذه أشياء غير مهمة يا نوال، المهم قضية تحرير العمال والفلاحين من الرأسمالية والإمبريالية. ويضحك شريف حين يسمعها تنطق هذه العبارة في نفس واحد، يعرف أنها صديقتي منذ المدرسة الثانوية في حلوان الداخلية، وقد أصبحت زميلة له في حزب اليسار منذ أكثر من نصف قرن.
رغم الاختلاف تستمر صداقتي بها، الصداقة القديمة منذ الطفولة تصبح مثل علاقات الدم، حين كتبت عام 1965 عن الختان ومشاكل المرأة الجنسية قالت: إنني أخون القضية الوطنية. وفي عام 1972 حين كتبت عن النظام الطبقي الأبوي، قالت: لا يوجد إلا النظام الطبقي فقط أو المشكلة الاقتصادية. وفي عام 1982 حين بدأنا نشكل تنظيما للنساء اعترضت، وقالت: لا تمثل النساء طبقة ولا يحق لهن تكوين تنظيم مستقل. ثم نطقت كلمة «فيمنيست» وهي تمط شفتيها الرفيعتين بامتعاض .
لكن سامية تغيرت مع مرور الأعوام، وفي عام 1995 حضرت مؤتمرا للمرأة في نيويورك، ثم عادت تتحدث عن النظام الطبقي الأبوي. وفي عام 1997 أصبحت ترأس تنظيما نسائيا مستقلا، ومجلة للمرأة من النوع الفيمنيست. وفي عام 1998 بعد أن أصدر وزير الصحة قرارا بمنع ختان البنت فتح شريف الجريدة ذات صباح، رأى صورة سامية تتلقى الجائزة أو الوسام باعتبارها الرائدة في مجال النضال ضد الختان. •••
في المدرسة الثانوية كانت البنات يبحثن في ثنايا ملابسهن الداخلية عن القطرة الحمراء، كان اختفاء الدم في حياة البنت يعني كارثة، تخشى البنات الحمل السفاح.
لا يغسل العار إلا الدم، الرجال يقومون بالغسيل، والنساء يفقدن الدم، يتحول القاتل إلى بطل يحمي الشرف، تدفن البنت في الخفاء، ويدفن معها اسمها واسم أمها، يتألق اسم الأب بعد مقتل البنت.
منذ قصة العذراء الطاهرة في التاريخ تخشى البنات الحمل السفاح، يدور السؤال في رءوسهن وهن نائمات: أيمكن أن تتكرر القصة في التاريخ؟ هناك قصص تكررت وجاء ذكرها في كتب الله، كم مرة تكرر عصيان بني إسرائيل لأوامر الله؟ كم مرة تكرر غفران الله لبني إسرائيل؟ كم مرة أرسل الله إلى البشر رسولا يحثهم على الإيمان به؟ كم كان عدد الأنبياء والمرسلين؟! كم مرة تكرر نزول الأنبياء إلى الناس؟ كم مرة أرسل الله مندوبه إلى سيدنا إبراهيم، وسيدنا موسى، وسيدنا عيسى، وسيدنا محمد؟! لماذا إذن لا يتكرر نزول مندوب الله إلى إحدى البنات لتحمل كما حملت ستنا مريم العذراء؟!
في المدرسة الابتدائية ورد السؤال إلى ذهني وأنا نائمة، كالحلم الآثم كتمته في أعماقي، ثم اكتشفت أن جميع البنات أحلامهن آثمة. وفي المدرسة الثانوية أيضا همست لي الزميلات بما يدور في عقولهن أثناء النوم، قالت صفية: إنها منذ قرأت قصة العذراء مريم وهي تحلم بمندوب الله يهبط إليها في الليل. وقالت سامية: إنها لا تؤمن بالله مع ذلك يأتيها المندوب في الحلم. وفي كلية الطب قالت صديقتي بطة: أما أنا يا نوال فقد جاءني المندوب في الواقع والحقيقة وليس في الحلم. ثم كركرت بالضحك، بالشهقات المتقطعة كهواء محبوس يخرج من عنق زجاجة ضيق. •••
كنت غارقة في النوم حين التفت الأصابع الغليظة حول عنقي، كما يحدث في الأحلام حاولت أن أفتح فمي لأصرخ، صوتي لا يخرج، الأصابع الغليظة قوية، أقوى من أصابعي، أفتح فمي طلبا للهواء، أشهق بصوت مكتوم، كان يمكن أن أستغيث وأوقظ الجيران، لكني رأيت أن الموت أهون من الفضيحة.
كلمة «الفضيحة» كانت تخرق أذني منذ ولدت، ولادة الأنثى كانت في حد ذاتها فضيحة تتكتم الأسرة الخبر، تتخفى الأم الوالدة عن عيون الناس، يغرق بيت المولودة الأنثى في الصمت.
كلمة «أنثى» في حد ذاتها فضيحة، إن قال لي أحد أنت أنثى أصفعه على وجهه. كلمة «جنس» ترن في أذني نابية. لا أستطيع أن أنطق كلمة «جوزي» بالعامية، أنطقها باللغة الفصحى المحترمة وأقول زوجي. كنت قد تزوجت للمرة الأولى تحت اسم الحب الكبير، قصة طويلة بدأت وأنا في العشرين من العمر فتاة عذراء، وانتهت وأنا في السادسة والعشرين زوجة عذراء، تحولت إلى أم عذراء ، ثم تحررت بالطلاق.
لماذا لم أفقد عذريتي حتى اليوم، بعد أن تجاوزت الستين عاما؟ لكن العذرية مثل القضاء والقدر، مكتوبة على جبين النساء، ليس في مقدور البشر أن يهتكوا عرض المرأة الصالحة التي تعرف الله، وتعرف أنه اصطفى العذراء مريم من نساء العالمين، هي الوحيدة ذكر اسمها في كتابه الكريم، ولها سورة كاملة في القرآن باسمها «مريم»، تتطلع النساء إلى هذا النموذج الأمثل للطهر والنقاء؟!
منذ الطفولة أرى السيدة مريم العذراء النموذج الأعلى، أم المسيح، الوحيدة دون النساء أجمعين تم تعريفها بالاسم في القرآن، جميع النساء الأخريات مجهولات الاسم، حواء زوجة سيدنا آدم، وزوجات سيدنا محمد عليه السلام لم يذكر اسم واحدة منهن في القرآن، حتى السيدة خديجة لم يذكر اسمها.
كان طبيعيا أن يتجه طموح الفتاة المسلمة المثالية إلى مريم العذراء وليس أي امرأة أخرى، منذ أدركني البلوغ في سن التاسعة من العمر أقسمت بيني وبين الله، أنني سوف أكون مثل ستنا مريم، وسوف أحمل وألد دون أن أمارس الجنس وأصبحت أنتظر كل ليلة مندوب الله.
وطال الانتظار العام وراء العام، ثم جاءني رجل يتخفى في الظلام، وهمس في أذني أنه مندوب الله. كنت فتاة مثالية يرتعد جسدي حين أسمع كلمة «الله»، أغمض عيني وأهمس: يا رب أرجو أن تذكر اسمي في كتابك الكريم كما ذكرت اسم ستنا مريم، ولماذا تصطفيها هي وحدها، ألا يمكن يا رب أن تصطفي امرأتين وقد اصطفيت أكثر من عشرين رجلا من الأنبياء الصالحين؟!
كان ذلك في الطفولة الساذجة والمراهقة الأولى، ثم دخلت كلية الطب، أصبحت أفصل بين الحلم والواقع، بين الوهم والحقيقة. وقعت في حب حقيقي وتزوجت زواجا حقيقيا على سنة الله والرسول، وحملت وولدت وأصبحت أما حقيقية غير عذراء وغير طاهرة. كان هناك شيء غير طاهر يحدث لي في الليل، شيء لا يبعث على اللذة بل الألم والإثم، كان زوجي الأول رجلا مكتمل الرجولة، كان فدائيا شجاعا يضحي بحياته من أجل الوطن، عاد من جبهة القتال كافرا بالوطن. - الخيانة يا نوال! - خيانة الحكومة يا أحمد. - الحكومة هي الوطن يا نوال. - الحكومة شيء والوطن شيء آخر. - هذا وهم يا نوال. - هذه حقيقة يا أحمد. - لأ، وهم، كل شيء وهم يا نوال، خلاص أنا اكتشفت الحقيقة، كنت مخدوعا.
جسدي يرتعد حين سمع صوته في الليل يردد: «وهم يا نوال»، كان يصحو طول الليل، يحقن نفسه بجرعة مضاعفة من الماكسيتون فورت، يجلس وراء المكتب ويمسك القلم بين أصابعه، يكتب كلمتين اثنتين لا غير: «الثلاثة وهم» ثم يشطبهما ويبدأ من جديد «الثلاثة وهم» يشطبهما بالقلم ثم يكتبهما أول السطر.
كان يكتب بقلم رصاص، ويشطب بالقلم ذاته، حين ينقصف القلم يضعه في البراية، يحركه المرة وراء المرة حتى يصبح له سن طويل رفيع مدبب. يكور الورقة القديمة ويرميها في الصفيحة تحت المكتب، تمتلئ بالورق المكور، يفرغها في صفيحة القمامة في المطبخ، ويعود يجلس إلى المكتب.
يفرغ البراية من النشارة بعد أن يبري القلم وراء القلم، لا يترك القلم إلا بعد أن يصبح أقصر من عقلة الإصبع . لم يكن يخرج من البيت إلا ليشتري أقلام الرصاص، رزم الورق الأبيض، وعلبة الماكسيتون فورت من الصيدلية في شارع المنيل.
كنت قد تخرجت واشتغلت طبيبة في مستشفى قصر العيني الجديد أو مستشفى المنيل الجامعي، يبعد عن بيتنا مسافة نصف ساعة على القدمين، أخرج في الثامنة صباحا وأعود في الثالثة بعد الظهر، أراه جالسا وراء المكتب في غرفة النوم، كانت الشقة صغيرة، بها غرفة واحدة، وصالة صغيرة للطعام، ومطبخ صغير، وشرفة صغيرة تطل على فرع النيل الصغير، يتكون البيت من أربعة أدوار، في كل دور شقتان متقابلتان، ونحن في الدور الثالث.
كان راتبي الشهري عشرة جنيهات ونصفا، أشتري بها الطعام ومصاريف البيت، كانت أمه تعطيه تسعة جنيهات كل شهر، نصيبه من ميراث أبيه، ينفق الجنيهات التسعة على شراء الأقلام الرصاص والورق وعلب الماكسيتون فورت. قبل الطلاق بفترة قصيرة لم تعد الجنيهات التسعة تكفي، كان يحقن نفسه بجرعة تتزايد يوما وراء يوم، وهذا أمر معروف في الطب، إن الجسد قادر على التغلب على أي سموم تمشي في الدم، مخدرات أو منبهات، يدخل الماكسيتون فورت تحت المواد المنبهة، يحتاج المدمن إلى زيادة الجرعة حتى يتغلب على مقاومة الجسم للمادة الكيميائية.
كان يفتح حقيبتي ويأخذ منها ليشتري الماكسيتون فورت، أصبحت أخبئ الحقيبة في مكان لا يعرفه، بدأ يبيع أثاث البيت، لم يكن عندنا إلا أشياء قليلة، لم يبق إلا السرير الصاج الأسود العريض، والمكتب الخشبي والمقعد الواحد الذي يجلس فوقه طول الليل يكتب عبارة واحدة من كلمتين: «الثلاثة وهم»، ثم يكور الورقة ويلقيها في الصفيحة.
قبل الطلاق بثلاثة أيام خلع الشيش والزجاج من النافذة، وعاد يحمل علبة الماكسيتون فورت، نمت طول الليل أرتجف بالبرد، كان السرير تحت النافذة، لم يكن عندنا إلا بطانية واحدة، فتحت عيني قرب الفجر، رأيته جالسا يكتب ويشطب ويرمي الورق في الصفيحة.
حين رآني أفتح عيني رمقني بنظرة غريبة، رأيته رجلا غريبا، صوته أصبح غريبا. - صحيتي يا دكتورة؟ - أيوه. - قوليلي: الثلاثة دول وهم ولا لأ؟ - الثلاثة مين؟ - الأب، الوطن، الحب . - حقيقة وهم ... لا يهم، المهم هو أنك تبطل هذا السم الذي تحقن به نفسك! - لا يعالج السم إلا السم ... وداوني بالتي كانت هي الداء. - لا يمكن حياتنا تستمر بهذا الشكل. - طبعا خلاص الحب راح يا دكتورة! - مش عارفة. - أنا عارف، الحب وهم كبير. - لأ. - يعني مؤمنة بالحب؟ - أيوه. - مين هو الرجل السعيد يا دكتورة؟ لا يمكن أكون أنا؛ لأني أنا خلاص انتهيت! - كل شيء يتوقف على إرادتك أنت. - انتهت الإرادة وكل شيء، لم يبق إلا الموت، وكما كنا نقول أيام الحب: نعيش سوا ونموت سوا، إيه رأيك نموت سوا؟ •••
ليلة 23 يوليو 1956 قبل أن يطلع الفجر.
العالم يحتفل بعيد الثورة الرابع وأنا أختنق، أصابع غليظة تلتف حول عنقي في الليل، أحاول أن أصرخ، صوتي لا يطلع كما يحدث في الحلم، أفتح فمي طلبا للهواء، أشهق بصوت مكتوم، كنت أفضل الموت على أن يسمع صوتي أحد.
في حياة النساء كان الموت أفضل من الاستغاثة، المرأة في الشقة المجاورة كانت تستغيث، أسمع صوتها في الليل وأنا نائمة، يفتح الجيران نوافذهم يسمعون صوتها. امرأة أخرى تستغيث في العمارة المجاورة، في الصباح أسمع الناس يتهامسون.
أب يضرب ابنته؛ لأنها تأخرت في الليل، رجل يضرب زوجته؛ لأنه وجد حصوة في صحن الأرز، زوج يقتل زوجته؛ لأنه يشك في سلوكها، يتهامس الناس: وما له؟ الشرف فوق كل حاجة، كل رجل حر في بيته، الرجال قوامون، ربنا قال: «واضربوهن»، بنات حواء، ربنا قال:
إن كيدكن عظيم .
يغلق الجيران نوافذهم وينامون، تصحو المرأة على الفضيحة، سيرتها على كل لسان، تكف بعد ذلك عن الاستغاثة. لم أصرخ تلك الليلة، منذ الطفولة لم ألجأ إلى الصراخ حين يقترب الموت، كنت أفكر في طرق المقاومة أو الهرب. •••
منذ صيف عام 1956 حتى صيف عام 1960 فقدت جزءا من ذاكرتي، أربعة أعوام كاملة نسيت ملمس الأصابع الغليظة حول عنقي، سقطت في العدم كأن لم تكن، لم يبق منها إلا ظلال سوداء فوق جدار أسود، ثم اختفت هذه الظلال أيضا وراحت في العدم.
في النوم وأنا غائبة عن الوعي، تبدأ الظلال في الظهور من بطن الخضم الأسود مثل قمة جبل الثلج تحت الماء.
إهدار الدم
بداية عام 2000.
القلم بين أصابعي والصفحة تحت يدي بيضاء، مساحة من الفضاء تنتظر كلماتي، النافذة مفتوحة أمامي على السماء، أحملق في مساحات من الخواء، أبحث عما كان أبي يقول إنه الحقيقة. منذ الطفولة كنت أجادل أبي، لم يكن عقلي يقبل أي شيء دون برهان، يغضب أبي ويقول: هناك حقائق ليس لها برهان، يرمقني بنظرة حمراء لأكف عن الجدل، ولم يكف عقلي عن التساؤل.
كان عقلي مشكلة حياتي، أردت التخلص منه منذ الطفولة. في سن المراهقة أصبحت بلا عقل، فتاة وادعة مطيعة لا تجادل، لا يدور في رأسها سؤال، أشياء أخرى تدور في جسدها، رغبات عارمة يرتج لها الجسد، أحلام في اليقظة والنوم عن الحب، أشياء لها ملمس مادي، الجسد يعانق الجسد في الليل، ترمقني أمي بنظرة حمراء لأكف عن الحب، لم يكن جسدي يكف عن رغباته.
أصبح جسدي مشكلة حياتي، أردت التخلص منه منذ المراهقة، في سني الشباب الأولى أصبحت بلا جسد، امرأة ناضجة مثالية حسنة السيرة والسلوك، زوجة مطيعة لزوجها في البيت، مطيعة لرئيسها في العمل، تضحي بحياتها من أجل الأسرة، وإن قامت الحرب تضحي بالأسرة وتموت فداء الوطن.
مرت بي أيام أمشي في الطريق مثال الخيال، شبح من الأموات، شاحبة الوجه مطبقة الشفتين في صمت، لا شيء يتحرك في عقلي أو جسدي، منذ زمن طويل فقدتهما، أترنح وأنا أمشي مثل خيال. كان الموت قريبا مني أكاد ألمسه بيدي، الموت من أجل الوطن، من أجل الله، من أجل زوجي. يعلو الله فوق الجميع، من بعده يأتي الوطن أو الملك أو الرئيس، بعد ذلك يأتي الزوج.
في الليل، كنت أهتف يسقط الملك يسقط الزوج يسقط الإنجليز. كان ذلك في طفولتي، تغيرت الأسماء في مرحلة الشباب، أسمع الشباب يهتفون، يسقط الرئيس يسقط الأمريكان، أشاركهم الهتاف وأضيف من عندي ويسقط الزوج.
صديقتي صفية تهتف معي يسقط الزوج، تنضم إلينا الصديقات الأخريات سامية وبطة ، الثلاث زوجات مطيعات يحلمن بالطلاق في الليل، أربعة وأربعون عاما يحلمن بالطلاق، يتكرر الحلم كل ليلة حتى انتهى القرن وجاء القرن الجديد الواحد والعشرون.
ذاكرتي تروح وتجيء في الزمن على نحو عجيب، يتلاشى نصف قرن في لحظة، واللحظة الحاضرة تمتد أمامي لا نهائية، يلتحم الماضي بالحاضر في لحظة واحدة، الصوت يتسرب إلى أذني واضحا كأنني أسمعه الآن، اقتلوها الكافرة عدوة الله. أهب من النوم على الصوت يزعق في شارع الجيزة، النافذة مغلقة بالشيش الخشبي والزجاج المزدوج، شريف نائم في سريره المجاور لسريري، كان لنا سريران منفصلان في غرفة نوم مشتركة، الجدران بيضاء نظيفة والملاءة ناصعة البياض، الأرض من البلاط الناعم، أنزلق فوقه حين أمشي، فوق المنضدة الساعة تشير إلى الواحدة، النتيجة فوق الحائط ثابتة عند 31 ديسمبر 1998، عيد رأس السنة الجديدة، أشياء مفزعة تحدث دائما ليلة العيد، منذ طفولتي لا أحب الأعياد، يمتلئ قلبي بالحزن حين يتألق العالم بالفرح.
أهدروا دمها الكافرة عدوة الله.
جفوني مثقلة بالنوم، يسري الصوت إلى أذني قبل أن أفتح عيني، أضواء خافتة تتسرب من شقوق الشيش، أمشي إلى النافذة على أطراف أصابعي، أتوقف لحظة لألتقط أنفاسي، أطل من بين الشق، الشارع ليس فيه أحد، عربة كارو يجرها حمار، صاحبها راقد فوق ظهره يهتز مع اهتزاز العربة، سيارات مسرعة تظهر أنوارها ثم تختفي، الشق ضيق، أخشى أن أفتح النافذة، الصوت يزعق، يردد بعض الأسماء، يرن اسمي واسم أبي وجدي السعداوي الذي مات قبل أن أولد. - اقتلوهم الكفرة أعداء الله.
أذناي من وراء النافذة المغلقة تلتقطان الأسماء واحدا وراء الآخر، يرن اسمي في الجو: نوال السعداوي. يخترق رأسي مثل طلقة الرصاص، يفتح شريف عينيه، يراني واقفة وراء النافذة جامدة مثل تمثال. - فيه إيه يا نوال؟ - سامع الصوت؟
يفتح شريف النافذة، من أين ينبعث الصوت، الميكروفون فوق مئذنة الجامع المجاور لنا، أو الجامع الآخر الجديد في الشارع الخلفي، أو الجامع القديم وراء الكنيسة، أو المئذنة الجديدة بدون جامع، تبرز بين البيوت من فوق ميكروفون ضخم، يربت شريف على كتفي : نامي يا نوال وبكرة الصبح نعرف إيه بيحصل في البلد.
يأتي الصبح ولا نعرف شيئا. لا أحد في الكون يعرف الحقيقة إلا الله والسيد الرئيس. هكذا قال يوسف إدريس لشريف عبر أسلاك التليفون، يضحك ويقهقه بصوت يهز الأسلاك. أيوه يا شريف محدش عارف حاجة، البلد على كف عفريت، فاكر حريق القاهرة في يناير اثنين وخمسين، الحكومة والإنجليز حرقوا البلد عشان يضربوا العمل الفدائي في القنال، أنا متوقع حرايق في البلد مش حريق واحد، الجماعات الإسلامية دي عملها السادات عشان يضربنا يا شريف، عشان يضرب اليسار كله، وطبعا معاه الأمريكان، أنا باسمع اسمي في الميكروفونات فوق الجوامع، الجوامع دي كلها بنتها الحكومة بفلوس أمريكا، عشان يتخلصوا منا يا شريف، أنا عارف إن الحكومة والأمريكان عاوزين يخلصوا مني أنا بالذات؛ لأن مقالاتي في الأهرام أخطر من المقالات في صحف المعارضة، عاوزين يقتلوني يا شريف. - مش أنت لوحدك يا يوسف، فيه ناس كثير عاوزين يقتلوهم أكثر منك، لو كانت الحكومة عاوزة تتخلص منك كانوا شالوك من الأهرام يا يوسف. - أيوه يا شريف، لكن أنا عارف إن الحكومة سايباني أكتب عشان تكون عندنا معارضة وديموقراطية، لكن المسألة تطورت وخلاص مش عاوزين أي معارضة، على فكرة أنا سمعت اسم نوال، مش عارف إزاي يهدروا دم امرأة؟ - زي ما بيهدروا دم الرجل يا شريف. - لكن المرأة غير الرجل يا شريف. - مش فاهم. - في الصعيد مثلا دم الرجل هو المطلوب في الثأر، وفي السياسة أيضا دم الرجل هو المطلوب. - ليه يا يوسف، هو الرجل فقط اللي عنده دم؟!
كان الجدل يدور بين شريف ويوسف عبر أسلاك التليفون، يضحك يوسف بصوت عال، تهتز الأسلاك مع قهقهته ويتحول الحديث من السياسة إلى المرأة.
كان يوسف إدريس زميلا لأحمد حلمي في كلية الطب وأحمد المنيسي وفؤاد محيي الدين وغيرهم من الطلبة، لماذا بدا أحمد حلمي مختلفا عن الجميع؟! الصوت الهادئ المنخفض، الكلام القليل، الخطوة فوق الأرض الواثقة غير المتسرعة؟ العمل في صمت دون ضجة، في الاجتماعات في المدرج الصغير كنت أراه جالسا في الصف الأخير، يتنافس زعماء الطلبة على الميكروفون وهو في مكانه جالس، يدقون بقبضة اليد على المنصة ويلقون الخطب، يثرثرون بأصوات عالية وهو صامت، يتكلمون في وقت واحد يقاطعون بعضهم بعضا، وإذا تكلم أحمد حلمي صمت الجميع.
حين التقيت لأول مرة بشريف حتاتة عام 1964 تذكرت أحمد حلمي عام 1951، برزت ملامحه من العدم، الجبهة العريضة، والشعر الأسود الغزير، الحاجبان الكثيفان، العينان، الأنف، الصوت، المشية فوق الأرض، الكلام القليل والعمل في صمت، مات أحمد حلمي بعد أن عاد من الحرب مهزوما، ماتت الروح قبل أن يموت الجسد، كان يحقن نفسه بالسم لينسى الخيانة، مات شهيد الوطن مثل أحمد المنيسي دون أن يقام له حفل تأبين.
كان زعماء الطلبة مثل زعماء الأحزاب السياسية، تعلموا منهم قواعد اللعبة، لم يستشهد منهم أحد، لم تسقط من أحدهم قطرة دم، أصبح فؤاد محيي الدين وزيرا للصحة ثم رئيسا للوزراء، كان في كلية الطب ضمن اليسار، عضو لجنة العمال والطلبة، وفي عهد عبد الناصر كان يخطب عن الاشتراكية والقطاع العام، وفي عهد السادات لم يعترض على شيء، جلس في مقعد رئيس الوزراء، يتلقى التوجيهات من السيد الرئيس، الانفتاح والرأسمالية والسوق الحرة والقطاع الخاص، ثم سقط في مكتبه ومات بالسكتة القلبية وهو رئيس الوزراء في عهد حسني مبارك.
التقيت بفؤاد محيي الدين لأول مرة عام 1951، في اجتماعات طلبة كلية الطب بالمدرج الصغير، تخرج قبلنا بعدة سنوات وتخصص في الأشعة، طويل القامة نحيف الجسم أنيق الملابس يشبه الطاووس، عيناه تتجاوزان كلية الطب إلى وزارة الصحة ومجلس الوزراء. التقيت به أكثر من مرة وهو وزير للصحة، كنا نتحدث في الأدب والإبداع، تتجاوز عيناه جدران مكتبه ويتنهد قائلا: كنت أتمنى أن أكون أديبا مبدعا مثلك ومثل يوسف إدريس. ثم يضحك، إيه رأيك يا نوال نتبادل المواقع، تبقي أنت وزير الصحة وأنا أديب مشهور في العالم زيك. أضحك وأقول له: إذا بقيت وزيرة الصحة لازم يرفدوني بعد أسبوع.
صوت أبي الميت كان يهمس في أذني، الوزير يأتي بقرار ويذهب بقرار ، والأديب لا أحد يعينه ولا أحد يعزله إلا قلمه.
لم يكن فؤاد محيي الدين صديقا، رغم حديثنا عن الأدب والفن، كان هناك حاجز زجاجي يقف بيني وبينه، ربما كنت أحس أن ميوله السياسية تحجب ميوله الأدبية، أن طموحه في المنصب العالي أكثر من طموحه الأدبي. يوم 25 نوفمبر 1981 كان لقائي الأخير بفؤاد محيي الدين، كان جالسا إلى جوار رئيس الدولة حسني مبارك فوق الكنبة المذهبة في قصر العروبة، إلى جواره محمد حسنين هيكل، ثم فؤاد سراج الدين، وشخصيات أخرى ممن أدخلهم أنور السادات السجن قبل اغتياله بشهر واحد. هذه الاعتقالات عرفت باسم مذبحة سبتمبر الأسود عام 1981، كنت واحدة من المسجونات، ثم أصدر حسني مبارك قرارا بالإفراج عن الدفعة الأولى من المسجونين بعد اغتيال السادات بشهرين، انفتح باب السجن في صباح ذلك اليوم وحملوني من الزنزانة داخل سيارة فولكس فاجن إلى قصر العروبة، حيث استقبلنا رئيس الدولة ورئيس الوزراء فؤاد محيي الدين.
كنت أرتدي حذائي الكاوتش، أخفيت داخله رسالة إلى رئيس الدولة أطالبه بالتحقيق في جريمة اعتقالي دون سبب إلا كتابة رأيي، قبل الاجتماع أخرجت الرسالة من حذائي وناولتها لرئيس الدولة، قرأها كلها حتى آخر سطر ثم قال لي: معلهش يا دكتورة نوال.
رنت كلمة «معلهش» في أذني غريبة، هل يضعونني في السجن دون جريمة ثلاثة شهور ثم يقولون لي معلهش؟ ألقى رئيس الدولة علينا خطبة عن نظامه الجديد في ظل الديموقراطية والحرية والقانون، علينا أن ننسى الماضي ونتطلع إلى المستقبل، قال بلغته هذه الحروف: بلاش ننبش القبور. وكان يعني أن ننسى فترة السجن، أن ننسى ما فعله السادات بنا، وأن ننتظر ما يفعله الرئيس الجديد.
لم يقنعني هذا الكلام، كنت أرى أن تقييم الماضي ضرورة لعدم تكرار الأخطاء، وأن التحقيق فيما حدث يتمشى مع القانون، ثم لماذا ينتظر الناس دائما ما يفعله رئيس الدولة، لماذا لا يعملون بدلا من مجرد الانتظار؟ ولماذا يصبح رئيس الدولة هو الفرد الوحيد الذي يعمل والذي يتخذ القرار ونحن علينا أن نجلس في بيوتنا وننتظر؟
بدأ فؤاد سراج الدين يتكلم بعد أن انتهى رئيس الدولة من كلمته، قال فؤاد سراج الدين: يا سيادة الرئيس، لقد أنابني زملائي لأتكلم عنهم. دهشت لهذه العبارة الأولى؛ لأن أحدا لم يأخذ رأيي في موضوع الإنابة هذه، كان عددنا ثلاثة وعشرين شخصا، منهم واحد وعشرون رجلا، وامرأتان فقط، أنا واحدة منهما، سألت زميلتي: هل تعرفين شيئا عن هذه الإنابة؟ هزت رأسها بالنفي، سألت الزميل الجالس إلى جواري، فقال: لا أعرف شيئا يا دكتورة نوال، لكني سمعت أن محمد حسنين هيكل اقترح على اثنين من أصدقائه المقربين إنابة فؤاد سراج الدين للتحدث نيابة عن الجميع، وأبلغوا رئيس الوزراء الدكتور فؤاد محيي الدين بهذا القرار لإبلاغه للسيد الرئيس، وبالطبع لم يأخذ رأينا أحد. قلت: كيف ينوب عنا أحد دون أن نعلم؟ هذا تصرف غير ديموقراطي ... كيف نقبله نحن الذين دخلنا السجن؛ لأننا اعترضنا على التصرفات غير الديموقراطية؟ ابتسم الزميل في أسى وقال: يا دكتورة نوال الأفضل أن نسكت وإلا أعادونا إلى السجن!
لم يعبر فؤاد سراج الدين عما كان يجيش في صدري، رفعت يدي وطلبت الكلمة بعد أن انتهى من كلمته، رمقتني بعض العيون بشيء من الضيق، ثلاثة أو أربعة من كبار الأسماء الذين كانوا داخل السجن بالأمس ثم أصبحوا اليوم شيئا آخر، يتطلعون إلى رئيس الدولة ورئيس الوزراء ويرمقون المساجين الآخرين شزرا.
أعطاني رئيس الدولة حق الكلام، تكلمت، قلت كل ما عندي في أقل من خمس دقائق، تشجع بعض المسجونين الآخرين وطلبوا الكلمة، ربما تلعثم أحدهم خوفا أو رعبا، إلا أنه فتح فمه وعبر عن رأيه، زميلتي المسجونة تكلمت وطلبت حماية النساء الحوامل في السجن، وتكلم شاب عن رعاية صغار السن وعدم تعريضهم للضرب أو التعذيب ... وفجأة رأيت محمد حسنين هيكل ينظر في ساعته فوق معصمه، وقال هذه العبارة: أظن أن وقت السيد الرئيس ثمين ولا يسمح بمزيد من الكلمات وأقترح قفل باب الحديث.
في لقاء لي مع محمد حسنين هيكل بعد بضعة شهور سألته: لماذا قلت هذا الكلام، وهل وقت الرئيس أثمن من وقت ثلاثة وعشرين شخصا دخلوا السجون دون جريمة؟ وإذا كان هو لم يقفل باب الحديث لماذا تقفله أنت وكنت مسجونا معنا؟ ثم لماذا لم تأخذوا رأينا في موضوع إنابة فؤاد سراج الدين ليتكلم عنا؟ ألم تفعلوا بنا ما يفعله أي حاكم دكتاتور رغم أنكم تكتبون عن الديموقراطية؟!
كان شريف معي في هذا اللقاء وسمعني أقول هذا الكلام، نظر إليه محمد حسنين هيكل وقال: الدكتورة نوال صعبة أوي مش كده ولا إيه يا دكتور شريف؟ ابتسم بهدوء وقال: نوال تعبر عن رأيها وهذا حقها.
بعد اللقاء مع رئيس الدولة يوم 25 نوفمبر 1981 خرجت من قصر العروبة، قالوا لنا داخل القصر: إن قرار الإفراج صدر ويمكننا العودة إلى بيوتنا. اجتزت حديقة القصر الكبيرة أشم رائحة الزهور، رمقني أحد الصحافيين فأقبل نحوي، نظر إلى حذائي الكاوتش مندهشا، وقال: أتقابلين رئيس الدولة بهذا الحذاء الكاوتش؟! قلت: ولماذا تنظر إلى حذائي يا أستاذ؟!
وقفت عند محطة الأتوبيس أنتظر سيارة أجرة تحملني إلى بيتي في الجيزة . فوق الأرض وضعت حقيبتي بها ملابس السجن، أرمق الناس وهي تمشي في الشارع، كيف يمشون هكذا دون أن تقبض عليهم الشرطة، كأنما لم أمش في الشارع أبدا بهذه الحرية؟ كأنما رجال البوليس سوف يأتون بعد لحظة لإعادتي إلى السجن. لم تكن كلمتي أمام رئيس الدولة هي الكلمة المطلوبة، انتزعتها من بين براثن السلطة وزملاء السجن. لم يطلبها أحد، لم يرغب في سماعها أحد. تقلصت وجوه الرجال حين تكلمت، بما فيها وجه رئيس الدولة، كيف تتكلم امرأة بهذا الشكل في أمور لا يتكلم فيها أحد. كلمة فؤاد سراج الدين لم تخرج عن تقديم الشكر والامتنان لرئيس الدولة؛ لأنه أطلق سراحنا. كلمة زميلتي لم تخرج عن طلب حماية المرأة الحامل في السجن باسم الشفقة، كلمة الشفقة تطرب لها آذان الرجال، الشفقة بالمرأة الحامل الضعيفة، ضعف النساء يؤكد قوة الرجل، الرجولة هي القوة والقوامة، الرجال قوامون على النساء. زميلة السجن كانت ترتدي الحجاب، تؤكد به هوية الأنثى التي يطلبها الرجال. لم تتقلص الوجوه حين تكلمت الزميلة المحجبة، خرجت من السجن وأصبحت صورتها في كل مكان، تكتب في صحف الحكومة والمعارضة، تتحدث باسم الإسلام والتراث والحجاب، أصبح لها مقال أسبوعي في إحدى الصحف الحكومية الكبرى، صورتها بالحجاب على رأس المقال، على وجهها ابتسامة أنثوية ناعمة، شفتاها متوردتان.
أمام باب الشقة في الجيزة وضعت حقيبتي على الأرض، رأيت اسمي فوق رقعة نحاسية صغيرة، ضغطت على الجرس، فتح شريف الباب، مش معقول! أي مفاجأة! كان يظن أنني في السجن، لم ينشر الخبر بعد في الصحف. ألقيت ملابس السجن في صفيحة القمامة، وأخذت حماما ساخنا، تمددت فوق السرير النظيف الدافئ، الملاءة بيضاء ناعمة تفوح برائحة صابون معطر، أدفن رأسي في الوسادة الناعمة، أغمض عيني كأني في حلم سأصحو منه بعد لحظة، وأجد نفسي في زنزانة السجن.
جاءني ابنتي منى وابني عاطف من المدرسة آخر النهار، أخفاني شريف في الغرفة ليصنع لهما المفاجأة، أراهما من ثقب الباب جالسين في الصالة، سحابة من الحزن تطفو فوق الوجهين الحميمين، عيون أطفال خطف بريقها غياب الأم، خيالهما قادر على اختراق جدران السجن، يكسر القضبان الحديد، يرى الأم جالسة فوق الأرض، تكتب بأصابعها فوق التراب رسالة إلى أطفالها.
في صباح اليوم التالي قرأ شريف الصحف، خبر الإفراج عن المسجونين في الصفحة الأولى، برقيات التهنئة إلى السيد رئيس الدولة يتبارى على نشرها الكتاب المعروفون، ذوو الأعمدة اليومية الثابتة أو المقالات الأسبوعية الطويلة، لم يفتح أحدهم فمه حين صدر قرار الاعتقال، وتم حبس أكثر من ألف شخص دون تحقيق ودون جريمة، كتب أغلبهم يؤيدون قرار الحبس، وصمت الباقون. قلت لشريف: الصمت في مثل هذا الوقت جريمة أو على الأقل مشاركة في الجريمة.
في جريدة الأهرام ظهرت برقية التهنئة لرئيس الدولة بقلم يوسف إدريس، الكاتب الكبير، ظهر اسمه بالبنط العريض، كأنما هو بطل الإفراج عن السجناء، لا يفوقه بطولة إلا رئيس الدولة، أصبح البطلان محط الأنظار، واختفى المسجونون داخل البيوت أو بين السطور، لا تنشر أسماؤهم إلا بالبنط الصغير جدا، لا يكاد يرى بالعين المجردة.
حين كنت في السجن كتبت رسالة إلى توفيق الحكيم ويوسف إدريس، قلت لتوفيق الحكيم: أنت رئيس اتحاد الكتاب، ورئيس لجنة القصة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، وأنا عضوة باتحاد الكتاب، وعضوة بلجنة القصة، وقد دخلت السجن دون تحقيق ودون جريمة، أرجو أن ترفع صوتك ضد هذا الحبس غير القانوني، وأن ترسل مندوبا من اتحاد الكتاب ليكتب تقريرا عن حالة الزنزانة التي أعيش داخلها.
وفي الرسالة نفسها إلى يوسف إدريس قلت له: أنت زميل لي في اتحاد الكتاب ولجنة القصة، ولك مقال أسبوعي بجريدة الأهرام، أرجو أن تكتب شيئا ضد قرار الحبس دون تحقيق ودون جريمة.
لم ينطق توفيق الحكيم أو يوسف إدريس بكلمة واحدة، لم يجتمع اتحاد الكتاب ليقرر إرسال مندوب ليرى حال الزنزانة، وفجأة بعد قرار الإفراج يخرج يوسف إدريس عن صمته ويرسل إلى رئيس الدولة يهنئه بعبارات التمجيد والولاء.
بعد أيام جاء يوسف إدريس إلى بيتنا في زيارة، قال: إنه جاء للتهنئة، وكان يريد أن يشتري لي باقة ورد ، لكن جميع محلات الورد كانت مغلقة. وضحك شريف، يا يوسف بلاش مبالغة، معقول كل محلات الورد قفلت؟! سهر معنا يوسف إدريس تلك الليلة، ربما كان تحت تأثير مادة الماكسيتون التي أدمن عليها مثل أحمد حلمي، يصبح لسانه ثقيلا في الكلام، يحتقن وجهه ويتورم قليلا، يداه أيضا تتورمان، يميل إلى السهر والكلام دون انقطاع، يصور له الوهم أنه بطل. - عارف يا شريف مين السبب وراء صدور قرار الإفراج عن المساجين؟ - مين يا يوسف؟ - أنا يا شريف، أنا اللي ...
شريف يستمع إليه، يبتسم بهدوء ونوع من السخرية الخفيفة، يعرف أن يوسف إدريس لم يرد على رسالتي، ولم يكتب كلمة واحدة ضد قرار الحبس، وأنه يعيش وهم البطولة منذ كان طالبا في كلية الطب، وأن مادة الماكسيتون المنبهة تسري في دمه، تصور له الوهم كأنما هو الحقيقة.
كان يوسف إدريس يجلس أمامي منفوخا بالماكسيتون وغرور العظمة، أصبح يحمل لقب الكاتب الكبير، وأصبحت أنا السجينة رقم 1536. الألم في عمودي الفقري، والنوم فوق أرض الزنزانة، صمت الزملاء والزميلات من الكتاب والأدباء، وصمت نقابة الأطباء، أرسلت رسالة إلى نقيب الأطباء فلم يرد.
تلك الليلة لم يكف عن الكلام، يقول إنه السبب وراء خروجنا من السجن. وكان شريف يتثاءب ويريد أن ينام، وأنا أيضا مللت كلامه عن بطولته الوهمية، وقلت وأنا أتثاءب: أعتقد يا يوسف أنك في حاجة إلى الذهاب إلى بيتك لتنام. قال: ولكني لا أريد أن أنام. قلت: ولكننا نريد أنا وشريف أن ننام. نهض متثاقلا واقفا فوق قدميه، وقال: عرفت يا نوال أنني كنت السبب وراء قرار الإفراج عنكم؟ قلت: وكيف أعرف وأنت لم تنطق بكلمة واحدة حين كنا في السجن؟!
مثل البالونة المنفوخة بالهواء تثقبها إبرة رفيعة، انكمشت البالونة وجلس يوسف إدريس بعد أن كان واقفا، رمقني بشيء من الغضب، لم أنس أنه صمت حين كان الكلام واجبا. أكثر ما كان يغضبه أنه لم ينس هو أيضا، أكان ضميره يؤرقه؟! أكان يحقن نفسه بالماكسيتون لينسى دون أن ينسى؟! كان أحمد حلمي يقول: الماكسيتون ليس مثل المخدرات يضعف الذاكرة، إنه أخطر المنبهات جميعا، يشعل الأحاسيس، تلتهب خلايا العقل إلى حد نسيان كل شيء، مع ذلك تظل الذاكرة مشتعلة لم تنس شيئا. •••
أول مرة أسمع عن قائمة الموت أو إهدار الدم كان عام 1988، أرسلت الحكومة حراسة أمام بيتي في الجيزة، وبودي جارد لحماية حياتي، لم أكن أدرك فكرة إهدار الدم، لم أسمع اسمي يرن في الليل من فوق الجوامع. وقال شريف: ما رأيك أطلب لطيفة الزيات في التليفون، لا بد أن لديها بعض معلومات؟
لم تشأ لطيفة الزيات أن تتكلم عبر الأسلاك. أنت عارف يا شريف، التليفونات عليها رقابة، أنا جاية الجيزة ويمكن أمر عليكم بالبيت، بوسلي نوال يا شريف.
كانت لطيفة الزيات صديقتي منذ نهاية الستينات نلتقي بصفة منتظمة في اجتماعات لجنة القصة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، وكان لها أخ يحتل منصبا كبيرا في الدولة، يلتقي بالسادات أحيانا، يهمس لأخته لطيفة أحيانا بمعلومات لا يعرفها أحد. حين فقدت منصبي في وزارة الصحة في أغسطس عام 1972 همست لطيفة في أذني: السادات بيقول لسانك طويل. وأطلقت ضحكتها العالية على شكل قهقهات متقطعة، ومدت يدها البضة الناعمة وأمسكت يدي، وراحت دون انقطاع، يتورد وجهها الممتلئ، يقفز الخدان المكتنزان إلى أعلى، يضغطان على العينين الصغيرتين، تنغلق الجفون إلا من شق ضيق يطل منه جزء من النني على شكل خط أسود، يصبح وجهها مستديرا كوجوه الأطفال، يهتز جسمها المربع الممتلئ. أسمع ضحكتها في الشارع قبل أن أدخل بيتها، تذكرني بضحكة أمي، لكن جسد أمي لم يكن يهتز، وكان لضحكتها رنين في الجو يشبه رنين الفضة المجلوة. لم تكن أمي تدخن ولم يكن صوتها مبحوحا أو مشروخا بالدخان. كنت أضحك مع لطيفة وأقول لها: أنت مدخنة يا لطيفة. تموت على نفسها من الضحك، ثم تصمت فجأة، تكسو وجهها سحابة حزن وتقول: أعمل إيه يا نوال، خلاص ما فيش لذة في حياتي إلا دي. وتشير إلى السيجارة بين شفتيها.
كانت تجلس إلى جواري في لجنة القصة، يجلس توفيق الحكيم عند رأس المائدة؛ فهو رئيس اللجنة، يجلس نجيب محفوظ وثروت أباظة عن يمينه، ويجلس يوسف إدريس ويوسف الشاروني عن يساره. يفتح توفيق الحكيم الحديث عن الاشتراكية والرأسمالية، ثم يطرح السؤال: هل الله اشتراكي أم رأسمالي؟ يقهقه يوسف إدريس ويقول: أعتقد أنه من أهل الوسط يا أستاذ توفيق. تقهقه لطيفة الزيات وتقول: يعني قصدك من الحكومة؟
لم يكن مثل هذا الحديث يعجب بقية الأعضاء، لكن أحدا لم يكن يعترض على الرئيس، منذ الإله أخناتون ورمسيس الأول، يحترم المصريون الملوك والرؤساء. يدرك توفيق الحكيم هذه الحقيقة ويسترسل في حديثه متجاوزا الخطوط الحمراء، يحكي بعض الفكاهات عن الملك فاروق، يضحك يوسف إدريس ويقول: النكتة دي فيها إسقاط يا أستاذ توفيق؟ إسقاط على مين يا يوسف؟! وينفجر أعضاء اللجنة بالضحك، تتصاعد القهقهات مع دخان السجائر حتى السقف.
ثم ينتقل توفيق الحكيم من السياسة إلى المرأة، لا يمل الحديث عن المرأة، رغم أنه كان يحمل لقب عدو المرأة. تلمع عيناه وهو يتحدث، تدوران على وجوه الرجال أعضاء لجنة القصة، ثم تثبتان على وجه واحدة من الأديبات.
رغم كهولة توفيق الحكيم كان يتمتع بحيوية تفوق الشباب، شعره الأبيض مع البريق في العينين يضفي عليه جاذبية خاصة. تنقضي الساعة وراء الساعة وهو يحكي النوادر والفكاهات عن أيام شبابه، يحرك رأسه ويديه في حماس ويقول: المرأة ملاك أو شيطان ولا ثالث لهما. يهتف أعضاء اللجنة في نفس واحد على رأسهم يوسف إدريس: تمام يا أستاذ!
يرمقني توفيق الحكيم بطرف عين، يراني صامتة مترفعة عن الرد، أفكر في شيء آخر، تطلق لطيفة الزيات ضحكتها، القهقهة المتقطعة المتصلة، تشعل سيجارة جديدة بأصابع ترتعش قليلا، يهتز جسمها مع الضحك، تمد يدها المهتزة تحت المائدة وتمسك يدي، تقرب فمها من أذني وتهمس: عينه عليكي يا نوال! - مين يا لطيفة؟ - يعني مش عارفة؟! •••
حين دخل اسمي قائمة الموت عام 1988، همست لطيفة الزيات في أذني: بيقولوا يا نوال روايتك سقوط الإمام فيها إسقاط! - إسقاط! - أيوه يا نوال. - إسقاط على مين؟! - على السادات. - ده مات يا لطيفة من سبع سنين! - بيقولوا لسه عايش.
وأطلقت ضحكتها الطويلة المتقطعة الأنفاس، أشعلت السيجارة وراء السيجارة، تحكي لي الحكاية المرة بعد المرة، تنسى أنها حكتها من قبل، ترتعش أصابعها وهي تشعل عود الكبريت، تضحك بعد كل عبارة تنطقها وتمد يدها لتمسك يدي. •••
عام 1992 دخل اسمي قائمة الموت مرة أخرى، وضعت الحكومة حراسة مسلحة أمام بيتي في الجيزة، وبودي جارد يرافقني ليل نهار، قال شريف: حياتك في خطر يا نوال، ولا بد من السفر إلى مكان بعيد.
لم نكن نعرف من أين تنطلق الرصاصة، من الجماعات الإسلامية أم من الحراس؟ كانت صديقتي القديمة بطة في مؤتمر إعلامي دولي في لندن، وكانت سامية في نيويورك في مؤتمر نسائي دولي، جاءت صفية إلى بيتي وسألتني: هل لطيفة الزيات صديقتك يا نوال؟ قلت لها: نعم، هي صديقتي. قالت صفية: غريبة أوي، ليه هي بتقول كلام ضدك يا نوال؟ كلام ضدي؟ يمكن مجرد إشاعات يا صفية. لأ يا نوال، ده كلام مكتوب في المجلة، خدي اقري يا ستي!
كانت مجلة أدبية عربية، وحوار أجرته إحدى الصحافيات مع لطيفة الزيات، سألتها هذا السؤال: كيف تفسرين نجاح روايات نوال السعداوي المترجمة إلى اللغات الأجنبية؟ جاء رد لطيفة الزيات؛ لأن نوال السعداوي تكتب للغرب!
قبل ذلك بأيام قليلة كانت لطيفة الزيات في بيتي، كانت تقول لي: إنني أهم روائية عربية، وإنها سوف تصدر كتابا نقديا عن أعمالي الأدبية. كانت تتحدث بحماس، وتضحك مع شريف وتقول له: أنت يا شريف كاتب مبدع، روايتك «الشبكة» جميلة جدا، هل تنوي ترجمتها إلى الإنجليزية؟ - دي رواية طويلة جدا يا لطيفة. - وما له؟ - أنا مشغول بترجمة روايات نوال. - اشمعنى يعني؟ - روايات نوال بتعجبني.
عام 1980 ظهر أول كتاب لي باللغة الإنجليزية، كان شريف هو الذي تحمس لترجمته، نجح الكتاب وترجم إلى لغات متعددة، ومن بعده بدأ الناشرون في أنحاء مختلفة من العالم يطلبون ترجمة كتبي الأخرى.
وأصبح جرس التليفون يرن في بيتنا، الأدباء الكبار يأتون إلينا في زيارات مفاجئة، جاء عبد الرحمن الشرقاوي يحمل عددا من كتبه، أهداها لي ولشريف. بعد أن انتهت الزيارة، قال لشريف وهو يودعه على الباب: «عندك كارت بلانش، إذا شفت إن كان كتاب من كتبي ممكن ترجمته ونشره في لندن!» وقال شريف بهدوء: «أنا روائي ولست مترجما يا عبد الرحمن.» كانت الزيارة الأولى والأخيرة لعبد الرحمن الشرقاوي، قرأنا نعيه في جريدة الأهرام بعد شهور قليلة. وكان يوسف إدريس يضحك مع شريف، يداعبه ويقول: يعني اشمعنى نوال يا أخي اللي أنت نازل ترجمة لرواياتها، ما تترجم لي رواية أو مجموعة قصص يا شريف! ويضحك شريف معه ويقول: لازم تعملي شوية إغراءات يا يوسف، ثم أنت عندك الحكومة كلها ومؤسساتها والمترجمين بتوعها.
قرأ شريف معي ما كتبته لطيفة الزيات عني، وبدأ عدد من الماركسيين والماركسيات يرددون ما قالته لطيفة، وعدد من النقاد الأدباء والأديبات العاجزين عن نشر أعمالهم في الخارج. كان نجاح روائية مصرية خارج البلاد أمرا غير مألوف، وهي لا تتبع لا الحكومة ولا حزبا ولا المجلس الأعلى للثقافة.
حين عادت سامية من الخارج قالت لي: والله يا نوال حاجة تفرح إن كاتبة مصرية تحصل على هذا التقدير والاحترام في العالم. قلت لها: وما رأيك فيما أشاعته صديقتك لطيفة؟ مطت سامية شفتيها الرفيعتين وقالت: شيء طبيعي يا نوال، أنا كمان باحقد عليكي، الغيرة تنهش قلبي وأحيانا أقول يا رب تموتي يا نوال!
يضحك شريف، ويقول: أنا باحب صراحتك يا سامية، لكن المشكلة ليست الغيرة أو الحقد، المشكلة إن نوال كاتبة مستقلة لا تستند إلا على قلمها، ويمكن أن تنقد الشرق والغرب والحكومة والمعارضة واليسار واليمين، والمشكلة أيضا تتعلق بالمناخ العام والإحباط ... لطيفة الزيات ويوسف وكثير من الأصدقاء كانوا زملاء لي في الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني، حين بدأنا الحركة عام ستة وأربعين ضد الملك والإنجليز كان المناخ العام أفضل من اليوم، كنا في مرحلة الشباب عندنا مبادئ وحماس وأمل، المناخ الجيد يبرز أحسن ما في الإنسان، لكن الحركة ضربت ودخلنا السجون، لم يهزمنا السجن لكننا انهزمنا من الداخل، تفككت الحركة، وتفرق الزملاء ، وانتشرت الإشاعات، المناخ السيئ يبرز أسوأ ما في الإنسان، وأنت يا نوال من جيل آخر جاء بعدنا.
أما جيلنا فقد تمزق بين الطموح والإحباط، بين تأييد السلطة ومعارضتها، لطيفة الزيات هي المثل على ذلك، هذه الضحكة العصبية دليل على التمزق والإحباط، رعشة الأصابع والإفراط في التدخين، وابتلاع حبوب الفاليوم. إنها تعرف تماما أنك ناقدة للغرب أكثر منها، وتعرف أيضا أن الغرب ليس شيئا واحدا، وهناك في الغرب من هم أكثر تقدما وأكثر اشتراكية من الاشتراكيين عندنا، المسألة ليست غرب وشرق، هي تعرف ذلك، ويوسف إدريس يعرف ذلك، لكن المسائل الشخصية تتغلب على المسائل العامة، والإحباط يولد الإشاعات، وما معنى أن يكتب أديب أو أديبة للغرب أو للشرق. وأغرب شيء هؤلاء الذين يقولون: إن الأعمال الأدبية الناقدة لمجتمعنا تسيء إلى سمعة مصر في الخارج! أعظم الأعمال الأدبية لا بد أن تكون ناقدة لمجتمعها، أهم أعمال يوسف إدريس أو نجيب محفوظ الأدبية هي التي نقدت النظام الحاكم، وأشكال الظلم أو القهر في بلادنا؛ لكن يوسف إدريس ونجيب محفوظ في الأهرام، أكبر جريدة حكومية في مصر، وهما جزء من النظام، يتمتعان بحصانة السلطة، وقد ترجمت أعمالهما إلى اللغات الأجنبية عبر وزارة الثقافة أو المجلس الأعلى للثقافة، وكلها مؤسسات حكومية؛ لكن أعمالهما لم تنجح في الخارج كما نجحت في مصر؛ لأن النجاح الأدبي في بلادنا لا يعتمد على جودة العمل فقط ولكن على الدعم الحكومي أيضا، ولا يمكن للكاتب أن يشتهر ويحمل لقب كاتب كبير دون أن تكون له علاقات طيبة بالمسئولين الكبار، وهذه هي المشكلة بالنسبة لك يا نوال أو غيرك من الأديبات أو الأدباء الذين لا يسيرون في فلك السلطة.
إن السلطة في مصر تملك كل مؤسسات الثقافة والنشر والإعلام والترجمة، ويمكنها أيضا مصادرة أعمالك، وتشويه سمعتك، لكنها لا تملك مصادرة أعمالك المترجمة في الخارج. شاءت الصدف يا نوال أن تتزوجي شريف حتاتة، وأن يقوم شريف بترجمة رواياتك! أتعرفين يا نوال آخر إشاعة عنك؟ يقولون: إنك تزوجتيني لأترجم أعمالك! كان شريف يضحك ، يحاول أن يخفف عني وطأة الألم.
كنت في بداية يناير 1992، نتأهب للرحيل إلى المنفى، أصبح الخطر يحوطنا من كل جانب، يتحدث الناس كل يوم عن قوائم الموتى، الأسماء التي تم إهدار دمها، جرائم تحدث دون أن يقبض على القتلة، الهمس يدور بين الناس، لا يعرفون الوهم من الحقيقة، ولا الإشاعات من الحقائق. كانت الحراسة المسلحة أمام بيتنا، والبودي جارد يتبعني حيثما أذهب، لا أعرف من أين تنطلق الرصاصة. في النوم أرى دمي مهدرا فوق أسفلت الشارع، تزحف قشعريرة باردة إلى جسدي من الرأس إلى بطن القدمين، والصوت يزعق: اقتلوها الكافرة عدوة الله والإسلام.
الصورة الممزقة
كنت غارقة في النوم، رأيت أبي جالسا في الصالة يقرأ، رفع عينيه إلي واندهش قليلا. نوال؟! متى جئت؟ كيف كان الحفل؟ تساءلت في دهشة: أي حفل؟ قال: حفل نقابة الأطباء. عادت ذاكرتي في الحلم أربعين عاما إلى الوراء، قلت لنفسي: هل يذكر هذه الليلة؟! إنها الليلة التي مات فيها، الخميس 19 فبراير 1959، أراه جالسا في الصالة يحدثني وأعرف أنه ميت. انتهى القرن العشرون أصبحنا في القرن الواحد والعشرين والألفية الثالثة، الرقم 2000 إلى جوار تاريخ اليوم يبدو غريبا، ياه، سنة 2000؟! لم أكن أعرف أنني سأعيش حتى القرن الواحد والعشرين، كأنما أختلس من الزمن قرنا جديدا وأعود طفلة في السابعة من العمر أتذكر طفولتي. تبدو أقرب مما كانت، وكانت تبدو بعيدة في الماضي، كان الأمس يبدو كأنه العام الماضي أو القرن الماضي، ثم تغير الزمن مع التقدم في العمر، أصبح القرن الماضي كأنه الأمس، أرى وجه أبي الميت قريبا، أكاد ألمسه بأطراف أصابعي رغم مرور نصف قرن، أكاد أسمع وقع قدميه على البلاط في الصالة، في المرآة يطالعني وجهه كأنما لم يغب أبدا. يقول لي شريف: إن الحزن على فراق أبي لم يفارقني. ربما هو يعرف حقيقتي أكثر مني، ربما كان حبي لأبي أكبر حب في حياتي، لا يفوقه إلا حبي لأمي، قلبي ينوء بحبها بعد أن فرقنا الموت، أيكون الفراق هو شرط الحب؟!
أفقت من النوم على جرس التلفون، صوت سامية يقول: أنت نائمة والمظاهرات مشتعلة في جامعة الأزهر، وقد أذاعوا اسمك ضمن من أهدروا دماءهم من الأدباء، صوتها يأتيني كأنما في الحلم، ألم يهدروا دمي من قبل؟! ماذا تقولين يا لطيفة؟! أنا لست لطيفة يا نوال، أنا سامية، لطيفة ماتت من ثلاث سنين.
أفقت من النوم، النتيجة فوق الحائط مكتوب عليها التاريخ بخط واضح، 9 مايو عام 2000، سماعة التليفون لا تزال في يدي، صوت سامية يسري إلى أذني، وهي تقول: الشيخ في الجامع اللي جنب بيتنا عمل خطبة في الجمعة عليكي يا نوال، قال: إن كتبك كلها كفر في كفر، والجماعات الإسلامية حركوا الطلبة في الأزهر عشان يعملوا مظاهرات ضد رواية نشرتها وزارة الثقافة، بيقولوا فيها كلام ضد القرآن، والطلبة في الأزهر هتفوا ضد وزير الثقافة وضد السيد الرئيس، يعني المسألة مش رواية، المسألة النظام كله، والطلبة غلابة مش عارفين حاجة، بيروحوا في الرجلين! وأنت يا نوال يمكن يعملوك كبش فداء. الشيخ في الجامع كان بيحرض الناس ضدك، لكن تعرفي إيه اللي حصل؟ أخويا كان في الجامع بيصلي معاهم، قال لي: الناس خرجوا من الجامع بعد الصلاة وراحوا المكتبات يشتروا كتبك! قلت بصوت أبي الميت: رب ضارة نافعة يا سامية. تنهدت بصوت حزين وقالت: يمكن اشتروها عشان يحرقوها مش عشان يقروها. - يحرقوها يحرقوها، يا سامية! - خسارة الكتب تنحرق يا نوال. - الحريق يأكل الورق وليس الكتب يا سامية! - الكتب مصنوعة من الورق ولا إيه؟ - أيوه في القرن الماضي، لكن إحنا في القرن الواحد والعشرين، يا سامية، والكتب أصبحت غير قابلة للحرق، تعبر القارات عبر الأثير دون الحاجة إلى ورق أو مطبعة. - ممكن يحرقوا الكمبيوتر. - الكتب ليست في الكمبيوتر. - أمال فين يا نوال؟ - في اللوح المحفوظ من مادة غير قابلة للحرق. - واللوح المحفوظ ده فين؟ - في السماء يا سامية. - عند ربنا؟! (ضحكة قصيرة مكتومة تنم عن عدم الإيمان في الطفولة، والإيمان في الكهولة). - لأ يا سامية. - أمال فين يعني؟ - اللوح المحفوظ ده اسمه «الديسك» من مادة صلبة قوية، وفيه ملايين النسخ، بلايين النسخ، تنتشر في الكون زي الفيروسات في الجو وتتكاثر عبر الإنترنت والويب، والقوى الإلكترونية المعروفة والمجهولة. - وإيه القوة المجهولة؟ - فيه حاجة جديدة اسمها الكوارك أصغر من الإلكترون ويحمل طاقة أكبر، فيه قوى مجهولة داخل الذرة، وداخل خلية المخ، لا زال المخ مجهولا يا سامية، مخ الإنسان، والخلية الحية والجينوم والذرة والكواكب والشمس والقمر والنجوم، لكن أهم حاجة إن الكتب لم تعد قابلة للحرق! •••
كانت جدتي آمنة والدة أمي ترمقني بغضب وأنا في السابعة من عمري، تقول عني إنني لا أطيع مثل البنات في عائلة شكري بيه. كلما كانت جدتي تقول شيئا غير مقنع أسألها ليه؟ تلسعني بالعصا الخيزران وتصرخ: مش عاوزة أسمع منك كلمة ليه دي أبدا يا بنت ... فاهمة؟!
لم أكن أبكي كما تبكي البنات، أدق الأرض بقدمي بغضب، وأقول ليه تضربيني؟! يشتد غضب جدتي حين تراني أدق الأرض بقدمي، وحين تسمعني أردد كلمة ليه، أكثر ما يغضبها أنها لا ترى في عيني أي دموع ، إنها جدتي زوجة شكري بيه مدير القرعة العسكرية عاشت مقهورة وماتت مقهورة حبيسة البيت كالقصر وقبر من الرخام، لم يكن لها أن تنفس عن غضبها المكتوم إلا بلسع الأطفال بالعصا الخيزران، لم أعرف في طفولتي ماذا كان يغضبها، حتى همست أمي في أذني بالثالوث المقدس، الرب والأب والزوج، كنت أراها ترمق السماء بغضب وتقول: يا رب! لم تكن تنطق الكلمة الثانية ولا الثالثة، وسألت أمي: ليه مش بتنطق جدي، وضعت أمي يدها على فمي وقالت: اسكتي.
في الليل أصحو مختنقة بالدموع الحبيسة، تتجمع في حلقي كالغصة، أسمع شخير جدتي وهي غارقة في النوم، ملامحها تبدو مستسلمة بلا حول ولا قوة. في النهار تبدو قوية قاسية أتمنى موتها، في النوم تبدو ضعيفة مستسلمة، أكره قوتها بمثل ما أكره ضعفها، أود ألا تصحو وتموت وهي نائمة. أعود إلى النوم وأحلم أن جدي هو الذي مات، أكره جدي أكثر من جدتي، أدعو الله أن يأخذه، أراه في الحلم نائما يشخر، أود أن أطبق أصابعي حول عنقه. أنتفض من نومي مذعورة، أنهض من السرير وأمشي على أطراف أصابعي، أجلس في الفرندة الواسعة، أتذكر أن جدي مات منذ سنوات، الذي ترقد إلى جواري في السرير هي خالتي فهيمة، وهي التي أسمعها تشخر في الليل، وهي التي أريد أن أطبق على عنقها بأصابعي.
في ضوء مصباح الشارع كتبت في مفكرتي السرية: حين تراودني فكرة القتل أمسك القلم وأكتب، أرى كلماتي فوق السطور تنتفض، لولا الكتابة لأمسكت الساطور وقتلتها أو قتلت نفسي.
بيت المرحوم جدي، ضاحية الزيتون، 19 أبريل 1945
بعد ستة وثلاثين عاما من هذا اليوم، وجدت نفسي داخل زنزانة في سجن النساء بالقناطر، كانت لي مفكرة سرية أخبئها تحت الأرض كما كنت أفعل في بيت جدي وأنا في الرابعة عشرة من عمري، يدي ترتعش بالغضب وأنا أكتب هذه الفقرة في مذكرات السجن: تتطلب الكتابة شجاعة مثل القتل، لو لم تعرف أصابعي القلم ربما عرفت الفأس أو الساطور، يدها، فتحية القاتلة، حين أمسكت الفأس وقتلت زوجها، تشبه يدي وهي تمسك القلم، لا شيء في حياتي أثمن من القلم، الكتابة تتطلب شجاعة مثل القتل وأكثر.
سجن النساء بالقناطر، 14 نوفمبر 1981
كنت جالسة أكتب تلك الليلة من شتاء عام 1960، حين دخل زوجي إلى غرفتي. أمامي فوق المكتب تراكمت الأوراق، رواية طويلة سهرت عليها طوال الليالي والشهور والسنين، كانت تنمو في أحشائي كالجنين، أحوطها بذراعي، أهدهدها في سكون الليل، رأسي يسقط وينام فوقها وأنا جالسة، أهبط معها إلى بطن الأرض حيث الصمت داخل الصمت.
كانت الرواية تأخذني إلى عالم آخر، أنسى فيه نفسي وابنتي وإخوتي وأقرب الناس من دمي ولحمي، فما بال رجل ليس من دمي ولا لحمي ولا يربطني به شيء، إلا ورقة زواج.
حين اقتحم غرفتي فجأة لم أتعرف على ملامحه، هذا الوجه الأبيض السمين المتورد لم يكن يجذبني في الرجال، هذا الجسم المربع الممتلئ باللحم ينفرني في النساء فما باله بالرجال، والعينان ليس فيهما ما أبحث عنه، والأنف ليست له الارتفاعة التي أحبها، والصوت ليست فيه النبرة التي تجذب أذني ، كل شيء فيه ليس ما أريد في الرجل، فما بال أن يكون زوجي؟!
لا بد أنها امرأة أخرى تقمصت جسمي واسمي وذهبت معه إلى مكتب المأذون ووقعت العقد، امرأة غيري ساخرة عابثة لا تؤمن بالحب، ترتدي معطف الأطباء دون أن تؤمن بالطب، تكره الرجال والأمراض ورائحة المستشفيات، لم تدخل كلية الطب إلا من أجل أبيها الميت وأمها الميتة، تكره الزواج منذ الطفولة، لم تتزوج للمرة الثانية إلا لتمسح من ذاكرتها المرة الأولى.
كان زوجها الأول فدائيا، مات بعد أن عاد من الحرب، لم يبق منه إلا خيال رجل، وهذا الخيال أيضا راح وسقط في العدم. قبل الزواج بدأت رواية طويلة. بعد الزواج كفت عن الكتابة، رقدت الأوراق فوق مكتبها مثل جثة هامدة.
كل ليلة حين أنام أظن أنني لن أصحو، في الصباح تعود إلي ذاكرتي مع ضوء الشمس، أرتدي ملابس الخروج، أحمل حقيبتي الجلدية السوداء التي تشبه حقائب الأطباء، أتذكر أنني تخرجت في كلية الطب وأصبحت طبيبة. الساعة فوق معصمي تشير إلى الثامنة، أسرع الخطو في الطريق إلى المستشفى، أتوقف لحظة ألتقط أنفاسي، أتذكر أنني تزوجت ولي طفلة تحتاج إلى كوب لبن وزوج يحتاج فخذ دجاجة محمرة.
ذاكرتي مثل جبل الثلج تحت الماء، لا أكاد أعرف الزوج الأول من الثاني، كلاهما كان يحب فخذ الدجاجة المحمرة. صديقتي بطة تكركر بالضحك وتقول: حين ينطفئ النور يتساوى جميع الرجال. تعترض صفية وتقول: لا يفرق بين الرجل والرجل إلا الحب. لم تكن سامية تؤمن بالحب، تقول عنه رومانتيكية طفولية، الحب وهم كبير يا نوال، الحب قبل الزواج يفسده، والحب بعد الزواج ينتهي بالطلاق، تزوجيه يا نوال لأنك لا تحبينه، لا يصلح للزواج إلا رجل لا يخفق له قلبك، على الأقل حين يخونك مع واحدة ثانية لا تشعرين بالألم!
وامتلأت عيناها بدموع محبوسة، كانت تنتفض بالغضب، صوتها يتقطع وأنفاسها تلهث: تصوري يا نوال ... تكرر هذه العبارة مع اللهاث: تصوري! - أتصور إيه يا سامية؟ - شيء لا يمكن أصدقه! - إيه يا سامية؟ - تصوري يا نوال ...
صوتها يختنق تكف عن الكلام، تنشج بصوت مكتوم، أنفاسها تتقطع مع كلماتها، تصوري يا نوال ... مش قادرة أتصور يا نوال ... تصوري رفاعة جوزي، الرجل المثالي صاحب المبادئ، الرجل اللي دخل السجون عشان المبادئ، تصوري رفاعة ... هل ممكن حد يصدق أن رفاعة يعمل كده؟! من يوم ما مسكوه ودخل السجن وأنا زي النحلة رايحة جاية عشان يطلعوه. - عمل إيه رفاعة يا سامية؟ - تصوري إنه له علاقة بواحدة تانية! - وعرفت إزاي؟ - وقع في إيدي جواب كتبه لها باين مسكوه قبل ما يبعت لها الجواب. - مجرد جواب يا سامية. - رسالة حب يا نوال! - مجرد حب عذري حب طاهر رومانتيكي. - رفاعة رجل مادي جدلي ماركسي لا يمكن يؤمن بالكلام الفارغ ده!
حين سمعت بطة القصة أطلقت ضحكتها الساخرة وقالت: كل الرجالة خائنين يا سامية يمين ويسار ووسط، وكل النساء خائنات، بنات حواء أو بنات مريم العذراء، الفرق الوحيد بينهم أن الرجل خيانته مكشوفة، لكن المرأة بير من جوه بير. والعلاج الوحيد إنك تخونيه زي ما خانك، وربنا قال العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم. وكمان من حظك السعيد أنه محبوس في السجن! ترددت صفية في التعليق، أطرقت قليلا تفكر، ثم رفعت إلينا وجهها شاحبا وقالت: الطلاق عندي أحسن من الخيانة؛ لأنك يا سامية حتخوني نفسك مش أي حد تاني.
صوت صفية كان يرتعش قليلا، وهذا الشحوب بدا غريبا، أتعيش صفية المأساة نفسها؟! لم تكن صفية مثل سامية وبطة، تميل أكثر إلى الكتمان. كان في شتاء عام 1960، وكان لا بد من مرور أربعين عاما حتى أسمع صفية تقول: خلاص يا نوال أنا قررت الانفصال عن مصطفى. •••
كنت أقول لنفسي لا يمكن أتزوج دون حب، كيف يجمعني فراش واحد مع رجل لا أحبه، وتسألني بطة: وليه مش بتحبيه يا نوال، رجل محترم من رجال القانون مركزه مرموق وعنده عربية وشقة وفلوس وواقع في غرامك لشوشته، ليه ترفضيه؟ عيبه إيه يا نوال؟
هذا السؤال «عيبه إيه» ظل يحيرني نصف قرن، كنت أسمعه من أبي وأمي وجدتي وخالاتي وعماتي ، عيبه إيه العريس يا نوال؟ سؤال لم أعرف جوابه، وبطة تلح في السؤال. - مش عاوزة تتجوزيه ليه؟ - مش عارفة. - عيبه إيه؟! - يمكن ... - يمكن إيه؟! - عينيه ... - ما لها عينيه؟! - مطفية. - حاتعملي بعينيه إيه في الجواز يا نوال؟!
تكركر بطة بضحكتها المتقطعة، شهقاتها ترن في أذني مثل هواء محبوس يندفع من عنق زجاجة ضيق، ضحكتها معدية، أضحك رغم الثقل في القلب، رغم أنني لا أحبه سأتزوجه، رغم انطفاءة عينيه، رغم أنني أكره رجال القانون، يصبهم القانون في قالب واحد كالأسمنت. السؤال يدور في رأسي، لماذا أتزوجه وأنا لا أريد أن أتزوجه؟ قوة في السماء أو الأرض تدفعني إلى الزواج رغم إرادتي؟! قوة غامضة كالوهم، كضغط الهواء الجوي، قوة إلهية أو شيطانية تدفعني إليه رغم أنفي وأنا في كامل الوعي.
تلك الليلة من شتاء عام 1960 تأخرت في العيادة، جلست إلى مكتبي بعد أن انتهيت من آخر مريض، وضعت رأسي بين يدي الاثنتين وسقطت في ما يشبه النوم، هذه الحالة المتأرجحة بين النوم واليقظة، اللحظة التي يغيب فيها العقل الواعي، تختفي الأنا العليا تحت سطح البحر، يبرز رأس جبل الثلج من تحت الماء، يرمقني مثل عين في السماء، عين مفتوحة لا يطرف لها جفن، ساهرة طوال الليل لا تنام. أمسك القلم وأكتب كلماتي فوق الورق متقطعة أنفاسي ألهث، ذؤابة ضوء يضربها الهواء تكشف عن الشيء المتخفي في الظلام، لا ينتمي إلى طقوس اللغة أو الكتابة، يتمرد على كل ما هو مألوف، يخلق من حوله اضطرابا وقلقا وتشكيكا في كل ما درجت على الإيمان به، يفرض علي القطيعة مع مفردات اللغة، والاستغناء عن الثواب والعقاب، يدفعني نحو المجهول خارج المفهوم.
أفقت على صوت سامية، كانت تمر علي بالعيادة حين تشتد بها الأزمة، زوجها رفاعة في السجن مع أسعد شقيق صفية. منذ الأحداث الأخيرة في العراق امتلأت السجون بكل من رأى أن الوحدة الفيدرالية مع العراق أفضل من الاندماج الكامل، كان جمال عبد الناصر يرى أن الوحدة الاندماجية أفضل، دخل السجون كل المعارضين في الرأي. جاءت سامية وراحت تشرح لي الفرق بين الوحدة الفيدرالية والوحدة الاندماجية. كان لصوتها نبرة خطابية تؤلم الأذن، إن ارتفع صوتها أو انخفض تظل هذه النبرة المؤلمة، إن فرحت أو ضحكت يظل لصوتها رنين متشائم يوشك على البكاء. منذ المدرسة الثانوية كانت صديقتي، يجذبني إليها اختلافها عن بطة وصفية وبقية الزميلات، وجهها النحيل الشاحب دون مساحيق، شفتاها الرفيعتان المزمومتان بقوة غير أنثوية، أحاديثها عن ماركس والفرق بين الدياليكتيكية المادية وغير المادية، ولينين وعبد الناصر. تغيرت سامية قليلا قبل زواجها من رفاعة أيام الحب، بدأت تكحل عينيها قليلا، تضفي على خديها وشفتيها شيئا من اللون الأحمر الشاحب، لم تتغير نبرة صوتها بل زادت حدة. وتواصل حديثها، أستمع إليها ورأسي بين يدي الاثنتين: تفتكري عبد الناصر مخلص للبلد يا نوال؟ الوحدة العربية فشلت بانفصال سوريا عن مصر، والديموقراطية فشلت بدخول المعارضين السجون، والاشتراكية فشلت، لا فيه تنمية ولا فيه تذويب الفوارق بين الطبقات، والأموال اللي عادت لمصر بعد تأميم قناة السويس وتأميم الشركات كلها راحت في جيوب الطبقة الجديدة من ضباط الجيش وأعوانهم، لا يمكن عبد الناصر يكون مخلص للبلد يا نوال!
يزداد صوتها تشاؤما حين تنتقل من حديثها عن عبد الناصر إلى زوجها رفاعة. - تفتكري رفاعة مخلص يا نوال؟
كنت منشغلة بسؤال آخر يدور في رأسي، لماذا أتزوج رجلا لا أحبه؟ - هل عبد الناصر مخلص يا نوال؟ هل رفاعة مخلص؟ هل الإخلاص الزوجي منفصل عن الإخلاص الوطني؟ - إيه اللي يجبرني يا سامية إني أتجوز رجلا لا أحبه؟ أهي خيانة له أم خيانة لنفسي؟ - المناخ العام الفاسد يؤدي إلى حياة خاصة فاسدة. - الفساد في الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية يؤدي إلى فساد في الحب والجنس؟! خيانة النفس هي خيانة الآخر. - يا خسارة يا نوال، كان بيني وبين رفاعة حب جميل قبل ما نتجوز، المشكلة في مؤسسة الزواج يا نوال؟ - المشكلة في النظام كله يا سامية. - عشان كده الراجل منهم ممكن يكون يخون مراته، والواحدة فينا ممكن تكذب على نفسها وتقول لجوزها أنا باحبك وهي مش طايقة تشوفه، أو تقوله أنت الرجل الوحيد في حياتي وهو مش الوحيد!
أطبقت شفتي في وجوم، تذكرت أنني قلت لزوجي الأول إنه أول حب في حياتي مع أنه كان الحب الثاني، وسوف أقول لزوجي الثاني إنني أحبه مع أنني لا أحبه، قوى غيبية تدفعني إلى الكذب، تختفي وراء سحابة في السماء، أو ربما هو عام 1960 عام الهزيمة الصغرى، كما كان صديقي رجاء الشاعر يقول. تنبأ بوقوع هزيمة 1967 قبل أن تقع بسبعة أعوام، وفي إحدى الندوات الأدبية بالعيادة ألقى قصيدة مطلعها هذه الأبيات:
كل شيء من حولنا ينبئ بالهزيمة،
السحب في السماء ووجوه الرجال العسكرية،
لا أمل في هذه الطبقة الجديدة ولا في كتابة الشعر،
الكلية الحربية لا تخرج إلا الجهلاء،
إن أصبحوا هم الوزراء
فليس أمامنا إلا الموت أو السجن
أو المنفى خارج البلاد.
قوة تشبه اليأس أو الهزيمة تدفعني إلى الموت أو الزواج، كان العريس صالحا في نظر الجميع، حتى أم إبراهيم أصبحت تلح علي كل يوم: إتجوزيه يا ضكطورة ده الجواز سترة وعشان تجيبي للمحروسة بنتك أخ أو أخت. وفي حفل الزواج الصغير همست صفية في أذني: نظره سليم ستة على ستة ومش لابس نظارة نظر زي جوزي. وكركرت بطة بضحكتها وقالت: عينيه مطفية أحسن يا نوال عشان ما يشوفش حاجة! ومطت سامية شفتيها في امتعاض، الواقع يا أخواتي أن الإخلاص انتهى من الوجود! •••
لم يكن يتركني أكتب داخل غرفتي، لا يكف عن فتح الباب والدخول، يحاول قراءة ما أكتب، لا شيء يجهض الرواية قبل أن تكتمل إلا العين الغريبة، لا أحد يقرأ ما أكتب داخل غرفة بابها مغلق. لا أحب النور الكهربي الشديد الإضاءة، يكفيني الضوء المتسرب من المصباح في الشارع، أو لمبة صغيرة يسمونها سهارة، أو لمبة جاز حين تنقطع الكهرباء. يكفيني أن أرى حروفي فوق الورق، ويغرق بقية المكان في الظلمة. تنمو الرواية في خيالي كالظلال المتحركة في الأركان، تبدأ ذاكرتي تصحو حين ينام الكون. أجلس في الظلمة ساكنة داخل الصمت، لا تصحو ذاكرتي إلا بعد ساعتين أو ثلاث ساعات أنسى فيها مشوشات النهار. أنزع قشرة المخ، الأنا العليا والكذب، أشدها بأصابعي مثل خصلة شعر أو قطعة من فروة الرأس، أحسها تحت يدي مثل الندبة، أو الجرح القديم المفتوح، يلتئم في الظلمة مع مرور الزمن داخل السكون. تبدأ ذاكرتي تصحو، يتحرك القلم فوق الورق، يندفع وحده فوق السطور، صوت في أعماقي كالوحي تمليه الكلمات، تتدقق الرواية كمياه النهر الهادئ، يصبح شلالا الساعة بعد الساعة، ينتفض القلم بين أصابعي، يسري في ذراعي تيار ساخن يصعد إلى رأسي ويهبط إلى القدمين، شحنات من الدم تتدفق إلى جسدي كالمصابة بالحمى، أنتفض وأنا جالسة في مقعدي وراء المكتب.
لم يكن يتركني لأكمل الكتابة، كأنما الرواية جنين في أحشائي من صلب رجل آخر يريد إجهاضها، يفتح الباب ويدخل، إن وجد الباب مغلقا يدقه بقبضة يده، يفتح الراديو بأعلى صوت، يطرقع بالقبقاب فوق بلاط الحمام، يجلس في الصالة ويتحدث في التليفون بصوت يصل إلى الجيران، أو يتحدث مع الزوار في غرفة الاستقبال ويقهقه بصوت يرج الجدران.
كانت أمه تزورنا كثيرا، أسمع صوتهما من وراء الباب المغلق، يشكو لها مني: «اتجوزت يا ماما واحدة مجنونة، تصحى في نص الليل تكتب.»
تمصمص الأم شفتيها في حسرة، «معلهش يا ابني كل شيء قسمة ونصيب، وأنت اللي اخترتها، والكتابة مافيهاش ضرر، أحسن ما تخرج زي النسوان التانية في الشوارع وتصرف الفلوس على مافيش، كان لازمك يا ابني واحدة تانية مكسورة العين تكون بين إيديك وتحت رجليك، لكن خلاص أهي بقت مراتك، يمكن ربنا يهديها لما تولد، ربنا يرزقك بابن يقولك يا بابا، ويقول لي يا نينة، ياما نفسي أعيش وأشوف ابنك يا رب يا كريم، وأهي حامل في شهرين.» - حامل في شهرين؟!
ترن الكلمات في أذني وأنا منكفئة أكتب، أرفع رأسي من فوق المكتب، أتلفت حولي كمن تصحو من الحلم، أو كمن تسقط في النوم، صوت يتحدث عن امرأة حامل في شهرين، صوت غريب لم أسمعه من قبل، والمرأة الحامل أيضا لا أعرفها، ليست هي أنا بالتأكيد، إن كانت هي أنا فالأمر شديد الخطورة، كارثة! كيف يحدث الحمل دون حب ودون زواج، دون أن أفقد العذرية؟!
ربما هو حلم، منذ الطفولة يراودني هذا الحلم، في السابعة من عمري كنت أتحسس بطني تحت الغطاء، أخشى أن يرتفع بالحمل. كانت البنات في المدرسة يتهامسن بكلمة لا أفهمها، الحمل السفاح، تشرحها لي البنات دون جدوى، الشيطان إبليس هو وراء الحمل السفاح، قبل أن أنام أسد شقوق النافذة بالصحف القديمة حتى لا يتسلل منها إبليس، صديقتي القبطية إيزيس لم تكن تسد شقوق نافذتها، كانت تؤمن بالحمل المقدس، وليس الحمل السفاح، تشرح لي الفرق بينهما، ستنا مريم العذراء، تسلل إليها مندوب الله في الليل وحملت بسيدنا المسيح، هذا هو الحمل المقدس، أتحسس تحت الغطاء ارتفاعة بطني، كنت في السابعة من عمري أنشد المثالية في كل شيء حتى الحمل. - حامل في شهرين؟!
الصوت الغريب يخرق أذني مثل رصاصة، أنتفض في مقعدي وراء المكتب، يسقط القلم من يدي، أرفع وجهي من فوق الأوراق، أرى أمامي امرأة عجوزا تلف رأسها بطرحة سوداء، بشرتها بيضاء ووجهها سمين مستدير، عيناها صغيرتان غائرتان في اللحم، ترمقني بنظرة الحدأة، نظرة فاحصة مدققة تهبط إلى بطني تخترق جدار الرحم، تستكشف الجنين في أحشائي، تفتح فخذيه تبحث عن عضو الذكر، تريد التأكيد أنه طبق الأصل من صلب أبيه وليس من صلب رجل آخر.
منذ تزوجت كان الغثيان يصيبني كل صباح، أغلق الباب وأفرغ معدتي في الحوض. في طفولتي سمعت جدتي تقول: إن الزواج يصد النفس عن الأكل، وقالت أمي: إنه الحمل وليس الزواج، عرفت أن الحمل يعني انقطاع الدم.
حملت في الزواج الأول وأنجبت طفلة جميلة، كانت ابنة الحب وليس الزواج، لم أكن أومن إلا بالحب، تصورت أن الزواج بدون حب ينتج عنه أطفال مشوهون. أتحسس بطني وأنا جالسة وراء المكتب، في أحشائي حمل غير مقدس، جنين مصنوع من الكذب، نطقت كلمة «أحبك» لرجل لا أحبه، يقاسمني الفراش تحت اسم الزواج، بشرته بيضاء، وجهه سمين ممتلئ مثل أمه وأنا أحب الوجوه النحيفة الرشيقة، قامته قصيرة، جسمه مربع مكتنز باللحم وأنا أحب القامة الطويلة الممشوقة، يداه صغيرتان بيضاوان ناعمتان خجولتان، أصابعهما قصيرة مضمومة، وأنا أحب اليد الكبيرة الشجاعة المفتوحة.
كل صباح أفتش عن قطرة حمراء في ملابسي أو فوق الملاءة، أفتح عيني كل يوم أبحث عن نقطة دم، تظل الملاءة نظيفة بيضاء ناصعة البياض، يصدمني اللون الأبيض، يذكرني بالموت والمرض والكفن الحريري ومعاطف الأطباء والأسرة البيضاء ورائحة المستشفى.
بدأت أرى في الحلم ملاءة حمراء بالدم، منذ طفولتي كرهت دم الحيض، ويسألونك عن الحيض قل هو أذى، ولا تقربوا النساء حتى يطهرن. كان الغثيان يصيبني منذ الطفولة حين أرى بقعة الدم في ملابسي أو فوق الملاءة، أصبحت أنشدها في النوم واليقظة، أحلم بها، أستحضرها، أشدها من براثن القضاء والقدر، أضرب بطني بقبضة يدي، أقفز من فوق السور في الشرفة، كنا نسكن في الدور الأول في بيت أبيض كبير من دورين، لم يكن ارتفاع الشرفة كافيا لإسقاط الجنين، إنه جنين شرس يتشبث بجدار الرحم كالقملة تلتصق بجلدة الرأس، جنين مكتنز الوجه عيناه صغيرتان غائرتان في اللحم مثل أبيه وأم أبيه.
حاولت طرد الجنين الغريب من جسدي، ابتلعت حبوبا سامة لأقتله داخل الرحم، حقنت نفسي بعقاقير الإجهاض، قفزت من الشرفة فانكسرت ذراعي اليمنى دون أن يسقط الجنين. أخذتني بطة بسيارتها البويك إلى مستشفى قصر العيني، أصبح زوجها الدكتور حمدي رئيس أحد أقسام الأمراض الباطنية، صورة الأشعة كشفت عن كسر في عظمة «الريدياس»، علق الدكتور حمدي ذراعي في عنقي برباط من الشاش. أخذتني بطة إلى قسم الجراحة لعمل جبيرة من الجبس حول ذراعي، سرت إلى جوارها في الممر الطويل، النوافذ الكبيرة المطلة على النيل، وجوه الممرضات الشاحبة، وجوه المرضى والمريضات الأكثر شحوبا، وجوه الأطباء ممتلئة باللحم رغم الشحوب، تعرفت على بعض الأساتذة وزملاء الدراسة، توقف أحدهم وهتف: مش معقول؟ دراعك ما له يا نوال؟
تذكرت صوته الناعم الرقيق، حين كان يقول عن الطالبات الآنسات الكوارير «القوارير» يقلب القاف إلى كاف كنوع من الرقة. إزيك يا ست بطة، وإزي الدكتور حمدي، إيه الحكاية يا نوال دراعك فيه إيه؟
كنت في حالة من الإعياء، الألم والحزن وغثيان الحمل غير المقدس. ثلاث سنوات مضت منذ جاء إلى بيتنا يطلب يدي من أبي، كان يوما حارا مليئا بالغبار، وكانت أمي في فراش المرض. في غرفة الصالون جلس مع أبي يتحدثان في السياسة. كانت له سيارة شيفروليه زرقاء طويلة، يرتدي بدلة بيضاء لامعة من الشاركسكن، شعره لامع، حذاؤه لامع، الدبوس في الكرافتة لامع، الفص اللامع في الخاتم حول إصبعه، النظارة الزجاجية تلمع فوق عينيه، كل شيء فيه يلمع، لا شيء فيه منطفئ إلا العينان.
كان يرمقني من تحت النظارة بنظرة فاحصة، يرمق ذراعي المعلق في عنقي برباط الشاش، لا بد أن وجهي كان شاحبا؛ لأنه قال: إنتي عيانة ولا إيه يا نوال؟ تطوعت بطة بالرد نيابة عني، عندها كسر في الريدياس يا دكتور رشاد. - ورايحين على فين يا بطة؟ تعالوا معايا ع القسم لازم دراعك يتجبس يا نوال ؟
كان ذلك منذ أربعين عاما، التقيت بالدكتور رشاد عدة مرات أخرى، في اجتماع بوزارة الصحة، أو نقابة الأطباء، أصبح له منصب كبير في الجامعة وفي الدولة وفي المجلس الأعلى للبحوث الطبية. يرمقني من تحت النظارة بنظرة مخلبية. كان من أعوان عبد الناصر، ثم أصبح من أعوان السادات. حين دخلت السجن عام 1981 قال لصديقتي بطة: نوال تستاهل السجن عشان تبطل كتابة! وفي عام 1993 حين عرف أنني أعيش في المنفى خارج مصر قال لصديقتي بطة: تستاهل عشان الكلام اللي كتبته ضد حرب الخليج! ده كلام فارغ!
منذ عامين سألته إحدى الصحفيات في حوار طويل نشر في جريدة كبرى، سألته عن رأيه في كتابات بعض النساء، سهير القلماوي وأمينة السعيد ولطيفة الزيات وغيرهن. قال إنهن نساء عظيمات تستحق كل منهن ما حصلت عليه من جوائز. ثم سألته الصحفية: وما رأيك في كتابات نوال السعداوي؟ وجاء رده: كتاباتها تستهين بالقيم الإسلامية والتقاليد الشرقية، نحن هنا في الشرق نؤمن بالروحانيات لكن القيم في الغرب مادية وإباحية ، وهي تكتب للغرب.
لم أقرأ هذا الحوار في الجريدة، لكن بطة قرأت لي هذه الفقرة عبر الأسلاك، ثم قالت: الدكتور رشاد لم يغفر لك أنك رفضته، الرجل لا ينسى المرأة التي رفضته، يظل الجرح مفتوحا لا يلتئم. على العموم يا نوال الدكتور رشاد أحسن من غيره، إنتي عارفة زكريا، الدكتور زكريا اللي كان بيدرس لنا الفسيولوجي، الراجل ده هو الوحيد اللي أشاع إنه عمل معايا علاقة مع إني لا حبيته ولا فكرت فيه يوم واحد، كان لازم ينفس عن إحباطه بالإشاعات، أي راجل يعلن إنه عمل علاقة بامرأة تأكدي إنها الوحيدة اللي رفضته! والغريب يا نوال إن الدكتور زكريا بقى من كبار الأدباء فجأة، عملوه عضو في اللجنة الأدبية العليا أو معرفش المجلس الأعلى للقصة والرواية، حاجة زي كده مع إنه عمره ما نشر كتابا واحدا في الأدب أو كتب قصة واحدة! المسائل بقت كلها عك في عك؛ وأكبر دليل على العك إن الدكتور رشاد كمان بقى يفتي في الأدب النسائي مع إنه مالوش في الأدب ومالوش في النساء!
كركرت بطة بضحكتها المتقطعة المرحة، لكن صوتها أصبح مبحوحا مشروخا، تتخلله بعض الشهقات من حين إلى حين، تشكو الشيخوخة وآلاما مجهولة السبب، وصداعا في مؤخرة الرأس، فحصها زوجها الدكتور حمدي وقال لي: إنها مثل الحصان ولا شيء فيها مريض إلا عقلها. - تصوري يا نوال صاحبتك بطة اللي عمرها ما عرفت ربنا سافرت مكة ورجعت لابسة طرحة وماسكة سبحة؟ •••
أمام المرآة في غرفة نومي رأيت الوجه الطويل الشاحب، الذراع اليمنى الملفوفة في الجبس الأبيض، معلقة في عنقي برباط من الشاش، البطن المرتفع قليلا تحت الثوب الواسع، عادت إلي الذاكرة شيئا فشيئا، مثل قطرات الماء البارد يتساقط فوق رأسي.
هذه المرأة داخل المرآة؟ أهي أنا؟ زوجة لرجل لا تحبه، طبيبة في مهنة ليست مهنتها، تحمل في أحشائها جنينا ليس جنينها، تعيش في بيت ليس بيتها، تخرج كل يوم رغم أنفها إلى مرضى لا تطيق رائحتهم.
النتيجة فوق الحائط ثابتة عند العام 1960، هذه الذراع الملفوفة بالجبس تعود بي إلى بداية عام 1955، بالضبط أول يناير 1955. صحوت من النوم مشرقة متألقة كالشمس في اليوم الجديد، ارتديت ثوبي الجديد بمناسبة العام الجديد ونجاحي في كلية الطب بتفوق، أصبحت طبيبة امتياز في المستشفى الجامعي (قصر العيني الجديد). أرى نفسي في المرآة داخل ثوب أبيض فيه زهور وردية، عيناي السوداوان يكسوهما البريق، قلبي يخفق بالحب، حول إصبعي خاتم الخطوبة يحمل اسمه، لمحته من النافذة قادما في الطريق يحمل باقة ورد، أدخلته الخادمة إلى غرفة الاستقبال. كان هناك باب من الزجاج يفصل الصالة عن غرفة الاستقبال، وستارة فوق الباب صنعتها أمي بإبرة التريكو. كان أبي جالسا في الصالة يقرأ، سأل الخادمة من جاء؟ قالت الدكتور أحمد. كانت تعرفه من الزيارات السابقة، وحفل الخطوبة الصغير منذ عامين. خلع أبي نظارة القراءة ونهض. تصورت أنها سيدخل إلى غرفة الاستقبال ليسلم على الدكتور أحمد، لم يكن طبيبا بعد، طلبة السنة النهائية في الكلية كانوا يحملون لقب دكتور. كان أبي غاضبا؛ تأخر أحمد عن زملائه في التخرج بسبب سفره مع الفدائيين إلى جبهة القتال في القنال.
طلب مني أبي أن أرد إليه خاتم الخطوبة وأطلب منه ألا يزورنا في البيت. قال ذلك بصوت منخفض لا يصل إلى غرفة الاستقبال، الباب الزجاجي بين الصالة والغرفة كان مغلقا، أبي كان هادئا بالطبيعة، صوته لا يرتفع إلا عند الغضب الشديد، لم يكن غاضبا هذه اللحظة، أصدر قراره في هدوء كامل، ابنته الطبيبة لن تتزوج طالبا فاشلا تخلف عن زملائه عامين.
تطورت الأمور على نحو غريب سريع، لا أعرف ماذا حدث بالضبط، رأيت أمي تأتي إلى الصالة مرتدية ثوبها الأزرق، في قدميها شبشب أزرق تسميه البانتوفلي، سارت بخطوة سريعة إلى الباب الزجاجي وأغلقته بالمفتاح، وضعت المفتاح في جيبها ثم عادت إلى غرفتها، جاءت الخادمة وقالت: إن الدكتور أحمد ترك باقة الورد فوق المنضدة في غرفة الاستقبال ثم انصرف.
كان لغرفة الصالون باب آخر يقود إلى الحديقة الصغيرة والباب الخارجي من دون المرور بالصالة، هل سمع صوت أبي؟ هل سمع صوت المفتاح يدور في الباب الزجاجي حين أغلقته أمي؟!
كنت واقفة في الصالة متجمدة، جسمي متجمد وعقلي متجمد، ارتدى أبي ملابسه وخرج، واقفة في مكاني لا أتحرك، رعدة خفيفة أصابتني من قمة رأسي إلى قدمي، كأنما ماء ساقع ينسكب من السقف فوقي وأنا واقفة، الدقات تحت ضلوعي تتصاعد، الدموع تتراكم في حلقي كالغصة، والغضب المتراكم منذ ولدتني أمي أربعا وعشرين سنة. كنت أدق الأرض بقدمي حين أغضب في السابعة من العمر، لم أعد أدق الأرض بقدمي، لم يكن أمامي شيء قابل للكسر إلا الباب الزجاجي المغلق، وجدتني أندفع نحوه، أضربه بقبضة يدي اليمنى ضربة واحدة هائلة.
لم أفقد الوعي هذه اللحظة، كنت في كامل الوعي، كامل الانتباه، لم أحس بأي ألم، فقط دخلت قبضة يدي في الباب الزجاجي وخرجت من الناحية الأخرى.
بقي معصمي داخل اللوح المكسور، حركت ذراعي لأشد يدي خارج الزجاج، سقط اللوح الكبير بكل ثقله فوق معصمي مثل السكين، سقطت قبضة يدي إلى أسفل فجأة ، رأيتها تتدلى لا أستطيع رفعها مهما حاولت، كف قلبي عن الدق وتفجر الدم بلون أحمر يلطخ الباب الأبيض والبلاط وثوبي الأبيض.
اللون الأحمر القاني فوق السطح الأبيض أعادني إلى الحلم الطفولي القديم، رأيت نفسي طفلة تحبو تمسك أمها يدها حتى لا تسقط، رأسي أثقل من جسمي لا أستطيع أن أرفعه فوق عنقي، لا أستطيع أن أرفع يدي، ذراعي ثقيلة مخدرة. شددت جفوني لأصحو من النوم، رأيت وجه أمي أول ما رأيت يبرز وسط الضباب، كان شاحبا رماديا بلون الضباب، انفرجت شفتاها عن ابتسامة خفيفة، سمعت صوتها يأتي من بطن الأرض: الحمد لله جت سليمة يا نوال. كانت ترتدي الثوب الأزرق والبانتوفلي الأزرق في قدميها. ثم رأيت وجه أبي، كان طويلا شاحبا، يردد ما قالته أمي: الحمد لله جت سليمة يا نوال. من حولي معاطف الأطباء البيضاء، مرايل الممرضات، الجدران البيضاء، رائحة المستشفى، وأنا راقدة في السرير الأبيض، داخل ثوب أبيض، ذراعي اليمنى ملفوفة بالجبس الأبيض.
أفقت من البنج ورأيت الدكتور عبد العظيم، كان أستاذا بقسم الجراحة في مستشفى القصر العيني الجديد، عاد لتوه من لندن بعد أن تخصص في جراحة الأعصاب والعضلات الدقيقة، طويل نحيف له وجه مبتسم، قال: مبروك يا دكتورة نوال، العملية نجحت تسعين في المائة والباقي عليك أنت. لم أفهم شيئا مما يقول، في اليوم التالي شرح لي الحقيقة: العملية كانت صعبة، استغرقت أكثر من تسع ساعات، أنسجة المعصم تمزقت وأربطة العضلات، عملت كل جهدي يا دكتورة نوال عشان أرجع كل حاجة زي ما كانت، أنا عملت اللي علي والباقي على ربنا. وسمعت أبي يقول: كان يمكن تفقدي إيدك اليمنى كلها لولا عناية الله، ومهارة الدكتور عبد العظيم، دي أول عملية جراحية من هذا النوع يجريها بعد عودته من الخارج. وقالت أمي: ربنا بيحبك يا نوال، وإن شاء الله إيدك ترجع زي ما كانت مش كده يا دكتور؟
لم يكن الدكتور عبد العظيم متأكدا أن يدي اليمنى سوف تعود كما كانت، كان يشك في الشفاء الكامل، النتيجة لن تعرف إلا بعد التئام الجرح وإزالة الجبس، كان الجبس ضروريا حتى لا يتحرك المعصم.
بدأت أستعيد قوتي في اليوم الثالث، في اليوم الرابع رأيت الدكتور سعيد عبده واقفا إلى جوار السرير، كان أستاذا في الكلية للصحة العامة، يجمع بين الطب والأدب، يكتب عمودا منتظما في الجريدة بعنوان «خدعوك فقالوا». قرأ لي بعض المقالات والقصص في مجلات الكلية، سمع كلمتي في حفل تأبين الشهيد أحمد المنيسي ومناسبات أخرى. قال الدكتور سعيد عبده: تقدري يا نوال تجهزي كلمة تلقيها في حفل التخرج نيابة عن الطلبة؟ أنا شايف إنك في حالة كويسة، والصوان حيكون هنا جنبك في حوش المستشفى، يدوب خطوتين، ويمكن استخدام التروللي إذا كان المشي صعب عليك، إيه رأيك؟ إنت الوحيدة بين طلبة الطب اللي عندك قلم وممكن تكتبي كلمة أدبية كويسة وتلقيها في حفل التخرج؛ ده حفل مهم جدا يا نوال، عميد الكلية حيحضر ورئيس الجامعة وكمال الدين حسين وزير التعليم، غير كل الأساتذة والطلبة والطالبات.
كان ذلك منذ خمسة وأربعين عاما، وأصبح في درج مكتبي صورة فوتوغرافية لي جالسة وراء الميكرفون على المنصة: ذراعي اليمنى ملفوفة بالجبس ألقي كلمتي في حفل التخرج بداية عام 1955، عن يميني يجلس وزير التعليم وعن يساري رئيس الجامعة ثم عميدة كلية الطب. هذه الصورة بقيت في درج مكتبي عامين ثم تمزقت مع صورتي فوق بطاقتي الشخصية وبطاقة نقابة الأطباء، وصور أخرى في الشباب والطفولة. كانت الصور ضمن أوراقي التي حملتها معي من بيت أبي، ذكريات طفولتي، لحظات عمري غير المنسية ومفكرتي السرية، انقض عليها يمزقها، أصابعه الغليظة ترتعد، عيناه اختفى النني تحت الجفن، والبياض بلون الثلج تخترقه شعيرات دموية جاحظة، يمسك الصورة بين إصبعين ويصرخ: دي صورتك في حفلة التخرج مع العميد والوزير، طبعا بقيتي دكتور عظيمة وأنا فاشل مدمن، إزاي تعيشي مع فاشل مدمن يا دكتورة؟ لكن فين كلامك بتاع زمان، نعيش سوا ونموت سوا، مش عاوزة تموتي معايا ليه يا دكتورة؟ عاوزة تمشي وتسيبيني أموت لوحدي؟!
مزق الصورة، ألقى بها في صفيحة القمامة، وانقض على الصور والأوراق كلها يمزقها ورقة ورقة، ثم انقضت أصابعه الغليظة المرتعدة حول عنقي، كان في حاجة إلى جرعة جديدة من الماكسيتون فورت لا يستطيع شراءها من الصيدلية، لم يجد في حقيبتي قرشا واحدا، لم يجد في البيت شيئا يمكن أن يبيعه، لم يعد يؤمن بالله أو الوطن أو الحب. يصرخ بصوت يسمعه الجيران: الثلاثة وهم، والإخلاص وهم. كأنما تكشفت له الحقيقة النهائية ولم يبق إلا الموت ... لكن قبل أن يموت الفدائي لا بد أن يقتل، الدرس الأول تلقاه في حرب العصابات: لا تمت قبل أن تقتل عدوك. •••
بقيت الصورة الممزقة في الدرج السنة وراء السنة، خمس سنوات، حتى عام 1961، دق جرس الباب ودخلت ثريا حمدان، كانت تسكن إلى جواري في شارع الجيزة، تشغل منصبا كبيرا في مبنى التلفزيون الجديد. سألتني: عندك رواية للشاشة الصغيرة يا دكتورة نوال؟ قلت: لا أكتب للتلفزيون يا أستاذة ثريا. سألتني: ليه يا دكتورة؟ قلت: لا أعرف، لم أجرب. قالت: حاولي تكتبي حاجة للتلفزيون؛ عندك قلم مميز ولك قراء وقارئات، والشاشة في حاجة إلى أعمال أدبية جيدة، وهي نادرة، هيه قولي لي متى أتسلم الرواية منك؟
جلست في الليل أفكر، فتحت الدرج حيث الأوراق القديمة والذكريات الطفولية، لمحت صورتي الممزقة ضمن الأوراق، تأملتها طول الليل، قبل شروق الشمس أمسكت القلم وصفحة بيضاء، كتبت عنوان الرواية: الصورة الممزقة.
كانت هي الرواية الأولى التي كتبتها لشاشة التلفزيون، رواية طويلة عرضت في ثماني حلقات، كل حلقة أربعون دقيقة، كنت أتابعها بعد أن أعود من العيادة ... أم إبراهيم تجلس عيناها فوق الشاشة، تمسح دموعها وتنشج بصوت مكتوم. في درج مكتبي حتى اليوم دوسيه كبير مكتوب عليه «الصورة الممزقة»، من مائتين وعشرين صفحة، أفكر اليوم في طبعها داخل كتاب حتى لا تسقط من التاريخ.
المشرط والقانون
أحملق في المرآة وأنا واقفة في غرفتي، ذراعي ملفوفة بالجبس، النتيجة فوق الحائط ثابتة عند العام 1960، صورة الأشعة على المكتب والتقرير، كسر في عظمة الريدياس اليمنى. منذ خمسة أعوام كدت أفقد يدي اليمنى بسبب الغضب، عادت يدي كما كانت إلا من جرح عميق فوق المعصم غائر حتى العظم.
غضبت من أبي وضربت الباب الزجاجي. اليوم أنا غاضبة من نفسي، من هذه المرأة داخل المرآة، تزوجت بلا حب وحملت بلا حب ثم قفزت من الشرفة لقتل الجنين، لكن الجنين لم يحدث له شيء، فقط انكسرت ذراعي اليمنى.
رفعت اليد الملفوفة بالجبس وضربت الوجه داخل المرآة، انكسرت، وانقسم وجه المرأة قسمين، أصبح لها وجهان، في كل وجه عين واحدة.
استدرت لأرى المرأة العجوز ورائي، رأسها ملفوف بالطرحة السوداء، ترمق ذراعي داخل الجبس بنظرة الحدأة المستكشفة، «حصل إيه كفى الله الشر يا دكتورة نوال؟»، «أبدا ما فيش حاجة يا طنط، رميت نفسي من البلكونة»، ثم ضحكت، ضحكت هي الأخرى غير مصدقة ما أقول، أدركت أن الحقيقة حين أقولها لا يصدقها الناس. وكان ابنها حين يسألني «أتحبينني يا نوال؟» أرد بسرعة: لأ. يضحك غير مصدق ما أقول. وقالت أمه في اليوم التالي: خدي إجازة من المستشفى يا دكتورة عشان صحتك وصحة العيل اللي جوه بطنك. ترمق بطني بنظرة حانية كأنما ترى حفيدها، ابن ابنها الغالي، تضمه داخل جفونها، تصعد نظرتها إلى صدري ثم وجهي، تلتقي عيناها بعيني، ترمقني بنظرة الحدأة.
لا شيء يربطني بهذه المرأة أو ابنها إلا الجنين في أحشائي، قطعة من هذين الغريبين داخل جسدي. فكرت في التخلص من جسدي، راودتني فكرة الانتحار، نظرت إلى الأوراق المتراكمة فوق مكتبي، الرواية! تشدني إليها لأكملها قبل أن أموت، قررت تأجيل موتي إلى بعد الانتهاء من الرواية. •••
لم أعد قادرة على الكتابة، أمسك القلم بيدي اليسرى، أصابع اليد اليمنى لا تزال ضعيفة بعد إزالة الجبس، لا أستطيع أن أمسك القلم بين أصابعي، ينزلق من بينها كأنما هي فاقدة الحياة، أعيدها إلى الحياة يوما بعد يوم بالتدريب، تمرينات لعضلات الأصابع والمفاصل، تحريك المعصم، تحريك الذراع، تكرار التمرينات عشر دقائق كل ساعة، أهبط إلى الحديقة الصغيرة خلف البيت أمسك فأسا صغيرة، أشتغل بها كل يوم نصف ساعة، ثم أجلس تحت شجرة الكافور، ترمقني عصفورة صغيرة واقفة فوق الفرع بعيون حزينة.
إنه عام 1960، عام الهزيمة الصغرى، هزيمتي الخاصة وانسحابي من الحياة، حنيني إلى الموت، أيام الحزن العميق والأحداث المؤلمة الساقطة من الذاكرة، لولا النسيان ربما مات الإنسان، داخل خلايا المخ مصفاة تنقي العمر من لحظات الضعف والهزيمة، تلقي بها في قاع التاريخ، تظل كامنة في البئر، داخل قوقعة سميكة، جرح مفتوح غائر في اللحم، نظن أنه التأم، فإذا ما حلت بنا هزيمة أخرى أدركنا أنه لم يلتئم، يطل من تحت الجلد مثل رأس الدمل، إن هي إلا هزة واحدة حتى تسقط القشرة وينزف الجرح.
ثلاثة شهور من الحزن، كنت في التاسعة والعشرين من عمري أرى نفسي عجوزا في نهاية حياتي، أنشد الموت وأنا راقدة إلى جواره في السرير العريض، أحمل في أحشائي جزءا منه لا أعرف كيف أتخلص منه، أبحث في أركان البيت عن سم أبتلعه، أفتح العلبة السوداء في الصيدلية الصغيرة البيضاء فوق الحوض، أبتلع الحبوب السامة حبة وراء حبة ثم أتوقف فجأة، يلوح لي وجه ابنتي الطفلة تبكي على موت أمها، عيون أخواتي الأربع القاصرات بلا أم ولا أب، ليس لهن في الحياة إلاي، تنهمر دموعي ... أبكي عليهن قبل أن أبكي على موتي.
فوق المائدة في الصالة تتراكم الصحف، تأتيني كل صباح من تحت عقب الباب، أركلها بقدمي. صورة الدكتور حمدي زوج صديقتي بطة تظهر في الصحف، يدلي بتصريحات عن الديموقراطية، يردد ما يقال عن أعداء الثورة، يدعو الله أن ينزل عليهم الطير الأبابيل، تجعلهم في بئر سجيل. كل من يعارض جمال عبد الناصر يصبح من أعداء الثورة، كل من يرى أن الوحدة الاندماجية لن تنجح بين مصر والعراق. فشلت الوحدة بين مصر وسوريا، أصبح رجاء الشاعر من أعداء الثورة، طارده البوليس حتى هرب إلى باريس، أسعد شقيق صفية دخل المعتقل ومعه رفاعة زوج سامية. تمط شفتيها وتقول: شوية عساكر يا نوال مسكوا الحكم وعاملين إرهاب في البلد! •••
مسرح الأحداث في حياتنا الخاصة هو السرير، ربما أيضا مائدة الطعام، يدور كل شيء داخل الأربعة جدران، قد يتسرب شيء خارج الأبواب المغلقة إلى آذان الجيران، ارتطام أجسام بالحوائط والجدران، تكسير الصحون وتطاير الشظايا في الجو، زعيق متدرج الصوت يعلو وينخفض، ثم يدب الصمت. في الصباح ينخرط الزوج في عمله، تنخرط الزوجة في عملها، يعود الاثنان في نهاية اليوم إلى مكانهما بين الجدران الأربعة، حيث تتكرر المأساة.
كانت تحلم كل ليلة بالفرار دون جدوى، لماذا كانت تعجز؟ الخوف من الفشل للمرة الثانية في الزواج؟ الخوف من ألسنة الناس؟ الخوف من الوحدة؟! رغم أن الوحدة كانت تبدو لها مثل النجمة بعيدة المنال! اهو التناقض التاريخي في عتمة هذه العلاقة التي يسمونها الزواج؟
كنت أتفادى الخروج معه إلى حيث يرانا الناس، قامتي أطول من قامته، يدي سمراء محروقة بالشمس، أصابعي طويلة رفيعة، أصابعه قصيرة ممتلئة بالراحة وعدم العمل، قدمه صغيرة بيضاء شاحبة لم تلمسها الشمس، خطوتي فوق الأرض واسعة قوية، خطوته ضيقة مترددة مهتزة، لم يكن لي أن أراه يمشي حتى يعتريني المرض، لا أعرف هل أستسلم للقلق أم أسرح في الأحلام، يمشي بجواري في المدينة المكتظة يهز ذراعيه، كأنما له ذراع أقصر من ذراع، جسمه يهتز بحركة تؤلم العين، عضلاته مرتخية من طول الجلوس في المكتب والبيت، يركب السيارة من البيت إلى المكتب، لا يمشي، لا يمارس الرياضة، ذراعه إن تعرت تبدو بيضاء تكشف من تحتها عروقا طويلة متعرجة تمشي فيها دماء زرقاء، أرمقها بدهشة مع أنها عروق طبيعية؛ فالدم الأحمر يبدو تحت الجلد بلون أزرق. كنت أنسى الطب والمنطق، يصيبني القلق كلما تعرت ذراعه، كأنما كشف عن عاهة مستديمة، يتباهى بها أمام الرجال، ينافسهم فيما يسمونه الذكورة، أنكمش داخل نفسي خزيا، أبقى في مكاني مسمرة مذهولة لا أعرف إن كنت في حالة من اليقظة أو أغط في النوم.
ذات يوم جاءتني صديقة جديدة من الأديبات، دق الجرس، فتح لها الباب وأدخلها غرفة الاستقبال، سألتني «جوزك اللي فتح لي الباب؟» ترددت قليلا «لأ مش هو» ثم تراجعت وقلت «أيوه هو .» كان في نظر العالم رجلا وسيما مملوءا بالرجولة، لكن عين الأديبة تكشف ما تحت الجلد. جلست أمامها في غرفة الاستقبال أتفادى النظر إلى عينيها، كانت لي هاتان العينان قبل الزواج، كأنما في حياة سابقة كنت مثل زرقاء اليمامة أرى ما لا يراه الناس، فما الذي حدث لأفقد البصر؟
كنت أمسك عقله الأبيض المرتخي أدلكه وأجادله؛ لتسري فيه دماء حمراء بدل الزرقاء، كنت أقاوم الطبيعة، ويصيبني الإعياء أو المرض، لا يعرف هو ما يعتريني، يتطلع في الشقة الواسعة لا يعرف لماذا لا أفرح، الأثاث الفاخر، الفساتين الحريرية التي اشتراها لي، والشباشب ذات الوردة الذهبية والكعوب الرفيعة العالية، وفخذة الخروف المشوية فوق المائدة والسيارة الطويلة أمام الباب، وصوته يزعق «عاوزة إيه أكثر من كده؟» أمسح دموعي حائرة مذهولة، أتهم نفسي بفقدان البصر، كيف لا أرى كل هذه النعم؟
أعود إلى طبيعتي الأولى، وتنقلب النعم إلى النقم، كلمتان متشابهتان رغم التناقض، لا يفرق الواحدة عن الأخرى إلا نقطة أو نقطتان.
في السابعة من عمري ضربني المدرس على أصابعي بالمسطرة بسبب نقطة حبر سقطت من سن القلم، تحولت كلمة بعل إلى بغل، لم أعرف حينئذ أن كلمة بعل تعني الزوج. وفي مرة أخرى سقطت نقطتان من الحبر فوق كلمة اللاه، أصبحت اللاة، لم أعرف أنها مؤنث كلمة اللاه، وتعني الإلهة الأنثى التي كان يعبدها العرب ثم حرم الإسلام عبادتها.
شطب المدرس بالقلم الحبر الأحمر على الكلمة ولسعني بالعصا الخيزران.
كانت الرواية هي هدف حياتي، قررت تأجيل موتي حتى أنتهي منها، دربت يدي اليسرى على الكتابة، أصبحت أكتب باليدين الاثنتين، أستبدل الواحدة بالأخرى حين يحل بإحداهما التعب، أحتضن القلم بين أصابعي وأكتب. يتسلل نور النهار من شقوق الشيش وأنا منكفئة فوق الأوراق، أسمع زقزقة العصفور فوق شجرة الكافور تفرد ريشها تحت أشعة الشمس، تلتقي عيناها بعيني وتبتسم ثم تطير محلقة في الجو.
كان هو يشاركني السرير، لا شيء يفسد الحياة الزوجية إلا السرير المشترك، والحمام المشترك، انتهاكات يومية للحياة الخاصة.
صحوت من النوم ذات يوم رأيته يقرأ أوراقي، كأنما كان ينتهك جسدي، ربما كان انتهاك الجسد أقل ألما. سمعت صوتي يقول: دي أوراقي مش من حقك تقرأها!
رأيته يمسك الرواية، يلقي بها من النافذة، وجدتني أقفز وراء الرواية من النافذة، تصورت أنني بهذه القفزة سوف أنقذها.
هذه اللحظة كان يمكن أن تنهي حياتي، أن يتحطم رأسي فوق الأسفلت، لم تكن لحظة جنون، كنت عاقلة في كامل الوعي، كانت لي تجربة سابقة، قفزت من سور الشرفة فلم أفقد حياتي، كسر في الريدياس اليمنى ثم التأم العظم. هذه الرواية سهرت عليها الليالي والأيام، والشهور والسنين، أكثر من ثلاثمائة ورقة بحجم الفولسكاب الكبير، عقلي قال في تلك اللحظة: إن أنقذت الرواية أنقذت حياتي.
لحظة من الخيال ربما، وجدت نفسي أمشي فوق الماء، أهتز قليلا لكني أواصل المشي، أدخل إلى سراديب طويلة تشبه الممرات في مستشفى قصر العيني، طوابير المرضى والمريضات يفترشون الأرض إلى جوارهم قفف وأطفال يخبطون الهواء بسيقان معوجة يرمقون الأطباء بنظرة استجداء، يدب الأطباء فوق البلاط بكعوب قوية عسكرية، معاطفهم بيضاء ناصعة البياض، عيونهم من خلف النظارات مطفأة أو مغمضة، ينقرون بأصابعهم الغليظة على صدور الأطفال الذين تحملهم النساء فوق صدورهن المهدلة، وأنا أمشي بين طوابير المريضات أترنح فوق ساقين يتساقط من بينهما الدم، تنفرج شفاههن الشاحبة عن صوت خافت: «ربنا يشفيكي يا بنتي»، يمسحن عيونهم الذابلة بطرف الجلباب الأسود المغطى بالتراب، أشق طريقي بينهن بصعوبة، أتفادى النظر إلى عيونهن، لكن صدري يمتلئ بالدفء، أحتفظ في ذاكرتي بهذه النظرة الحانية في العيون الذابلة.
فتحت عيني فوجدتني غارقة في الدم، راقدة فوق منضدة من الرخام تشبه مناضد المشرحة أو غرفة عمليات الجراحة، فوقها ملاءة من المشمع الأحمر، فوق رأسي كشاف كهربي قوي الضوء، راقدة فوق ظهري مفتوحة الساقين، الذراعان والقدمان مربوطة بأحزمة جلدية في قوائم حديدية ترتفع فوق المنضدة، أسمع الأطباء يتبادلون الكلمات غير المفهومة، يشمخون بأنوفهم ويقولون «إفاكيوويشن» عقلي مشلول مخدر، ترن الكلمة في أذني منذ المدرسة الثانوية «إفاكيوويشن»، خرجت مع البنات في المظاهرة عام 1946، كنا نهتف في وجه الإنجليز في نفس واحد: «إفاكيوويشن ويذ بلاص»، وتعني «الجلاء بالدماء»، أو طرد الاحتلال الأجنبي من بلادنا بالحرب المسلحة، لكنها تعني في لغة الطب أو الجراحة، طرد الجنين من الرحم بالأدوات الطبية المسلحة، بمعنى آخر: عملية «الإجهاض». •••
كان هو نائما إلى جواري في السرير العريض، شخيره يسري في أذني مثل دقات الساعة المشروخة، عيناي مفتوحتان شاخصتان إلى السقف، تحررت من القيد الذي كان يربطني به، عملية «الإفاكيوويشن» حررتني من الاحتلال الأجنبي لجسدي، نزعت عن نفسي الجسد الغريب الذي كان جزءا مني، بدأ الطلاق يلوح في السماء مثل شفق الفجر، أنفاسي تلهث كأنما أجري وأنا راقدة في السرير.
كان يتغطى بالملاءة من الرأس حتى القدمين، تطل قدماه البيضاوان من طرف الملاءة مضغوطتين صغيرتين، كأنما حشرتا داخل حذاء من الحديد، كأقدام الفتيات في الصين القديمة، كانت أمه تدلكهما كل ليلة منذ طفولته، تلفهما في جراب من الصوف، داخل صندوق مبطن بالحرير، تبخرهما، تخشى عليهما من عين الحسود.
فتح عينيه ورآني مفتوحة العينين شاخصة إلى السقف. - صاحية ليه؟ - بافكر. - في إيه؟ - في الطلاق.
انتفض واقفا غاضبا، قال إن الطلاق بيد الرجل وحده، الطلاق يتم بإرادة الرجل حين يريد وليس بإرادة المرأة حين تريد، الطلاق حق مطلق للرجل بحسب القانون، وهو رجل قانون، رغم قامته القصيرة المربعة شمخ بأنفه مثل الأطباء في المستشفى وقال: أنا رجل قانون! ثم نطق عبارة باللغة العامية انفجر بعدها شريان في رأسي: «نجوم الضهر أقرب لك من الطلاق يا دكتورة!» •••
منذ طفولتي سمعت أبي يردد هذه العبارة. «إذا كان ثمن الحرية فادحا فإن ثمن العبودية أفدح.»
وعاش أبي المنفي في منوف عشرة أعوام، لم تغفر له الحكومة التمرد على الرؤساء، ولم يغفر لها خيانة الشعب، اشتغل موظفا في هذه الحكومة ثلاثة وثلاثين عاما حتى مات، كل يوم يفكر في الاستقالة ثم يتراجع، كان العائل الوحيد لأسرته وعياله التسعة وأمهم، كالمربوط في الساقية، يقول عن نفسه رهين المحبسين: الوظيفة الحكومية وسرير الزوجية.
قبل أن يموت بشهور قليلة أحالته الحكومة إلى المعاش، أصابه انتعاش كأنما يولد من جديد، فرد ذراعيه من آخرهما وأخذ شهيقا أعقبه بزفير طويل، وقال: أخيرا تحررت بعد ثلاث وثلاثين سنة سجن، أخيرا سأقرأ وأكتب ما أريد، ثم مات أبي فجأة قبل أن يكتب شيئا أو يترك أثرا.
قبل أن يموت، قال: لو عادت حياتي إلى الوراء ربما لم أدخل الحكومة ولا الزواج، إنهما المصيدة والمقبرة. وكان يقول: اتركي وظيفة الحكومة وافتحي عيادتك الطبية يا نوال، لا شيء يقتل الإنسان مثل الوظيفة الحكومية.
وفي التاسعة من عمري سمعت أبي يقول لأخته رقية: «الطلاق لك أفضل من الزواج التعيس، اخلعيه يا رقية، من حق المرأة أن تخلع زوجها إذا ردت له المهر وتنازلت عن النفقة»، كان أبي دارسا للشريعة الإسلامية في الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي ودار العلوم.
لولا أبي ما استطعت أن أعرف هذا الحق الشرعي للمرأة يسمونه «الخلع»، ساعدني أبي على أن أخلع زوجي الأول، تنازلت عن النفقة والمهر، الكلمتان ترنان في أذني نابيتين، لم يكن المهر إلا خمسة وعشرين قرشا، حين سألني المأذون كم يكون المهر؟ رنت الكلمة في أذني نابية؛ لا أقبل أن يدفع لي الرجل مقابل الزواج، ما الفرق بين الزواج والبغاء؟ قال المأذون: العقد لا يكون صحيحا دون المهر، على الأقل خمسة وعشرون قرشا، كنوع من الرمز! قلت: رمز لأي شيء؟! قال: رمز قوامة الرجل على المرأة، الرجل واجبه الإنفاق والمرأة واجبها الطاعة. قلت: أنا طبيبة يضع الناس أرواحهم بين يدي ولا أقبل أن ينفق علي أحد، كيف أعيش عالة على زوجي وأنا طبيبة؟! قال المأذون: العقد يكون باطلا دون مهر. همس زوجي في أذني: هذه مجرد شكليات. أمسكت القلم ووقعت العقد. تكررت الواقعة في الزواج الثاني، لا بد من الرمز بالقروش على قوامة الرجل وإلا بطل عقد الزواج، همس زوجي في أذني: هذه مجرد شكليات. أمسكت القلم ووقعت العقد، أصبحت للمرة الثانية تحت طائلة القانون العبودي، يسمونه قانون الأحوال الشخصية، تفقد فيه المرأة كيانها الإنساني، تصبح ناقصة الأهلية، قاصرا مثل الطفل لم يبلغ سن الرشد أو المريض بعقله أو المعتوه، في حاجة إلى الوصاية، وزوجها هو الوصي عليها.
في الطلاق الأول كان أبي معي، دخل إلى مكتب المأذون بقامته الفارعة، كانت له هيبة الأنبياء، نهض المأذون واقفا، أهلا سعادة البيه. قال أبي: ابنتي الدكتورة تريد خلع زوجها والتنازل عن جميع حقوقها المادية وغير المادية! قال المأذون مخاطبا زوجي: هذا حقها الشرعي يا أستاذ، ثم كتب قسيمة الطلاق.
في الطلاق الثاني لم يكن أبي موجودا، مات أبي قبل أن أتزوج بعام ونصف، كنت وحدي في مواجهة رجل قانون، لا أعرف إلا القليل في القانون، صوت أبي الميت يقول: اخلعيه يا ابنتي هذا حقك الشرعي. عيناي تدوران في المكان تبحثان عن أبي، واقفا إلى جواري بقامته الفارعة يمسك يدي، صوته في أذني، تقدمي يا نوال ولا تخافي أنت على حق.
كان رجل القانون واقفا أمامي في غرفة النوم، صوته يزعق: «نجوم الضهر أقرب إليك من الطلاق»، قامته مربعة قصيرة، قدماه صغيرتان بيضاوان، يرتدي منامة حريرية بيضاء، وجهه أبيض بلون المنامة، عيناه صغيرتان غائرتان في اللحم كعيني أمه.
كنت واقفة أمامه، قامتي أطول من قامته، قدماي كبيرتان أكبر من قدميه، سمراوان محروقتان بالشمس، وهو واقف أمامي يمط عنقه شامخا بأنفه، يقول إنه رجل قانون، إن الرجل وحده يملك حق الطلاق، المرأة لا تملك هذا الحق. - المرأة تملك حق الخلع إن تنازلت عن حقوقها المادية بحسب الشرع يا أستاذ! - هذا في الشرع فقط يا دكتورة وليس في القانون! - أتعيش معي ضد إرادتي؟! - هذا حقي القانوني! - أنا لا أريد أن أعيش معك! - اذهبي إلى المحكمة!
المحكمة؟! اخترقت الكلمة رأسي مثل طلقة رصاص، لم أدخل في حياتي محكمة، ترن الكلمة في أذني على وزن مشرحة أو مقبرة، الداخل إليها مفقود والخارج مولود، طوابير النسوة بالجلاليب السود أمام أبواب المحاكم، تشبه الطوابير أمام باب المستشفى والمشرحة والقبور، وجوههن الضامرة الشاحبة، عيونهن الذابلة جفت من الدموع، جحافل المحامين والقضاة داخل أروابهم مثل جحافل الأطباء يدقون الأرض بكعوب حديدية، يشمخون بأنوفهم، ترمقهم عيون النسوة المكلومات، واقفات في الطوابير الممدودة من الشارع حتى باب المحكمة.
كان واقفا أمامي يمط عنقه القصير الممتلئ باللحم، تيار من الدم الساخن يندفع من قمة رأسي، يهبط إلى عنقي وصدري حتى بطن القدمين، الغضب المتراكم في أعماقي منذ الطفولة، العشب الأسود في قاع البحر، خطوت نحوه خطوة واحدة، أردت أن أقبض بأصابعي على عنقه، أصابعي طويلة قوية أمسكت بها المشرط وفتحت الصدور والبطون، فجأة تذكرت أنني طبيبة جراحة، حقيبتي جاهزة بجوار المكتب داخلها المشرط، سرت نحوها خطوة بخطوة بطيئة، لم أسرع الخطو، مشيت بخطوة هادئة تشبه خطوة أبي الميت، رفعت قدمي اليمنى عن الأرض كما كان يرفعها، ثم القدم اليسرى، قدماي ثابتتان وعيناي مفتوحتان لا يطرف لهما جفن، كنت هادئة مثل أبي وفي كامل الوعي. انثنيت بجسمي الطويل أرفع الحقيبة من فوق الأرض، ثم انتصبت قامتي الفارعة مثل أمي، فتحت الحقيبة بأصابع قوية ثابتة، أخرجت مشرط الجراحة من جرابه الجلدي الأسود بحركة قوية سريعة، كالفارس يمتشق سلاحه واثقا من النصر، لمع النصل الحاد تحت الضوء بلون أبيض.
كان ظهري ناحيته لم أستدر بعد لأواجهه، النافذة مفتوحة أمامي، ضوء الفجر يشقشق في الأفق، العصفورة في عشها داخل شجرة الكافور، التقت عيناها بعيني فانتفض ريشها وطارت بعيدا، بدأ جسمي يتحرك لأستدير وأواجهه، قبل أن تكتمل الاستدارة تجمدت لحظة وأنا ألمح وجهي في مرآة الدولاب، ليس هو وجهي، الملامح لا أكاد أعرفها، البشرة شاحبة بلا قطرة دم، المقلتان كبيرتان مشتعلتان بنار سوداء، الجلباب قديم شاحب البياض يتدلى تحت الركبتين، القدمان حافيتان فوق بلاط أبيض، النصل الحاد يلمع في يدها بلون الموت الأبيض.
هذه الصورة محفورة في ذاكرتي حتى اليوم، نسيتها منذ تلك اللحظة كأنما لم تكن، ثم عادت إلي بعد عشرين عاما، في خريف 1981، التقيت لأول مرة في حياتي بامرأة قاتلة داخل السجن، كانوا يسمونها فتحية القتالة، لم أتخيل حين رأيتها لأول مرة أنها يمكن أن تقتل، كانت هادئة وادعة، وإن غضبت كل السجينات هي لا تغضب، ثم رأيتها مرة واحدة في لحظة غضب، أدركت أنها يمكن أن تقتل، عيناها الصافيتان مثل السماء في يوم مشرق تلبدتا وتعكرتا وأصبحتا بلون الطين الأسود. كانت الشاويشة في السجن تقول: القتل ليس جريمة يا ضكطورة، إنه لحظة غضب واحدة وتفوت، القتالات أحسن ناس، لا يدوروا ولا يلفوا زي بتوع المخدرات والنشالات.
تجمدت أمام المرآة وأنا أنظر إلى وجهي، ثم أكمل جسمي الاستدارة وأصبحت أواجهه وجها لوجه، وعينا لعين، ماذا رأى في عيني؟! رأيته يتراجع إلى الوراء من دون أن يستدير حتى التصق ظهره بالحائط، أصبح جزءا من الحائط بغير حراك، وجهه بلون الحائط الأبيض، شفتاه بيضاوان منفرجتان دون أن ينطق، تصورت أنه مات وهو واقف قبل أن أقترب منه.
لم أعد في حاجة إلى المشرط، نطقت عبارة واحدة من كلمتين بصوت أبي الميت: أنا خلعتك. •••
أربعون عاما مضت على هذه اللحظة، تصورت أنها سقطت في العدم، إلا أنها باقية في الذاكرة مثل نجم صغير يتألق في الظلمة، حصلت بعدها على ورقة الطلاق وأنا في بيتي معززة مكرمة، لم أخرج إلى المحكمة أو مكتب المأذون، لم أدفع شيئا للمحامين أو الزوج المخلوع، لم أرد له شيئا لأنني منذ البداية رفضت أن آخذ شيئا، وتحررت من قانون الطاعة بفضل مشرط الجراحة.
أقمت حفلا صغيرا في بيتي بمناسبة الطلاق، جاءت صديقاتي الثلاث بطة وصفية وسامية، أطلقت دادة أم إبراهيم زغرودة طويلة، قالت بصوت جدتي الفلاحة: بركة يا ضكطورة رجعتي لنا بالسلامة. كركرت بطة بضحكتها الطويلة المتقطعة، وقالت: عقبال عندنا يا رب! ابتسمت صفية بهدوئها المعتاد وقالت: إنت يا نوال أشجع واحدة فينا. ورفعت سامية ذراعها في الهواء كأنما تهتف في مظاهرة، تسقط مؤسسة الزواج! •••
أربعون عاما أسمع سامية تنطق الهتافين معا في نفس واحد: تسقط مؤسسة الزواج تسقط الإمبريالية والصهيونية! مضى أربعون عاما من دون أن تتحرر سامية من زوجها رفاعة، ومن دون أن تتحرر مصر من الإمبريالية والصهيونية.
في السنوات الأخيرة فقدت سامية بعض قوتها مع فقدان الشباب وأحكم رفاعة سيطرته عليها، ومنذ هزيمة 1967 فقدت مصر بعض قوتها، بعد معاهدة كامب ديفيد عام 1976 فقدت مصر الوحدة العربية، تمزقت داخليا تحت وطأة الفتنة الدينية السياسية، وبعد الهزيمة في حرب الخليج عام 1991 دخلت مصر غابة العولمة تحت السيطرة الإسرائيلية الأميركية.
الهزيمة الكبرى
التقيت بشريف عام 1964 في وزارة الصحة، خرج من السجن منذ عام واحد بعد أربعة عشر عاما وراء القضبان. شهقت بطة حين سمعت الخبر، إنت مجنونة يا نوال، خريج سجون وشيوعي كمان؟! انتفضت صفية، الشيوعية ضيعت أخويا أسعد ومالهاش مستقبل في بلادنا يا نوال! مطت سامية شفتيها، الشيوعية ليست المشكلة يا أخواتي، المشكلة هي مؤسسة الزواج، مؤسسة فاشلة وليس لها مستقبل، وسوف تنقرض بإذن الله!
كركرت بطة بالضحك، يسلم بقك يا سامية، لكن المشكلة الحقيقية هي نوال، هي لا تؤمن بمؤسسة الزواج منذ العصر العبودي، فكيف تدخل المؤسسة بإرادتها للمرة الثالثة؟! لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين فما بال الثالثة؟
كنت في الثالثة والثلاثين من العمر، سقطت أوهام كثيرة عشعشت في عقلي وخيالي، لم يعد قلبي يخفق كما كان في العاشرة من عمري أو العشرين، حياتي أصبحت كاملة دون رجل، الطب والأدب وابنتي وأخواتي والصديقات والأصدقاء، حياتي ممتلئة بكل ما يشبع حاجات الإنسان وما يفيض، فلماذا أتزوج؟ لماذا أضع نفسي تحت طائلة قانون يعود بي إلى الوراء عشرين عاما فأصبح قاصرة لا أملك جسمي ولا عقلي ولا أسافر إلا بإذن من زوجي؟!
سألت شريف: هل نحن بحاجة إلى قانون الزواج؟ ألا يمكن أن نتزوج بإرادتنا الحرة دون كتابة ورقة؟! ما جدوى هذه الورقة إذا كنت أثق بك وأنت تثق بي؟ سنتزوج نحن الاثنين ونفترق إن شئنا بإرادتنا نحن الاثنين ... فلماذا الورقة؟
لكننا كنا في عام 1964 وليس عام 2000، انقضى ستة وثلاثون عاما حتى يسقط قانون الزواج القديم، كنت أتمرد عليه وحدي، كنت أعرف أنه بقايا العصر العبودي، لكن أغلب النساء لم يكن معي، حتى صديقاتي الثلاث بطة وصفية وسامية لم يملكن شجاعة الطلاق أو الاعتراض على القانون إلا داخل الغرف المغلقة، اليوم تغير الحال، زاد عدد النساء والشابات المتمردات على قانون الزواج القديم، وتم تعديل القانون أكثر من مرة داخل مجلس الشعب، تعديل طفيف لا يمس جوهر القانون القديم. هكذا بدأت الفتيات يتزوجن دون قانون، أو بقانون جديد ليس فيه عقد رسمي مختوم بالنسر، وإنما عقد عرفي تعارف الناس عليه قبل نشوء الحكومات. إن الحاجة إلى الحب والجنس تنتصر على أعتى الحكومات المركزية وأقدمها في التاريخ وهي الحكومة المصرية، أكثر من ذلك بدأت الفتيات يتزوجن بدون عقد على الإطلاق، دون حاجة إلى ورقة مكتوبة، مجرد الثقة المتبادلة بين الرجل والمرأة، كل منهما بالغ الرشد ومسئول عن الوفاء بالوعد، يمسك كل منهما بيد الآخر وينطق الوعد، لا أحد يشهد عليهما إلا الله، أليست شهادة الله أهم من شهادة موظف الحكومة؟!
قلت لشريف: إنهم يتكلمون كثيرا على الإيمان بالله، مع ذلك لا يؤمنون به، وإلا فلماذا لا تعترف الحكومة بشهادة الله؟!
ضحك شريف وقال بصوته الهادئ: يا نوال أتريدين أن نتزوج أم تريدين تغيير العالم؟ قلت: أريد الاثنين يا شريف، قال ربما يتغير العالم بعد قرن أو نصف قرن، ولكننا نريد أن نتزوج اليوم، وإن لم نذهب إلى مكتب المأذون ونسجل العقد المكتوب فسوف يصبح أطفالنا غير شرعيين.
كان يوم 10 ديسمبر 1964، ذهبنا إلى المأذون وكتبنا العقد، سأل المأذون كم المهر؟ قلت له خمسة وعشرون قرشا، رمز العبودية، وضحكت، لكن المأذون لم يضحك، كان غاضبا لأن أجره يزداد بازدياد المهر، أراد أن يعقد الأمر طمعا في أجر أكبر، ناوله شريف أجرا سخيا وقال: اكتب العقد يا شيخ بلاش تعقيدات، عندنا موعد ولازم نمشي بسرعة!
كان موعدنا في البيت مع ابنتي منى، عمرها سبعة أعوام، طفلة عيناها عسليتان يكسوهما بريق، اشتد البريق وهي تفتح العلبة الملفوفة بالشريط الأخضر اللامع، ارتدت الفستان الجديد.
لونه وردي له كولة بيضاء من الدانتيلا، وباقة من الورد البلدي الأحمر والزهور البيضاء، جلسنا نحن الثلاثة حول المائدة الصغيرة في شقة الجيزة نحتفل بعيد زواجنا الأول، لا أحد يشهد عليه إلا الله والطفلة في السابعة من عمرها .
في أول لقاء مع شريف أدركت أنني أثق فيه، عيناه رأيتهما، نافذتان مفتوحتان إلى الأعماق، العينان هما الإنسان في نظري، هناك قول مأثور يقول: «تكلم حتى أراك» وأنا أقول: أرني عينيك حتى أراك.
في أول لقاء سألت شريف عن علاقته بالكتابة والأدب، هذا السؤال كنت أسأله لأي رجل أو امرأة يمكن أن أصادفها، الكتابة عندي أعز ما أملك، الماء والهواء والكتابة، ثلاثة عناصر ضرورية للحياة، أنا أكتب إذن أنا موجودة. لا أتصور الحياة الدنيا بدون ورقة وقلم، الحياة الأخرى أيضا لا أتصورها بدون ورقة وقلم. في المدرسة الثانوية طردني مدرس الدين من الفصل عام 1946 حين سألته: أيكون في الجنة ورقة وقلم لمن يريد أن يكتب؟ وفي السجن عام 1981 كان الحراس يفتشون كل يوم ويقول رئيسهم مهددا: إذا وجدنا ورقة وقلما فهذا أخطر من أن نجد طبنجة! واستطعت رغم ذلك أن أخفي الورقة والقلم تحت أرض الزنزانة دون أن يعثر عليهما أحد، ومنذ طفولتي لم أكن أنام دون الورقة والقلم تحت وسادتي ، ومن أجل الورقة والقلم خلعت من حياتي الزوج الأول والثاني.
كان شريف هو زوجي الثالث، لم يكن يكتب إلا المقالات السياسية، منذ أول لقاء قلت له: أنت أديب يا شريف قبل أن تكون سياسيا وقبل أن تكون طبيبا. قال: منذ طفولتي يا نوال كنت أحب الموسيقى والأدب، وكانت أمي تمسك يدي وتقول أصابعك خلقت للموسيقى.
قبل الزواج حدثني شريف عن حياته في السجن وفي البيت، عن طفولته حين كان في العاشرة من عمره عام 1933. ينتمي شريف إلى الطبقة الأرستقراطية المصرية، أصحاب الأراضي والإقطاع منذ الخديوي والسلطان والمماليك، يملكون الأرض والمصانع والشركات، يشاركهم فيها الأسرة المالكة والأجانب، مثلهم الأعلى الملك فؤاد الأول ثم فاروق الأول، يتفاخرون بجذورهم في الأرض المصرية، يرثونها عن الأب والجد، يتزوجون الشقراوات الأجنبيات حين يسافرون إلى باريس أو لندن للسياحة أو للحصول على الشهادات العليا. مدينة القاهرة في الثلاثينيات من القرن العشرين كانت تتألق في الليل كالرجل الداعر، يتزوج المرأة الأجنبية أو الأرستقراطية من الطبقة العليا ، ثم يتسلل في الليل إلى العشيقة المصرية من الطبقات الدنيا. يتكلم اللغة الإنجليزية أو الفرنسية في البيت، وفي وكر العشق أو اللذة يتكلم اللغة العامية الدارجة، أو لغة الشوارع. يثبت في عروة البدلة الأنيقة وردة حمراء، والطربوش الأحمر فوق رأسه مائل نحو أذنه اليمنى أو اليسرى. ينتمي إلى حزب اليمين أو حزب اليسار، يحمل لقب الباشا الأحمر أو الأخضر أو الأصفر. يتحدثون عن الشعب المصري الفقير مع رشفات الويسكي وقضمات الكافيار ودخان السيجار، يتبارون في الانتخابات على المقاعد في مجالس النواب أو الشيوخ، وفي الليل يتبارون على بنات الهوى في الكباريهات والعوامات الراسية على شاطئ النيل. في البيت الكبير بيت العيلة الكريمة يحتفظون بالزوجة الأولى العجوز أم الأولاد، عفيفة طاهرة كالأم العذراء. في البيت الثاني الخفي، مثل الحكومة الخفية، هناك الزوجة الثانية الشابة المكتنزة باللحم، من أجل الحب والعشق واستعادة الشباب. تحت سنة الله والرسول، لكل منهم ثلاثة بيوت أو أربعة بحسب عدد الزوجات، ثم الشقة السرية تحمل اسم «الجارسونيرة» وهي كلمة فرنسية تعني المكان الذي تفد إليه المومسات أو العشيقات السريات. يعود الرجل منهم آخر الليل إلى زوجته الأولى، تفوح منه رائحة الخمر وعطر النساء، يخلع الطربوش والبدلة والوردة الحمراء في العروة، يعطي أم الأولاد ظهره، ثم يسقط في النوم يشخر حتى ظهر اليوم التالي.
لم يرث شريف عن هؤلاء الرجال العهر وفراغ الدماغ، ورث عن أمه الإنجليزية الإرادة الحديدية، وعن جدته الفلاحة أم أبيه ورث الضمير الحي والاستقامة. لم تقرأ جدته كتاب الله، كانت مثل جدتي الفلاحة أم أبي لا تعرف القراءة، وكانت تقول ربنا هو العدل عرفوه بالعقل. ورث شريف عن جدته الإيمان بالعدل، أصبح في أعماقه منذ الطفولة جهاز عضوي يؤمن بالعدل أشبه بجهاز المناعة ضد الأمراض، أليس هو الضمير؟!
منذ طفولته كان قلبه يرق للخدم في البيت والشحاذين ذوي العاهات في الشوارع. في النوم يرى نفسه نبيا أو قسيسا يدعو إلى العدل والخير، كان طفلا وحيدا حزينا في بيت كبير، أبوه غائب معظم الوقت، أمه تنظر إلى أصابعه الطويلة النحيفة وتقول أصابع فنان مبدع أو جراح ماهر. كان يحب الفنانين ويكره الجراحين، لم يكن رجال الطبقة العليا يحترمون أهل الفن، يقولون عنهم «أرتيست»، يلفظون الكلمة بطرف اللسان في ازدراء. يدخل الأرتيست إلى قصورهم في الأفراح من الأبواب الخلفية مع الخدم، يعزفون العود أو الكمنجة مع الطبلة والرق، يطرب السادة للغناء والموسيقى، يهزون رءوسهم طربا، يلقون طرابيشهم على الأرض، ينتشون، ينهلون من المتع التي حرمها الله حتى الثمالة، ثم ينامون، وفي الصباح ينهضون، يركعون لله ركعتين كنوع من الرشوة، يضعون الطرابيش فوق رءوسهم، يشمخون بأنوفهم يتفاخرون بالتقوى والصلاح.
على شاطئ النيل في الجيزة كنت أتمشى أنا وشريف، يحكي لي عن طفولته وأيام الدراسة وكلية الطب، المظاهرات الوطنية، أحداث كوبري عباس في الجيزة، فتح البوليس الكوبري على الطلبة المتظاهرين، غرق بعضهم في مياه النيل، تلقى بعضهم الرصاص في صدره قبل أن يقفز فوق السور، اختلط الدم الأحمر بالماء والطمي.
تخرج شريف في كلية الطب، عام 1946، كان طالبا متفوقا يحلم أن يكون طبيبا مثاليا، يعالج الفقراء بالمجان. اصطدم الحلم بالواقع القبيح، الدم والصديد والعرق في جلاليب الفلاحين، الوجوه الضامرة الممصوصة، ينزفون الدم في البول، يمرضون بسبب الفقر والجهل والاستعباد وليس بسبب الجراثيم.
تحول الطبيب المثالي إلى مناضل ثوري يحلم بإلغاء الفوارق بين الطبقات، كلمة الطبقة كانت محرمة، محظورا النطق بها، تعني الشيوعية والإلحاد، أليس الله هو الذي خلق الفقير والغني؟ أليس المال هو مال الله يعطي من يشاء بغير حساب؟
صوت شريف هادئ ينساب في أذني مع نسمة الليل في الربيع، نحن في عام 1965، عيناه يكسوهما حلم حزين، ملامحه تذكرني بملامح أبي وزوجي الأول، ملامح الفدائيين والقديسين، أتذكرهما رغم مرور السنين، المظاهرة الصامتة عام 1951، الهتاف يدوي تحيا مصر حرة. عيناه تلتقطانني من وسط الملايين يكسوهما البريق، الحب جزء من الخيال وجزء من الحقيقة، يخفق له القلب رغم الموت والحرب، الدماء فوق الأرض والأصابع حول عنقي، الهروب في الليل قبل طلوع الفجر أحمل طفلتي فوق صدري، فتح لي أبي بيته وذراعيه، لم يؤنبني ولم يعاتبني، ربما كان يحس تأنيب الضمير، ألم يملأ خيالي منذ الطفولة بأحاديث البطولة؟ سعد زغلول وثورة 1919، الحرب والقتال وتحرير الوطن، الحرية والاستقلال أو الموت الزؤام، في أعماقه جهاز للإيمان، أشبه بجهاز المناعة ضد الأمراض، في خياله صورة عن الله، يحاول أن يستبدل الصورة بالحقيقة، يلوي عنق الحقيقة، يلوي عنقي لأصبح مطابقة للصورة، عنقي غير قابل للالتواء مثل عنقه، رأسي غير قابل للانحناء مثل رأسه، كلما عجز عن تغييري اشتد به الإحباط، لم يملك شيئا يغيره إلا ابنته بعد أن عجز عن تغيير العالم.
راح أبي ضحية الحلم الكبير مثل زوجي الأول، يذوب الحلم في الحقيقة، مؤرق في الليل والنهار، يسمع الدقات المنتظمة للزمن والنبض، الساعة فوق معصمه وقلبه تحت الضلوع، دقات منتظمة غريبة في انتظامها، مفزعة في استمرارها كدقات الموت البطيء، يهب من النوم حاملا سلاحه، يذهب إلى حرب لا يعرفها، يندفع في الظلام كمن يمشي في النوم، يمشي فوق الموت دون أن يتوقف، دون أن ينظر إلى الوراء، يتطلع إلى السماء، يرى صورته محمولا فوق الأعناق، الناس تهتف باسمه: يعيش يا يعيش! وهو يمشي فوق السحب حاملا سلاحه، مرهق يبحث عن الراحة، حزين ينشد الفرح، مهزوم يحلم بالنصر، يمشي وحده مثل خيال، الوجوه من حوله ميتة، كلهم موتى، كلهم غارقون في الهزيمة، لا يملكون إلا سلاحا مكسورا أو قلما مقصوفا، كلمات فوق الورق تطير في الهواء، طلقات الرصاص والدم المراق، عيناه غارقتان في الدموع، أهي دموع الحزن أم الفرح؟ أهو الموت أم الانطلاق نحو حياة جديدة؟
كنت أخرج لأتمشى على شاطئ النيل في الجيزة، شريف يمشي إلى جواري، يحكي لي عن السجن، أربعة عشر عاما في السجن، دخل عام 1949 وخرج عام 1963، عشر سنوات منها تحت حكم جمال عبد الناصر من 1953 حتى 1963 مع الأشغال الشاقة، قطع الأحجار في الجبل في سجن طرة وأبو زعبل.
يسترجع شريف الذكريات وأنا أمشي إلى جواره صامتة أرمق الناس في الطريق، وجوه الرجال متهدلة، عيونهم منكسرة، إلى جوار كل واحد منهم زوجته يقبض على يدها كالأسيرة، النساء أجسادهن سمينة مربعة، يتأرجحن فوق كعوب رفيعة، ثقيلات الخطو بطيئات الحركة، بطونهم عالية، إلى جوارهن تسير بناتهن نحيفات رشيقات، كالزهور يتفتحن في الربيع، ثم يأتي موسم القطف، يصبحن مثل أمهاتهن بعد ليلة الزفاف مكسورات القلب مترهلات.
إنه عام 1967 شهر يونيو، بالضبط 10 يونيو، وأنا أمشي بجوار شريف في شارع الجيزة، الساعة الرابعة صباحا قبل طلوع الفجر بقليل، الدنيا ظلام، الناس تمشي في الليل كمن يمشون في الحلم، خرجوا من بيوتهم يهتفون ضد الهزيمة، يطالبون بالسلاح، الحرب والقتال حتى الموت، تحيا مصر حرة، الأجساد تغطي الشوارع، لا مكان لقدم، مثل يوم الحشر حين ينهض الموتى من القبور أفواجا أفواجا، وأنا أمشي إلى جوار شريف، كما مشيت إلى جوار أحمد في المظاهرة الصامتة منذ ستة عشر عاما، الخطوة فوق الأرض هادئة ثابتة، الصوت هادئ يشبه الصوت، العينان يكسوهما البريق ذاته والحلم ذاته، تحيا مصر حرة، نموت فداء الوطن، صوت عبد الناصر يهتف في الإذاعات سنقاتل حتى النصر ، الملايين في الشوارع تهتف في نفس واحد: النصر! النصر!
منذ العاشرة من عمري وأنا أهتف معهم، في المدرسة الابتدائية في منوف، في المدرسة الثانوية في حلوان، في كلية الطب في شارع قصر العيني، في نقابة الأطباء بدار الحكمة، في وزارة الصحة بشارع مجلس الأمة، وفي شوارع القاهرة والإسكندرية والسويس والإسماعيلية وبورسعيد والجيزة والفيوم وبني سويف والمنيا وأسيوط وقنا وأسوان.
سمعت شريف يهتف مع الناس: الموت حتى النصر! عيناه يكسوهما بريق الحلم الطفولي، كالدمعة الحبيسة لا تسقط ولا تجف. خرج من السجن بعد حكم بالأشغال الشاقة أربعة عشر عاما، خرج نحيف العود منتصب الرأس أكثر صلابة مما كان، لم يفقد الحلم ولا الأمل، يفكر بالليل والنهار في الثورة، يهب من النوم حاملا سلاحه، يندفع في الظلام يمشي فوق الموت لا يتوقف، يسقط بين أيدي البوليس، يدخل السجن ويخرج ثم يدخل ويخرج. يسير إلى جواري صامتا يفكر، الرجال من حوله يتكلمون ويثرثرون، يتناثر في الجو رذاذ لعابهم، لا يكفون عن الكلام ، يقاطع بعضهم بعضا، يتكلمون في وقت واحد وهو صامت، وإذا تكلم صمت الجميع.
منذ أن صدرت القرارات الاشتراكية عام 1962 أصبح الناس أعضاء في الاتحاد الاشتراكي، صدرت الأوامر الإدارية ودخل الموظفون والموظفات الحزب الوحيد، لم يتخلف أحد في الوزارات أو الجامعات أو مؤسسات الدولة خوفا من الجهاز الحكومي، أقدم جهاز في التاريخ البشري منذ الفراعنة، لم يعرف الشعب المصري إلا حكم الفراعنة أو الاحتلال الأجنبي. جاء القرن الواحد والعشرون ولم يتحرر الشعب المصري بعد، تغيرت الأسماء والوجوه والألقاب وطرق الاستعباد والاستبداد، وبقي فرعون على حاله ومعه الاحتلال الأجنبي، تخلص الشعب المصري من السيطرة الأجنبية بضعة أعوام قليلة ثم سرعان ما عادوا.
كلمة «الاشتراكية» كانت تجري على لسان جمال عبد الناصر قبل الهزيمة بأعوام قليلة، بالضبط منذ عام 1962، ما يجري على لسان رئيس الدولة يجري على ألسنة رجال البلاط من الوزراء والموظفين والمثقفين من أصحاب الأقلام في الصحف والمجلات. بدأت الوجوه تظهر على شاشة التلفزيون، السيد الرئيس من حوله كبار رجال الدولة والأدباء والصحفيين، أصبحوا يحملون لقب النخبة، يندرجون تحت فئة المثقفين، إحدى فئات الشعب العامل الخمسة «العمال والفلاحون والجنود والرأسمالية الوطنية والمثقفون». كلمة فئات تبدو أكثر براءة من كلمة طبقات، مفردها كلمة طبقة، تنطوي على الصراع الطبقي أو الشيوعية. رئيس الدولة أصبح ينطق عبارة جديدة «تذويب الفوارق بين الطبقات»، انتشرت العبارة في كل مكان، يرددها رجال البلاط والمثقفون وأصحاب الأقلام، ينطقون العبارة بصوت رئيس الدولة، واللهجة ذاتها، يخرجون لسانهم عند نطق حرف الذال في كلمة «تذويب».
كانت بطة لا تزال صديقتي هي وصفية وسامية، اكتشفت بطة جذورها الفقيرة من الفلاحين في قرية السنبلاوين، زوجها الدكتور حمدي اكتشف أن أباه كان عاملا في مصانع النسيج بالمحلة الكبرى، ارتدى الدكتور حمدي بدلة زرقاء كحلية من تيل المحلة، لها ياقة مكوية منشاة شديدة الأناقة تشبه ياقة وزير الخارجية، رشح نفسه في الانتخابات ودخل مجلس الشعب تحت فئة العمال.
لم ينجح الدكتور مصطفى زوج صديقتي صفية في الانتخابات تحت فئة الفلاحين، رغم ارتدائه الجلباب والطاقية ، وتحريك السبحة بين أصابعه بالحركة ذاتها مثل السيد الرئيس والوزراء والمثقفين ورجال البلاط، إلا أنه أصدر كتابا جديدا عن الاشتراكية في الإسلام، أوضح الخلاف بين الاشتراكية الإيمانية الإسلامية والشيوعية المادية الإلحادية. قال الاشتراكية بدأت في الإسلام بأبي ذر الغفاري رضي الله عنه، والرسول
صلى الله عليه وسلم
كان اشتراكيا يحارب أغنياء قريش من أجل «تذويب الفوارق» بين الطبقات في الجزيرة العربية، ثم استطرد قائلا: كلمة «تذويب الفوارق» لا تعني إلغاء الفوارق؛ لأن الله خلق الناس درجات، وهذا هو الفرق بين الاشتراكية الإيمانية والشيوعية الإلحادية، الشيوعية ترى العالم بدون طبقات على الإطلاق، مما يخالف كلام الله في الكتب السماوية، وفي القرآن نص لا يقبل التفسير ولا التأويل، خلقنا الله درجات، أي طبقات، طبقة فوق طبقة، طبقة أعلى وطبقة أدنى، وخلقنا الله من نفس واحدة ذكر وأنثى، لكن الذكر أعلى من الأنثى، والرجال عليهن درجة، إن هؤلاء النساء اللائي يحاولن مساواة المرأة بالرجل يخالفن كلام الله في القرآن والكتب السماوية.
أصبح الدكتور مصطفى أحد كبار المفكرين في مصر، اسمه الدكتور مصطفى الزهيري، زوج صديقتي الدكتورة صفية. كانت صفية تؤمن بأن الناس خلقوا درجات أو طبقات، لكنها لم تؤمن بأن الرجل يرتفع عن المرأة درجة. صديقتي سامية لم تكن تؤمن بالفكرتين معا، تمط شفتيها وتقول: الناس سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين عربي وأعجمي ولا رجل ولا امرأة إلا بالصلاح والتقوى. لم تعد بطة تكركر بالضحك، أصبحت تجلس في وقار تضع الساق فوق الساق، يكشف فستانها الحريري الضيق عن ركبتين كبيرتين مكتنزتين باللحم، أصبحت بطة تحتل منصبا كبيرا في الاتحاد الاشتراكي، وعضوا بارزا في نقابة الصحفيين، كيف تحولت بطة من طبيبة إلى صحفية؟ أعضاء الاتحاد الاشتراكي دخول وزارة جديدة اسمها وزارة الثقافة والإعلام، احتلوا المناصب العالية في مبنى التلفزيون الجديد، ومبنى الإذاعة، والمؤسسات الصحفية الجديدة ودور النشر ومجلس الثقافة الأعلى الدائم واللجان التي أصبحت تحمل لقب اللجان الدائمة. أم إبراهيم كانت تقول: الدوام لله.
أصبحت بطة رئيسة لإحدى اللجان الدائمة في جهاز التلفزيون ، تظهر فوق الشاشة تتحدث، صوتها أصبح وقورا فيما عدا حرف الراء تقلبه إلى غاء، تقول: الاشتغاكية بدلا من الاشتراكية، هذه اللدغة في اللسان منذ الطفولة لم تستطع تغييرها مهما حاولت، يلتوي لسانها وعنقها القصير السمين وهي تنطق الكلمة، كأنما هي غصة في الحلق، تشهق قليلا كالمختنقة تمد عنقها إلى أعلى مزهوة بالشعر الأسود أو الباروكة المصفوفة فوق رأسها درجات فوق درجات، على شكل هرم أكبر من رأسها، تمط شفتيها الحمراوين المكتنزتين بحركة تكاد تشبه صديقتي سامية. وكانت بطة منذ أيام الدراسة لا تكف عن الضحك والكركرة، شفتاها منفرجتان دائما كأنما لا يمكن أن تنطبق إحداهما على الأخرى. «العمال والفلاحون نسف المجتمع ومن حقهم الحصول على نسف المكائد في مجلس الشعب.»
صوتها يرن في أذني وأنا جالسة أمام الشاشة الصغيرة في بيتي بالجيزة، شريف إلى جواري يتابع حديثها، يبتسم في هدوء حين يسمعها تقول «نسف المجتمع» بدلا من «نصف المجتمع»، و«المكائد في مجلس الشعب» بدلا من «المقاعد في مجلس الشعب». إلى جوارها يجلس الدكتور رشاد، ترك الطب وتفرغ للسياسة، أصبح من أعوان الوزير، يرأس إحدى اللجان العليا الدائمة، يظهر على شاشة التلفزيون، يعجز مثل بطة عن نطق حرف الراء، يقول: الديموكغاتية بدل الديموقراطية، يلتقي بي أحيانا في فناء وزارة الصحة أو مدخل نقابة الأطباء بدار الحكمة في شارع قصر العيني، يستوقفني ويهتف بصوته الرقيق: نوال مش معقول! شعرك بقه أبيض خالص زي التلج، لكن مديكي تشاغم خطيغ! (يعني تشارم خطير)، وكلمة «تشارم» تعني باللغة العربية «جاذبية».
منذ المؤتمر الوطني للقوى الشعبية عام 1962 لم ألتق بالدكتور رشاد إلا على شاشة التلفزيون، أو في الطريق بالصدفة. كان عضوا في المؤتمر الوطني مثلي عام 1962، إلا أنه كان يجلس في الصفوف الأمامية مع النخبة المثقفة، كنت أجلس في الصفوف الخلفية مع الشباب. حين جاء دوري في الكلام قلت بصوت سمعه الجالسون فوق المنصة، منهم جمال عبد الناصر ووزير الداخلية، تعكرت الوجوه وأنا أقول الفلاح هو الذي بوله أحمر، هذا ما سمعته من جدتي الفلاحة ، أهناك فلاح واحد في مصر لا ينزف الدم مع البول؟! ينتشر مرض البلهارسيا في الريف بنسبة 99٪. سجل وزير الداخلية اسمي الثلاثي فوق ورقة أمامه. بعد الاجتماع استوقفني الدكتور رشاد عند الباب الخارجي للجامعة في الجيزة، وقال: بأه ده كلام يتآل يا نوال؟ الفلاح بوله أحمر؟! ده تهكم واضح على الاشتغاكية وسيادة الغيس شخصيا (يعني الاشتراكية وسيادة الريس).
منذ هذا المؤتمر عام 1962 دخل اسمي القائمة السوداء، أصبح لي دوسيه صغير في وزارة الداخلية يحمل اسمي الثلاثي، الأب والجد السعداوي الذي مات قبل أن أولد. بعد أن تزوجت شريف حتاتة في ديسمبر 1964 أضيف إلى اسمي كلمة أخرى سيئة السمعة «شيوعية» يضيفون إليها كلمة أكثر سوءا «حمراء»، لي جريمة سابقة تصطبغ باللون الأحمر، هي عبارتي عن الفلاح وبوله الأحمر وأنا امرأة أيضا، المرأة الحمراء ليست كالرجل الأحمر، كان في مصر رجل يسمونه «الباشا الأحمر» تعني الباشا الشيوعي؛ يمكن للرجل أن يكون أحمر دون المساس بأخلاقه، فهي كلمة سياسية، أما «المرأة الحمراء» فهي تندرج - مثل الليالي الحمراء - تحت بند الأخلاق، مثل «امرأة الشارع» في اللغة تعني المومس أما «رجل الشارع» فهو المواطن الكادح من فئات الشعب، «الرحل الحر» يعني الرجل الأبي الشجاع المدافع عن الحرية، أما «المرأة الحرة» أو الداعية إلى حرية المرأة فهي إباحية تدعو إلى الفساد الأخلاقي.
سكن شريف معي في شقتي الصغيرة بشارع مراد بالجيزة، أصبحت الشقة تحت المراقبة ثمانية وعشرين عاما حتى انتقلنا منها، كانت مراقبة غير دائمة متقطعة بحسب ذبذبات الحكم في مصر، حكم مذبذب بين اليسار واليمين، يستقر في الوسط دون نظرية أو فكر، ينتقل من النقيض إلى النقيض بين يوم وليلة، يلعن الاستعمار كالشيطان يوما ويقدسه كالإله في يوم آخر، ما بين هذا وذاك يتحول الأصدقاء إلى أعداء، أو الأعداء إلى أصدقاء.
مثل هذا الحكم لا يؤدي في النهاية إلا إلى الهزيمة، منذ ولدت في بداية الثلاثينات حتى اليوم لم تشهد بلادنا إلا الهزيمة وراء الهزيمة، حل الأميركان محل الإنجليز، ودولة إسرائيل أصبحت تملك الترسانة النووية والسلطة العليا، تحلم بأرض الله الموعودة من النيل إلى الفرات، لم يعد الفرات بعيدا عنها بعد حرب الخليج عام 1991. منذ عهد السادات وبداية عصر الانفتاح عام 1974 كف رجال البلاط والنخبة المثقفة عن نطق كلمة الاشتراكية، أصبحت من الكلمات المحظورة، عادت مصر إلى مجتمع النصف في المائة، ازداد الفقراء فقرا والأثرياء ثراء، فتحت البورصة أبوابها المغلقة منذ العهد الملكي القديم، انتشرت كلمة الديموقراطية والليبرالية، تجمع نفر من النخبة المثقفة في قصر السادات وصدر قرار جمهوري بإنشاء المعارضة والأحزاب السياسية، أصبح حزب الحكومة هو الأكبر، يمكن عند الضرورة أن يبتلع الأحزاب الأخرى، يمين ويسار ووسط، كما ابتلعت عصا موسى الثعابين الصغيرة.
لم أدخل أي حزب بطبيعة الحال، كتبت مقالا بجريدة الشعب، إحدى الصحف الجديدة التي حملت اسم حزب العمل، أحد الأحزاب المعارضة، كان مقالا بعنوان «من ينشئ الأحزاب في مصر، الشعب أم الحاكم؟» وفي يوم 6 سبتمبر 1981 اقتحم رجال البوليس بيتي في شارع مراد بالجيزة، كسروا الباب وأخذوني إلى سجن النساء بالقناطر الخيرية، وجدت نفسي متهمة بالتآمر لقلب نظام الحكم في مصر لحساب دولة أجنبية اسمها بلغاريا، لماذا بلغاريا بالذات؟! لا أعرف.
لم أسافر في حياتي إلى بلغاريا، ليس لي معرفة بامرأة بلغارية أو رجل بلغاري، لا أعرف اللغة البلغارية، لا أكاد أعرف شيئا عن بلغاريا، أنسى موقعها فوق خريطة العالم.
إن تلفيق التهم للمعارضين أمر معروف في كل العهود، في كل البلاد، لكن هذه التهمة كانت أشبه ما تكون بالنكتة، يضحك شريف ويقول: كده يا نوال تتآمري مع بلغاريا على قلب نظام الحكم من غير ما تقولي لي؟!
لم أدرك مأساة هزيمة 1967 إلا في زيارة لقريتي صيف عام 1968، حين التقيت بحفيد دادة أم إبراهيم، اسمه على اسم أبيه الذي لم يعد من حرب 1948. كان راقدا فوق الحصيرة على الأرض، من حوله النساء يبكين في صمت، عيونهن ذبلت من البكاء، سقطت عنها الرموش، يولولن بأصوات جماعية خافية كالنحيب المكتوم: إلهي ينتقم منك يا ميخا! وجوههن ضامرة ممصوصة محروقة بالشمس، رءوسهن ملفوفة بالطرح السوداء، الجلاليب بلون التراب، وإبراهيم راقد فوق الحصيرة يهذي بالحمى، أمه تكاد تشبه أمها دادة أم إبراهيم، لكنها أكثر ذبولا وإعياء، تمسح عن وجه ابنها العرق بطرف طرحتها السوداء، تبكي بلا صوت وابنها يحكي ما حدث له في الحرب، نجا من الموت لكنه عاد حطام إنسان.
كان إبراهيم قد بلغ عامه الواحد والعشرين قبل أن يذهب إلى الحرب بأيام، كان يستعد لحفل زواجه من ابنة عمته زهيرة، جاءه أمر الاستدعاء في شهر مايو 1967، ترك القرية والعروسة، ارتدى الزي العسكري وانطلق يهتف: الله، الوطن، تحيا مصر حرة. حلقوا رأسه ورحلوه إلى منطقة بير الحما بالقرب من مغارة الفحم في العريش. قامت الحرب يوم 5 يونيو وهو في بير الحما، عرف ذلك من الراديو، سمع المذيع يقول انتصرنا انتصرنا. ثم فوجئ بعد ثلاثة أيام بالضبط يوم 8 يونيو بالدبابات الإسرائيلية تحيط به وبزملائه الجنود، وتم تدمير كتيبته بالكامل وقتل قائدها.
يمسك إبراهيم رأسه بين يديه ويجهش بدون صوت، تمسح أمه العرق فوق جبهته بطرف جلبابها، ترمقه النساء لاهثات، تسأله كل واحدة منهن عن ابنها: وكان مين معاك يا إبراهيم؟ مش فاكر كان مين معاك يا إبراهيم؟ يبربش إبراهيم بعينيه، يرمق السقف الأسود بلون الهباب، يمسك رأسه بين يديه ويقول: مش فاكر مين كان معايا لكن قائد الكتيبة كان اسمه فؤاد عبد الحكيم، أخذوه وقتلوه مع الأسرى.
يسكت إبراهيم يبتلع ريقه، تناوله أمه كوز الماء، تسأله إحدى النسوة: مش فاكر اسم حد من اللي كانوا معاك يا إبراهيم؟ يتذكر إبراهيم: كان معايا واحد اسمه أنيس كان شاويشا متطوعا من الإسماعيلية، وواحد تاني من بورسعيد اسمه جمعة، وجت دبابة ومشيت على الأرض، أمرونا إننا نرقد ع الأرض على شكل صفين فوق علامة جنزير الدبابة، وكانت الدبابة تمشي بعيد عنا وبعدين ترجع هاجمة علينا عشان تدفنا في الأرض، وكان اللي يقوم واقف عشان ينقذ نفسه من الدبابة يضربوه بالنار، وقلت لنفسي: خلاص يا إبراهيم ربنا أراد إن عمرك ينتهي، وماحدش بيموت ناقص عمر ده مصيرنا مكتوب على الجبين. والدبابة وهي ماشية كانت تضرب بالمدافع بين الصفين الراقدين ع الأرض.
ومات اللي مات، منهم جمعة من بورسعيد، وربنا كتب لي عمر جديد أنا وأنيس، أخذونا في الليل جوه عربية، وكنت تقريبا فاقد الإحساس ودراعي اليمين فيها جرح كبير ينزف مش عارف من إيه، وحطونا في مكان بعيد في الصحراء وحوطونا بالأسلاك الشائكة وحطوا علينا حارس اسمه ميخا. يتوقف إبراهيم عن الكلام، يلهث، وتمزق النسوة الطرح السوداء، يصرخن في نفس واحد: ربنا يحرقك في نار جهنم يا ميخا! أمه تناوله كوز الماء تمسح عرقه، يرمقها بعينين تبربشان: لا يمكن أنسى شكل ميخا يا أمه، كان عددنا حوالي تلتمية وميخا قال عشرة عشرة؛ يعني نقف صفوف، كل صف عشرة، ويضرب علينا الرشاش.
وكان الكل يندفن، اللي مات واللي لسه صاحي، وبعدين ميخا قال عشرة عشرة، ونقف صفوف، كل صف عشرة، بين الصف والصف متر، يمشي ميخا يعد الصفوف وإذا لقي صف ناقص واحد ياخذ منه اتنين، أو صف زايد واحد ياخد منه اتنين برضه، يطلعهم على جنب ويضربهم بالنار، ويقول لنا ياللا احفروا وادفنوا زمايلكم. وبعدين يقول عشرة عشرة، ويضرب بالنار. احنا الباقيين قسمنا مجموعة في اليمين ومجموعة في الشمال، اللي في اليمين عليها تحفر وتدفن، وأنا دفنت بإيديا زميل مضروب بالرصاص لكن صاحي وعينيه في عيني، وأنا بارمي الرمل عليه وفي ضهري مدفع وزميلي صاحي يقول لي اردم يا دفعة خلص علي بسرعة، ولما ردمت الرمل على عينيه الدنيا دارت بي ووقعت ع الأرض.
كنت فاقد الإحساس، ولما فقت لقيت نفسي جوة عربية ماشية في الصحراء وجنبي أنيس وفرحت أوي بأنيس، هو الوحيد اللي عرفته، قال ياللا ننط. وقفزنا من العربية في الضالمة ومشينا في الصحراء يوم وراء يوم لغاية ما وصلنا البحر، كان هو بحر العريش، ولقينا أعداد كتيرة أوي ماشيين على البحر مشينا معاهم. وجت الطيارات الميراج حلقت فوقنا، كانت الطيارة تنزل عجلتها الأمامية ويمكن تلمس الأرض وتضرب علينا، وشفت رأس طايرة في الهواء من غير جسم، أو جسم طاير في الهواء من غير رأس. وبعد الميراج جت الطيارات الهيلوكوبتر تصطاد واحد واحد من البحر، وخرجت من البحر مبلول ومش عارف أنا مين، وبعدين افتكرت إن اسمي إبراهيم وإنهم استدعوني من الاحتياط يوم 25 مايو، وافتكرت أنيس ورحت أدور عليه، يظهر إنه مات أو غرق في البحر مش عارف. ومشيت ع البحر وأقول يمكن ربنا ياخد بيدي، لكن جت عربيات جيب وأخذوني السجن، وكان اليوم ده هو 25 يونيو، يعني شهر بالضبط من يوم ما سافرت. قالوا إني أسير من الأسرى في بير سبع، وكان معايا زمايل كتير ما عرفش أسماءهم، عصبوا عينينا وكتفونا زي الفراخ ونقلونا لسجن تاني اسمه عتليت، مات فيه اللي مات، وأنا مش عارف إزاي عشت، لكن كل يوم كنت أدعي ربنا إني أموت، لغاية ما جه يوم قالوا اجهز، وعرفت إني راجع بلدي ضمن مجموعة في تبادل الأسرى، كان اليوم ده 26 فبراير 1968، يعني تسع شهور ويوم من أول ما استدعوني من الاحتياط.
سكت إبراهيم طويلا، كان يرتعش ، تصطك أسنانه، ينتفض كالمصاب بحمى الملاريا، همست أمه في أذني: ربنا يخليكي يا ضكطورة اكشفي عليه واكتبي له دوا يشفيه إلهي يكفيكي شر المصايب يا رب!
لم يكن إبراهيم مريضا بالحمى أو أي مرض عضوي، وأنا أفحصه انفرجت شفتاه الزرقاوان عن أنفاس متحشرجة وصوت خافت: مش قادر أنام يا دكتورة من يوم ما خرجت من عتليت وأنا بافتكر زمايلي اللي ماتوا وزمايلي اللي دفنتهم بإيديا. ويحملق إبراهيم في يديه الناحلتين المرتعشتين ويهمس: بإيديا دول دفنت زمايلي في الرمل في الصحراء، وكل ليلة أحلم إني واقف في الصحراء أردم الرمل على أنيس وهو صاحي عينيه في عيني ويقول لي كده يا إبراهيم تعمل كده يا إبراهيم؟! مع إن أنيس يا دكتورة غرق في البحر وما كانش واحد من اللي اندفنوا في الرمل، إيه اللي يخليه يقولي كده يا إبراهيم كده يا إبراهيم؟!
وتجهش أمه بالبكاء تمسح دموعها بكفها الكبيرة المشققة وتهمس: ما عندوش غير حكاية أنيس يا ضكطورة.
ومات إبراهيم حفيد دادة أم إبراهيم وهو يهذي باسم أنيس، يخفي يديه تحت الغطاء المهترئ ويصرخ: أبدا أبدا يا ناس مش إيديا دول اللي دفنت زمايلي في الرمل، ده ميخا يامه! وتلطم النسوة خدودهن، يمزقن شعورهن يمرمغن رءوسهن في التراب ويولولن في صوت واحد: إلهي يحرق قلبك وقلب أمك يا ميخا!
تضامن النساء
في طفولتي المبكرة قبل أن أعرف من هو أبي، عرفت أمي، عرفتها بالشكل والرائحة والاسم والجسم، كان جسمها هو جسمي أو يشبه جسمي. كنت أتضامن مع أمي ضد أبي والعالم الخارجي؛ لكن شيئا ما حدث جعلني أبتعد عن أمي، كنت طفلة لا أعرف بالضبط ماذا يبعدني عن أمي، وماذا يبعد أمي عني، ربما هو أبي كان يقف بيني وبين أمي، أو ربما هو العالم الخارجي كان يخدعني، يصور لي أن الأب هو كل شيء، الاسم والشرف والاحترام والدين والعلم والماضي والحاضر والمستقبل والدنيا والآخرة.
لم يكن للآن شيء من كل هذا، بدأت أثور ضد أبي والعالم الخارجي من أجل أمي ، تصورت أن أمي سوف تفرح وتتضامن معي، لكنها تضامنت مع أبي والعالم الخارجي ضدي. هذه أول صدمة في طفولتي، كنت في السادسة من عمري حين تلقيت الصدمة الأولى من أمي، رأيتها واقفة تبتسم والأيادي الغليظة تنتزعني من الفراش، تربط ذراعي وساقي، وتستأصل بالموسى عضوا من جسدي.
أصابتني خيبة أمل في أمي، أصبحت أتجه نحو أبي، بدا أبي كأنما يحنو علي أكثر من أمي، وكأنما يحبني أكثر من أمي، أي خديعة وأي وهم تسرب إلى عقلي دون أن أدري؟!
كم مضى من العمر وأنا أعيش هذا الوهم؟ قبل أن تموت أمي بقليل أو ربما بعد أن ماتت بدأت أدرك الحقيقة، كانت الحقيقة مثل جبل الثلج الغارق تحت الماء، تكشف عن نفسها جزءا جزءا.
حين بلغت الخمسين من العمر وبعد أن دخلت السجن أدركت أن تضامن النساء أخطر من السلاح النووي، لم يكن يهدد إدارة السجن إلا التضامن بيننا نحن النساء. بعد أن خرجت من السجن أدركت أن تضامن النساء يمكن أن يسقط النظام الحاكم.
ألهذا السبب كان تنظيم النساء من المحرمات في نظر الأحزاب السياسية جميعا، يمينا ويسارا، وحكومة ومعارضة؟! منذ بدأنا تجميع صفوف النساء في مصر عام 1982 تضافرت القوى الحكومية وغير الحكومية على ضرب أي محاولة يمكن أن توحد النساء.
النساء أنفسهن كن يضربن المحاولة مثل الرجال، كالأم التي تضرب ابنتها إرضاء للزوج أو الأب الحاكم. منذ عام 1982 وحتى هذا العام 2000 كم محاولة ضربت؟ بعد كل ضربة ننهض من جديد ونجمع صفوف النساء، ثمانية عشر عاما نحاول توحيد جهود المرأة المصرية دون جدوى. وفي عام 1999 شكلنا لجنة تحضيرية، أكثر من مائة شخص من أجل تكوين الاتحاد النسائي المصري. عقدنا الاجتماعات، نشرنا الدعوة بين الجمعيات النسائية. بدأت الفكرة تنتشر، تحمست لها أعداد كبيرة من الشابات والشباب، وجمعيات المرأة في المحافظات. قررنا عقد اجتماع يوم 22 أغسطس عام 1999 للإعلان عن بدء تكوين الاتحاد النسائي المصري. قبل موعد الاجتماع بأيام قليلة فوجئنا بحملة صحفية ضد الاجتماع وتصريحات حكومية إن هذا الاجتماع غير قانوني.
وفي عام 1992 نشرت كتابا كاملا بعنوان «معركة جديدة في قضية المرأة»، يوضح الكتاب كيف أغلقت الحكومة المصرية جمعية تضامن المرأة العربية بقرار غير قانوني، يوم 15 يونيو 1991، رفعنا قضية ضد الحكومة في المحكمة الإدارية بمجلس الدولة، وانقضى تسعة أعوام دون أن يصدر قرار المحكمة.
وتستمر المعركة حتى اليوم من أجل تضامن النساء. بدأت ظاهرة جديدة هذا العام هي تضامن الأم مع ابنتها ضد الأب أو الأخ، يوم 17 يونيو 2000 دافعت أم عن حياة ابنتها حتى الموت، الابنة الصغيرة تعرضت للاغتصاب وحملت سفاحا، وبدأت علامات الحمل تظهر على الفتاة الصغيرة. ذاع الأمر بين أهل قرية «الرواتب» التابعة لمركز أبو طشت بمحافظة قنا في صعيد مصر. عقد رجال الأسرة مجلسا واتخذوا قرارا؛ قتل الفتاة لمحو العار، وقع الاختيار على شقيقها (اسمه بدر نور الدين) للإجهاز عليها، ويساعده في ذلك عمها (عبد الفتاح) وابن عمتها (عبده محمود) وابن عم أبيها (أحمد راشد)، أربعة رجال أشداء يعملون بالفئوس في الأرض. استدرجوا الفتاة الصغيرة بمفردها لقتلها، لكن أمها الواعية أدركت ذلك، كانت تقف لهم بالمرصاد تحول دون قتل ابنتها، اتفق الرجال على خداع الأم وابنتها، قالوا إن ابن عمتها عبده محمود سوف يتزوج منها تغطية على العار (ربما هو الذي تسبب في الحمل لا نعرف) ولكنه سيتزوج منها بعد إجهاضها من الحمل السفاح.
أصرت الأم على الذهاب مع ابنتها مع بعض سيدات الأسرة لمتابعة عملية الإجهاض، التي تمت داخل عيادة طبيب في نجع حمادي، ظلت الفتاة ثلاثة أيام تحت الملاحظة بالعيادة، وفي اليوم الثالث طلبت الأم عودة ابنتها، أحست أن مؤامرة تدبر لقتل ابنتها؛ هددت بإبلاغ الشرطة إذا تعرضت ابنتها لمكروه. تم اصطحاب الأم لمرافقة ابنتها في العودة بصحبة ابن عمتها عبده محمود، واتفقوا مع سائق أجرة على السير في طريق زراعي بعيد عن البيوت لتمكينهم من تنفيذ الجريمة. في ليلة الحادث كان الرجال الثلاثة الآخرون ينتظرون في الطريق، وهناك حاولوا انتزاع الفتاة من يد والدتها لقتلها، إلا أن الأم تشبثت في استماتة لحماية ابنتها، وقدمت نفسها فداء لها وهي تستغيث وتستعطفهم بالصفح عنها، لكن طعنات السواطير هوت على جسد الأم يضربها الأربعة الرجال حتى أصبحت جثة ممزقة أمام ابنتها، ثم انهالوا على البنت الصغيرة بالسواطير بعد قتل الأم، وتم تمزيق الجثتين إلى اثنتي عشرة قطعة، ألقوا بها في الترعة داخل أكياس بلاستيك كبيرة.
هذه هي الأم الجديدة التي أصبحت تتضامن مع ابنتها الحامل سفاحا حتى الموت، وكانت الأم في الماضي القريب تتضامن مع رجال الأسرة في قتل ابنتها لمحو العار. لا يمكن أن أنسى هذه الأم التي كانت تمشي في الشوارع تزغرد بالفرح، إلى جوارها يمشي ابنها الأكبر حاملا رأس ابنتها الصغرى على سن السكين بعد أن فصل رأسها عن جسها. لم تكن الفتاة قد حملت سفاحا، بل كانت تحب زميلها في العمل وتفكر في الزواج منه، رآها أخوها تمشي في الشارع مع زميلها؛ فانقض عليها بالسكين، وراحت الأم تزغرد بالفرح، وتمشي إلى جواره مرفوعة الرأس بعد أن غسلت العار بالدم، أي عار وأي دم؟! أي خديعة وأي وهم كان يعشعش في عقول الأمهات كما كان يعشعش في عقلي منذ الطفولة.
كان صوت أمي يخفت إلى جوار صوت أبي، كان أبي يقول هذا العالم فاسد يا ابنتي، قائم على دعامتين: الظلم والكذب. مع ذلك كان أبي يرى أن أخي أعلى مني درجة لأنه ذكر، يعطيه ضعف ما يعطيني من مصروف، ويقول: للذكر مثل حظ الأنثيين.
كنت أتطلع لأمي لتقول شيئا، كان أبي يدعم كلامه بكلام الله، لم يكن لأمي أن تعارض كلام الله.
منذ عام 1957 حين كنت طبيبة القرية بدأت الحكومة تطاردني بهذه التهمة، معارضة كلام الله، لم أقترف إثما إلا التضامن مع فتاة مريضة حملها البوليس بالقوة إلى بيت زوجها، كان يكبرها بواحد وخمسين عاما، يضربها كل ليلة ويغتصبها جنسيا من الخلف وهي ساجدة تصلي لله. كنت الطبيبة المسئولة، واجبي حماية الفتاة من زوجها، لكن قوة البوليس كان أقوى مني، انتزعوا الفتاة وأعادوها إلى زوجها. ألقت نفسها في النيل بعد أسبوع، وأنا أصبحت متهمة بالعمل ضد الدين، دخل اسمي القائمة السوداء، تحت اسم عدوة الله، هل التضامن بين النساء يعني عداوة الله؟!
منذ عام 1957 أصبحت متهمة بعدم الإيمان بالله، وفي عام 1962 أضيفت إلي تهمة جديدة هي: عدم الإيمان بالثورة المجيدة. كان زملائي وزميلاتي في نقابة الأطباء قد انتخبوني لأكون عضوا في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية، عقد في قاعة جامعة القاهرة عام 1962. جلس جمال عبد الناصر فوق المنصة يتوسط الوزراء كبار رجال الدولة. تبارى أعضاء المؤتمر في تعريف من هو الفلاح ومن هو العامل، فجأة تلاشت البديهيات والظواهر الواضحة كالشمس، لم يعد أحد يعرف من هو العامل الحقيقي ومن هو الفلاح الحقيقي. كنت شابة صغيرة حديثة العهد بألاعيب السياسة، حين جاء دوري للكلام قلت الفلاح هو الذي بوله أحمر.
في طفولتي كانت جدتي تقول إن البول الأحمر دليل الصحة والعافية، لم أكن أعرف أنه الدم، حتى سمعت أبي يقول إن كل الفلاحين في مصر يمرضون بالبلهارسيا. وفي كلية الطب عرفت أن أبي كان صادقا، ومات أبي قبل المؤتمر الوطني للقوى الشعبية بثلاث سنوات. لم يشهد المباراة حول تعريف من هو الفلاح ومن هو العامل، ولا هؤلاء الذين خلعوا البدل الإفرنجية وارتدوا الجلاليب أو العفاريت الزرق ودخلوا البرلمان أو مجلس الشعب تحت اسم الفلاحين أو العمال.
في فبراير 1958 بدأت الوحدة بين مصر وسوريا، وفشلت في سبتمبر 1961. ظلت أسباب الفشل مجهولة، لا يعرف الشعب شيئا عما يدور في الدوائر العليا، تمتلئ الصحف بالأكاذيب وتسري الإشاعات.
كان صديقي رجاء الشاعر يعرف ما يدور، كتب قصيدة حذفت الرقابة أهم أجزائها، كشف فيها عن أن الوحدة لم تقم إلا لإنقاذ سوريا من خطر الاشتراكية، وراء قيام الوحدة كان رجال حزب البعث والأثرياء في سوريا، لم ينقذ جمال عبد الناصر ما أرادوه، طردوه من سوريا وحدث الانفصال.
أصبح رجاء الشاعر مطاردا من البوليس، لم يكن رجاء ينتمي إلى حزب اليسار أو اليمين، كان شاعرا يكتب القصائد، أصبح متهما بالشيوعية، لم يكن أمامه طريق للحياة إلا الهجرة خارج الوطن.
بعد هزيمة عام 1967 لم يعرف أحد سبب الهزيمة، امتلأت الصحف بالأكاذيب. جاءتني رسالة من رجاء الشاعر، يقول فيها: أعيش في باريس مع أديب من سوريا وشاعر من العراق، لم يعد الوطن العربي يحتمل وجود الشعراء والأدباء، نتابع هنا ما يحدث في بلادنا. ما حدث في مصر يوم 5 يونيو ليس نكسة بل هزيمة كبرى، خططت لها الولايات المتحدة مع إسرائيل، أبلغوا الاتحاد السوفييتي كذبا أن إسرائيل تستعد للهجوم على سوريا، أبلغت موسكو هذا الخبر إلى القاهرة، قام عبد الناصر بتهديد إسرائيل إذا اعتدت على سوريا. كانت الخطة هي استدراج مصر إلى الحرب. لم يكن جمال عبد الناصر مستعدا للحرب، لكن المستشارين الأمريكيين في الجيش المصري غرروا به، شجعوه على طرد القوات الدولية من شرم الشيخ، خرجت القوات الدولية بسرعة دون اعتراض. الثالوث المشارك في الخطة: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، ألا يذكرك هذا بالاعتداء الثلاثي على مصر عام 1956، ورابعهم إسرائيل؟! ما إن خرجت القوات الدولية من شرم الشيخ حتى بدأت إسرائيل هجومها على مصر، ضربت الطيران المصري كله وهو نائم فوق الأرض صباح يوم 5 يونيو 1967، واحتل الجيش الإسرائيلي سيناء بالكامل.
وفي عام 1973 جاءتني رسالة من رجاء الشاعر، يشرح لي كيف وقعت الثغرة في حرب أكتوبر 1973، وخسائر الجيش المصري. كانت الصحف تنشر الأكاذيب ولا أحد يعرف الحقيقة. كتب رجاء الشاعر يقول: لعبت الولايات المتحدة الأمريكية دورا مشابها لما حدث في حرب 1967، أقنعت أنور السادات أنه يمكن أن يحرك القضية السياسية بمعركة عسكرية محدودة، لكن الجيش المصري بعد أن أسقط خط بارليف أراد أن ينطلق إلى المضايق ومنها إلى تل أبيب، هنا أصدر السادات أمرا بإيقاف النار، انتهز الجيش الإسرائيلي هذه الفرصة وطوق الجنود المصريين، هكذا وقعت الثغرة.
أعقب هذه الهزيمة استدراج السادات لتوقيع المعاهدة مع إسرائيل في كامب ديفيد عام 1976، أكبر مسمار في نعش الوحدة العربية. وجاءت حرب الخليج عام 1991 لتمسح من الخريطة اسم العالم العربي، وتضع بدلا منه اسم الشرق الأوسط تحت سيطرة إسرائيل.
منذ تزوجت شريف عام 1964 لم تكف الحكومة عن مطاردتنا، حصل شريف على عمل في الهند وغادر مصر عام 1973. عاش وحده في المنفى أربعة أعوام، أغرق نفسه في العمل والكتابة وأحب الهنود. بقيت في مصر لأرعى الابنة والابن، يرتبطان بحياتهما في المدرسة، الزملاء والزميلات والأهل والأصدقاء والصديقات، لم يكن لنا أن نخلعهما من جذورهما في هذه السن المبكرة ليعيشا الغربة.
ثم انتقل شريف إلى أديس أبابا في الحبشة، عاش ثلاثة أعوام أخرى في المنفى، لم يعد إلى مصر إلا عام 1980، قبل أن يكسر رجال البوليس باب بيتنا ويأخذوني إلى السجن يوم 6 سبتمبر 1981.
بعد خروجي من السجن بدأت النساء والشابات يترددن على بيتي في الجيزة، ظهرت في الأفق فكرة إنشاء جمعية تضامن المرأة العربية، تكونت النواة الأولى من مائة وعشرين امرأة من ثمانية بلاد عربية منها مصر. أصبح شعارنا: رفع الحجاب عن العقل، المعرفة قوة، والتضامن بين النساء قوة.
في عام 1982 بدأنا نؤسس الفرع المصري تحت اسم الجمعية الأم، وقفت الحكومة المصرية ضدنا ثلاثة أعوام، وصلني خطاب في 19 أغسطس 1983 بشعار الدولة النسر، يقول الآتي بالحرف الواحد:
تقرر رفض تسجيل جمعية تضامن المرأة العربية لعدم موافقة مباحث أمن الدولة، بعد الاطلاع على رد مديرية أمن القاهرة، إدارة البحث الجنائي قسم مكافحة جرائم الآداب العامة.
أرسلت صورة من هذا الخطاب إلى جميع الصحف في مصر، أردت أن أكشف كيف تتعامل الحكومة مع المواطنات من الشعب، كيف تنتهك الحكومة القانون والدستور تحت اسم مكافحة جرائم الآداب العامة. بدأت حملة صحفية ضد وزارة الشئون الاجتماعية، قادها كبار الصحفيين من اليمين واليسار ومن الحكومة أيضا. جريدة الأخبار من أكبر الصحف الحكومية في مصر، مصطفى أمين من أكبر الصحفيين المصريين، يكتب عمودا يوميا في جريدة الأخبار تحت عنوان «فكرة»، يوم 23 أكتوبر 1983 نشر ما يأتي بالحرف الواحد:
فكرة!
منذ عام اجتمع عدد من السيدات، بعضهن أستاذات في الجامعة، ومدرسات بها وصحفيات وشاعرات وكاتبات وربات بيوت، واتفقن على تأليف جمعية «تضامن المرأة» مهمتها النهوض بالمرأة والدفاع عن حقوقها والارتقاء بها.
واعترض البعض بأنها حركة عنصرية رجعية تعمل على تكتيل النساء ضد الرجال، وتفصل بين مشاكل المرأة ومشاكل المجتمع. ولكن جمعية تضامن المرأة تفادت هذا الاعتراض عندما فتحت عضويتها للرجال، وفعلا اشترك بعض الرجال في نشاط الجمعية.
ومنذ بداية العام والجمعية في نشاط مستمر، تجتمع مرة كل أسبوعين، وتقيم ندوات ثقافية وفنية وأدبية وتناقش بعض الكتب التي ترتبط بأهداف الجمعية. ونظمت دراسات عن مشاكل المرأة العامة ونظرة الصحافة والتلفزيون والإذاعة والسينما إلى المرأة المصرية.
وتقدمت الجمعية إلى وزارة الشئون الاجتماعية لشهرها، وإذا بالجمعية تتلقى خطابا من إدارة مكافحة جرائم الآداب العامة ترفض قيام هذه الجمعية!
ودهشت عضوات الجمعية، ما علاقة بوليس الآداب بجمعية هدفها المساهمة في رفع المستوى الاجتماعي والثقافي للمرأة في مختلف المجالات وربط مشاكلها بمشاكل المجتمع، وفتح مجالات جديدة أمام المرأة في العمل، وتنمية الشخصية الأصلية للمرأة المصرية؟!
هل الحديث عن الحرية قلة أدب؟! هل الكلام عن الديموقراطية عمل فاضح في الطريق العام؟! هل مطالبة المرأة بمزاولة حقها الانتخابي قلة حياء؟! نفهم أن يكون عمل بوليس الآداب محاربة الفساد؟ ولكن ما علاقة بوليس الآداب بأساتذة الجامعة والمثقفات والمؤلفات والشاعرات؟ أي شيء في أهداف الجمعية فيه قلة أدب أو قلة حياء؟
إن رئيسة الجمعية هي الدكتورة نوال السعداوي الكاتبة المعروفة وصاحبة المؤلفات العديدة التي ترجمت إلى عدة لغات، وآخر كتاب لها هو «الإنسان»، اثنتا عشرة امرأة في زنزانة واحدة، وهو مهدى «إلى كل من عرف القهر في البيت أو في السجن»، وهي رواية عن حياة 12 سيدة قبض عليهن في 5 سبتمبر سنة 1981 بتهمة أنهن خصوم الحكومة! وبينهن عدد من أبرز أساتذة الجامعة ومدرساتها والصحفيات والكاتبات.
فهل اعتبر بوليس الآداب أن هذا الكلام قلة أدب وقلة حياء ولهذا رفض أن تكون جمعية رئيستها مثل هذه الدكتورة طويلة اللسان؟!
وسكرتيرة الجمعية هي الدكتور منى أبو سنة الأستاذ بكلية التربية بجامعة عين شمس. ومن أعضاء الجمعية الدكتورة لطيفة الزيات، والدكتورة ليلى عنان، والدكتورة عواطف عبد الرحمن، والدكتورة عفاف محفوظ، وإنجي رشدي المحررة بالأهرام، وعائشة أبو النور الكاتبة بأخبار اليوم، والأستاذات عطيات الأبنودي وشهيرة محرز ومنى حلمي والدكتورة سهى عبد القادر ...
يقولون إن الدولة تحيل كل شيء يتعلق بالمرأة إلى بوليس الآداب.
وإذا كان هذا صحيحا، فهذا أمر لا يمكن السكوت عليه في الوقت الذي أصبح في مصر وزيرات وسفيرات ووكيلات وزارات وعضوات في مجلس الشعب!
صدق ... أو لا تصدق!
مصطفى أمين
وفي جريدة الشعب الناطقة في ذلك الوقت بلسان حزب العمل الاشتراكي، كتب فتحي رضوان من أكبر رجال السياسة في مصر يقول في 22 نوفمبر 1983 تحت عنوان:
دولتنا بوليسية
تفضلت الأديبة الكاتبة الدكتورة نوال السعداوي، فأطلعتني على خطاب أرسل إليها من السيد المدير العام للمكتب الفني بالإدارة الاجتماعية بالوايلي بمنطقة القاهرة، مؤرخ في 9 / 8 / 1982 يتضمن قرارا صادرا من سيادته يقتضي برفض عدم إشهار جمعية «تضامن المرأة»، وقد ذكر الخطاب المشار إليه كجزء من قرار الرفض ومسبب له ما نصه: عدم موافقة مباحث أمن الدولة.
والحق أنني تولاني عجب لا نهاية له من أن إدارة من إدارات الحكومة، لا تجد حرجا في أن تعلن ببساطة أنها تعمل لحساب مباحث أمن الدولة، وأنها تتلقى صراحة أوامر وتوجيهات من هذه المباحث فتعمل بها وتطيعها، وتعلن للناس ذلك؛ أي تعلن للناس أنها لا تجد بأسا في أن تكون ذيلا لإدارة مباحث أمن الدولة المكونة لجهاز أكبر كثيرا وأضخم، وهو جهاز الدولة الشامل العظيم؛ ومن ثم فإن هذا الجهاز الجزئي، مهما بلغ من خوف الناس منه وخشيتهم من قدرته على إيذائهم، ولا سيما في ظل قوانين الطوارئ، إلا أنه ليس سيد الحكومة، ولا صاحب الأمر والنهي فيها.
فإذا كانت وزارة الشئون الاجتماعية قد قبلت أن تخضع في المسائل الخاصة بتأليف جمعيات لتوجيهات إدارة مباحث أمن الدولة وأن تتلقى الأوامر منها فتطيع وتنفذ الأمر، وكأن هذه الوزارة عسكري من عساكر الشرطة، يوجه فيتجه ويؤمر فيذعن؛ فقد كان ممكنا أن يتم هذا الأسلوب من الخضوع والطاعة، في تستر؛ فرسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال لنا: «إذا بليتم بالمعاصي فاستتروا»، والستر الذي نريد أن نسدله على الوزارة، يقتضيها أن تتلقى خطابات إدارة مباحث الأمن، فتنفذ ما جاء فيها وتتحمل مسئولية القرار الذي أصدرته إدارة المباحث دون أن تعلن أنها تلقت هذا الأمر، تلقت الخطاب الصادر من الوزارة إلى الجمهور المتعامل بوضع هذا الاعتراف المؤذي في صدر هذا الخطاب؛ فيعرف الناس جميعا أن حكومتنا هي حكومة بوليسية، وأن صاحب السلطة الحقيقية في تصريف البلاد هو مخبر المباحث الذي يكتب التقرير لإدارة المباحث التابع لها، مقترحا عدم التصريح بتأليف تكوين الجمعية التي يطلب تشكيلها عدد من أفاضل أساتذة الجامعة أو عدد من أفاضل السيدات والكاتبات وصاحبات الرأي ممن لهن عدد ضخم من التلاميذ والمريدين؛ بدعوى أن هذه الجمعية جمعية شيوعية.
والحكومة البوليسية هي حكومة مكروهة من العالم كله، وبعض الحكومات البوليسية تخفي «بوليسيتها» تحت ستار من المدنية والسرية، ولا تفعل ما تفعله وزارة الشئون الاجتماعية علنا وبلا خجل.
فقد سبق أن أخبرني وكيل تعليم من كليات الجامعات أنه فكر وعدد من زملائه الأساتذة في تأليف جمعية الدفاع عن حقوق الإنسان في إحدى عواصم الصعيد؛ فجاءهم خطاب مماثل تماما للخطاب الذي وصل السيدات اللواتي فكرن في تكوين جمعية تضامن المرأة.
والمؤسف حقا أن هذا التصرف الذي يصدر من وزارة ترأسها أستاذة للقانون هي الدكتورة أمال عثمان، وهي بحكم ثقافتها، ومهنتها وعلمها، تعرف الحكومة البوليسية، تعرف ما يقوله وقاله علماء القانون في استهجانها، والدعوة إلى وضع حد لخصائصها في كل بلد.
والطريف الذي يحول الأمر، في موضوع دس المباحث أنفها في نشاط الوزارات والمصالح الحكومية، إلى مهزلة مبكية ومأساة مضحكة، أن طلب وزارة الشئون الاجتماعية يقول: إن اقتراح منع التصريح بتكوين جمعية تضامن المرأة، صدر من إدارة البحث الجنائي لمكافحة جرائم الآداب العامة ... ومعنى ذلك بعبارة واضحة أن تصنيف النشاط الاجتماعي في وزارة الشئون الاجتماعية أضاف تأليف الجمعيات إلى إدارة تكافح الانحطاط الخلقي، وترويج الفاحشة والعمل على ممارستها، وهو شيء آخر يرينا العقلية التي يحكم بها على نشاط أصحاب الرأي والراغبين في الخدمة.
فبماذا ننصح السيدات اللواتي أردن أن يدافعن عن حقوق المرأة التي هي فرع أو ربما أصل لحقوق الإنسانية؟! أننصحهن بالكف عن هذه المحاولة الشريفة السامية، وأن يدعن مجتمعنا بلا محاولة لرفع مستواه؟!
أم ننصحهن بإنشاء جمعيتهن دون مراعاة قواعد القانون التي تحتم على من تسول له نفسه تكوين جمعية أن يعرض أمره على إدارة تكافح عيوب الآداب وآفاتها؟
إنه مصاب يبكي ويضحك، ولكن لا نجد له حلا، إلا أن ندعو الله أن يأخذ بيد هذا البلد، وأن نقول للسيدة أمال عثمان وزيرة الشئون الاجتماعية إنها لا تخدم السيد اللواء حسن أبو باشا الوزير المشرف على إدارة مكافحة جرائم الآداب العامة، ولا تتلقى منه الأوامر، بل إنها لا تخدم السيد رئيس الجمهورية، إنما هي تخدم القانون الذي تعلمته وأصبحت أستاذة فيه، وبفضل هذه الأستاذية اختيرت للوزارة، وأنها بسبب تبعيتها للقانون وانتسابها إلى أسرته يجب أن تراجع قواعد وأساليب العمل في وزارتها لتمنع صدور خطاب بهذه الصورة المؤذية الجارحة التي نقلنا صيغتها بالحرف الواحد، ولنمنع من باب أولى، صدور قرار مؤسف محزن كالقرار المانع من تكوين جمعية تضامن المرأة.
فتحي رضوان
وفي جريدة الجمهورية، وهي من أكبر الصحف الحكومية في مصر، كتب صلاح حافظ في 8 ديسمبر 1983 مقالا شديد اللهجة ضد منطق أمال عثمان وزيرة الشئون الاجتماعية، واعتبر خطابها الرسمي إلينا فضيحة للحكومة المصرية، وأنه لا يزال على مكتبه يلوثه.
وكتب صلاح حافظ يقول بالحرف الواحد:
نعم تلوثه!
فلا شيء ينقض الوضوء في اعتقادي قدر ما تنقضه ورقة تقول لنساء يعلمن أولادنا في الجامعة: أحلنا أمركن إلى بوليس الآداب!
ولا شيء يهين مصر، ويلوثها، ويمتهن ثقافتها وحضارتها، ويشهر بها في العالم كله ... مثل ما يفعله قرار مختوم بختم الدولة يعترف بأن الجهة المختصة بالتعامل مع الأساتذة والمديرات والكاتبات في مصر هي بوليس الآداب! صحيح أن في مصر عقولا ومنظمات تعتبر مجرد تعليم المرأة فسقا ودعارة، مجرد وجودها في حقل العمل ضلالة وانحلالا؛ لكن الدولة لا تكف في دعايتها عن اتهام هؤلاء الناس بالجهل والضلال، فما بالها تتبنى نفس أفكارهم، وتجعل التعامل مع المثقفات والرائدات من اختصاص البوليس المتخصص في مقاومة الفسق والدعارة؟!
هل تسللت هذه العقول، وتلك المنظمات، إلى داخل جهاز الدولة؟ وهل سيطرت إلى الحد الذي جعل الثقافة والدعارة في بلادنا وجهين لعملة واحدة، حسابها ورصيدها عند بوليس الآداب؟
كنت أتصور حتى الآن أن الرأي في شئون الجمعيات الثقافية للجهات الثقافية في الدولة.
لقد تخلفنا كثيرا فيما يبدو، دون أن نشعر.
ولن ينقذنا من هذا التخلف إلا أن ننسى بعض الوقت الذين يشهرون بنا في الخارج، ونلتفت بعض الوقت إلى الذين يشهرون بنا في الداخل.
الذين يلطخون وجه مصر على راحتهم، ويزينون اللطخ بالتوقيعات وختم النسر، ويقدمون للدنيا كلها وثائق تثبت أننا قوم نكره الثقافة كراهية الدعارة، ولا نميز بينهما.
ومتى؟!
على مشارف القرن الواحد والعشرين، وبعد سبعة آلاف سنة من حضارة نفاخر بها العالم الذي نزعم أننا نحن الذين علمناه وربيناه!
تخلصوا من هؤلاء يا سادة.
وثقوا أن مصر بعدهم ستستعيد ريادتها، وقيادتها، ودورها الحصين في العالم، وأنها ستقهر كل الصعاب التي تواجهها.
فالمشكلة ليست عجز مصر وإنما إجهاض حماس شعبها، وقدرته الخلاقة، وفرض التخلف عليها فرضا بأمثال هذه النظم التي لا تطالب راقصات الهرم إلا بدفع الضرائب بينما تحيل الكاتبات وأساتذة الجامعات إلى بوليس الآداب!
امتدت الحملة الصحفية ضد أمال عثمان وزيرة الشئون الاجتماعية وضد الحكومة المصرية منذ ديسمبر 1983 حتى نهاية عام 1984. هكذا اضطرت أمال عثمان أن تعترف بشرعية جمعية تضامن المرأة العربية، وجاءنا الخطاب الرسمي من وزارة الشئون الاجتماعية في 7 يناير 1985 يقرر الموافقة على تسجيل الجمعية.
بعد خمسة شهور فقط التقيت بأمال عثمان وجها لوجه في مؤتمر المرأة العالمي، الذي عقد في مدينة نيروبي عاصمة كينيا في يونيو 1985، رمقتني بنظرة حمراء، أدركت أنها تكن لي كراهية مكبوتة، وأنها لن تتوانى عن توجيه ضربة إلي عاجلا أم آجلا، في الظهر أو في البطن. كانت تسرع الخطى لتلحق بموكب السيدة حرم الرئيس. وفي المساء أقامت أمال عثمان حفل عشاء كبيرا للسيدة حرم الرئيس دعت إليه جميع النساء المصريات المشاركة في المؤتمر، لم أذهب إلى الحفل وآثرت أن أقرأ في سريري رواية دنماركية جديدة عن مصر القديمة، وفي نيروبي آثرت أن أنام بعد يوم طويل حافل بالعمل واللقاءات مع أعداد كبيرة من نساء العالم.
صديقتي بطة (الدكتورة كاميليا) كانت إحدى المشاركات في مؤتمر نيروبي، رأيتها في قاعة كينياتا تهرول فوق كعبها العالي وراء أمال عثمان من أجل اللحاق بموكب السيدة حرم الرئيس، وذهبت بطة إلى حفل العشاء تلك الليلة، وفي الصباح الباكر جاءت إلى غرفتي بالفندق.
مش معقول يا نوال اللي بتعمليه ده! ليه ماجيتيش الحفلة؟ كلهم راحوا إلا إنتي؟ مش كفاية اللي عملوه فيكي؟! عاوزاهم يقفلوا الجمعية بتاعتك؟! أنا بصراحة يا نوال باخاف أقول إنك صاحبتي وإلا رفدوني من شغلي! ثم كركرت بطة بضحكتها الطويلة المتقطعة، ضحكت معها ثم قلت: لا يمكن يرفدوكي يا بطة عندك حصانة عائلية برلمانية. أطلقت بطة ضحكة أخرى وقال: وعندي حصانة دبلوماسية كمان أمال خيبانة زيك يا ست نوال؟!
ظلت وزيرة الشئون الاجتماعية على عدائها لجمعية تضامن المرأة العربية، ومع أجهزة الحكومة والأمن، وبعض النساء شجعتهن الوزيرة على تكوين جمعية جديدة للمرأة. لجأت الحكومة إلى مبدأ فرق تسد، امتلأت الساحة المصرية بالجمعيات النسائية، كل أربع أو خمس نساء يشكلن جمعية أو مركزا أو رابطة أو شركة مساهمة أو أي شيء، المهم أن تتعدد الفرق ويضرب بعضها بعضا، تتنافس أيها تقترب أكثر من دوائر السلطة والمال والنفوذ.
لم تدخل جمعية تضامن المرأة العربية في هذا الصراع بين النساء، لكن وزارة الشئون الاجتماعية لم تكف عن مطاردة الجمعية ومعها وزارة الداخلية، أجهزة الأمن والمباحث كانت تتربص، تطارد العضوات في أماكن العمل والبيوت، تسلط عليهن صحف الجماعات الإسلامية والإرهابية، التابعة للحكومة. بدأنا نقرأ هجوما في تلك الصحف على أنشطة الجمعية، تحت المانشتات الكبيرة الحمراء والسوداء، بدأنا نقرأ عناوين من نوع: جمعية نوال السعداوي الكافرة تنظم مؤتمرات ضد الأخلاق والتراث، جمعية تضامن المرأة العربية مأجورة لهدم الإسلام والآداب العامة.
في 22 مارس 1990 عقدت جمعية تضامن المرأة العربية اجتماعا كبيرا من أجل الوحدة الوطنية، كانت أحداث القتل الإرهابية تغتال الأبرياء في صعيد مصر، ثم وقعت أحداث أبو قرقاص بالمنيا، وبدأت الفتنة الطائفية تهدد بلادنا. ثم عقدت الجمعية اجتماعا آخر كبيرا ليلة الخميس 29 مارس 1990، زاد عدد المشاركين في الاجتماع عن المائة، كونوا جميعا الهيئة التأسيسية للجنة المصرية للدفاع عن الوحدة الوطنية. في الاجتماع الثالث ليلة 5 إبريل 1990 بلغ أعضاء الهيئة التأسيسية مائة وتسعة وأربعين عضوا وعضوة من مختلف التيارات السياسية أو المدارس الفكرية في مصر، أجمعوا على ضرورة العمل المتواصل لإخماد الفتنة الطائفية وتوحيد الشعب المصري نساء ورجالا.
هنا أدركت الحكومة خطر جمعية تضامن المرأة العربية، هنا بدأت الحرب الضاربة ضد الجمعية وضد عضواتها، على رأسهم بطبيعة الحال رئيسة الجمعية نوال السعداوي. بدأت وزارة الشئون الاجتماعية مع وزارة الداخلية إيفاد المراقبين والمفتشين ورجال المباحث إلى أي اجتماع تعقده الجمعية. اشتدت الحملة في صحف الحكومة والصحف الإسلامية ضد الجمعية الكافرة ورئيستها الزنديقة التي لا تحترم القيم أو الآداب العامة.
ثم قامت حرب الخليج في يناير 1991، حرب أخرى جديدة في سلسلة الحروب المتعاقبة منذ نشوء دولة إسرائيل عام 1948، محاولة كبرى من جانب الثالوث القديم، أو الحلفاء الأربعة ضد العالم العربي، الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا وإسرائيل، وزاد عددهم إلى ثلاثين جيشا مسلحين بالقنابل الليزر، ضربوا بغداد ليلة 16 يناير 1991. احترقت بغداد، مات نصف مليون من النساء والأطفال والشباب، وحتى اليوم ونحن في يونيو عام 2000 لا يزال الشعب العراقي تحت الحصار، يموت فيه كل يوم آلاف الأطفال دون دواء، دون طعام.
إنها حرب النفط الثانية بعد حرب 1973، إنه الاستعمار القديم يرتدي حذاء جديدا يسميه النظام العالمي الجديد، ويدوس به على أرواح الشعوب من أجل البترول وتنشيط تجارة الأسلحة، وفتح أسواق جديدة في بلاد ما يسمى العالم الثالث.
النساء والفقراء هم العملة الرخيصة في الحروب والأزمات، أول من يدفع وآخر من يأخذ، سنة القانون الطبقي الأبوي الذي يحكم عالمنا الحديث وما بعد الحديث.
أرادت الولايات المتحدة أن تستخدم في حرب الخليج بعض الجيوش العربية كنوع من الغطاء، كنوع من التمويه يحدث دائما في كل الحروب، هكذا دخل الجيش المصري والجيش السوري الحرب ضد العراق تحت لواء الجيش الأمريكي وجيوش الحلفاء الثلاثين. - الحلفاء؟!
في طفولتي سمعت أبي ينطق كلمة الحلفاء بطرف لسانه، يلفظها كأنها هي بصقة، الحلفاء يا ابنتي هم الأعداء، يتخفى العدو تحت اسم الصديق، ماذا نفعل يا ابنتي؟! ضحكنا حين سمعنا الإذاعات تقول بصوت السادات عام 1976 صديقي كارتر، ثم ضحكنا حين رددت الإذاعات هذه العبارات عام 1991 مع تغير الأسماء.
وتجمعت النساء العربيات من خمس عشرة دولة عربية في مؤتمر جمعية تضامن المرأة العربية خلال الفترة من 4-7 سبتمبر 1990، أصدرت النساء المجتمعات بيانا ضد غزو العراق للكويت، وضد قيام حرب الخليج العسكرية، وتم تشكيل لجنة من النساء للعمل على منع الحرب وحل الأزمة بالطرق السلمية.
هنا انتهزت وزارة الشئون الاجتماعية الفرصة لتوجيه ضربتها إلى الجمعية، صدر قرار أمال عثمان وزيرة الشئون الاجتماعية بإغلاق جمعية تضامن المرأة العربية، ومصادرة أموالها وتحويلها إلى جمعية أخرى اسمها نساء الإسلام. صدر هذا القرار غير القانوني في 15 يونيو 1991، بدأت حملة في الصحف الحكومية والإسلامية التابعة لها لتشويه سمعة الجمعية المأجورة الخائنة للوطن، وسمعة رئيستها نوال السعداوي المعادية للإسلام والآداب العامة ومصالح الوطن الكبرى.
لم يصدق أحد هذه الحملة، وبدأت بعض الأقلام تعارض قرار وزيرة الشئون، الذي أصدره نيابة عنها نائب محافظ القاهرة.
في 21 يوليو 1991 بجريدة الأخبار كتب مصطفى أمين في عموده اليومي بعنوان «فكرة» ما يلي:
في يوم 15 يونيو 1991 أصدر نائب محافظ القاهرة لمنطقة غرب القاهرة قرارا بحل جمعية لتضامن المرأة العربية.
ونحن نشجع قيام الجمعيات في بلادنا، وندهش لأن نائب المحافظ يغلق جمعية لتضامن المرأة العربية وينقل أموالها إلى جمعية أخرى بغير أن يذكر سبب هذا الإغلاق.
والذي نعرفه أن هذه الجمعية قامت منذ سنوات طويلة ... منذ إنشائها وهي تلقى المعاكسات، بالرغم من أن الدكتور محمود شريف وزير الحكم المحلي ألقى محاضرة في هذه الجمعية وفي الوقت نفسه صدر قرار يحظر على الجمعيات بدائرة غرب القاهرة أن تجادل في (الأمور السياسية) ولا نعرف مثل هذا القرار في أي بلد ديموقراطي، وقد عشنا طوال عمرنا نرى نقابة المحامين ونقابة الأطباء وغيرهما من الجمعيات والنقابات تشتغل بالسياسة، وفي ثورة 1919 كانت جمعية المرأة الجديدة تصدر قرارات تهاجم الاحتلال ولم يحلها الإنجليز.
إننا ندهش أن تحل جمعية بغير تحقيق، وبغير أن يوجه إليها تنبيه إذا أخطأت.
نفهم أن تحل جمعية بسبب الآداب العامة، أو لأنها تدعو إلى قلب نظام الحكم بالقوة، ولكن لا نفهم أن تحل جمعية لأن رئيستها أو أحد أعضائها يعارض الحكومة، وخاصة أن رئيسة هذه الجمعية الدكتورة نوال السعداوي كانت تلقي الخطب والمحاضرات علنا تعارض فيها سياسة الحكومة، وكانت الصحف العالمية تعتبر هذه المعارضة دليلا على أن في مصر ديموقراطية تسمح بحرية الرأي.
هذا القرار أزعج كثيرا من الجمعيات؛ فإذا اعترضت جمعية ما على حالة التموين في البلاد فهذا تدخل في السياسة! وإذا طالبت جمعية بالإكثار من زراعة البرسيم فهذا تدخل في السياسة! وإذا طالبت جمعية بمنع استيراد الحمير إلى مصر فهذه سياسة! بل صميم السياسة. كل شيء في البلد سياسة؛ ولهذا فمن واجب كل الجمعيات في مصر أن تسأل ما هي حدود السياسة المسموح بها.
إن الذين أصدروا هذا القرار لم يعلموا حتى الآن أن في مصر ديموقراطية.
مصطفى أمين
وفي 31 يوليو كتب فليب جلاب رئيس تحرير جريدة الأهالي يقول تحت عنوان: وزارة الشئون و«الحلفاء» الراشدون:
لا يستطيع أحد مهما بلغت جرأته على الحق أن يقنعنا بأي في مصر حكومة واحدة.
لدينا حكومة تتحدث عن الانفتاح والتعددية والشرعية، ولدينا حكومة أو حكومات أخرى تعتقد أن أعظم مظاهر الديموقراطية والتعددية والشرعية هي تطبيق القانون العثماني أو على أحسن الفروض مبادئ الحكم المملوكي.
ولا يستطيع أحد أن يشكل جمعية لممارسة أي نشاط اجتماعي (دعك من النشاط السياسي) إلا بعد إجراءات وتحريات تستدعي تدخل الأمم المتحدة وربما قوات «الحلفاء» الراشدين لدى صاحبة العظمة وزارة الشئون الاجتماعية.
ويبدو أن الوازرة وافقت في ظروف دولية غير مواتية على تسجيل جمعية تضامن المرأة (المصرية) كما سجلت إدارة الهيئات الدولية بوزارة الخارجية المصرية جمعية أخرى دولية بنفس الاسم ذات وضع استشاري في المجلس الاقتصادي الاجتماعي بالأمم المتحدة.
وما إن بدأت تباشير النظام العالمي الجديد حتى رأت وزارة الشئون الاجتماعية والسيد نائب محافظ القاهرة للمنطقة الغربية أن الفرصة أصبحت مواتية لتأديب رئيسة الجمعية المصرية الدكتورة نوال السعداوي، والخلط بين الجمعيتين ومصادرة ممتلكاتهما وتسليمهما إلى «محتسب» موظف في وزارة الشئون يرأس هو نفسه جمعية نسائية، مع الاحتفاظ له شخصيا بعشرة في المائة من هذه الممتلكات جزاء المشقة التي سيعانيها في عملية الاستيلاء على أموال الغير.
ونشر نائب المحافظ بيانا يعتمد فيه على بلاغ لسيدة تزعم فيه أن الجمعية المصرية تحتفظ في بنك مصري بأموال أخرى لم تبلغ عنها، وهي في الحقيقة أموال الجمعية الدولية، وزعم المسئول أنه راجع وزارة الخارجية فأبلغته أنها لا تعرف شيئا عن الجمعية الدولية، مع أن لها ملفا منذ تسجيلها في الأمم المتحدة. والمدهش هو أن رجالا مسئولين يعتقدون أن من يريد إخفاء أموال عن مراقبة وزارة الشئون الاجتماعية يقوم بإيداعها في بنك مصري باسم الجمعية في عاصمة مصر، مع أن تهريب مثل هذه الأموال يمكن أن يتم بغاية اليسر إلى بنوك في الخارج لو كان لما يزيد على 100 مليار دولار في الخارج، والأكثر إثارة للدهشة هو أن السيد نائب المحافظ استفسر عن حقيقة الجمعية في وزارة الخارجية؛ فعرف منها أنه ليست هناك جمعية بهذا الاسم رغم الوثائق الرسمية التي تقدمها الدكتورة نوال السعداوي.
ولما كان من المستحيل أن تجهل إدارة الهيئات الدولية بوزارة الخارجية المصرية اسم جمعية دولية ذات ملف رسمي لديها؛ فقد يكون سؤال محافظ القاهرة عن طريق الخطابات الرسمية المعروفة قد وجه إلى وزارة أخرى أو ربما لوزارة الخارجية في عاصمة أخرى ... أو ربما لم يستدل مندوب المحافظة على عنوان وزارة الخارجية كما حدث منذ أسبوعين عندما سجل أحد «المحضرين» على إنذار موجه لوزارة الصناعة لتنفيذ حكم لصالح عمال المحلة، بأنه لم يستدل على عنوان وزارة الصناعة بالقاهرة.
وهكذا استطاعت وزارة الشئون مع السيد نائب المحافظ أن يعيدا إلى ذاكرة المصريين والقاهرة بعض تقاليد مصر الزاهرة في عصور العثمانيين والمماليك حتى لا يتوهم أحد أن مبادئنا السياسية والاجتماعية تنبع من خارج بلادنا في قضية إنشاء الجمعيات بالذات.
وهذا عمل من جلائل الأعمال يمكن أن يبعد الناس - ولو لأيام معدودة - عن مناقشة أمور كئيبة مثل الارتفاع الصاروخي للأسعار وضريبة الرأس (أو المبيعات) وما يتعرض له العرب من الخليج إلى المحيط دون استثناء، من إذلال وإهانة لم يسبق لهما مثيل.
وفي جريدة الأخبار يوم 17 أغسطس 1991 كتب صلاح حافظ تحت عنوان: وزارة «الجماعات»:
عندي «للإسلاميين» في مصر خبر سعيد:
وزارة الشئون الاجتماعية قررت أن تنوب عنهم، وتنفذ برنامجهم، دون ما حاجة إلى استيلائهم على الحكم!
وقد اختارت الوزارة أن تبشر الأمة المصرية بهذا الفتح العظيم منذ حوالي أسبوعين، وبدأت بقرار لن يصدقه القارئ، وإن كنت أقسم بالله العظيم ثلاثا أنه صدر.
موضوع القرار جمعية اسمها «تضامن المرأة المصرية».
وهي جمعية ترأسها الطبيبة الكاتبة الأديبة نوال السعداوي، ولا أحد يجهل من هي نوال السعداوي. وهذه الجمعية تعمل في مصر منذ سنوات ولها مقر، ولها صفة اعتبارية؛ بناء على قرار صادر من وزارة الشئون الاجتماعية.
لكن شيئا ما حدث فجأة في الوزارة.
شخص ما في الوزارة لم تعد تروق له هذه الجمعية، وقد يكون السبب أنه يكره النساء المتمردات، أو أن زوجته التحقت بالجمعية وعادت تناقشه بلهجة لم يألفها، أو أنه مسئول عن مراجعة حسابات آلاف من الجمعيات ... ويريد أن يختصر العدد، أو أن السيد البدوي زاره في المنام وأركبه حصانا أبيض، وقال له «قم واشطب هذه الجمعية.»
المهم على أية حال، هو أنه فعل.
وفي الصباح التالي صدر قرار من الدكتورة أمال عثمان الممثلة للمرأة في مجلس الوزراء، بإلغاء جمعية «تضامن المرأة المصرية».
ولم يكن في القرار أسباب؛ لأن القوانين في مصر لا تلزم صاحب أي قرار بأن يشرح أسبابه.
لكن هذا لا يهم.
إنما المهم أن القرار فرض على الجمعية أن تسلم بيتها، وأدواتها وأموالها، لجمعية أخرى في ضاحية المعادي، اسمها «جمعية نساء الإسلام»!
وهذا هو ما يستحق أن نتوقف عنده.
فجمعية «نساء الإسلام» هذه بحكم اسمها جمعية للمسلمات فقط ... والجمعية التي تقرر حلها لكل المصريات؛ فكيف تسلم جمعية قومية ممتلكاتها وفلوس عضواتها لجمعية لا تقبل في عضويتها غير فريق المسلمات!
وإذا كانت جمعية نوال السعداوي ضارة، وغير مرغوب فيها ونخشى إذا تركناها أن تلوث البيئة، أو تثير حربا عالمية ثالثة، فلم لا تحل وتئول أموالها إلى أعضائها، وما معنى اغتصاب ممتلكاتها كما فعل صدام حسين بالكويت؟!
إن شيئا كهذا لا يمكن أن يحدث في بلد متحضر.
وأمام القضاء المصري الآن دعوى رفعتها هذه الجمعية وستكسبها؛ لأن القضاء المصري لا يزال متحضرا والحمد لله.
لكن ما يهمنا هو السؤال الخطير: من الذي قرر حين رأت الوزارة حل الجمعية أن تلتهم فلوسها جمعية دينية؟
قيل لي عندما سألت: إن المسألة أبسط كثيرا مما توهمت، وإن الرجل المكلف بتصفية جمعية نوال السعداوي كان بالصدفة الرجل الذي أسس جمعية نساء الإسلام؛ فاختار على سبيل الكسل أن يضم الجمعية المحلولة إلى الجمعية التي أسسها.
وفي اعتقادي أن هذا عذر أقبح من الذنب.
فمعناه أن مصائر الجمعيات في بلادنا أصبحت رهنا بمدى راحة بعض الصغار، من كبار الموظفين في أجهزة الدولة، وأن حكومتنا لم تدرك بعد - برغم آلاف الدروس - أهمية الجمعيات الأهلية في بناء المجتمع والنظام، وأنها بإهدار كرامة العمل الاجتماعي الأهلي تنهي إلى الأبد إمكان التوحد ما بين الناس ونظام الحكم، وتلغي المبادرة الشعبية، والإرادة الجماهيرية، وكل ابتكار يمكن أن يساند أجهزة البيروقراطية البلهاء المتعفنة.
ثم يبقى بعد ذلك السؤال ...
من الذي أصبح يحكم هذه الأجهزة البلهاء ... إلى أي مدى أصبحت تديرها «الجماعات» وهو سؤال أشفق على الدكتورة أمال عثمان من مواجهته؛ لكنني أدعوها أن تفعل.
فهي بالنسبة لي نموذج لنجاح المرأة في المناصب الكبرى، ونجاحها ينصف موقفي من المرأة عموما، وسيؤلمني كثيرا أن تقفل عينيها عن مثل هذه الفضيحة في وزارتها، وأن يخرج علينا غدا من يعيرنا قائلا: هذه وزيرتكم ضحكوا عليها، ولا يفلح قوم ولوا أمورهم امرأة!
مع خالص حبي، وتأييدي واحترامي للدكتورة أمال عثمان!
صلاح حافظ
لم تسفر هذه الحملة الصحفية عن شيء، كما أن القضية العاجلة التي رفعناها بالمحكمة الإدارية لم تسفر عن شيء؛ لقد قررت الحكومة المصرية إغلاق جمعية تضامن المرأة العربية، وكانت وزيرة الشئون الاجتماعية أمال عثمان تنتظر هذه الفرصة منذ أصدرت قرارها بتسجيل الجمعية عام 1985.
لم تدخل صديقتي سامية تضامن المرأة منذ إنشائها، لم تكن تؤمن بتضامن النساء داخل تنظيم خاص بهن، فقط تؤمن بالحزب السياسي ومشاكل العمال والفلاحين. ثم تغيرت سامية وأصبحت ترأس جمعية نسائية وتتحدث عن النظام الأبوي والختان والعنف ضد النساء حتى حصولها على وسام الختان. ثم سرعان ما انقلبت على نفسها حين تغيرت موازين الحكومة، وبدأت تعلن أنها لم تتكلم على الختان أو ذلك الشيء الهامشي في حياة النساء وهو الجنس، إنها فقط معنية بمشكلات الفقر ومحو الأمية بين النساء.
أصبحت هذه هي النغمة الجديدة السائدة في مصر خلال هذا العام 2000، أصبحت زعيمات الجمعيات النسائية يهرولن إلى مؤتمرات المرأة، ينطقن كلمة «الفقر» بالطريقة ذاتها التي تنطقها الحكومة، وفي المساء يحضرن حفل العشاء الفاخر على ضفاف النيل، تلتهم الواحدة منهن فخذة خروف مشوية، مع رشفات من الكأس البلوري، وترن كلمة «الفقر» في الجو عارية كالعورة.
وفي أغسطس 1997 بعد عودتي من المنفى، كنت أسير في شارع قصر العيني حين التقيت وجها لوجه بصديقتي سامية. كانت واقفة عند ناصية الشارع، حيث كانت تعمل في الصيدلية القديمة هي وزوجها رفاعة. اختفت الصيدلية وانتصب مكانها مبنى كبير تعلوه يافطة لامعة: الشركة التجارية العالمية، مكتب الاستيراد والتصدير. وأدركت أن سامية أصبحت تملك شركة خاصة مع زوجها، أصبح الاثنان من كبار رجال الأعمال في مصر، يتاجران بالعقاقير والكيماويات وحبوب منع الحمل، وحبوب إعادة الشباب وتنشيط القوى الجنسية لدى الرجال، ومنها حبوب الفياجرا وحبوب جديدة لم تنزل السوق بعد. - خلاص يا سامية بقينا نعيش في دولة رجال الأعمال؟! - ونساء الأعمال يا نوال، يعني نسيب الرجالة ياخدوا كل حاجة؟! لازم يكون فيه مساواة! واحنا في عصر العولمة، العالم كله مع العولمة إلا أنت يا عزيزتي!
ضحكت سامية ضحكة قصيرة ساخرة، ثم مطت شفتيها الرفيعتين، وقالت: أنا شركتي صغيرة بالنسبة لشركة صاحبتك بطة، عارفة رأسمالها كام؟! وكمان جوزي رفاعة مشاركني فيها، لكن بطة عاملة شركة لوحدها وجوزها حمدي عنده شركة لوحده. - وبطة تتاجر في إيه يا سامية، حبوب الفياجرا برضه؟! - الفياجرا سوقها واقف يا نوال، رجل عجوز عنده تسعين سنة بلع الحبوب ومات بالسكتة القلبية، اسمه معروف، كتبت عنه الصحف، ومن يومها حصل هبوط كبير في المبيعات. - بطة أخبارها إيه؟ بتشوفيها يا سامية؟ - طبعا، بنتقابل دائما في مؤتمرات رجال ونساء الأعمال مع الوزراء والمسئولين، لكن بطة من نساء الأعمال الشاطرين أوي يا نوال. - تتاجر في إيه يا سامية؟ - عاملة مصنع كبير لملابس المحجبات، شوبينج سنتر كبير في الدقي للزي الإسلامي والجلاليب الفلاحي والقلل والفخار والتحف والآثار القديمة، وعندها مجلة مهمة أوي بتدافع فيها عن تراثنا القديم والهوية الأصلية، والخصوصية الثقافية و...
وأطلقت سامية ضحكة قصيرة جافة ثم مطت شفتيها الرفيعتين في امتعاض: التجارة بالدين لها سوق كبير أوي أكبر من سوق الفياجرا يا نوال، على العموم التجارة حلال، والوزراء بقوا من رجال الأعمال، مش أحسن من اللي بيسرقوا، وعندهم حصانة برلمانية؟! خدي الجورنال اقرئي عن السيد الوزير والسيدة الوزيرة، وطبعا عندهم حصانة وماحدش قفل الجمعية بتاعتهم، ولا حد عمل تحقيق معاهم، وشوفي حكاية نواب القروض وسرقات أعضاء مجلس الشعب واللي هربوا من أصحاب البلايين من غير ما حد يمسكهم في المطار، رغم أن ما حدش يقدر يخرج من المطار إذا كانوا عاوزين، و... ثم تمط شفتيها وتسكت.
حتى المجلات والصحف الحكومية أصبحت تنشر عن ظاهرة تهريب الأموال وفساد النظام السياسي في مصر. في مجلة روز اليوسف يوم 24 يونيو 2000 قرأت موضوعا كبيرا تحت عنوان «الشائعات صناعة رجال الأعمال»، جاء بالحرف الواحد: «انتشرت الشائعات عن الهروب وسوء الموقف إلى حد ينذر بزعزعة سوق المال.» ثم مانشيت كبير: «ديون رجال الأعمال للبنوك 7 مليارات فقط مشكوك في تحصيلها من إجمالي 240 مليار جنيه.»
وفي جريدة الأهالي، إحدى الصحف المعارضة، جاء في الصفحة الأولى يوم 28 يونيو 2000 هذا المانشيت الضخم: «القائمة السرية للقروض التي تواجه خطر الضياع، 25 مليار جنيه، ديون 37 رجل أعمال للبنوك، شركات وهمية، وقروض؛ نظير عمولات وشيكات وسماسرة لنهب الأموال، نواب القروض ليسوا وحدهم، والنظام المصرفي بلا ضوابط.»
أزمة الاقتصاد في مصر أصبحت حديث الساعة، أزمة السيولة وأزمة الركود، وانتشرت النكت والفكاهات حول القطط السمان والرءوس الكبيرة والحيتان، أصغرها بلقب وزير أو وزيرة أو نائب بمجلس الشعب أو الشورى.
الصديقات القديمات
أجلس إلى مكتبي الصغير في غرفة نومي، أطل على القاهرة من الدور السادس والعشرين، ترقد المدينة تحت سحابة من الضباب الأسود بلون الدخان، يبدو أول النهار كأول الليل. عدت إلى مصر بعد سنوات الغربة، أعيش الغربة داخل الوطن كالغربة خارجه، لم تعد السماء زرقاء صافية كما كانت، الهواء أصبح مشبعا بالدخان والهزيمة، نهر النيل أصبح حبيسا داخل مدينة من الأسمنت، ارتفعت الجدران السوداء وزحفت على كل شيء، لم تعد هناك شجرة واحدة خضراء ألمحها في مجال الرؤية.
نافذتي عالية أطل منها على نهر النيل، كانت له رائحة جدتي وطفولتي، الطمي الأسود بلون بشرتي. كنت أسبح في النيل مغمضة العينين، يدفعني التيار الهادئ، يهبط نحو الشمال مع الأشرعة البيضاء، وأجنحة حمائم السلام، والطيور المهاجرة من الشمال أو من الجنوب، مع حركة الشمس والقمر.
في مصر تنساب مياه النيل مع الأرض من الجنوب إلى البحر الأبيض، وقد تعاكسها الرياح الشمالية تبطئ حركتها. تمشي بجوار الشاطئ مع حركة الحمير والجاموس، والأقدام الحافية بلون الأرض، يذهبون إلى الحقول عند الفجر، يعودون مع الغروب، بيوتهم من الطين المحترق بالشمس، وجوههم بلون أقدامهم وأكثر سمرة، ضامرة ممصوصة، وأيديهم مشققة بالفأس.
تركت حي الجيزة الذي كنت أسكنه قبل أن أسافر إلى المنفى، قررت ألا أعود إليه، أركان شقتي في الجيزة تعشش فيها ذكريات سوداء، سنوات المطاردة والحبس، وجوه رجال البوليس تطل من الباب، فوهات البنادق مصوبة ناحيتي، رائحة الخيانة أشمها في كل ركن، تحت الابتسامات الناعمة ألمح آلة القتل، تحت اسم الحماية يمشي البودي جارد خلفي ويده فوق المسدس.
عدت من المنفى منذ عامين إلى هذه الشقة الصغيرة في حي قديم اسمه شبرا، يكتظ بالجوامع والكنائس. تبرز قبابها ومآذنها فوق أسطح البيوت الواطئة المتلاصقة. بحر أسود من الأسمنت بلا شجرة واحدة خضراء، يرتفع عند جبل المقطم ناحية الشرق، تعلوه قلعة محمد علي، قمم الأهرامات الثلاثة خوفو وخفرع ومنقرع تبرز من الضباب بلون الدخان ناحية الغرب، والنهر يمشي يشق طريقه بين الأسفلت، كالسهم الأبيض ينعكس عليه الضوء، ينقسم عند شبرا ليحتضن الجزيرة الصغيرة، اسمها وراق العرب، ثم يمشي رغم محطة الكهرباء الضخمة إلى القناطر الخيرية، يجتازها رغم السدود، وشبح السجن الأسود بنوافذه الصغيرة المسدودة بالقضبان الحديد.
عيناي مشدودتان إلى الماضي بحكم الحنين، رغم الجرح الدفين يبدو الماضي أجمل من الحاضر. والنيل كما كان يمشي إلى الإمام لا ينظر إلى الخلف، ينقسم إلى الفرعين الكبيرين، دمياط ورشيد، كالأم تفرد ذراعيها وتحتضن دلتا النيل، تشبه المروحة أو الكف المفتوحة الأصابع على البحر ، صدرها مفتوح لتلقي الضربات من الغرب فوق منارة الإسكندرية. واحترقت بورسعيد من الشرق تحت قنابل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وأمريكا من وراء الستار. لم تكن مياه النيل تتقهقر إلى الوراء، تمشي في طريقها، تفرغ شحنتها في جوف البحر، تلقي فيه نفسها كالفتاة العذراء تفضل الموت غرقا عن أن يغتصبها الإله.
من نافذتي أطل على المدينة كلها التي يسمونها القاهرة الكبرى، هي العاصمة منذ أكثر من ألف عام، عندها يختنق النيل بالدخان والجدران المسلحة، إنها القاهرة، وتقهر أهلها منذ الفراعنة، كما تقهر معبودها المقدس إله الفيضان، وترفع صيحاتها قبل الشروق عبر مكبرات الصوت المثبتة فوق المآذن، وأجراس الكنائس في حي شبرا تتبارى مع أصوات الرجال يؤذنون للصلاة خمس مرات في النهار، وفي الليل تعلو فوق التراتيل المقدسة طرقعة الصاجات في حفلات الزفاف مع دقات الطبول والغناء والرقص.
في طفولتي كنت أحب الغناء والرقص، وأجلس إلى جوار عمتي بهية، تتربع فوق الأرض الترابية، بين ساقيها تحتضن الطبلة، تنقر عليها بأصابعها السمراء المشققة، ينطلق اللحن الراقص، والقدم تدق الأرض مع الإيقاع. أقدام النساء كبيرة مثل قدم جدتي، بحجم قدم النبي المحفورة فوق الحجر الأسود، أقدام نساء يخرجن قبل الفجر حاملات الفئوس، يأكلن ما تزرعه أيديهن، يشربن من ماء النيل. جدتي أطولهن قامة، ورثت قامتها الفارعة عن أمها، لم تكن أجيرة عند أحد، زوجها مات قبل أن يسيطر عليها، العمدة كانت تقف أمامه مرفوعة الرأس، تشوح في وجهه بيديها الكبيرتين المشققتين، وفي الليل تغني مع النساء على إيقاع الطبلة: يا عزيز يا عزيز كبة تاخد الإنجليز.
في الخامسة من عمري سألتها «الإنجليز مين يا ستي الحاجة؟» تضحك حتى تدمع عيناها، تمسحهما بطرف جلبابها الواسع، وتحكي حكاية الإنجليز حين دخلوا مصر وهي طفلة، تمد عنقها القوي العضلات وتشمخ بأنفاسها وتقول: كنت عيلة صغيرة ألعب مع العيال، سمعنا أن الإنجليز دخلوا مصر، روحنا للعمدة كان عددنا عشرين أو تلاتين وكلنا عيال صبيان وبنات، وسألنا العمدة عاوزين إيه يا عيال؟ قلنا عاوزين نحارب الإنجليز يا عمدة. كان راجل كشر غلس وشه أحمر زي الإنجليز، شخط فينا، وقال: امشوا على بيوتكم يا ولاد المركوبة. حسيت إن جتتي ولعت نار، يقول على أمي المركوبة، أمي اللي عمر ما حد ركبها حتى جوزها ما عرفش يركبها، رحت ماسكة طوبة وزقلاها في عينه، طارت عينه الشمال، وأنا جريت على الدار ورايا العيال والغفر ورانا بالشوم، ضربوا العيال، فتحوا راس الواد عقلة الصباع، كان زي القرد، ياما فتحوا راسه وأمه تلطم وتقول مات لكن بعد يومين يقوم زي العفريت، وهو اللي فتن علي وقال إني أنا اللي رميت الطوبة في عين العمدة، وأبويا كان يخاف من العمدة، وقال لازم البنت نجوزها، ما فيش غير الجواز يشكمها ويا لا هوب مسكوني وجوزوني.
ورثت بشرة جدتي السمراء، والدماء في جسدي تشدني إليها، في أعماقي عشق لقوة ملامحها، كأنما منحوتة في الصخر، والنيل تسميه البحر، تنعكس عليه أشعة الشمس بلون الذهب السائل، أو الدم القاني المخلوط بالطمي. كانت جدتي جامحة كالنيل في عصره الأول حين كان يفيض ، ينحدر من منابعه العليا جموحا يجتاز الصخور والنتوءات الحجرية لا يجسر على ركوبه أحد، فإذا ترك الأرض العالية يفقد جموحه، يستطيع الناس الاقتراب منه، قد يضيق فلا يصبح سوى أذرع مسطحة، يجتازه الناس مع بهائمهم وسلالهم من الجريد المضفور أو القش المبروم، يبولون فيه دون حرج، يفقد إله الفيضان شموخه القديم، يمضي منحدرا إلى الوادي السهل، يبتلع في جوفه قمامة الصعيد والدلتا، وعظاما مفزعة من اللحم، جلود خراف مذبوحة ومسلوخة ثم منفوخة، يتعلق بها جسد فتاة صغيرة تسبح مع النهر جسدا إلى جسد، ترتج مع رجرجات الموجات كأنما في رقصة النفس الأخير.
أتطلع إلى وجوه النساء أبحث عن وجه جدتي، قسمات وجهها كانت أكثر حدة، قامتها أطول بحثا من هامات الرجال، رأسها في السماء كالشجرة، عيناها سوداوان، بريقهما خاطف كالبرق، نظرتها ثاقبة كالسهم تفلق الكون نصفين، تنطلق إلى الحقل كالشراع لا يوقفها شيء، وحيدة من غير حارس ولا زوج، وجهها ناحية الشمس رفيقها القمر في الليل، وأشجار النخيل على ضفاف النيل.
القلم في يدي يتحرك فوق الورق كأنما بقوة لا إرادية، أريد التوقف عن الكتابة دون جدوى، إنها الملاذ الوحيد أتمسك بها حتى النفس الأخير، لولا الكتابة لاندثرت منذ نصف قرن وراح اسمي في العدم كما راح اسم جدتي وأمي.
منذ طفولتي كنت أندهش كيف تروح أسماء النساء في العدم، أتلفت حولي أبحث عن أحد مندهش غيري فلا أجد. أمامي فوق المكتب صورة في الصفحة الأولى من جميع الصحف، كلمتان تحت الصورة، صاحب الجلالة، الملك أو الرئيس، أتلفت حولي وأندهش، كأنما الماضي يبعث حيا، ينهض من قبره الإله خادم فرعون، أو فرعون خادم الإله. وفي كل بلد أسافر إليه داخل الوطن العربي، أرى الصورة فوق الجدران، لا يكاد يخلو جدار من الصورة بالحجم الطبيعي، بالبدلة العسكرية أو بدلة الصلاة أو بدلة التشريفات، أو وشاح القضاء، أو الروب الجامعي، أو بدلة العمال أو الفلاحين إلا فئة النساء، لا يمكن للرجل أن يرتدي ملابسهن وإن تحدث باسمهن في الانتخابات وحصل على أصواتهن .
في رحلاتي داخل الوطن العربي أتلفت حولي وأندهش، أبحث عن أحد مندهش غيري فلا أجد، وأسأل الناس فيضحكون، يحكي أحدهم فكاهة أو حكاية. كثيرة هي الحكايات عن الحكام العرب، يختلفون ويتفقون، يتخاصمون ويتصالحون، يتغير الحلفاء إلى أعداء، وينقلب الأعداء أصدقاء. يجتمعون في حلقات هرمية يسمونها القمة، بعضهم يسلك الممشى المركزي ويطوف حول المحراب وصولا إلى البيت الأبيض في واشنطن، بعضهم يفضل الممشى الجانبي الأكثر ظلالا المفضي إلى الحظيرة حيث تحجز خراف الأضاحي، أما الخيول الجامحة فهي تحبس وراء القضبان، تسرح الغزلان والحملان في أي مكان دون خوف، وفي مواسم الانتخابات تطوف بهم العربات البوكس، تجمعهم للإدلاء بأصواتهم وأصواتهن، تتراوح ما بين 98,9٪ و99,9٪ أو شيئا من هذا القبيل.
أهبط الأدوار الستة والعشرين لأمشي على شاطئ النيل، ساعة ونصفا أمشيها كل صباح، عضلاتي قوية، بشرتي مشدودة إلا من خطوط خافتة تحت العينين، البريق الأسود داخل النني يطل كأنما من بؤرة لم تكشف عن نفسها بعد، لم يبق أمامي إلا عامان وأبلغ السبعين من العمر، ياه سبعين سنة؟! الرقم يرن في أذني مهولا؛ مع ذلك تبدو طفولتي قريبة، تزداد قربا مع التقدم في العمر، كأنما كنت بالأمس في العاشرة، ذكريات الطفولة تعود أقوى مما كانت، وسنوات الشباب حين كنت في العشرين أو الثلاثين تبدو الأمس.
منذ أيام قليلة التقيت صدفة بصديقتي بطة «الدكتور كاميليا»، رأيت امرأة عجوزا تملأ وجهها التجاعيد، تتكئ على ذراع زوجها، لم أتعرف عليها، توقفت عن السير حين رأتني وصاحت: نوال! مش معقول!
كانت بطة من أقرب الصديقات إلي، تخرجنا معا من كلية الطب، رغم الاختلاف في كل شيء كنا نلتقي، تمر السنوات دون أن أراها وفجأة يدق جرس التليفون في بيتي وأسمع صوتها: إزيك يا نوال؟ أهلا يا بطة.
كان هناك شيء يجمع بيني وبين صديقتي بطة، التعود القديم أو الإدمان؟! تملأ حياتي الجادة بشيء من الاستهتار، إلى جوارها أحس بالنقاء، يحتاج النقاء لشيء من الفساد ليرى نفسه.
كانت بطة تحب الفن والسينما والرقص، لم تكن تطيق الحديث في السياسة ، لا تؤمن بهذه الكلمات الثلاث الكبيرة: الوطنية، الاشتراكية، الإخلاص الزوجي. تطلق ضحكتها المتقطعة كالشهقات، وتقول: إذا كان ربنا خلقنا درجات الخيانة الزوجية ليه أحيانا نؤمن بالإخلاص، كان ربنا خلقنا درجات ليه نؤمن بالاشتراكية أو العدالة؟! وإذا لم تكن سامية توافق على ما تقوله بطة، تزم شفتيها الرفيعتين وتصف بطة بالبرجوازية المنحلة، تشهق بطة بسخرية وتقول لسامية: أنت شيوعية غارقة لأذنيك في حب البرجوازية. ينسحب الدم من وجه صفية حين تسمع كلمة الشيوعية، كأنما تسمع عن مرض أو وباء، كلمة البرجوازي أيضا كانت تغضبها، تهمس في أذني: بطة وسامية زي القط والفار لازم يتناقروا، يالا بينا يا نوال نلعب ماتش تنس!
كانت صفية أقرب الصديقات إلي، إن غابت عني الصديقات فهي لا تغيب، تزورني في بيتي من حين إلى حين، أراها من النافذة وهي تركن سيارتها الفيات الزرقاء، في شارع جانبي صغير متفرع من شارعنا في الجيزة، في مواجهة سور حديقة الحيوانات. منذ بدأ السادات عصر الانفتاح غرقت الشوارع تحت فيضان من السيارات المستوردة، أصبحنا نستورد كل شيء حتى الخبز وعصير البرتقال، ومن كاليفورنيا أخيرا جاء الفول المدمس في العلب.
اختفت الشجرة أمام بيتي وارتفعت الجدران، حاجبة الشمس والهواء، لم أعد أرى الشارع الجانبي الصغير حيث تركن صفية سيارتها أمام محل البقالة، أتابعها بعيني وأنا واقفة في النافذة بالدور الخامس، يبدو الشارع العريض مسدودا بالسيارات، التي تتلاصق بجوار الرصيف وفوق الرصيف، لا يبقى إلا ممر ضيق لا يسمح بمرور المشاة. أتابع صفية وهي تشق لنفسها طريقا بين السيارات، رأسها مطرق إلى الأرض قليلا. وفي كلية الطب كانت تتهيب الدخول إلى المدرج المليء بالطلبة، تختفي ورائي حين ندخل من الباب، تتعثر خطواتها قليلا حين ترمقها العيون، تكاد تجري لتلحق بي وأنا أمشي بخطواتي الواسعة السريعة أواجه عيونهم أرد إليهم سهامهم، صفية تطرق إلى الأرض، لا تريد النظر إلى هذه العيون المحملقة، تمد ذراعها وتمسك ذراعي، تتشبث بيدي كالطفلة تمسك يد أمها.
قالت صفية: مبروك يا نوال روايتك الأخيرة، أنا أحسدك لا أعرف من أين تأتيك الشجاعة؟! ألا تخافين ألسنة الناس؟! إنها تنهش سمعتك يا نوال، ألا تسمعين ما يقولون؟! ليس عندي وقت يا صفية لسماع ما يقوله الناس، اسمعي هذه القصة القصيرة، انتهيت منها الآن فقط.
تراجعت صفية إلى الوراء فوق الكنبة في الصالة الصغيرة، فوق المنضدة زجاجة بيرة ستلا مثلجة، صحون صغيرة بها قطع جبنة بيضاء، خيار، طماطم، زيتون أخضر وأسود.
تنهدت قبل أن تمسك زجاجة البيرة، مسحت بمنديلها قطرات عرق فوق جبينها، لم يكن العرق يظهر فوق جبينها مهما جرت، كنا نلعب التنس ولم يكن العرق يظهر. شيء ما يحدث في حياة صفية، يظهر رغم إرادتها على شكل قطرات العرق، رعشة خفيفة لأصابعها البيضاء وهي تمسك زجاجة البيرة، تصبها في الكوب بحذر حتى لا تفور الرغوة، قطرات ماء تتكثف على جدار الكوب الزجاجي، تنتشي قليلا، يعود البريق إلى عينيها الخضراوين الناعستين قليلا. الشمس اختفت تقريبا، لم أعد أرى الشمس من نافذتي، إلا شعاعا طويلا رفيعا يتسرب عند الغروب مائلا بين الجدران العالية. أبواق السيارات تزعق في الشارع، لا أكاد أسمع صوت صفية وهي تحكي عما حدث لها بالأمس. أغلق النافذة بالزجاج والشيش، مع ذلك يصلنا صوت الأبواق تصرخ، أصوات الرجال تزعق فوق مآذن الجوامع من خلال الميكروفونات، طرقعات جارتي بالقبقاب فوق بلاط غرفتها المجاورة، الرجل في الشقة الأخرى يؤدب زوجته بالصفعات والشتائم، رياح وعواصف رملية تهب من الصحراء، صفافير سيارات البوليس والإسعاف والنجدة، ماسورة المجاري مكسورة في الشارع المجاور، طبيخ بايت يغلي تتصاعد رائحته من المنور، أصوات قطط تتنافس حول صفائح القمامة، مقلوبة أو مفتوحة بدون غطاء، بائع الروبابيكيا ينادي، وبائع الصحف يزعق: أهرام! أخبار! السادات يزور إسرائيل، أهرام! أخبار! جمهورية!
أفرغت صفية كوب البيرة المثلج في جوفها، أسندت رأسها إلى الوراء فوق المسند، ثم ضحكت جاءه الله في المنام وقال له قم وانهض وسافر إلى إسرائيل! شوفي الراجل المجنون يا نوال! معقول ربنا يقوله في الحلم روح إسرائيل؟ هو فاكر نفسه سيدنا محمد وبيعمل رحلة الإسراء والمعراج؟ لكن العيب مش عليه، العيب على اللي حواليه، كلهم منافقين وكدابين زي الدكتور المحترم جوزي. - المناخ العام الفاسد يا صفية يشجع الناس على الفساد. - أيوه، لكن جوزي مصطفى طول عمره فاسد، عارفة البنت إياها اللي كان ماشي معاها؟ - البنت أنهيه يا صفية؟ - اللي حكيت لك عنها قبل كده.
كنت أنسى هذه الحكايات عن الخيانات الزوجية، ما أكثر هذه الحكايات التي سمعتها من الصديقات، ومن النساء اللائي يترددن على عيادتي أو بيتي، تشبعت ذاكرتي بهذه الحكايات فلم أعد أسمعها، وهي قصص متشابهة إلى حد كبير، الرجل الذي يخون زوجته في السر، تكشف الزوجة الخيانة، الصدمة والغضب والرغبة في الانتقام، أكثر مما يخيفها غضب زوجها أو غضب الله، تخشى الطلاق أكثر مما تخشى نار الآخرة، أكثر ما تخشاه أن تتحول العشيقة السرية إلى زوجة ثانية، وكم من زوج أقدم على الزواج من عشيقته كنوع من العقاب لزوجته التي كشفت السر، وقد منحه الله والقانون حق الزواج بأربع نساء.
أصبحت صفية تتردد على طبيب نفسي اسمه الدكتور عبد القادر، كان زميلا لنا في كلية الطب، منذ الصدمة الأولى حينما عرفت لأول مرة أن زوجها يخونها ذهبت إلى الدكتور عبد القادر، كان يكتب لها بعض الأدوية المهدئة للأعصاب، يتابع حالتها منذ خمس سنوات، تشعر بشيء من الراحة حين تتحدث معه، يكن لها نوعا من الإعجاب أو الحب منذ أيام الدراسة، أراد أن يقيم معها علاقة، ترددت صفية وامتنعت ربما بسبب الخوف، لكن الدكتور عبد القادر كان يرى أن صفية مريضة.
بالوفاء الزوجي، يقول لها: الوفاء مرض نفسي عند كل الزوجات مثل الوفاء عند الكلاب، يعطيه اسما علميا في الطب النفسي، ويحكي لها قصة الكلب الوفي.
حكت لي صفية القصة كما حكاها لها الدكتور عبد القادر: اشترى الشاب الأعمى كلبا صغيرا بخمسة وعشرين قرشا ليقوده في الطريق، ظل الكلب مع سيده خمس سنوات، شفي الشاب وعاد إليه بصره، حاول أن يستغني عن الكلب، رفض أن يفارق سيده، كان للكلب دور هام في حياة سيده الأعمى، أصبح الكلب هو عيناه يرى بهما بدلا من عينيه المريضتين، أحب الكلب هذا الدور، أحب سيده وأخلص له كل الإخلاص، أصبح إحساسه بحاجة سيده إليه هو الحب في نظر الكلب، وهو القانون الذي يحكم علاقة الكلاب بأسيادها ويجعلها وفية لهم، لكن السيد شفي ولم يعد بحاجة إلى الكلب، كيف يتحمل الكلب هذا الموقف الجديد عليه؟ إنه يرفض التنازل عن الدور الذي يؤديه لسيده، دوره الوحيد في الحياة ولا دور غيره، أصبح وجود الكلب يعتمد على وجود سيده، لم يعد هناك كلب له ذات مستقلة عن ذات سيده، لم يعد هناك «أنا وأنت» أصبح «أنت» فقط، ذابت شخصية الكلب في شخصية سيده، كالزوجة التي تذوب شخصيتها في شخصية زوجها، إزاء هذا التفاني وهذه التضحية وافق السيد على رغبة الكلب ولم يطرده من بيته كما تطرد المرأة المطلقة. ثم مات السيد، توقف الكلب عن الأكل، ارتدى الحداد ومات حزنا على سيده كالأرمل التي تموت بموت زوجها، هذا الإخلاص والوفاء يسميه الدكتور عبد القادر «الوفاء الكلابي»، وثمن شراء الكلب خمسة وعشرون قرشا، مثل الحد الأدنى للمهر في عقد الزواج.
كفت صفية عن الحديث، وامتلأت عيناها بالدموع وهي تردد لنفسها بصوت مشروخ: وفاء كلابي!
كان ذلك في نهاية عام 1978، وكان شريف قد أمضى أربع سنوات بعيدا في الهند، الرسائل بيننا متصلة، تنقطع أحيانا لانشغاله في العمل، أو لانشغالي في عملي، مسئولية البيت والابنة والابن، وفي الليل أجلس إلى أوراقي أكتب روايتي الجديدة، ومقاومة حرب الإشاعات التي أطلقها أعوان السادات ضدي، وضد كل من عارض سياسة الانفتاح، أي فتح أسواق مصر للبضائع الأجنبية دون ضوابط، تدمير الإنتاج والصناعات المصرية، تكميم الأفواه واستيلاء موظفي الحكومة على الصحف والإعلام ودور النشر. بدأ نقاد الأدب المعينون في المؤسسات الصحفية الهجوم على أعمالي الأدبية، بدأت الصحف الإسلامية الحكومية الجديدة تشوه صورتي ترسمني على شكل الشيطان، الذي يحارب الإسلام ويتمرد على القيم والآداب العامة.
وجدت نفسي معزولة داخل البيت، هرب الأصدقاء والصديقات، انضم بعضهم إلى حزب الحكومة، البعض الآخر إلى حزب الإخوان المسلمين، وأحزاب المعارضة يسار ويمين، كان السادات قد أصدر قراره بإنشاء الأحزاب، واختيار أعضائها ورؤسائها، أصبحت هذه المعارضة الشرعية بديلا للمعارضة الشعبية الحقيقية.
شعرت بالاختناق والغربة، أغرقت نفسي في العمل والكتابة، امتنعت دور النشر في مصر عن نشر أعمالي، أرسلتها إلى دور النشر في لبنان، اخترقت الحصار المفروض علي، انتشرت كتبي في البلاد العربية، أصبحت الرسائل تصلني من المغرب والمشرق، القراء والقارئات العربيات، أصبحت هذه الرسائل تشجعني على الاستمرار في الكتابة، اختفى اسمي من القائمة الرسمية للأديبات في مصر، تم طردي من لجنة القصة في المجلس الأعلى للفنون والآداب، أصبح نقاد الأدب يتبارون في الهجوم على أعمالي وكتاباتي، ويقولون إنها لا تنتمي إلى الأدب، إنها مجرد بحوث طبية أو اجتماعية، إنها تسيء إلى المجتمع، تشوه صورة الوطن والدين، تدعو إلى الفوضى والإباحية، ترفض القيم الأصلية والتراث المجيد.
ظهر على سطح الحياة الأدبية نساء موظفات مواليات للنظام الحاكم، يضعن الحجاب على عقولهن، تملك كل منهن عمودا في جريدة حكومية كبرى، أو صفحة كاملة تعرض فيها الأزياء والمكياج، تحولت الصحفيات فجأة إلى أديبات، يحملن لقب مبدعة أو كاتبة كبيرة؛ كالحلية تتدلى من الأذنين، وفصوص الماس تلتف حول العنق، والتيربون الأنيق يغطي الشعر إلا خصلة أمامية تتدلى فوق الجبين، والروج الأحمر القاني بلون الشفتين، والبشرة المشدودة بالعملية الجراحية في نيويورك أو باريس أو لندن، والمساحيق تغطي ما قد يظهر من تجاعيد، والعبارات الإنشائية الضخمة عن الخصوصية والهوية الإسلامية.
لم يكن لي مكان داخل هذا الصخب، جاءتني فرصة للعمل خارج مصر بالأمم المتحدة، سافرت إلى أديس أبابا بالحبشة عام 1978، وإلى بيروت بلبنان عام 1979، قدمت استقالتي في نهاية 1980 وعدت إلى مصر، أدركت أن الأمم المتحدة لا يختلف نظامها عن الحكومة المصرية وغيرها من الحكومات، الداخل إليها مفقود والخارج مولود، النظام الطبقي الأبوي تسيطر فيه القوة على الحق، تسيطر الأموال على الفكر والإبداع، يسيطر الرئيس على المرءوسين والمرءوسات، خاصة الصغيرات السن، الرقيقات الناعمات المعطرات، الناعسات العيون المسدلات الجفون، يخفق قلب الواحدة منهن للحب، في المؤتمر الدولي على جبال سويسرا في الصيف، أو في الشتاء تحت أشعة الشمس الاستوائية في سري لانكا أو الهند، وفي الربيع يعقد المؤتمر الدولي لمناقشة مشاكل الفقر والجوع في العالم، أو مشاكل ختان الإناث وحوادث الاغتصاب، يتبارى خبراء الأمم المتحدة في إلقاء الخطب عن الجنس أو الاقتصاد، وفي الليل يتبارون على الرقص مع الخبيرات الشابات، ينجذب الخبير الإفريقي الأسود إلى الشقراوات البيضاوات من الشمال.
كنت أقاطع هذه الحفلات، يكتب رئيس الإدارة تقريرا ضدي، يقول لي إن حضور الحفلات جزء من العمل بالأمم المتحدة، والرقص مع الرئيس نوع من المجاملة الرقيقة، لا يخرج عن واجبات الموظفة الدولية. بدأ النزع يدب بيني وبين الرؤساء الأفارقة السود والرجال البيض على حد سواء. حاول أحدهم أن يغازلني، كان يشبه الدب الأبيض، يصعد الدم الأحمر إلى وجهه حين يراني، أستاذ بجامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية قبل أن يلتحق بالأمم المتحدة، أصبح يحمل لقب كبير الخبراء في اللجنة الاقتصادية الإفريقية، لم يكن يعرف شيئا عن مشاكل إفريقيا الاقتصادية، يقبض راتبا من الأمم المتحدة يصل إلى ثلاثين ضعف راتبه في جامعة بنسلفانيا، وراتبا آخر من البنك الدولي تحت لقب مستشار. كان يناديني باسمي الأول، وأناديه باسمه الأول، المساواة التقليدية الشكلية داخل الأمم المتحدة للتغطية على عدم المساواة بين الأفراد والدول. - جاية الحفلة الليلة يا نوال؟ - لأ يا رولاند. - ليه يا نوال؟ - عندي شغل. - شغل إيه؟! - رواية جديدة يا رولاند. - لازم تاخدي إجازة شوية.
لم يكن رولاند ذكيا، أغلب الرؤساء أغبياء، تعمي السلطة عيونهم عن رؤية الحقيقة الواضحة كالشمس، عيناي مثل كتاب مفتوح يقرؤه الجميع من حولنا، إنني لا أطيق رؤية رولاند أثناء النهار فما بال الليل. وكان الليل ساحرا على شواطئ إفريقيا الدافئة، في الشرق أو الغرب أو الجنوب، أجملها شاطئ بحيرة فيكتوريا ومنابع النيل. التقيت هناك بأحد الثوار من شيلي في أمريكا الجنوبية، هرب من وطنه قبل أن يحكموا عليه بالإعدام، كان طبيبا نفسيا ترك الطب والتحق بالأمم المتحدة كأحد خبراء التنمية الصحية، ثم استقال بعد أن أكمل الأربعة أعوام، الحد الأدنى للحصول على المعاش. عاد إلى شيلي ثم مات في فبراير 1984، انطلقت في صدره رصاصة من مصدر مجهول، هرب القاتل دون أن يمسكه البوليس. أرسل إلي بطاقة صغيرة من شيلي قبل اغتياله بشهرين فقط، بالضبط في عيد رأس السنة الجديدة أول يناير 1984، كتب على البطاقة هذه الكلمات:
إلى من جعلت شاطئ فيكتوريا أجمل من الوطن، وتركت فراغا في حياتي لا يملأه أحد، انتهيت من الراوية التي بدأتها منذ خمس سنوات يوم لقائنا الأول عند منابع النيل، ربما نسيت هذا اللقاء يا صديقتي العزيزة، لكنه اليوم الذي رأيت في عينيك نفسي الحقيقية.
روبرت
حين قرأ شريف البطاقة ابتسم وقال: يبدو أنه إنسان عاطفي. قلت: جدا. قال: هل أعجبك؟ قلت: جدا. ضحك شريف وقال: حكيت لي عن كل الذين غازلوك بمن فيهم الدب الأبيض ولم أسمع شيئا عن هذا الروبرت؟ قلت: وأنت حكيت لي عن كل من وقعت في غرامك إلا تلك السوزانا الصغيرة من لوزان (وكانت صورتها قد وقعت في يدي بالصدفة وهي مرتدية مايوه بيكيني على شاطئ موزمبيق جوارها شريف يبتسم في سعادة، مرتديا مايوها إفريقيا من سبعة ألوان، مثل ألوان الطيف).
في صباح يوم مشرق على شاطئ بحيرة فيكتوريا، دعاني روبرت على الغداء في مطعم صغير يطل على البحيرة، كنت أمشي كل صباح على الشاطئ لمدة ساعة ونصف قبل أن أحضر جلسات المؤتمر الدولي، تعودت على رياضة المشي كل صباح أو الجري سبعة كيلو مترات، أستقبل أول شعاع للشمس من وراء البحيرة، أرفع ذراعي في الهواء، أغمض عيني، أحس الشعاع الدافئ فوق جفوني، أفتح عيني على خضرة الشجر والأرض، وحصان أبيض يركبه فارس يرتدي بدلة بيضاء، لوح لي بيده من تحت زرقة السماء: صباح الخير يا نوال. - صباح الخير يا روبرت. - أين ستتناولين العشاء الليلة؟ - لا أعرف، هناك حفلة عشاء للمشاركين في المؤتمر. - لا أحب حفلات العشاء. - ولا أنا. - إيه رأيك أدعوك إلى مطعم صغير يطل على البحيرة؟ - سأدفع ثمن عشائي يا روبرت. - كما تشائين .
وأنا أرشف النبيذ الأحمر مع قضمات من الحمامة المشوية، كنت أراه جالسا أمامي يرمقني بعينين زرقاوتين يكسوهما البريق، عيناه تلتقيان بعيني، أتظاهر أنني لا أرى ما فيهما، أقضم بأسناني عظام الحمامة الصغيرة، أسمعها تقرقش بصوت مسموع، أثبت له أنني منشغلة عنه بالحمامة المشوية، وأنني لست هشة العظام مثل الحمامة، أو حسناوات الأمم المتحدة، السمراوات أو الشقراوات، وقلبي مليء بالحنين إلى منابع النيل. - عيناك السوداوان ساحرتان وشعرك الأبيض هذا في ريعان الشباب. - أنت أيضا شعرك أبيض في ريعان الشباب. - أهي وراثة؟ - ربما. - أو دليل العبقرية؟!
الحوار يدور حتى نعود إلى الفندق، لم يكن شريف معي في هذا المؤتمر، قلت له حين سافرت إليه، كدت أقع في الحب يا شريف لولا ... قال: لولا ماذا يا نوال؟ قلت: لولا ذلك المرض النسائي. قال: أي مرض هذا؟ قلت: هذا المرض الذي يسميه الدكتور عبد القادر ... قال شريف: وما يسميه؟ قلت: الوفاء الكلابي. وضحكنا ثم شربنا نخب هذا الوباء المزمن. •••
الصوت يوقظني من النوم، أمد ذراعي وأمسك يده، تنسحب يدي وحدها وتختفي تحت الوسادة، عيناه زرقاوان بلون البحيرة في يوم مشرق. أعود إلى النوم، وأصحو على صوت جرس التليفون، إنها صفية تكاد تصرخ: صحيح يا نوال ما يقوله الدكتور عبد القادر؟ أفتح جفوني، وأرى الساعة تشير إلى الثالثة صباحا، أصيح بضيق: يا صفية أنت تعرفين الدكتور عبد القادر منذ أيام الكلية، ألم يكن يدس لك في الكشكول رسالة حب كل يوم؟ إنه يريد الانتقام منك؛ لأنك رفضت الزواج منه، يرد لك الصفعة يا صفية. الدكتور عبد القادر يقول لي ما أقول لنفسي يا نوال، كيف أخلص لزوجي وهو خائن؟! الوفاء مقابل الخيانة ليس وفاء بل مرضا! إنه التعلق المريض بالزواج وإن كان فاسدا، إنه الخوف المريض من فقدان الحب وإن كان غير موجود، أو فقدان الدور المزيف الذي لعبته في حياة زوجي خمس سنوات، كيف أفقد حاجته إلي؟! كان يقول لي لا أستطيع الحياة بدونك، أنا لم أحبه يا نوال، لكني أحببت اعتماده على وجودي ، لكني تشبثت به، كنت أخاف الطلاق، أصبحت أعتمد عليه يا نوال، لا أستطيع أن أعيش بدونه، انقلبت الأوضاع، أصبحت مثل الكلب التابع لسيده، لا يستطيع أن يفارقه، ويموت بموته. العبارة تنطقها صفية بصوت يقطر مرارة، تضغط على الحروف، تلوكها، تلفظها من بين شفتيها حرفا حرفا؛ كالعلقم المر ينساب قطرة قطرة ... وفاء ... كلابي؟! •••
عام 1998 دق جرس التليفون في شقتي الصغيرة الجديدة في حي شبرا القديم، تركت شقتي في الجيزة بعد العودة من المنفى العام الماضي. عشت فيها منذ عام 1960، سبعة وثلاثين عاما عشتها في شقة الجيزة شارع مراد، بعد الطلاق الثاني استأجرت هذه الشقة في الدور الخامس، إلى جوار الكنيسة الكبيرة، تطل على آخر سور حديقة الحيوان، عشت مع طفلتي الصغيرة ودادة أم إبراهيم، استأجرت لأخواتي الشقة في الدور الثالث، دخلت ابنتي مدرسة الحضانة المجاورة في شارع النيل، ودخلت أخواتي الجامعة التي لا تبعد عن البيت إلا مسافة عشر دقائق على الأقدام بالخطوة السريعة.
في ديسمبر 1964 تزوجت شريف، ترك بيت أسرته في الزمالك وأصبح يشاركني شقتي الصغيرة، ثلاث غرف وصالة، غرفة مستقلة لابنتي تشمل سريرها، دولاب ملابسها، مكتبها الصغير، مكتبها به رفوف حتى السقف تحمل كتبها، كراريسها، ألبومات الصور، علب الألوان، شرائط الموسيقى، والأفلام. منذ العاشرة من عمرها أصبحت تكتب خواطرها في مفكرة تشبه مفكرتي وأنا في مثل عمرها. أصبح لها أخ اسمه عاطف، ولدته في المستشفى الجامعي في مدينة نيويورك فجر يوم 10 ديسمبر 1965، كنت أدرس في جامعة كولومبيا للحصول على درجة الماجستير، عدت إلى مصر أحمل ابني وشهادة التفوق، عمره سبعة أشهر، بشرته سمراء بلون بشرتي، عيناه سوداوان يكسوهما بريق، فرحت ابنتي منى بأخيها، أصبح شريف أبا لأول مرة في حياته، حمل عاطف بين ذراعيه وقال: طفل جميل يا نوال لأنه يشبهك، عيناه السوداوان وبريق الذكاء. ضحكت وقلت: ربما بريق ذكاء الأب ... ألست أكثر مني ذكاء يا شريف؟! ضحكت ابنتنا الطفلة وقالت أظن أنه ورث ذكاء أخته أكثر من الأب أو الأم!
أصبح لعاطف غرفة خاصة به في الشقة الصغيرة ، بها سريره ودولاب ملابسه، مكتبه الصغير، مكتبة بها رفوف حتى السقف تحمل كتبه، كراريسه، ألبومات الصور، علب الألوان، شرائط الموسيقى والأفلام السينمائية، منذ طفولته عشق عاطف السينما والموسيقى، يعزف على الجيتار، يسجل أفكاره مثل ابنتنا منى في مفكرته الخاصة.
الغرفة الثالثة في الشقة اقتسمتها مع شريف، لكل منا سرير صغير، دولاب ملابس، مكتب صغير، مكتبة لها رفوف حتى السقف، منذ تزوجنا عشنا في هذه الغرفة، نكتب فيها وننام ونقرأ ونسمع الموسيقى ونشاهد الأفلام. كانت هذه الغرفة هي حياتنا، المساحة الصغيرة الدافئة التي تضمنا، لم تكف الحكومة عن مطاردتنا داخل هذه الشقة الصغيرة، حوطها رجال البوليس والحراسة والبودي جارد، تخلل نوافذها الأصوات الزاعقة في الميكروفونات تهدر دمنا، وأجهزة الإعلام والصحف تنشر - والهواء في الليل - الإشاعات، قطعوا الأشجار في الشارع أمامنا، حلت مكانها العمارات العالية والجدران الأسمنت، حجبت عنا الشمس، تتسرب من شقوق الشيش أضواء النيون المتحركة من حول الديسكو كلاب، ومآذن الجوامع التي أصبحت تتوالد وتتكاثر على نحو سريع ، لا يفوقها سرعة إلا توالد وتكاثر محلات ماكدونالد الأمريكية، أغلقت المحلات المصرية أبوابها واختفت المنتجات المحلية من السوق.
حين عدنا من المنفى عام 1997 وجدنا شقة الجيزة مظلمة خانقة مثل زنزانة السجن، تعشعش فيها ذكريات سوداء، فقدنا فيها الزمن والطمأنينة، لم يكن لنا أن نعيش داخل هذه الشقة، انتقلنا إلى الشقة الجديدة في حي شبرا القديم، غرفتان فقط والصالة، وغرفة خاصة بشريف ينام فيها، الصالة للاستقبال ومنضدة صغيرة للطعام في المطبخ، وشرفة صغيرة تطل على النيل من الدور السادس والعشرين في حي شبرا القديم.
استقلت ابنتنا في حياتها الخاصة، أصبحت الدكتورة منى حلمي الكاتبة والأديبة المعروفة، لها مؤلفاتها وكتبها ومقالاتها في الصحف والمجلات، ابننا استقل بحياته الخاصة، أصبح المخرج السينمائي عاطف حتاتة، يهتم النقاد بأفلامه الروائية، يقولون إنها تفتح بابا جديدا في السينما المصرية حصلت أفلامه على جوائز مهمة داخل مصر وخارجها.
أصبحت أنا وشريف نعيش وحدنا في شقة شبرا الصغيرة، نهبط الأدوار الستة والعشرين كل صباح في الساعة السادسة، نمشي على شاطئ النيل مسافة سبعة كيلومترات، نعود لنشرب الشاي مع الجبنة القريش أو الزبادي بدون دسم، وعسل النحل والخبز البلدي المحمص.
أصبح لنا عدد قليل من الأصدقاء والصديقات، يتناقص عددهم بمرور السنين، يموت بعضهم أو يهاجرون، أو ينشغلون بمشاكل الأولاد والأحفاد، مرت السنوات دون أن أسمع صوت الصديقات القديمات بطة وصفية وسامية، أقرأ أخبارهن من حين إلى حين، أو يرن جرس التليفون بعد غياب السنين ويأتيني صوت إحداهن.
لم تنقطع زيارات الشباب والشابات إلى بيتنا منذ عودتنا من المنفى، أجيال جديدة من المبدعين والمبدعات في مجال الأدب والفن والسينما، بدأنا فكرة تكوين مدرسة فكرية جديدة تضم هؤلاء الشباب والشابات، أصبحت الفكرة تنمو، تتخذ شكلا أكثر تحديدا في ظل القوانين المتغيرة، خاصة قانون الجمعيات الجديد الذي ما إن صدر في نهاية عام 1999 حتى ألغته المحكمة الدستورية العليا في بداية العام 2000، وفي مصر يحكمنا قانون الطوارئ الذي يحرم الاجتماعات، ويسوق إلى السجن أي مجموعة لا ترضى عنها القوى الحاكمة المسيطرة.
ثم دق جرس التليفون في بيتي ذات يوم من أيام شهر يونيو الماضي، صوت رجل عبر الأسلاك يقول: بطة هانم معاك على الخط يا دكتورة.
كلمة هانم لم أسمعها من نصف قرن، في طفولتي كانت النساء في عائلة جدي شكري بيه يحملن لقب الهانم، أمي كان أبي يناديها أحيانا زينب هانم، لم تكن النساء في عائلة أبي الفقيرة في قرية كفر طحلة يحملن لقب هانم، كلمة هانم توحي بالرقة والنعومة والانتماء إلى الطبقات العليا وسلالات الأتراك منذ المماليك والإمبراطورية العثمانية. - بطة هانم يا دكتورة معاك على الخط.
دوى صوت طويل عبر الأسلاك صوتها المألوف، وقد أصابته بحة أو شرخة الشيخوخة. - إزيك يا نوال. - أهلا يا بطة. - بنتي شيرين كتب كتابها الخميس الجاي، وقالت لي لازم يا ماما تدعي الدكتورة نوال، بنتي معاها الدكتوراه من جامعة هارفارد في النقد الأدبي، قرأت كل كتبك، ورواياتك بالعربي والإنجليزي، ومعجبة بيكي أوي يا نوال، لازم تيجي عشان إنتي وحشتيني أوي، نفسي أشوفك بعد الغيبة الطويلة دي، ده احنا صحاب من زمان من أيام الكلية، ولا يمكن الصداقات القديمة تروح يا نوال، أنا عاملة الفرح في الفيلا الجديدة جنب أرض الجولف في مصر الجديدة، خدي العنوان يا نوال، والعريس إنسان ممتاز، كان زميل شيرين في هارفارد ومن أكبر رجال الأعمال.
نطقت الكلمتين من أنفها وقلبت الراء إلى غين كعادتها القديمة، قالت غجال الأعمال، رنت في أذني عجول. بعض الأشياء الساقطة منذ النظام الملكي عادت، ومنها اللدغة الفرنسية في اللسان، والديوك الرومية المحشوة بالمكسرات في ليالي الكريسماس، والعجول المذبوحة في مولد النبي يوزعونها على الفقراء، والزبيبة السوداء عادت بارزة فوق جباه المؤمنين الصالحين، والطرحة السوداء أصبحت تلتف حول جبين المؤمنات الصالحات، وصديقتي بطة ذات الميكروجيب رأيتها ترتدي الطرحة من الحرير المستورد الثمين، تميل فوق جبينها ناحية أذنها اليمنى بانحدار شديد كما كان الطربوش يميل فوق رءوس الرجال أيام الملك والإنجليز. - أهلا يا نوال، الدكتور نوال يا هوانم صاحبتي من أيام الدراسة كانت أشطر واحدة فينا، لكن يا خسارة سابت الطب وبقت تكتب روايات مش معقول إن بوسيبل! - إن بوسيبل ليه يا بطة هانم ما شاء الله الدكتورة نوال اسمها مالي الدنيا، ده أنا كنت في سوسيغا «سويسرا» الصيف اللي فات، كان عندي كده شوية دبريشن «اكتئاب»، والدكتور بتاعي، الله يمسيه بالخير، قال اخرجي بره شمي شوية هوا، قلت أروح أزور بنتي في جنيف، أصل بنتي متجوزة خبير في الأمم المتحدة، طبعا أسلم وبقه اسمه جابر بدل جورج، وعندهم بنت ما شاء الله زي القمر سموها فاطمة على اسم بنت النبي، يقولوها فاتيما، تتكلم إنجليزي وألماني وفرنساوي وما تعرفش كلمة عربي، علمتها تقول يا جدتي بالعربي، أصل كلمة جدتي حلوة أوي في وداني. وأنا باحكي الحكاية دي كلها ليه؟ أيوه افتكرت، لقيت بنتي ماسكة في إيدها كتاب بالألماني، وقالت لي ده كتاب الدكتورة نوال السعداوي بيدرسوه في الجامعة هناك، وهتعمل عليه الدراسة، وقالت والنبي يا مامي لما تروحي مصر ابعتي لي كل كتب الدكتورة نوال.
صوتها يذكرني بصوت طنط هانم منذ نصف قرن، إلا أنها أكثر ثراء، تلمع المجوهرات حول عنقها، ترمق خواتمها المرصعة بفصوص الماس وتمصمص شفتيها: «الحاجات» دي كانت مرمية في الصندوق خمستاشر سنة كل سنة تنطح أختها، من أيام الحراسة السودة ربنا ما يعيدها لغاية ما شفت الهانم لابسة جواهرها، الستات كلهم حواليها لابسين، رحت فاتحة الصندوق وقلت يعني أنا مش واحدة من الهوانم، ده أبويا كان بيه وأمي كان أبوها باشا، ويعني الهانم كان أبوها مين؟!
دب الصمت في الصالون المطل على الحديقة الهادئة في مصر الجديدة، وتظاهرت بعض الهوانم بعدم السماع، انكب بعضهن على الأطعمة الممدودة داخل الشرفة الزجاجية الطويلة، قربت إحداهن فمها من أذني وهمست: «أصل العريس يقرب للهانم من بعيد» ونهضت إلى الطابور المتدافع نحو المائدة بخطوات وئيدة، كل منهم يحمل صحنا كبيرا من الصيني المزركش. تعرفت على الدكتور حمدي بسهولة بين الواقفين، ساقاه المعوجتان داخل البنطلون المكوي، صدره النحيف المبطط تحت البدلة الأنيقة المحكمة حول جسمه، رأسه الكبيرة بشعره المجعد، لم يعد كثا كما كان ولا أسود، ظهرت له صلعة حمراء وسط الرأس، من حولها كتلة بيضاء من الشعر المضغوط كأنما بالمكواة الحديدية. كان يتحدث مع أحد الرجال حين لمحني جالسة، تقدم نحوي وقال بصوت تشوبه حرارة غير عادية: الدكتورة نوال السعداوي لازم تعرفها يا محمد بيه. - اتفضلي يا دكتورة.
وأفسح لي الدكتور حمدي مكانا في الطابور، وقفت أمامه أحمل صحنا كبيرا فارغا، لم ألتقط من الطعام إلا قطعة طماطم مع الجبن وأعواد قليلة من الجرجير، رائحة الأطعمة الدسمة لم تعد تثير شهيتي، منذ سنوات قاطعت السمن والزبدة والدهون الحيوانية، أصبحت أفضل الخضروات على اللحوم. في الصحن الضخم وسط المائدة يطل فخذ خروف أو عجل يكاد يشبه أفخاذ بني آدم، تسقط عليه السكاكين بصوت مسموع، والأسنان أيضا صوتها يكاد يسمع، لولا صوت الدكتور حمدي المرتفع يتحدث مع صديقه غير بعيد عني. - خلاص يا محمد بيه التلفزيون والفيديو والإنترنت طغوا على كل حاجة، الكتب خلاص سوقها راحت، ماحدش بقه يقرأ يا محمد بيه. - أيوه صحيح يا معالي الباشا. - لكن العريس بتاعنا راجل غاوي كتب، عنده دكتوراه في العلوم الإلكترونية، من جامعة هارفارد، وراجل مثقف جدا جدا رغم أنه قريب الهانم.
جاءت العبارة الأخيرة خافتة شبه هامسة، أعقبتها ضحكة مكتومة متقطعة، ثم صمت طويل ... عادت فيه أصوات السكاكين والملاعق والأسنان. وارتفع صوت الدكتور حمدي مرة أخرى: إيه يا دكتورة نوال إنت مش بتاكلي ليه عاملة رجيم ولا إيه؟! عشان كده محافظة على قوامك؟ ثم دارت عيناه تبحثان عن زوجته، رآها منهمكة في الأكل والحديث مع إحدى السيدات، قرب فمه من أذني وهمس «قولي لصاحبتك بطة هانم تعمل رجيم.»
كانت بطة منهمكة في الحديث مع المدعوين والمدعوات، ألمح بينهم وجوه الصديقات القديمات وزملاء قدامى من الأطباء والأدباء، وجوه جديدة لا أعرفها من رجال الأعمال «البزنيس» وكلاء الشركات الأجنبية، ونساء الأعمال صاحبات الشركات الجديدة في السوق الحرة، رجال البورصة وقيادات أحزاب المعارضة، وأعضاء مجلس الشعب والشورى والقيادات الصحفية والإعلامية، رئيسات الجمعيات النسائية والمنظمات غير الحكومية ، في العهد الملكي كان اسمها الجمعيات الخيرية، تنشغل فيها النسوة بتنظيم الحفلات أو جمع التبرعات تحت رعاية صاحبة الجلالة الملكة أو الأميرة، تغير اللقب في عهد السادات إلى السيدة الأولى على غرار النظام الأمريكي، وكانت التبرعات توضع في مكان أمين لا ينفق منه إلا الأمناء والأمينات، يوزع الباقي على الفقراء والعميان «عبيد إحساناتهم» بحسب القول المأثور عن الشعب المصري بلسان الخديوي.
فوق الجدار لمحت صورة تشبه الملكة تتطلع بطة هانم إليها بخشوع «والله يا نوال الست دي عظيمة وبتقوم بدور مهم وبتعمل حاجات كتير أوي للناس الغلابة واليتامى»، وأكملت السيدة التي سافرت تشم الهواء في سويسرا: «يسلم بقك يا بطة هانم، وربنا قال في القرآن الكريم:
فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث ، وربنا ما شاء الله أنعم عليها خير كتير أوي.»
قبل أن تنتهي الحفلة أخذتني بطة من يدي إلى غرفة داخلية، «لازم تشوفي الشبكة يا نوال، إيه رأيك مش تجنن! أنا عاملة حفلة تانية صغيرة «أنتيم» أوي، داعية صاحباتي القريبين أوي واعملي حسابك حنسهر للصبح!» •••
الصداقات القديمة لها ذكرياتها الخاصة، لكن الضحك لم يعد يخرج من القلب كما كان، أكبرنا سنا هي سامية بلغت السبعين عاما، وبعدها بطة تصغرها بعامين، ثم صفية وأنا من عمر واحد، أعلاهن صوتا هي سامية، يخرج من الأنف المرفوع فوق الشفتين الرفيعتين شبه المتلاشيتين، قامتها طويلة نحيفة تحوطها بشال ملون، تبدو كالطيف الشاحب يتلفع بألوان زاهية، عنقها نحيف ينثني قليلا تحت رأس كبير وشعر قصير «الأجارسون» مصبوغ بلون أسود داكن، كأنما هو رأس مسروق من تمثال رجال إفريقي، الجاكيت من الصوف الإنجليزي المتين مطرز فوق الصدر بشعار حزب اليسار، أو حزب الطبقة العاملة، وهذا الشكل مجرد ذكرى؛ لأن صديقتي سامية لم تعد من الطبقة العاملة، ولا هي عاملة بل مالكة لمزرعة كبيرة في دلتا النيل وشركة استيراد وتصدير، انطفأ في عينيها العنف القديم، وأخذت رعشة تهز شفتيها المزمومتين كأنما سؤال مكبوت يتأهب للإفلات من قبضة إرادتها الحديدية.
على الرغم من بلوغها السبعين فإن ابنة الطبقة العاملة لا تشعر بالتقدير الكافي لطبقتها، تتهكم على الرجال في حزبها خاصة زوجها رفاعة، تمط شفتيها المطبقتين وتقول مناضل ماركسي! بهذه العبارة من كلمتين، كانت تقدم زوجها، وقد أسقطت الكلمة الثانية مع سقوط الاتحاد السوفييتي.
في عينها الصغيرتين شبه الخاليتين من الرموش تلمع دمعة شفافة حين تسمع كلمة ماركس أو الاتحاد السوفييتي، الأمر بالنسبة لها ليس هذا ولا ذلك، بل هو إيمانها الذي سقط، وكانت ترغب في الإيمان بشيء تراه ضخما فوق عرشه معصوما من الخطأ، محصنا ضد الموت أو السقوط، ترتعش جفونها كأنما دمعة مكبوتة تستعد للإفلات منها.
صوتها تشوبه رنة أنفية شبه بكائية، تميل إلى النحيب الصامت، حتى قبل السقوط السوفييتي أحيانها فأقول: «لكل جواد كبوة يا سامية»، هنا تتحمس لإنقاذ ماركس: «يا نوال ده جورباتشوف الملعون تآمر مع أميركا!» تضيق عينها حتى تطفر الدمعة الحبيسة وترتعش شفتاها كأنما تكبت الرغبة في الصراخ، إلا أن هذا الغضب ينقلب إلى حزن صامت شبه مستسلم حين تتحدث عن زوجها رفاعة. يدق جرس التليفون في بيتي ويأتيني صوتها الباكي: «نوال عاوزة أشوفك.» تجتاحها هذه الرغبة المفاجئة لرؤيتي حين تريد أن تغتاب زوجها: «تصوري يا نوال بعد أربعين سنة جواز أكتشف إني عمري ما حبيت الراجل ده!» •••
في غرفة داخلية لا يدخلها الرجال تربعت السيدة التي سافرت إلى سويسرا أمامها السبرتاية تعلوها الكنكة، ورائحة البن المطحون بالحبهان، فناجين صغيرة من الصيني، ترشف الهوانم القهوة، ترتسم الشفاه الحمراء على حافة الفناجين، لا يبقى في القاع إلا الثمالة، ترجها السيدة بحركة تذكرني بطنط نعمات وأنا طفلة في العاشرة، تقلب الفنجان ثم تعدله وتقرأ البخت أو الطالع. هؤلاء الهوانم أكثر دجلا من الهوانم القديمات منذ نصف قرن، يكتبن ما يسمى الوثيقة، تشبه العهد القديم بين أرواح الجان والبشر، مكتوبة على مطواة قرن غزال أو حدوة حصان، تطلب من الجان إبقاء الزوج مع زوجته كي لا تخلعه من قدمها مدى العمر، وحروف مكتوبة بدم الحيض على ظهر صورة الزوج تأمره بالعودة راكعا فوق ركبتيه كالخروف يعود إلى الحظيرة.
تلتقي عيناي بعيني بطة، الدكتور كاميليا، متربعة فوق الشلتة بجسمها القصير السمين، ازدادت سمنة، عيناها الواسعتان أقل اتساعا، النني الأسود أقل سوادا، جفونها وارمة شاحبة رغم الكحل الأسود، تحت الجفون تجاعيد تختفي تحت البودرة والمكياج، ساقاها السمينتان القصيرتان مضمومتان تحتها، تبسمل وتحوقل فيما يشبه الشبق، تكركر بضحكتها القديمة كأنما عادت التلميذة الصغيرة «فاكرة يا نوال أد إيه أنا كنت باحب حسين، وكنت مخطوبة لحمدي وباكرهه زي العمى، كنت واخدة حريتي وأنا متجوزة، ولا عمري حفظت آية في القرآن ولا ركعت لربنا ركعة واحدة، وطلع طارق ابني طويل وحلو مش زي أبوه المكعبر، أصلي وأنا حامل كنت باتوحم على حسين.»
وقاطعتها السيدة الهانم التي سافرت إلى سويسرا: أيوه يا بطة هانم الوحم مفعوله باتع زي السحر تماما، وربنا زكره في القرآن وسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام قال ...
وانطلقت أصوات النساء تصلي وتسلم على النبي، وبطة هانم تواصل كلامها، توجه الحديث إلي. كنت جمهورها المستمع الوحيد والأخريات انشغلن عنها بأحاديث جانبية، كل منهن تحكي قصة حبها المكبوت، كلمة هنا أو هناك، وعبارة تكاد تتكرر وبصوت خافت «أصل جوزي عمري ما حبيته يا حبيبتي» ويرتفع صوت بطة هانم على الأصوات، وقطعة الشبة تطرقع في النار وتتخذ شكلا آدميا مثل جمجمة محروقة تشير إليها الأصابع القصيرة ذات الظفر الأحمر الطويل المدبب يشبه مخلب القط.
شوفي يا نوال رأسها السودة زي وشها علشان تعرفي إن البت السكرتيرة كانت عاملاله عمل، وأنت عارفة حمدي طول عمره راجل دوغري لا يمكن يبص لواحدة، إلا البت المفعوصة دي ما عرفش عملت إليه شألبت كيانه، عمرها عشرين سنة وهو فوق السبعين، أصل الرجالة عقلهم بيصغر كل ما يكبروا في السن، ورحت شفتها في مكتبه، بت سودة وجربانة جلدة على عضمة، وطردتها من المكتب، رحت عملاله عمل عند الشيخ المحلاوي، ده شيخ مشهور أوي يا نوال لازم سمعتي عنه، الناس تيجي له من كل البلاد، حتى من أميركا وأستراليا، ناس متعلمين ودكاترة.
وكنت لا يمكن أصدق في حكاية المشايخ وأنت عارفاني من زمان، لكن قالوا لي عليه، وكان حمدي عشان يعاندني فرش شقة في الزمالك للبت المفعوصة، وسمعت إنه عمل معاها عقد عرفي، أو رسمي ما اعرفش، بقيت ما نامش الليل يا نوال، وقلت يانا يا هي في الدنيا. ورحت للشيخ المحلاوي، قلت أجرب، مش حاخسر حاجة، أول ما دخلت عليه شفت النور، نور يا نوال والله، نور من عند ربنا، قمر منور قاعد على الكنبة، وقال لي تعالي اقعدي جنبي يا كاميليا يا بنت سعدية، عرف اسم أمي إزاي ما اعرفش، أمي ماتت من ثلاثين سنة وماحدش يعرف اسمها، لقيته عارف عني كل حاجة، عمل لي العمل، علقه في صدري، حجاب عليه كلام من القرآن وكلام تاني لا يمكن حد يقراه غيره، وقال بعد أسبوع واحد جوزك حيرجع ويقفل شقة الزمالك.
وفعلا يا نوال بعد أسبوع واحد بالضبط، وكان يوم جمعة الصبح، لقيت حمدي راجع، من يومها مابقتش اقرأ غير القرآن، وربنا قال عن السحر يا نوال وعن أرواح الجان، وآلاف الناس بتروح للشيخ المحلاوي، رغم إن الفيزيتا بتاعته بقت عشرة آلاف دولار يعني ثلاثين ألف جنيه، لكن كل يوم عنده آلاف ولازم أحجز قبلها بشهر أو شهرين، باشوفه مرة واحدة في السنة، وحمدي يقولي إزاي تصرفي فلوسك على الشيخ المحلاوي، وأقول له أهي فلوسي من عرق جبيني أصرفها على حد واحد عارف ربنا أحسن ما أصرفها على الشيطان، ويسكت حمدي، يخاف يفتح سيرة الشيطان، عشان مافكروش بالفلوس اللي صرفها في شقة الزمالك. •••
كانت المرة الأخيرة أرى فيها صديقتي القديمة بطة، صوتها كان يأتيني أحيانا عبر الأسلاك، يرد عليها شريف نيابة عني: نوال خرجت يا بطة لما ترجع أقولها تطلبك. لم أكن أطلبها، عيناها لا أريد أن أراهما مرة أخرى، رأيت فيهما شيئا مخيفا يشبه الموت، كأنما ماتت عيناها، تسري قشعريرة باردة في جسدي إذا تذكرتهما، وأسأل نفسي أهي الصدمة النفسية العنيفة في الزواج وشريك الحياة؟! أهو الانحدار الذي أصاب المجتمع في السنين الأخيرة؟! أهو اليأس المطلق إلى حد الإيمان المطلق بالشيخ الأعمى؟! وكان الشيخ المحلاوي أعمى مثل الشيخ حمدان في القرية، وكانت تقول عنه أم إبراهيم منذ أربعين عاما: «ربنا كشف الحجاب عنه يا ضكطورة وماحدش يعرف ربنا إلا العميان.» •••
إنها بدايات يونيو 2000، يوم صيفي رمادي غارقة تحت شبورة خانقة بلون الدخان، أعيش المنفى داخل الوطن كما عشته في الخارج، أشعر بالغربة وأنا أمشي في الشارع، تشبه غربتي حين كنت في مدرسة منوف الابتدائية ويرمقني الرجال بعيون جاحظة، يقذفني أحد الصبية بطوبة! أو كلمة نابية يسب بها أمي، يصب اللعنات على أعضاء الأنثى، خاصة العضو المبتور بالموسى، الملعون في الغياب كالحضور.
هربت من القرية إلى المدينة، لكن الضجيج، في النهار والليل، ومكبرات الصوت مثبتة فوق الجوامع والبيوت حتى المقابر، أصبح من حق الموتى سماع الأذان للصلاة وتلاوة القرآن في المأتم أو الطبول والغناء في الأفراح، ولم يعد من حق الأحياء النوم، خاصة في الأحياء الفقيرة مثل حي شبرا القديم، وفي الأحياء الراقية في مصر الجديدة لا تسمع الطبقة العالية ورجال الأعمال ونساؤهم إلا زقزقة العصافير وحفيف الأشجار في الحدائق الخضراء.
شبح الموت يطاردني منذ زيارتي الأخيرة لبطة، أشعر بالإثم حين تطلبني فأنكر وجودي، أقلب أحيانا في ألبوم الصور القديم، أراها إلى جواري يدها في يدي نضحك وسط حوض من الزهور، شعرنا الأسود يطيره الهواء، فمها مفتوح عن آخره كأنما أطلقت نكتة من نكاتها المأثورة، تبتسم صفية في الصورة بهدوئها المعهود، لم تكن تطلق هذه الضحكة الرنانة التي تطلقها بطة، تكركر ضحكتها مثل الماء الراقراق يخرج من عنق بلورية ضيقة، وسامية واقفة في طرف الصورة، شفتاها الرفيعتان مزمومتان في مواجهة الشمس القوية، لم تكن تضحك أبدا، وإن ابتسمت لا تنفرج شفتاها عن مساحة مرئية للعين.
أحيانا يدفعني الحنين فأطلب صفية، هي أقربهن إلي، إن لم أجدها أطلب سامية. ذلك اليوم طلبت بطة، بالأمس تركت لي رسالة تليفونية على آلة التسجيل: نوال كلميني، أنا في البيت. صوتها المبحوح تشوبه شرخة خفيفة جديدة وربما عندها زكام أو برد، في صيف أيام متربة حارة يهب هواء ساخن من الصحراء مع ذرات الرمال والدخان وفيروسات الأنفلونزا الصيفية القادمة من وراء البحار، ترشح الأنوف مع ارتفاع خفيف في الحرارة ثم ينتهي الزكام بعد أيام قليلة.
قلت: ربما أصابها فيروس وهي في البيت لم تخرج، ربما هي تنتظر مكالمتي، وأدرت قرص التليفون برقمها، رعشة خفيفة كالقشعريرة زحفت علي كالهواء البارد، كأنما النافذة انفتحت مع أنها مغلقة كأنما جسدي يدرك اللحظة القادمة قبل أن يدركها عقلي، وجاءني صوت رجل غريب، هل أخطأت الرقم؟! كنت أضع السماعة حين سمعته يقول: عاوزة مين حضرتك؟ - عاوزة بطة. - مين حضرتك؟ - أنا نوال السعداوي. - أهلا يا دكتورة. - مين حضرتك؟ - أنا الدكتور حمدي. - ما عرفتش صوتك يا دكتور ... أقدر أكلم بطة؟! - بطة؟ ... تعيشي إنتي.
توقف الهواء في صدري، الكلمتان «تعيشي إنتي» نسيت معناهما، غاب عن ذاكرتي لحظة، أصبح عقلي مثل صفحة بيضاء، ثم بدأت الذاكرة تعود بالتدريج. كنت طفلة في منوف حين سمعت الكلمتين لأول مرة في حياتي، كانت لنا جارة اسمها أم محمد، سألت عنها أمي ذات يوم فقالوا لها تعيشي إنتي. وقالت أمي إن أم محمد ماتت.
أمسكت رأسي بيدي الاثنتين وأجهشت دون بكاء دون دموع، كأنما نسيت البكاء منذ الطفولة ولم تعرف عيناي الدموع. عاد شريف إلى البيت رآني راقدة في الفراش مربوطة الرأس، قلت له: بطة ماتت يا شريف. كأنما أقول أمي ماتت أو أختي أو أخي، وكان أخي طلعت قد مات منذ شهور قليلة، ربما لم يكن وجهي شاحبا مثل هذا الشحوب؛ فلم يكن أخي صديقي في الطفولة، لم يكن بيننا حكايات عن الحب ولم نكن نضحك كثيرا كما كنت أضحك حين تحكي بطة آخر النكت، وأفقت على صوت شريف: البقية في حياتك يا نوال.
ومن يمكن أن يواسيني في هذا اليوم إلا صديقتي صفية أو سامية؟! لم تكن سامية في مصر، كانت في مؤتمر خارج البلد، وبكت صفية عبر الأسلاك حين سمعت الخبر، أغرقتها بالدموع، وسماعة التليفون في يدي أصبحت مبللة.
قلت لها تعالي شوية يا صفية، وجاءت صفية إلى بيتي، جلست إلى جواري وأنا راقدة في السرير، حكيت لها عن زيارتي الأخيرة لبطة، كانت تعرف كل شيء، ولا شيء يدهشها، هي أيضا تعرضت لصدمة من نوع آخر، إلا أنها لم تذهب مثل بطة إلى الشيخ المحلاوي، كانت تذهب إلى الدكتور عبد القادر أستاذ الطب النفسي، وكان زميلا لنا في الكلية منذ أربعين عاما، أصبح يمتلك الخمسة «عين»، ومنها عمارة عالية في مصر الجديدة يسمونها عمارة «الدكتور» إلى جوارها عمارة لا تقل عنها ارتفاعا يسمونها عمارة «الشيخ»، أصبح الدكتور والشيخ متجاورين كما كانا في العصور السالفة، ومن الكهنة ورجال الدين القدامى انزلق الأطباء إلى التاريخ الحديث. كان الليل قد تأخر وصفية تحكي دون انقطاع، ست ساعات مضت وهي متكئة بكوعها على الوسادة دون أن تغير جلستها على السرير، دون أن تتغير نبرة صوتها الخافت، أو تتحرك عيناها الشاخصتان نحو قطعة من السماء وراء زجاج النافذة المغلق، كأنما تهمس لنفسها أو لامرأة أخرى كامنة في أعماقها، أو تخاطب القوة المجهولة داخل هذا الخضم الأسود الذي اسمه السماء، والذي بدأ سواده ينقشع بالتدريج ليصبح رماديا بلون الضباب، وانتبهت صفية فجأة كمن تصحو من النوم وصاحت: يا خبر، النهار طلع يا نوال! - باين عليك تعبانة تحبي أوصلك البيت؟! - بيت إيه وزفت إيه خليه ينهد على أصحابه! - نامي شوية يا صفية وبعدين نتكلم.
أغمضت عينيها، راحت في النوم وكوعها كما كان في مكانه لم يتغير، حركتها قليلا لتنزلق الوسادة تحت رأسها، غطيتها بالبطاطين، وأطفأت اللمبة الصغيرة إلى جواري، لتغرق الغرفة في الظلمة إلا خيطا رفيعا من الضوء الرمادي يتسرب من وراء الزجاج.
وأغمضت عيني أنشد النوم دون جدوى، صوت صفية الهامس يسري كأنما لم ينقطع، أراها إلى جواري نائمة مغمضة العينين. ليلة كاملة مضت ونحن نتحدث، تذكرني بليالي الداخلية في حلوان الثانوية. كنا نقضي الليل كله في حديث متصل، تفتح القلب الذهبي يتدلى من السلسلة حول عنقها، تلثم الصورة وخصلة شعر من رأسه، اسمه مرقص أبوه قبطي وأبوها مسلم، هددها بالسكين لتقطع علاقتها بمرقص. أصابته ذبحة صدرية حين دخل أخوها سعد السجن بتهمة الشيوعية، أمسكه البوليس وهو يهتف في مظاهرة ضد الإنجليز، وكانت ضابطة الداخلية تمر علينا بكشافها، تفتش على نومنا وأحلامنا، لم نكن نحلم إلا بالحب والحرية، وفي ضوء القمر تشتعل فوق صدورنا الحروف «الجلاء بالدماء»، والناظرة تضربنا بالمسطرة فوق أصابعنا حتى تنزف منها الدماء، نلف حولها أربطة من الصوف، ندفنها تحت البطاطين ونتهامس طوال الليل، نتشاطر الألم والفرح والأمل في المستقبل.
الليل ساكن لا أسمع إلا صوت أنفاسي، وأنفاسا خافتة إلى جواري، صفية غارقة في النوم، عضلات وجهها مسترخية كأنما نفضت عنها العبء، بشرتها بيضاء إلا خطا واحدا داكنا عميقا في اللحم يمتد من زاوية عينها اليسرى حتى زاوية الفم، لم ألحظ هذا الخط من قبل، أدرك فجأة أنها لم تعد شابة، لم يبق أمامها إلا شهور قليلة وتبلغ السبعين من العمر، إلا أن أنفها وذقنها وشفتيها وكل ما في وجهها يبدو طفوليا، كما كانت في المدرسة الثانوية، ولا شيء يخرجها من الطفولة إلا هذا الخط الوحيد الذي بدا أنه ظهر فجأة على وجهها كأنما طعنة مباغتة أصابت نصف وجهها الأيسر، أو صفعة حادة غيرت موضع الفك فتحرك نحو الأنف، أكاد أرى الأصابع مرسومة فوق الخد الأيسر، تشبه أصابع زوجها الدكتور مصطفى، كانت له كف كبيرة ضخمة تشبه قدم الفيل.
وعلى مهل ومن دون أن أوقظها طبعت على خدها قبلة خفيفة كأنما بهذه الملامسة السريعة أمسح نصف قرن من الألم الغائر في اللحم. •••
منذ كتابه عن أبي ذر الغفاري والاشتراكية في الإسلام لم يكتب مصطفى الزهيري إلا مقالات قصيرة تنشرها صحف الحكومة في مصر وصحف حكومية أخرى في عدد من البلاد العربية، تصله المكافآت بالدينار أو بالدولار على شكل شيكات، تكون فوق مكتبه قبل النشر، إلا أن كلمة الاشتراكية سقطت تماما من مقالاته منذ السبعينات، وسقط أبو ذر الغفاري في الثمانينيات، ولم يبق في التسعينيات إلا الإسلام ووجه الله الكريم. أعلن الدكتور مصطفى الزهيري في أحد المقالات أنه رأى الله، ومنذ ذلك المقال ظهرت الزبيبة السوداء فوق جبهته العريضة، والسبحة الصفراء بين أصابعه لها فصوص تلمع في الظلمة، وأصبح أستاذا له لحية طويلة بكرسي في أرضي الحجاز بجوار الحرمين الشريفين، وفي مصر أصبح يملك الخمسة «عين»، وعيونا أخرى تتجاوز أحلام طلبة الطب والكليات الأخرى، ومنها شارع وجامع في مصر الجديدة أصبح يحمل اسم الزهري، ومكتبة كبيرة وقاعة سينما واسعة لعرض الأفلام الدينية في رمضان وموائد الرحمن لليتامى والمساكين.
حين تزوج صفية منذ أربعين عاما على الوفاء والصدق حكى لها عن حبه الأول لابنة العمدة، حين تزوجت ابن خالتها التاجر بالموسكي، صام عن الطعام ثلاثة أيام، في اليوم الرابع قرصه الجوع، كان يوم الجمعة وأمه تخبز أمام الفرن تساعدها واحدة من البنات اليتيمات، تكسب قوت يومها بمساعدة النساء في الخبيز. حملت أمه الخبز الساخن مع الجبن والمخلل وخرجت إلى زوجها في الحقل، كان يوما شتويا باردا، وقبع الدكتور الزهري - وكان عمره عشرين عاما - على ظهر الفرن يلتهم الرغيف والبنت اليتيمة الصغيرة كانت تقاومه بذراعيها وساقيها، تستحلفه بالله والرسول أن يتركها، ولم يتركها وقد تخيلها حبيبته الأولى ابنة العمدة، إلا أنها بلا أم ولا أب، ولن يصيبه أذى إذا انكشف الأمر، وفعلا ظل الأمر طي الكتمان، ولم يعرف شيئا عن البنت منذ حادث الفرن. غادر القرية إلى القاهرة، استأجر غرفة في شارع الملك. كانت له مع البنات والنساء مغامرات، حكى لصفية عنها بزهو كثير، كأن الفساد الأخلاقي هو الرجولة، وسألها عن حياتها السابقة، كانت صفية عذراء لم يمسسها بشر، إلا أن قلبها مليء بالإثم. في المدرسة كانت تعلق في عنقها صورة مرقص، لم تعرف في حياتها إلا هذا الحب العذري، لم يقبلها أحد على شفتيها أو خدها، حرقت الصورة ومعها الذكرى قبل الزواج، وفي ليلة الزفاف أرادت أن تقول الصدق، حكت لزوجها قصة حبها الوحيدة، نسي كل شيء في الكون إلا هذه القصة، وإن شردت عيناها لحظة نحو السماء بعد أربعين عاما يسألها: بتفكري في الدكتور مرقص؟! - كان عنده شك فيك يا صفية رغم السنين دي كلها؟! - أبدا، كان عنده شك في نفسه طول الوقت، رغم جسمه الطويل العريض وغزواته مع البنات والستات كان عنده شك في رجولته، ودايما يبلع فيتامينات ويشتري برطمانات زيت كبد الحوت وملكات النحل، وكل ما يسمع عن أقراص جديدة للتنشيط الجنسي يشتريها، حتى حبوب الفياجرا، لكن المشكلة مش الجنس، المشكلة الشرخ في الشخصية من الطفولة، الفساد اللي ينخر في العضم، أبوه كان كده وجده، ويظهر إن معظم الرجال بالشكل ده إلا القليل جدا، ويمكن كلامك صحيح يا نوال عن النظام الطبقي الأبوي، كنت دايما أعارضك وأقولك طبقي إيه وأبوي إيه، لكن أخيرا فهمت بعد أربعين سنة جواز وكنت مش عارفة حاجة، ومشغولة بالعيال والشغل في المستشفى، وهو كان المدير لا شغل ولا مشغلة، ييجي آخر الليل ويقول كان في اجتماع مع الوزير، وبعد ما انحال على المعاش بقت الحجة السفر في المؤتمرات، والحقيقة إنه كان متجوز واحدة تانية ، وعايش معاها أكثر من عشرين سنة وأنا مش داريانة، ولما عرفت قالي ده حقي حسب القانون والشرع، وإن كان مش عاجبك نعمل طلاق، قلت له نعمل طلاق، راح رافع إيده وضربني، حسيت إن عيني الشمال طارت، ولعن أبويا وأمي وقال: كان لازم أطلقك من أربعين سنة من أيام سي مرقص أفندي بتاعك!
بعد ساعة نهضت صفية وعادت إلى بيتها، لم يطلقها زوجها ولا هي طلبت الطلاق، جاءني صوتها مستسلما عبر أسلاك التليفون: طلاق بعد أربعين سنة يا نوال وأروح فين؟ ... أبويا مات وأمي ماتت والعيال اتجوزوا وما عنديش بيت إلا بيتي، يروح هو مطرح ما يروح وأنا في بيتي لغاية ما أموت، وعندي معاشي ومش عاوزة حاجة من حد، ولكن أي بنت تسألني: «أقول لخطيبي بصدق عن حياتي قبل الخطوبة؟» أقول لها: «تبقي حمارة لو قلتي والدنيا دي ما ينفعش فيها إلا الكذب!»
الشرفة في الدور السادس والعشرين
يوم من أيام يوليو الحارة عام 2000، أجلس في الشرفة المطلة على النيل في الدور السادس والعشرين، منذ عودتي من المنفى وأنا أعيش في هذه الشقة الصغيرة في حي شبرا القديم، أعيش المنفى داخل الوطن كما عشته في الخارج. لم يعد هناك داخل وخارج، أو شرق وغرب، أو شمال وجنوب، أو العالم الإسلامي والعالم المسيحي. نحن نعيش في عالم واحد يحكمه نظام طبقي أبوي منذ نشوء العبودية، تغيرت أشكال العبودية تحت أسماء جديدة؛ منها العولمة وحرية السوق، والخصخصة والخصوصية، يتربع على قمة النظام العالمي الجديد أقل من خمسمائة شخص يملكون أكثر من نصف ثروة العالم، ويعيش مليار ونصف من البشر تحت خط الفقر، أغلبهم نساء وشباب وأطفال، يعيشون داخل هذه البيوت على شكل العشش، أراها من حولي، تمتد من شبرا إلى إمبابة وبولاق وروض الفرج، ومن نزلة السمان عند سفح الأهرامات إلى القلعة والسيدة زينب وسفح المقطم، تتساند البيوت القديمة الآيلة للسقوط إلى جوار المباني الجديدة الفاخرة، يتربع على العرش في بلادنا قلة قليلة تملك الثروة والسلطة والسلاح، والاتصالات بالخارج، من حولها نخبة مثقفة تعيش في كنفها، تحول جرائمها إلى بطولات. تحت اسم الديموقراطية يتم ذبح الديموقراطية، تحت اسم حقوق الإنسان يتم ذبح حقوق الإنسان، تحت اسم حقوق المرأة يتم ذبح حقوق النساء. من يختلف في الرأي عن الفرد الحاكم أو الأفراد الحاكمين يجد نفسه في السجن دون محاكمة، أو محاكمة شكلية تختفي فيها العدالة، يفقد الإنسان سمعته الأدبية أو الوطنية، يتحول من مدافع عن حقوق الفقراء والنساء إلى خائن للوطن، يتم اختزال الوطن إلى أفراد قلائل أو فرد واحد يجلس على العرش، مثل فرعون القديم الحاكم والإله في آن واحد.
حين يبلغ الحزن مداه تعجز العين عن الدمع، تكف الحواس الخمس عن الإحساس، لا يبقى إلا الحاسة السادسة، المجهولة الغائرة في أعماق الجسد والعقل والتاريخ، القادرة وحدها دون الحواس الأخرى على إدراك أن الأرض تدور رغم السكون، أن الزمان يلتحم بالمكان، لا شيء يفصل الروح عن الجسد أو الإله عن الشيطان أو المرأة عن الرجل.
منذ أيام قليلة أصابني غثيان شديد وقيء، رقدت في الفراش لا أستطيع الحركة، تصورت أنها النهاية، طلبت حضور ابنتي وابني لأراهما قبل مغادرة الدنيا، الاثنان الغاليان هما قطعة من جسدي وعقلي، ثالثهما شريف رفيق العمر منذ خمسة وثلاثين عاما، الأسرة الصغيرة الدافئة العواطف، تختلف عن أغلب الأسر الخاضعة لسيطرة رجل واحد، أسرتنا لا يسيطر فيها أحد، لا رجل ولا امرأة ولا ابن ولا ابنة، كلنا سواسية، يدور بيننا الجدل حتى نصل إلى القرار الأصوب.
قالت ابنتي: ماذا أكلت بالأمس يا أمي؟
قلت: لم آكل إلا بطيخا مع جبنة بيضاء قريش.
قال شريف: هناك حالات تسمم بسبب البطيخ أو الخيار أو الخوخ، يرشونها بالمبيدات الحشرية، أو يحقنونها بالهرمونات، يستوردون أغذية من الخارج غير صالحة للبشر، يرسلونها إلى بلادنا الإفريقية بمثل ما يرسلون النفايات النووية لتدفن في صحرائنا الشرقية أو الغربية، أصيب بعض الفلاحين في قرية ميت حلفا بمحافظة القليوبية بإشعاع نووي وماتت أسرة بكاملها، ويعيش سكان القرية تحت رعب الإشعاع، وهناك تكتم شديد على هذه الأخبار الأخيرة، لا نعرف بالضبط ماذا حدث ... لكن بعض الحقائق تتسرب إلى الصحف.
اشتد الغثيان والدوار، قلت لشريف ولابنتي وابني: لا أريد أن أدفن في مقبرة تحت الأرض ليأكل جسدي الدود، أريد أن أتبرع بجسدي إلى مشرحة عادلة، تشرح جسدي وتعرف الأسباب الحقيقة لهذا التسمم الغذائي، وأرجو محاكمة المسئولين الكبار عن مشروعات التنمية والإصلاح الاقتصادي، التي أدت إلى مزيد من الفقر والجهل والمرض.
سمعت صوتي يصرخ وأنا في الفراش، لازم الناس دي تتحاكم محاكمة علنية عشان الناس تعرف. رأيت حولي ثلاثة من الأطباء، شخصوا الحالة تسمما غذائيا، أخذت العلاج ثم تماثلت للشفاء بعد أن فقدت شهيتي لجميع أنواع الفاكهة في مصر.
أجلس في الشرفة العالية، أطل على أسطح البيوت القديمة الآيلة للسقوط، جسمي لا يزال ضعيفا بعد النقاهة من المرض، أشعر بالدوار كلما حركت رأسي، كأنما سأفقد الوعي. فكرة الموت تلوح قريبة مني، أتذكر أمي حين ماتت ويدها في يدي، أكاد أحس يدها تمسك يدي، رغم مرور أكثر من أربعين عاما على موتها، وجه أبي يلوح أمامي كأنما مات بالأمس، كنت في أول الشباب أتفتح كالزهرة المغلقة الأوراق، لا أعرف شيئا عن جرائم الإله المتنكر في زي فرعون، لا أحد يحاسب الإله، يعيش ويموت ملفوفا بالعلم المقدس، ويساق إلى المقصلة كبش فداء من عامة الشعب، يطلقون عليه اسم الشيطان. رجل فقير نطق الحقيقة دون أن يدري، أو فتاة صغيرة غريرة حملت سفاحا ولم تعرف من الذي اغتصبها في ظلمة الليل، ربما هو الإله ذاته المتنكر في ثوب رب العائلة الكبيرة أو الصغيرة، تسقط عنه الجريمة بحكم القوة أو القدسية، تساق الفتاة إلى الموت أو إلى الزواج ممن اغتصبها؛ حماية لشرف العائلة.
تغيرت الأشياء عبر أربعين عاما، تضامنت النساء المقهورات تحت اسم الشرف مع الرجال المقهورين تحت اسم الفقر. بدأ الترابط بين القهر الجنسي والقهر الاقتصادي، أخطر ما يهدد النظام الحاكم هو هذا الترابط، بين الجنس والاقتصاد. منذ نشوء العبودية حتى اليوم، كيف يغتصب الإله الفتاة العذراء في الظلمة وكيف يسرق قوت الفقراء من الشعب، كيف ينجو من العقاب تحت اسم السيادة أو القدسية، ربما يحاكم بعد الموت، ربما ينقلب عليه بعد الموت أحد أعوانه ويكشف جرائمه تحت اسم «عودة الوعي».
قبل أربعين عاما كنت في ربيع الشباب، اليوم أنا في مكان آخر وزمان آخر، أشعر بشيء من الوهن بعد النقاهة من التسمم الغذائي، أشعر بشيء من التفاؤل كلما زاد الترابط بين المقتولين تحت اسم التنمية والإصلاح الاقتصادي. رغم المحاولات لضرب التضامن بين هؤلاء وهؤلاء فإن المقهورات والمقهورين لا يكفون عن التمرد والثورة والاستمرار في الكفاح ضد النظام الحاكم وأعوانهم من النخبة المثقفة.
يحدث هذا في مصر وفي بلاد العالم الأخرى، تتكرر المظاهرات الشعبية في عواصم الغرب والشرق، والشمال والجنوب، ضد الآلهة في واشنطن ولندن وباريس ودمشق والرياض والقاهرة والخرطوم وبغداد وتونس والرباط وموسكو وطوكيو وبكين وغيرها وغيرها، يتجمع الآلهة في اجتماعات القمة هنا وهناك تحت اسم العولمة والديموقراطية وحقوق الإنسان وحقوق النساء، ويتجمع الشياطين المقهورون والمقهورات في مظاهرات في الشوارع تحت اسم العولمة من أسفل، يضربون الآلهة بالحجارة والطوب والزلط، يرد الآلهة بالقنابل النووية والمسيلة للدموع.
قرأنا عن المظاهرات في سياتل في خريف 1999، ومظاهرات أخرى تتكرر، آخرها المظاهرات في جنوب فرنسا في أول يوليو 2000، تجمع الرجال والنساء والشباب والأطفال وضربوا معاقل الآلهة، منهم «ماكدونالد» الإله القوي الذي يلد نفسه في جميع بلاد العالم، و«سينسبري» الإله الجديد المنافس للآلهة القدامى، وفي شارعنا الذي يسمونه شارع معهد ناصر فتح «سينسبري» محلا ضخما، أطلق عليه اسم «سينسبري أغاخان»، ليست منطقة أغاخان الثرية المجاورة لنا، ولكن منطقة حي شبرا القديم الفقير. جاء هذا السوبر ماركت البريطاني الجديد ليضرب محلات البقالة الصغيرة والمنتجات المحلية المصرية، وليملأ شارعنا بالصناديق الفارغة والقمامة والذباب دون أن تحاسبه وزارة البيئة المصرية، رغم أنها تحاسب المحلات المصرية الفقيرة حسابا عسيرا، وقد تأمر بإغلاقها إن لم تتخلص من قمامتها أو ما يسمونها النفايات. حاولنا أنا وشريف مع سكان الحي الفقير أن نعترض على النفايات المتراكمة في شارعنا، التي يلقي بها السوبر ماركت اللامع البلاط «سينسبري» إلى عرض الشارع الذي نعيش فيه، ذهبت محاولاتنا حتى اليوم عرض الرياح، لم يتحرك مسئول واحد في الحكومة المصرية لحماية حي شبرا الفقير من نفايات الإله البريطاني الجديد.
يدور الصراع غير المتكافئ بين الآلهة الكبار القليلين المالكين للإعلام والسلاح والمال، وبين الملايين من الشعوب الفقيرة المعدمة من النساء والرجال، يلعب الإعلام دورا أمضى من السلاح العسكري. بالأمس قرأت في بعض الصحف المصرية تشويها للمظاهرات الشعبية الأخيرة في جنوب فرنسا، كتب أحد رؤساء تحرير صحيفة حكومية يقول في 1 يوليو 2000 التالي: شهدت فرنسا مظاهرات شعبية مؤيدة للشذوذ الجنسي ضمن الهتافات ضد العولمة، تحولت هذه المظاهرات إلى ما يشبه الظاهرة العالمية لتشجيع الشذوذ الجنسي تحت اسم محاربة العولمة والشرعية الدولية، وقد قطع الرجال والنساء في الغرب شوطا كبيرا في قبول الشذوذ الجنسي كأنما هو شيء طبيعي، مع أنه انحراف أخلاقي خطير، وقد شارك في هذه المظاهرات مئات الألوف من الشعب الفرنسي تتقدم صفوفهم الأحزاب السياسية المختلفة ومنظمات حقوق الإنسان ؛ فهل يمكن لنا أن نؤيد مثل هذه المظاهرات المنتشرة في الغرب اليوم؟! نحن بلاد شرقية لنا خصوصية دينية وقيم نابعة من تراثنا وثقافتنا وهويتنا الأصلية، ولا نقبل أن ننساق وراء هذه الإباحية والشذوذ الجنسي الخطير!
هكذا تم الربط بين المظاهرات الشعبية ضد العولمة وضد كافة أشكال القهر الاقتصادية والجنسية إلى مجرد مظاهرات ضد القيم والأخلاق والخصوصية والهوية.
جسدي ينتفض بالغضب وأنا أقرأ الصحف، أكتشف الزيف بحكم خبرتي ومشاركتي في بعض هذه المظاهرات الشعبية العالمية، التي كسرت الحواجز بين الناس، حواجز الدين أو الجنس أو الجنسية أو العرق أو اللون أو المهنة أو غيرها. كنت أجد نفسي بين آلاف البشر بصرف النظر عن اختلافاتنا نهتف معا ضد هؤلاء القلة من الآلهة الذين يتربعون على العروش في جميع البلاد، وأسمع صوت شريف يقول: هذا الغضب يا نوال مضر بصحتك، وأنت لا زلت في دور النقاهة بعد هذا التسمم الغذائي، علينا أن نحافظ على صحتنا. وأقول له: معك حق يا شريف، لكن كيف لا أغضب وأنا أقرأ هذا التزييف اليومي تحت اسم الهوية والخصوصية واحترام الاختلافات الثقافية، يشجعون الخصخصة وضرب الاقتصاد المحلي، وتحت اسم العولمة من أعلى يضربون العولمة من أسفل.
كان معنا تلك الليلة صديق قديم لشريف، اسمه عادل أمين، وهو محام معروف، تولى الدفاع عني حين دخلت السجن عام 1981، جاء في زيارة لنا تلك الليلة يحمل زجاجة نبيذ وكتابا جديدا سجل فيه وقائع محاكمة الشيوعيين عام 1953، ضحك عادل أمين وهو يجلس معنا في الشرفة العالية، يرشف من كأسه على مهل، وقال: لا بد لنا من نبيذ عمر الخيام يا دكتور شريف حتى نتذكر هذه المحاكمات منذ سبعة وأربعين عاما، وفي هذا الجزء من كتابي نقلت أقوالك في التحقيق عام 1953، وأقوال الدكتور إسماعيل صبري عبد الله وغيره من قيادات الشيوعيين، وسوف تكتشف الفرق الكبير بين أقوالك في التحقيق وأقوالهم، وأنت يا شريف إنسان صادق مستعد أن تدفع حياتك لتعبر عن رأيك، وهذا واضح في التحقيق معك، لكن بعض زملائك الشيوعيين لم يكونوا كذلك، لقد دخلوا السياسة لأهداف أخرى مثل الحصول على منصب وزير أو رئيس وزراء أو جوائز الدولة، وأنت لم تحصل على شيء من هذا، لكنك حظيت باحترام الجميع وأنا منهم.
تركت شريف وعادل أمين يتبادلان الذكريات عن التحقيقات، أخذت الكتاب إلى غرفتي لأقرأ ماذا قال شريف حتاتة في ذلك التحقيق عام 1953، ذلك العام كنت طالبة بكلية الطب، أعاني ما يعانيه أحمد حلمي والفدائيون الذين شاركوا في حرب القنال عام 1951، أصبحوا كبش الفداء بين صفقة الحكومة المصرية والاحتلال البريطاني، مات بعضهم على أرض المعركة، مات بعضهم في المنفى في الخارج أو في الداخل، من عاش منهم أصابه المرض النفسي أو الإدمان من أجل النسيان، حتى اليوم لم يؤرخ أحد لهذه الفترة من حياة مصر، سقطت أسماء هؤلاء الفدائيين الشهداء في العدم.
تحت اللمبة الكهربية في غرفتي فتحت كتاب عادل أمين وقرأت أقوال شريف حتاتة في التحقيق:
ذكر شريف أنه قبض عليه في 3 نوفمبر 1953 الساعة الرابعة صباحا، وأودع السجن الحربي، وتم التحقيق معه يوم 5 نوفمبر 1953، وقيل له إنه مقبوض عليه بأمر من مجلس قيادة الثورة، وعومل بطريقة غريبة، السجن الانفرادي المطلق لمدة أربعة شهور محروما من كل شيء، صحف أو كتب أو الاتصال بعائلته أو بمحام، وضرب عدة مرات ضربا مبرحا، وكبل بالحديد الخلفي والحديد في الأرجل، وهدده ضابط المخابرات أحمد محمود بالشنق، وبالاعتداء الجنسي، والانتقام من أفراد عائلته إن لم يدل بالأقوال التي يريدها، كما هدده عدة مرات بالاعتداء عليه وشنقه داخل زنزانته. لم يصدر أمر من النيابة العامة بحبس شريف حتاتة إلا في 15 مارس 1954، ونقل إلى سجن مصر بأمر حبس عسكري، مطلوبا تقديمه لمحكمة الثورة وإعدامه مع بعض زملائه، لولا أن هذه المؤامرة أحبطت. كان التحقيق يجري في ظل الأحكام العرفية. وقال شريف في التحقيق: إن الشعب المصري يريد الكفاح المسلح في القنال لطرد الاحتلال، وإن النيابة مشتركة في الجريمة ضده، وإنه يحتج على هذا الإرهاب. وأضاف أن التعذيب أدى إلى إصابة زميله كمال عبد الحليم باختلال في قواه العقلية ، وعولج بالصدمات الكهربية في المستشفى العسكري، ومرض الآخرون بحالات عصبية وجسمية يحملونها معهم بقية العمر.
وتم مع شريف حتاتة ضبط مطبوعات كالآتي: ست نسخ من نشرة صوت الفلاحين، ست عشرة صفحة مكتوبة بالآلة الكاتبة ومطبوعة بالرونيو في شكل كتيب صغير، الصفحة الأولى منها عبارة مأثورة عن فردريك إنجلز تقول: «بغير نظرية ثورية لا يمكن أن توجد حركة ثورية»، وفي الختام عبارة تقول: «رجال الحكم في مصر يتعاونون مع الاستعمار لا يستطيعون مواجهة الشعب إلا بالدبابات والمشانق ومحاكم الثورة»، ثم هذه العبارة الأخيرة: «تسقط جمهورية الدكتاتورية العسكرية وتحيا الجمهورية الشعبية الديموقراطية.» وقد حكم على شريف حتاتة بعشرة أعوام سجن مع الأشغال الشاقة، أداها بالكامل داخل سجون مصر، لم يطلق سراحه إلا عام 1963، وظل تحت المراقبة عدة سنين بعد ذلك، حتى غادر مصر عام 1973، ثم عاد إلى الوطن عام 1980.
وفي عام 1981 دخلت أنا السجن وبقي شريف خارجه، وعشنا المطاردة عدة سنوات حتى 1988، حين دخل اسمي قائمة الموت. وفي عام 1991 وجهت إلينا الحكومة ضربة كبيرة بسبب وقوفنا ضد حرب الخليج. وفي عام 1992 كان لا بد من السفر خارج الوطن حماية لأرواحنا، ثم عدنا إلى الوطن بعد ستة أعوام في المنفى، وها نحن نعيش المنفى داخل الوطن، في تلك الشقة الصغيرة، تكاد تشبه العلبة من الأسمنت المعلقة بين السماء والأرض في الدور السادس والعشرين في حي شبرا القديم، لولا هذه الشرفة العالية المطلة على النيل والفضاء الواسع، لولا انهماكنا في الكتابة الإبداعية، ولولا زيارات الأصدقاء القدامى والصديقات الجديدات من الشابات والشباب ... ربما أصابنا الاختناق أو الموت بالذبحة الصدرية أو التسمم الغذائي.
في هذه الشرفة نجلس في الليل، شبورة سوداء ترقد تحتها مدينة القاهرة، المآذن وقباب الكنائس تغرق في الخضم الأسود على حد سواء، أصوات صاخبة ترتفع من خلال مكبرات الصوت، تراتيل دينية بصوت ذكوري خشن، وتراتيل غنائية بأصوات المطربات وراقصات يطرقعن بالصاجات، رائحة الهامبرجر الأمريكي تتصاعد من قمامة سينسبري البريطاني فوق الشاشة، وفي الإذاعات تتكرر الصورة الواحدة والصوت الواحد للحاكم الإله، من حوله رجال ونساء البلاط.
قلبي ينوء بالحزن على هذا الوطن، ستون مليونا من البشر يعيش نصفهم تحت خط الفقر، أغلبهم نساء معذبات داخل البيوت، يعانين إلى جانب الفقر الاغتصاب الجنسي داخل الزواج أو خارجه، يقهرهن رجال العائلة بمثل ما يقهرهن رجال الدولة.
منذ ولدت في بداية الثلاثينيات وأنا غاضبة ثائرة ضد هذا الظلم منذ الطفولة أحلم بعالم آخر، أبحث عن شيء لا أعرف ماذا أسميه، تعجز اللغة الطبقية الأبوية عن التعبير عنه، ليس هو الحب الذي يتغنى به هذا العالم المزدوج الوجه، وليس هو الإله الذي يعبده الرجال ويضعهم في درجة أعلى من النساء.
شيء أبحث عنه لا أجده في هذا الكون، قد يجذبني البريق في عيني الإنسان أو الإنسانية، أنتبه كالعشب الحساس العاري، أبحث تحت البريق عن الشيء العميق، أنخدع وأخدع نفسي المرة وراء المرة، ثم أفيق بعد عام أو عامين أو عشرين عاما، أكتشف جزءا من الحقيقة التي تتخفى مثل جبل الثلج، يتراكم الحزن في قلبي العام وراء العام، لا شيء إلا الحزن حين أواجه الحقيقة في هذا العالم.
مفتوحة العينين أحملق في وجه الموت، أحملق في وجه الزيف، في وجه فرعون الإله حاكم البلاد، أثبت عيني وهو جالس فوق المنصة العالية، أشير إليه بإصبعي وأقول له: أنت أول من يحاسب عن الظلم والفساد والفقر في هذا البلد وليس نائبك أو مندوبك؛ لأنك الوحيد الذي تقبض في يدك على السلطة المطلقة، ومن يملك السلطة هو المسئول.
لكنهم يفصلون بين السلطة والمسئولية، كلما ازدادت السلطة اكتسب الحاكم حصانة أكبر، مثل الإله يصبح مسئولا عن الخير فقط، أما الشر فهناك كبش الفداء أو الضحية، يسمونه الشيطان أو حواء الآثمة، أي النساء الفقيرات المغتصبات جسديا واقتصاديا تحت سطوة القيم الطبقية الأبوية.
في المرآة أرى سحابة الحزن تكاد تخفي البريق القديم في عيني، أجلس في الشرفة العالية أطل على المدينة، القاهرة لأهلها المقهورة بحكامها، أقاوم الحزن بالكتابة، أحب ملمس القلم بين أصابعي، الأوراق متراكمة فوق مكتبي بخط يدي، تطل من داخل الغلاف البرتقالي مكتوب عليه: أوراقي حياتي، الجزء الثالث. مفكرتي الصغيرة غلافها أزرق تشبه الكشكول في طفولتي عام 1942، مكتوب عليها 2000. ثمانية وأربعون عاما مضت منذ بدأت أكتب في مفكرتي السرية، لم يعد عندي أسرار، كتبتها كلها ونشرتها على الناس، تحولت من ذكريات مكبوتة تبعث على الخزي والعار إلى قيمة علمية وأدبية يدرسها الطلاب والطالبات في جامعات العالم، ما عدا الجامعة المصرية.
هناك مثل شائع يقول: «لا كرامة لنبي وسط أهله.» أحيانا أدرك أن الحظ يحالفني؛ لأنني أعيش ولم يغتلني أحد بعد، أفرد ذراعي عن آخرهما وآخذ شهيقا عميقا، أشعر بحرية الخروج من دائرة المألوف، أتذكر أبي منذ اثنين وأربعين عاما حين ترك الحكومة المصرية، فرد ذراعيه عن آخرهما وقال: أخيرا تحررت بعد ثلاثة وثلاثين عاما عشتها رهين المحبسين، الوظيفة الحكومية وسرير الزوجية!
ضحك شريف وقال: أبي أيضا مثل أبيك تحرر من الحكومة بعد الإحالة إلى المعاش. لكنه تحرر من سرير الزوجية قبل ذلك يا شريف كان أبي مخلصا لأمي، لم يكن يفصل بين الإخلاص للزوجة والإخلاص للوطن. قال شريف: أنت مثالية يا نوال، كل شيء نسبي في الحياة، لا يوجد إخلاص مائة في المائة. قلت: كم تستخدم نظرية النسبية يا شريف لتبرير كثير من الموبقات في العالم! ضحك شريف وقال: وكم من موبقات أكثر تحدث تحت اسم المثالية والمطلق.
يدور الحوار بيني وبين شريف ونحن جالسان في الشرفة، ستة وثلاثون عاما منذ تزوجنا ونحن في حوار دائم، نطل من الشرفة العالية على القاهرة من أهرامات الجيزة إلى جبل المقطم والقلعة، مساحات من الأسمنت بلا شجرة خضراء أو حديقة للأطفال، قطعوا الأشجار وزحفت الجدران على الزرع، جدران سوداء بلا نوافذ، أو نوافذ كالشقوق داخل الشقق، كالعلب المستوردة، يحفظون فيها الفاصوليا وحبوب الصويا، داخل كل علبة تكدست الأجسام، الجد والجدة والأب والأم والأولاد والبنات والأحفاد والحفيدات، والأعمام والأخوال والخالات والعمات وأولادهم وبناتهم، يرقد اللحم إلى جوار اللحم في غرفة واحدة، يدس الواحد منهم إصبعه في عين الآخر دون أن يراه، يدخل قضيب أحدهم في ثقب مظلم داخل الجدار أو داخل اللحم، لا يعرف في الظلمة الجدار من الجسد. لا شيء يتحرك في النوم إلا الأشباح وأرواح الجان، ورد ذكرهم في كتاب الله، كلهم يؤمنون بالكتاب وبالأرواح الخفية، ينامون دون أن يتكلم أحد في النوم، في النهار يسيرون بعيون نصف مغمضة، لا أحد ينطق بشيء مما يدور في عقله، إنهم يعيشون تحت حكم قانون الطوارئ يشبه قانون الأحكام العرفية، إن نطق أحدهم بما يدور في رأسه أخذوه إلى السجن دون تحقيق. بالأمس وافق مجلس الشعب على مد العمل بقانون الطوارئ ثلاثة أعوام أخرى حتى عام 2003، وبعدها لا أحد يعرف الغيب إلا الله والسيد الرئيس.
بالأمس اعترض مجلس الشعب على حق المرأة في السفر دون إذن زوجها، قلت لابنتي: أنت أكثر حرية من أمك لأنك غير متزوجة. قالت ابنتي: ولماذا تزوجت يا أمي؟ قلت: لم يكن ممكنا أن أنجب أطفالا منذ أربعين عاما دون زواج، أنا لا أومن بورق الزواج أو شهادة الطب أو الأدب أو شهادة الميلاد أو الوفاة ، لكني تزوجت بعقد مكتوب ليكتسب أطفالي الشرعية، لكن اليوم لم يعد عقد الزواج الرسمي صالحا، لم تعد النساء خاضعات مكسورات، أغلب الشابات المثقفات يرفضن الزواج الرسمي، بدأت أنواع أخرى من الزواج غير الرسمي تنتشر مثل الزواج العرفي وزواج المسيار، وزواج الدم، وكلها تتحدى الزواج الرسمي المختوم بالنسر.
في هذه الشرفة في الدور السادس والعشرين يدور الحوار بين أجيال مختلفة من الشباب والشابات، من عمر ابنتي، وعمر ابني، أرمقهم بإعجاب ... عيونهم لم تعد منكسرة، رءوسهم لم تعد مطرقة إلى الأرض، عيونهم لم تعد نصف مغمضة، يتحاورون ويعبرون عما يدور في عقولهم دون خوف.
وقال شريف: سيكون المستقبل أفضل من الحاضر يا نوال! قلت: لكننا لن نكون هنا يا شريف. قال: لا يهم أن نكون هنا بأجسامنا لكن أفكارنا ستكون موجودة في الكتب.
وأسأل بدهشة: أيكون الورق أطول عمرا من البشر؟! ألهذا لجأ الآلهة أيضا إلى الكتب من أجل البقاء؟!
من مفكرتي السرية عام 1947
اليوم 9 يوليو 2000، تجمع في بيتي أعداد من الشابات والشباب، أسسوا جمعية جديدة باسم النهضة الفكرية للمرأة المصرية. بدأت معاكسات وزارة الشئون الاجتماعية، رفضت تسجيل الجمعية في مارس الماضي، لكن العضوات والأعضاء أصروا على مواصلة العمل، أنظر إلى وجوههم، أتذكر نفسي منذ أربعين عاما، حين كنت في مثل هذا العمر، ربيع الشباب، يعود إلي حماسي كما كنت في العشرين أو الثلاثين، ابنتي منى وابني عاطف جزء من هذه النهضة الفكرية والفنية الجديدة، هذه الوجوه تشبه ابنتي وابني، كأنما ولدتهم جميعا في مكان وزمان لا أدري عنه شيئا.
لا شيء يعيد إلي التفاؤل والأمل مثل العمل الجماعي، هذه الوجوه الشابة المليئة بالتفاؤل والأمل، عيونهم يكسوها البريق، يبتسمون ويضحكون، يتحركون في بيتي كأنما بيتهم، يدخلون إلى المطبخ، يصنعون الشاي، يقطعون فطيرة الذرة، ثم تتولى واحدة منهم إدارة الاجتماع، شابة في الخامسة والعشرين اسمها ابتسام، تكتب الأدب والشعر، تخرج إلى المظاهرات ضد الفساد في الدولة والعائلة، خاضت تجربة الزواج والأمومة، خرجت من التجربة برواية جديدة طويلة وطفلة عمرها ثلاثة أعوام، تحملها معها في كل مكان، تدربها منذ الطفولة على رؤية العالم، والتحدي، تعيش وحدها مع طفلتها، تنفق عليها من راتبها الشهري، تشتغل في إحدى الصحف الجديدة، تحصل على ما يكفيها ويكفي طفلتها ... قالت ابتسام في الاجتماع: أنا امرأة سعيدة أستمتع بالحياة دون حاجة إلى رجل. قال أحد الشباب: ليس كل الرجال متخلفين. ضحك الجميع، وقال شاب: أغلبهم متخلفون، لا بد من الاعتراف أن قلة نادرة من الشباب تخلصوا من عقدة الذكورة. وقالت إحدى الشابات: لا بد من الاعتراف أن قلة نادرة من الشابات تخلصن من عقدة الأنوثة.
يدور الحوار بينهم وهم جالسون في صالة بيتي، أستمع إليهم، ربما هم هؤلاء القلة النادرة، وإلا فلماذا جاءوا إلي أنا بالذات؟! وقالت ابتسام: قرأت كتبك يا دكتورة نوال وتغيرت حياتي كلها، استطعت أن أحول كل تجربة مؤلمة مررت بها إلى عمل إبداعي. هذه الكلمات ترن في أذني كالموسيقى، كالماء يروي الزهرة، كالهواء النقي يدخل صدري، يطرد الغبار والحزن واليأس، أتلفت حولي وأرى الفقر يشتد، الجهل يشتد، المرض يشتد، الثالوث المزمن القديم منذ عهود الملكية والإقطاع: «الفقر، الجهل، المرض»، هذا الثالوث يتجسد أمامي أينما ذهبت، كأنما لم يتحرك الزمن منذ كنت طفلة في السابعة من العمر.
لكن هذه الوجوه الشابة تعيد إلي التفاؤل والأمل، تقول ابتسام: لسنا قلة نادرة يا دكتورة نوال، نحن أغلبية هذا الشعب، الأغلبية الصامتة التي لم يكن لها صوت، أصبح لنا صوت، ربما ضعيف في مجموعة صغيرة لكن صوتنا سوف يكبر ويكبر. تطلق ضحكة مرحة يشاركها الجميع الضحك، أضحك معهم، أسمع صوت ضحكتي بأذني، أستعيد طفولتي وشبابي، يتسرب الألم من جسدي والحزن، أنهض بحركة خفيفة كأنما في العشرين من العمر، كأنما تلاشت أربعون سنة من عمري، أيكون الزمن هو الوهم؟! أتكون الشيخوخة هي المرض المؤقت لا يشفيه إلا الأمل؟!
همست لشريف في الليل، سأعيش حتى القرن الثاني والعشرين، ضحك شريف وقال: بالأمس قلت يا نوال إنك ستموتين غدا. نعم يا شريف، كان ذلك بالأمس، لكن اليوم أنا شابة من جديد، ما رأيك في كأس من النبيذ وقليل من الفول السوداني، وكثير من الحب؟! يضحك شريف، الساعة الآن الثالثة صباحا يا نوال. إيه يعني يا شريف؟! وليه تبص في الساعة؟! تعود شريف أن ينام والساعة حول معصمه، وخاتم الزواج حول إصبعه، أي خاتم، ولا أعترف بأي خاتم.
يقول شريف عنها: «الفوضى الضرورية لأي نظام»، نحن في حاجة إلى شيء من الفوضى لندرك النظام، شريف كان يدرس معي في جامعة ديوك المادة الجديدة التي أطلقنا عليها اسم «التمرد والإبداع». حين التقيت بشريف لأول مرة منذ ستة وثلاثين عاما قلت له: أنت يا شريف متمرد ومبدع، في أعماقك حنين للفوضى رغم مظهرك الخارجي المنظم جدا.
أصبحت نظرية الفوضى في علم الكون الجديد جزءا لا ينفصل عن النظام، وفي علم الفلسفة الجديد أصبح الشيطان جزءا من الإله، تلاشت الثنائيات الباطلة الموروثة منذ نشوء العبودية؛ ومنها ثنائية الذكر والأنثى والحاكم والمحكوم؛ ألهذا السبب لا أعترف بأي حكومة في العالم؟! تشترك الحكومات جميعا في بعض الصفات الأساسية، على رأسها القهر والتضليل، ما إن ترن كلمة «حكومة» في أذني حتى تتكور يدي في قبضة قوية، كأنما سأضرب رأس ثعبان.
وأندهش حين يفخر أحد بمنصبه العالي في الحكومة، أو حين ينال جائزة حكومية تحمل اسم جائزة الدولة. - ما الفرق بين الحكومة والدولة؟ - في الأنظمة الدكتاتورية لا يوجد فرق؛ لأن الشعب لا يشارك في الحكم. - وهل يشارك الشعب في أي حكم في العالم؟ - في عالمنا الطبقي الأبوي هذا؟ - نعم. - لا توجد ديموقراطية حقيقية في أي بلد، العالم تحكمه القوة والأموال وليس العدل أو الحرية.
يدور الحوار في بيتنا عام 2000 كما كان يدور منذ نصف قرن في بيت أبي، سقط النظام الملكي وبدأ النظام الجمهوري وظلت الحكومات كما هي، لا يمكن لحكومة أن تبقى مستقرة فوق عرشها دون قهر الشعب وتضليله، كان أبي يقول: لا شيء يضلل الشعب مثل نظام التعليم.
كنت في الثامنة والعشرين من عمري حين مات أبي، كلماته محفورة في ذاكرتي، وزارة التعليم تلعب دورا في تجهيل الناس بالحقيقة ، المعرفة إثم حتى اليوم، أصبحت عمليات التجهيل أكثر إتقانا مع تطور تكنولوجيا التعليم والإعلام الحديث وما بعد الحديث.
في أعماقي حنين منذ الطفولة للمعرفة، شهوة المعرفة أكبر عندي من الشهوة الجنسية، لا يجذبني الرجال ذوو الفحولة الذكورية، لقد مر بحياتي رجال كثيرون، انجذبوا إلى أنوثتي الخادعة، إلى البريق المطل من العينين، تصوروا أنني أبادلهم الحب، لكن سرعان ما تحدث المأساة، تصطدم الذكورة التقليدية بأنوثة مختلفة غير قابلة للاختراق.
بعد موت أبي وأمي تصورت أنني تحررت، في طفولتي كنت أحلم أنهما ماتا لأخرج من البيت بدون إذن، أصحو من النوم مبللة بالدموع، أبكي على موتهما بمثل ما أبكي على عدم موتهما.
بعد موت أبي جاءت صديقتي بطة لتعزيني، مرت علي بعيادتي في ميدان الجيزة، كانت الساعة السابعة أول الليل، العيادة خالية من المرضى والتمورجي في إجازة، انتهزت فرصة موت أبي لأغلق عيادتي شهرا كاملا، علقت ورقة على الباب تقول: «العيادة مغلقة حتى يوم 21 مارس»، كنت أريد أن أكتب «العيادة مغلقة إلى الأبد»، لقد فتحت هذه العيادة من أجل أبي، دخلت كلية الطب من أجل أبي، وقد مات أبي وانتهت علاقتي بمهنة الطب، أما العيادة فقد أصبحت مقرا لندوات الأدب، حيث ألتقي الأصدقاء والصديقات.
دخلت بطة كعادتها مثل ريح تدفع الباب، تدق الأرض بكعب حذائها العالي المدبب، جسمها السمين القصير مدكوك داخل ثوب حريري أسود، علامة الحداد على موت أبي، فتحة الصدر واسعة تكشف عن عنق سمين ناعم حتى الشق العميق بين النهدين المضغوطين بالمشد، رأت وجهي الشاحب الحزين فجلست مطرقة إلى الأرض ترسم على وجهها علامات الحزن، عيناها السوداوان الواسعتان مرسومتان بالكحل، تملأهما ضحكة مرحة مكتومة الصوت. - تشربي إيه يا بطة؟ - قهوة سادة سوداء يا نوال، مش كده ولا إيه؟
أفلتت من شفتيها الممتلئتين تنهيدة قصيرة، لعقت بطرف لسانها شفتها السفلى السمينة وقالت: عندك حاجة تانية؟ قلت: عندي ينسون يا بطة. هنا أطلقت ضحكتها المرحة وقالت: مش تبطلي طفولة بقة إنت كبرتي يا نوال، عندك جين تونيك؟
كانت أول مرة في حياتي أسمع كلمة «جين تونيك»، قالت بطة: إنه الشيء الوحيد الذي تشربه حين تكون حزينة، المشروب الوحيد الذي يبدد الكآبة وتبدو الحياة تحت أضواء جديدة، في أعماقي حنين لأذوق كل ما تشتهي الأنفس، وكان وجود أبي في حياتي كاللوح الزجاجي السميك الشفاف، أرى من خلاله الحياة وإن مددت يدي نحوها يعترضني حاجز لا أراه.
دق جرس التليفون فوق مكتبي، جاءني الصوت يقول: البقية في حياتك يا نوال، سأمر عليك بعد ساعة. لمعت عينا بطة وتساءلت: مين هو؟ قلت لها: رجاء الشاعر. مطت بوزها وقالت: يعني! وهي كلمة شاعت في ألسن الناس في مصر منذ الوحدة مع سوريا، وهي تعني الموافقة وعدم الموافقة في وقت واحد، بعد فشل الوحدة وانفصال سوريا عن مصر بقيت الكلمة تتردد على الألسن، وتعني اللامبالاة أو عدم الاهتمام، يهز الواحد منهم كتفه ويقول «يعني»، أو تمط الواحدة منهن شفتيها وتقول «يعني»، فندرك ماذا تعني. بدأت الكلمة أول ما بدأت على لسان جمال عبد الناصر في الأيام الأولى للوحدة مع سوريا، دخلت الكلمة القاموس المصري بقرار شفهي شبه جمهوري، تشبها بالسوريين، ثم انتقلت إلى المصريين تشبها بالرئيس عبد الناصر، وأعقب ذلك الإمساك بالسبحة بين الأصابع. ودخلت كلمة أخرى إلى القاموس المصري مع تحريك حبات السبحة، وهي كلمة «واللا»، تضحك بطة وهي تردد كلمة «واللا» بصوت عبد الناصر، تعقبها بكلمة «يعني»، ثم تطرقع أصابعها القصيرة البضة وتمط شفتيها وتقول: عارفة يا نوال أنا باعرف بتوع الاتحاد الاشتراكي من طريقة كلامهم. وكان الاتحاد الاشتراكي قد تكون بعد صدور القرارات الاشتراكية عام 1961، وعقد المؤتمر الوطني للقوى الشعبية عام 1962، وخرج الميثاق إلى الوجود وصديقتي بطة تسخر من كل ذلك، تمط بوزها وتقول: يعني!
لم يكن صديقي رجاء الشاعر يعجب صديقتي بطة، تقول عنه «اشتراكي غارق لأذنيه في عشق البرجوازية»، وهو نحيف الجسم قصير القامة، قدماه صغيرتان، وهي لا تطيق القدم الصغيرة في الرجال، كما لا تطيق القدم الكبيرة في المرأة، ترمق بإعجاب قدمها الصغيرة البضة المقوسة داخل الحذاء ذي الكعب العالي ، تقارنها بقدمي الكبيرة داخل حذائي بدون كعب، وتمط شفتيها: مش عارفة يا نوال إيه اللي عاجبك في جزم الرجالة دي اللي بتلبسيها! كانت بطة تتولى مهمة تحويلي إلى أنثى مثلها، ترمق بشرتي السمراء بشيء من الامتعاض، وتقول: عارفة إيه اللي ناقصك يا نوال عشان تبقي ملكة جمال، شوية بودرة وروج وتصبغي شعرك الأبيض ده!
كأنما كانت النقيضة لي، رغم اختلافي معها في كل شيء، كان هناك شيء غامض يجمعنا، تلازمني في كل مكان أذهب إليه كظلي، تطلبني كل يوم في التليفون وتأتي لزيارتي في البيت أو العيادة، أصمم في كل مرة ألا أرد عليها، لكن ما إن يرن الجرس وأعرف صوتها حتى أقول أهلا بطة. كانت تملأ حياتي الحزينة بشيء من المرح، تملأ حياتي الجادة بشيء من الاستهتار، إلى جوارها أحس بالنقاء، كأنما يحتاج النقاء دائما إلى شيء من الفساد ليرى نفسه، كالضوء لا نراه إلا في الظلمة.
حين قالت بطة «يعني» ومطت بوزها، قلت لصديقي رجاء الشاعر : إنني متعبة وحزينة لموت أبي ولا أقابل أحدا من الناس. أحسست في صوته خيبة الأمل، كان يريد أن يراني في تلك الليلة، وكانت معي صديقتي بطة، وهي قادرة على تسليتي أكثر منه، تجعلني أضحك من أعماق قلبي، لا تحدثني عن سوريا أو العراق أو مصر أو الإيمان بالله أو الوطن، تخرج من حقيبتها زجاجة الجين، وتسألني: عندك ثلج يا نوال؟ لا تنتظر مني الإجابة، تنهض وتفتح الثلاجة في البيت أو العيادة، تضع قطع الثلج في صحن صغير، تفتح زجاجة ماء التونك، تخلط الجين بالتونيك مع الثلج وقطعة من الليمون على شكل الدائرة، تغمسها في الكأس بطرف إصبعها ثم تمصه وتقول: يا ترى مين العبقري ده اللي اكتشف الجين تونيك؟ تعرفي أنا باحسدك ليه يا نوال؟ لأنك قدرتي تطلقي جوزك؛ ولأن أمك وأبوكي ماتوا وبقيتي إنسانة حرة!
تطلق بطة ضحكتها المرحة المعدية مثل المرض؛ فأضحك مثلها بقوة لا إرادية، أود أن أشعر أنني إنسانة حرة، لكن القيود تلفني كخيوط من الحرير، ذراعاي مشبوكتان حول صدري، لا أستطيع أن أطلق هذه الضحكة العالية المرحة التي تطلقها وتكاد تخرق الحوائط الأربعة. - يا بختك يا بطة بتقدري تضحكي من كل قلبك.
تتوقف بطة عن الضحك فجأة، يسقط وجهها كأنما في قاع مجهول، تكسو عينيها سحابة حزن كثيفة، ترشف الجين تونيك في صمت، تمصمص شفتيها وتقول: أنا باضحك معاكي بس يا نوال، باحاول أفضفض عن نفسي ... وسرعان ما تنقشع السحابة، تلمع عيناها من جديد، يطل منهما بريق مشع متأجج بالرغبة المكبوتة، يشتغل رأسها بالخيال الجامح، تبدأ في الاعتراف بشيء لا تنطق به وهي في كامل الوعي، تعرفي يا نوال أنا نفسي في إيه دلوقتي؟ تصمت لحظة مترددة ثم تهمس: نفسي أخرج وأمشي في الشارع وأصطاد أي راجل يقابلني، راجل لا يعرفني ولا أعرفه، متهيأ لي يا نوال إن هو ده الراجل اللي ممكن يقدر يحقق المعجزة، ممكن يحقق المستحيل، اللذة المستحيلة يا نوال!
كانت بطة تؤمن أن هناك تناقضا بين الحب والجنس، لا يمكن أن تتحقق اللذة الجنسية إلا مع رجل فاسد لا يؤمن بالثالوث المقدس: «الله، الوطن، الحب». وكانت تقول إنها حين تحب الرجل لا تمارس معه الجنس حتى يحتفظ بصورتها الملائكية حتى الموت، ثم تطلق ضحكتها وأنطلق أضحك كأنما بالعدوى. •••
كنت وحدي بالبيت، مات أبي ليلة الخميس 19 فبراير 1959، مضت سنة كاملة على موته وخمسون يوما. الليلة هي أول إبريل عام 1960، لم يكن بيتنا يخلوا إلا نادرا، تلك اللحظات يتسع الأفق فجأة، وأكاد أرى الإله «رع» وراء السحابة البعيدة. يصمت الكون وأكاد أسمع دبة النملة، وحفيف أوراق الأشجار البعيدة، نسمة الليل تصيح رقيقة ناعمة كحرارة الجسم، أستشعر اللذة حين أفرد جسمي حتى النهاية، أمد عنقي حتى النهاية، يصبح رأسي عاليا قريبا من رأس الإله «رع» في السماء، لم تكن هذه الحركة مباحة للنساء، والمفروض ألا يعلو رأس المرأة عن رأس أبيها أو زوجها، فما بال من هو أعلى منهما في الكون، كانت قامتي شامخة وعنقي طويلا، وكان لا بد من علاج هذا العيب.
أصبحت أمشي بقامة منحنية قليلا، لا أستطيع أن أفراد جسدي حتى نهايته في اليقظة أو في النوم، الانحناءة تنمو كالصنم فوق ظهري دون أن أدري، كالعضو الغريب ينمو خلسة ويصبح جزءا من الجسم، كالخوف من عقاب الله يتسلل إلى العقل ويكمن فيه، كالمرض المزمن. كانت أسرتنا كبيرة العدد، يسميها أبي «الفاميليا» ينطق الكلمة بسخرية، ينفث الهواء مع الياء الأخيرة، والألف المدودة يمدها مع زفير طويل، مملوء بالضجر والزهو الخفي، يشير إلينا بإصبعه الطويل ونحن متراصون حول المائدة: «الفاميليا الكريمة تسعة من العيال وأمهم.»
عرفت منذ الطفولة أن الفاميليا هي أسرة أبي فقط، أمي مثلنا نحن الأطفال واحدة من العيال، كلمة العيال ترن في أذني مهينة تنم عن الاحتقار، العيال هم من يعيشون عالة على غيرهم.
لم تكن أمي تواظب على الصلاة أو تلاوة القرآن، يسألها أبي كل يوم: ليه يا زينب مش بتصلي؟ تضحك أمي ضحكتها المرحة الساخرة وتقول: أنت بتصلي بالنيابة عني يا سيد. يندهش أبي ويقول: بالنيابة عنك إزاي يا زينب؟ تواصل أمي السخرية: إنت بتنوب عني في كل حاجة حسب القانون والشرع، يبقى لازم تنوب عني في الصلاة كمان، ولا إيه؟!
في طفولتي لم أفهم كلام أمي، أدركت بالفطرة أنها لا تؤمن بالله، تزمجر أحيانا بغضب مكتوم وتخاطب السماء قائلة: يعني كل حاجة من حق الرجال دنيا وآخرة واحنا مافيش حاجة؟! تتراجع بعد لحظة وتهمس: أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.
بعد موت أبي أدركت أن الفاميليا ماتت، ألم يكن عمودها وعميدها؟! ألا يسقط البناء بسقوط العمود؟! الفرح الخفي يهزني وأنا أرى البناء يسقط، يبدو لي منذ الطفولة واهيا، مصنوعا من الوهم، أو مجرد الاسم، كانت أمي تضحك حين يشير أبي إلينا نحن التسعة ويقول بزهو: أولادي!
تضحك أمي وتسأله: من قال إنهم أولادك؟! يضحك أبي مدركا الفكاهة، ثم سرعان ما ينتابه سعال جاف ويصمت فجأة كأنما يسقط في بئر عميقة بغير قاع.
كان أبي يؤمن بالحياة الأخرى بعد الموت، يحكي لنا كيف يعاقب الله المذنبين، كيف تلقى أجسادهم في النار لتحترق، نختفي نحن الأطفال تحت السرير من شدة الخوف، تقول أختي الصغرى: إن الميت لا يمكن أن يحس شيئا. كان الموت في نظرنا نحن الأطفال هو الموت، هو نهاية الألم ونهاية الإحساس، لم نصدق في طفولتنا ما يقوله الكبار، كانت أختي الصغرى تشاركني اللعب تحت السرير، وتقول لي: إن الأطفال يعرفون ما لا يعرفه الكبار. وأسألها: ليه؟ تقول: لأن الكبار عقلهم صغير. وننفجر بالضحك المكتوم حتى لا يسمعنا أبي أو أمي الجالسان في الصالة.
كان البيت خاليا تلك الليلة، دادة أم إبراهيم أخذت ابنتي الطفلة وأخواتي الأربع الصغيرات في رحلة إلى القرية، ربما كانت إجازة شم النسيم أو عيد الربيع، أو الاحتفال بعيد العمال أو أحد المشاريع الاشتراكية الجديدة، أصبحت أم إبراهيم تتغنى بالاشتراكية مثل وزير الصحة. بعد موت أمي أصبحت هي بديل الأم، تطبخ وتغسل الصحون وتدعك المرحاض. بعد موت أبي أصبحت أنا بديل الأب، أتولى الإنفاق على الفاميليا الكبيرة، ورثتها عنه ضمن أشياء أخرى منها أثاث البيت واسمه الكريم ودينه الحنيف، ونصف فدان من الأرض الزراعية في كفر طحلة، استولى عليها الحاج محمد ابن عمه.
أول كل شهر أناول أم إبراهيم مرتبها مثل الموظفين في الدولة، أوراق البنكنوت تمسكها في يدها لحظة قبل أن تدسها في جيبها، عيناها يكسوهما البريق القديم، كشعاع من الضوء ينفذ من قاع عظام الرأس، ترتعش أطراف أصابعها قليلا كأنما تجري وهي واقفة، ثم تطلق ضحكتها المرحة وتقول: «أصل الفلوس يا ضكطورة راكبها عفريت اللهم احفظنا يا رب من شرهم!»
كان الليل هادئا وأنا راقدة فوق الكنبة في الشرفة البحرية، أستمتع بالوحدة وغياب الأسرة عن البيت. لم تكن الأصوات تنقطع في بيتنا إلا في منتصف الليل، حينئذ تسري من خلال الجدران أصوات الجيران. كانت غرفة نومي ملاصقة لغرفة نوم جارتنا الست حمدية وزوجها السيد أحمد عبد التواب، يسري أنينها في الليل وأنا غارقة في النوم، أو صوت أم كلثوم تغني قرب الفجر، «هو صحيح الهوى غلاب ما عرفش أنا»، أو صوت جمال عبد الناصر يخطب في إحدى المناسبات الوطنية، يضغط على مخارج الألفاظ بقوة، «الاشتراكية! أيها الإخوة والأخوات! علينا جميعا أن نبني المجتمع الاشتراكي الجديد!»
تلك الليلة أول الربيع كان الكون هادئا وأنا وحدي في البيت بلا أسرة ولا صوت يسري من عند الجيران، إلا شيء خافت يشبه حفيف الشجر من بعيد، ربما هو صوت أمإلا شيء خافت يشبه حفيف الشجركلثوم تغني في راديو الجيران بمناسبة عيد الربيع، أو صوت جمال عبد الناصر يخطب في عيد العمال. حروف الكلمات لم تعد مسموعة والصوت لم يعد صوتا، بل صار شيئا مسحوقا يتسلل من وراء الجدار الحجري كالرماد الناعم، كحفيف أوراق الأشجار في الأفق البعيد، إلا كلمة واحدة ظلت متماسكة الحروف، تقاوم الانسحاق داخل الجدار، تحملها نسمة الليل إلى أذني وأنا راقدة فوق الكنبة في الشرفة، ترن في الجو بصوت أنثوي يشبه صوت سامية عضو اللجنة القيادية في الاتحاد الاشتراكي، تقف فوق المنصة وراء الميكرفون وتنطق بصوت جمال عبد الناصر كلمة الاشتراكية ! الاشتراكية أيها الإخوة والأخوات.
لم تكن سامية أقرب الزميلات إلي في عنبر الداخلية، كانت تكبرني بعامين اثنين، بدت في ذلك الوقت كأنما تكبرني بقرن أو قرنين، تعرف قواميس لغات لا نعرفها، تفك طلاسم كلمات غامضة على عقولنا نحن التلميذات الصغيرات، ومنها كلمة الشيوعية والمادية الدياليكتيكية، وعلى رأسها اسم «ماركس»، وهو اسم يختلط في أذاننا مع اسم «مركس» بصوت زميلتنا «بطة»، حين كانت تقلب حرف القاف الخشن إلى حرف الكاف الرقيق، تشبها بالطبقة الراقية والأجانب، ويصعد الدم إلى وجه صفية حين ترن في الجو كلمة «مركس» أو «مرقس»، فهو الاسم الذي تعلقه داخل القلب الذهبي فوق صدرها، يحتقن خداها البيضاوان بلون الدم، ترمقني بعين حمراء كأنما أنا أفشيت السر، وكانت هي تحكي قصة حبها للزميلات في عنبر الداخلية، أو لأي زميلة تسهر معها بعد أن يدق جرس النوم، تقفان معا في النافذة تطلان على القمر والنجوم في غياب أبلة عزيزة ضابطة الداخلية.
لم تكن «بطة» معنا في حلوان الثانوية، أصبحت زميلة لنا في كلية الطب، كان الحديث بين الزميلات موصولا على الدوام، لا يفصل المدرسة عن الجامعة أو الطفولة عن المراهقة عن الشباب، لا يقطعه زواج أو طلاق أو موت الزوج أو أي حادث آخر يعترض حياة البنات والنساء، كأنما عطش الحب لا يرتوي أبدا حتى تبلغ المرأة مائة عام.
كنت منذ الطفولة أخفي عن أبي وأمي كثيرا من المحرمات التي تتردد في عقولنا نحن الأطفال، أغلبها يتعلق بالحب أو الموت، ومنها فكرة أن الموت نهاية الألم، أي أن الجسد الميت لا يحس شيئا إن وضع في النار. كانت هذه الفكرة واضحة لعقلي منذ الطفولة الأولى قبل أن أبلغ السابعة من العمر، لكنها بدأت تختفي كلما كبرت ودخلت المدرسة. كانت صفية أقرب الزميلات إلي في عنبر الداخلية، تكبرني بعام واحد، وتبدو كأنما هي امرأة ناضجة، ثدياها ممتلئان باللحم مثل أمي، كأنما تزوجت وأنجبت، أو خاضت تجارب في عالم الحب لا نعرفها، حول عنقها سلسلة ذهبية يتدلى منها قلب مصنوع من الذهب ، تفتحه بأطراف أصابعها الناعمة البضة كأصابع أمي، تلثمه بشفتيها، وصدرها يعلو ويهبط من أنفاسها، تلتقط خصلة شعر رفيعة ملفوفة داخل تجويف القلب، تقربها من أنفها وتشمها، تأخذ شهيقا عميقا مع تنهيدة طويلة، ثم تفتح جفونها ورموشها، ترتعش وتقول بصوت يتقطع مع أنفاسها: «باحبه يا نوال باموت فيه!» ... تكرر هذه العبارة الليلة وراء الليلة، كلما وقفت معها في النافذة بعد أن يدق جرس النوم، حين يغلبني النعاس أتركها وحدها واقفة في النافذة تناجي القمر، وفي الحلم أراها ممدودة فوق السيخ المحمي في النار، يحرقها الله المرة وراء المرة، إن إثمها ليس واحدا بل اثنين، الإثم الأول هو الحب، كان الحب محرما على البنات إلا في الأغاني والأفلام، الإثم الثاني هو «مرقس» حبيبها القبطي وهي مسلمة، كنت أهمس في أذنها «الحب ده حرام ربنا حيحرقك في النار يا صفية»، تهز كتفيها، تمط شفتيها إلى الأمام وتهمس: «بعد ما أموت يا نوال مش حاحس بحاجة»، يسري صوتها في هدوء الليل كحفيف الأشجار تتراءى من بعيد في الظلمة كالأشباح أو أرواح الجان، يتسلل الحفيف إلى أذني في الليل مخيفا مثل فحيح الشيطان، يرتعد جسدي وأنا واقفة في النافذة إلى جوارها، تسري القشعريرة من قمة رأسي إلى بطن القدمين، أحس البرودة تصعد من بلاط العنبر إلى منابت الشعر تحت الجلد، والشعيرات الدموية تنتصب فوق ذراعي العاريتين كرءوس الإبر، أقرب شفتي المرتعشتين من أذنها وأهمس: «يعني مش حانحس بالنار بعد ما نموت يا صفية؟» وتفلت من بين شفتيها ضحكة مكتومة وهي تخفي فمها بيدها الناعمة البضة «نار الحب يا نوال بس نحس بيها.» أتركها وحدها واقفة في النافذة وأختفي تحت الغطاء، كل شيء في كياني يرتج، والسرير من تحتي يرتج في صرير مسموع يكاد يوقظ بنات العنبر، وأنتفض تحت الأغطية كالفرخة المذبوحة، إلا خلية واحدة في رأسي تظل هادئة وقورة لا ترتج ولا تهتز، كأنما هي تعرف الحقيقة منذ ولدت، أو كأنما هي الخلية الوحيدة في عقلي التي عاشت منذ الطفولة.
لم تنقطع صداقتي بصفية حتى اليوم، أصبحت زوجة الداعية الإسلامي الكبير الدكتور مصطفى الزهيري، تلف رأسها بحجاب أنيق يتمشى مع الأصالة ولا يتعارض مع الحداثة، يسمونه «البونيه»، كلمة فرنسية تنطقها بصوت قوي يشبه صوت زوجها، تضغط على أسنانها وهي تقول «البونيه» بلهجة رجولية تتناقض مع وجهها السمين البض الذي يفيض أنوثة، وشفتاها الممتلئتان الناعمتان ضغطت عليهما بإصبع الروج الأحمر قبل أن تخرج من البيت، وبعد أن ارتدت البونيه وأحكمته حول رأسها، لا يظهر من شعرها الأسود المصبوغ إلا خصلة نافرة رفيعة تتدلى فوق جبهتها العريضة من الأمام، أو فوق عنقها القصير السمين من الخلف.
في النوم يتكرر الحلم القديم رغم مرور السنين، وأراها تشوى في النار كخروف العيد، دون أن تشعر بالألم، تنطلق ضحكتها في سكون الليل، وصوتها يسري في أذني كالسيخ الحامي «نار الحب يا نوال بس نحس بيها»، كنت أحكي لها الحلم وهي واقفة إلى جواري في النافذة، عيناها تشتعلان بالضوء كأنما بنار خفية، تسري حرارتها إلى رأسي وعنقي وأنا واقفة إلى جوارها، دون أن تلامسني أو ألامسها، كأنما هي شعلة مختبئة في الأعماق، لا أعرف من أين تتدفق هذه السخونة وتسري من قمة رأسي إلى أسفل الكعبين، يصبح البلاط ساخنا تحت قدمي الحافيتين، والبنات غارقات في النوم داخل العنبر، وأبلة عزيزة ضابطة الداخلية غائبة في إجازة، ولا أحد يطل علينا من السماء إلا القمر المكتمل بدرا، يتألق نوره فوق رمال الصحراء الممدودة تحت عيوننا حتى الأفق، بحر من الفضة السائلة تشع موجاته ومضات من الضوء الأبيض تبدو في الظلمة كفصوص اللؤلؤ.
هذه الصورة محفورة في عقلي رغم مرور خمسة وأربعين عاما، وقصيدة من الشعر كتبتها في مفكرتي السرية قرب الفجر، بعد أن سهرت الليل واقفة عند النافذة مع صديقتي صفية، هي تحكي عن نار الحب وتحلم بالزواج من مرقس بعد أن يعتنق الإسلام، وأنا أحلم بأن أكون كاتبة أو شاعرة أو ممثلة فوق المسرح أو راقصة أو أي شيء آخر إلا الزواج.
كان الشفق الأحمر بلون الدماء يسبق ضوء الفجر إلى السماء ، وكنت أشعر كأنما تورمت قدماي من طول الوقوف، ثماني ساعات أو تسع منذ دق جرس النوم ونحن واقفتان نطل على القمر والنجوم ... تركتني صفية قبل الفجر بقليل ونامت، كان النوم قد هجرني كأنما إلى الأبد، ولن يعرف جسدي التعب أو الألم، كأنما ينبوع ينفجر في أعماقي بأشياء لا أعرفها، أمسكت القلم وأنا واقفة، الورقة البيضاء فوق حافة النافذة، وبدأت أكتب، كان القلم يمشي وحده كأنما بقوة خارج جسدي وعقلي، خارج الزمان والمكان، كلمات من الشعر أو النثر تكتب نفسها بنفسها.
قرأت على صفية في الليلة التالية، وفي الليلة التي بعدها، والتي بعدها ... تلمع الدموع في عينيها وأنا أقرأها، أتوقف لحظة لأبتلع دموعي، أطوي الورقة وأخفيها تحت مرتبة السرير، تشدها من تحت المرتبة وتقرأها. في ليلة وهي تعيد قراءتها بدت الكلمات قديمة كأنما راحت شحنتها الأولى المتوهجة، أمسكت الورقة ومزقتها، وفي يوم كنت وحدي بالعنبر، خرجت كل البنات في رحلة إلى الحديقة اليابانية، فتحت مفكرتي السرية وأعدت كتابة القصيدة، بقيت في ذاكرتي حتى اليوم، أعطيتها عنوان: «لن أموت»، أردد بعض أبياتها أحيانا حين يفيض بي الشجن أو الحنين، لا أعرف من أين ينبعث الشجن ولمن يكون الحنين، ربما هو الحب الغائب الحاضر، الطيف الذي لا يتجسد أبدا في الواقع والحقيقة، ربما هو الوهم أو الحزن أو الخوف من الموت، أقول لنفسي حين تتأزم الأمور وأوشك على الهلاك: «لن أموت، سأتحدى القضاء والقدر، ولا لن أموت.»
في خريف عام 1981 حين كان التشاؤم يسود المسجونات معي في الزنزانة، ويحوم شبح الموت حول رءوسنا، إذا بالقصيدة تهب منتصبة داخلي كالمارد، تقاوم اليأس، تتحدى الموت، وأسمع صوتي الغاضب يقول: لن نموت، وإن متنا فلن نموت ساكتات ... لن نمضي في الظلمة دون ضجة، لا بد أن نغضب ونغضب، نضرب الأرض ونرج السماء ... لن نموت دون أن نكسر قضبان الحديد، وإن متنا فلن نموت صامتات.
مذكراتي في سجن النساء 1981 •••
وفي مفكرتي السرية عام 1947، وأنا تلميذة في المدرسة الداخلية في حلوان الثانوية، ظلت هذه القصيدة مكتوبة بالحبر الأسود ، محفورة في ذاكرتي وفوق الورق:
قبل أن أغيب في النوم كل ليلة، أقول لنفسي:
سيأتي الصبح حتما ولن أموت، وإن مت
فلن يؤلمني شيء، بعد الموت
لا السقوط في الامتحان، ولا الضرب
على أطراف الأصابع بالمسطرة
ولا زمهرير البرد ولا لهيب الشمس ولا نار الجحيم
لم أجد إلا صديقتي في العنبر لأسألها: هل نموت؟
وإن متنا هل يؤلمنا أن نموت؟ أين نحن؟!
الآن في عنبر الموتى، في اللامكان واللازمان
ولا وجود للحب إلا بعد أن نحترق في الحريق
ونصير كالرماد، وكرمال الصحراء في حلوان
كأننا يا صديقتي متنا قبل الأوان
رأيت المشهد في الحلم، وعرفت أننا نمضي
إلى حيث لا ندري، فهل أكون في الغد ما أريد أن أكون؟!
شاعرة أو ناثرة أو حتى آثمة؟!
هل أرى اسمي فوق كتاب ممنوع؟! وأشق السماء
بقلمي، وأجعل المطر رهن مشيئتي؟!
والنهار والشعر والنثر
ينثال من خطيئتي،
فليحرقني الله في نار جهنم
ولتشرب الأرض دمائي
لكني أبدا لن أموت.
حلوان الثانوية 1947
الباحثة عن الحب
صيف عام 1963 بدأت كتابة رواية أعطيتها عنوان «الباحثة عن الحب»، في أعماقي حنين غامض لشيء أكثر غموضا، لا أعرف بالضبط عما أبحث، بلغت الثانية والثلاثين من العمر، أصبحت طبيبة ناجحة وأديبة معروفة، في حياتي كثير من الأصدقاء والصديقات، نساء ورجال أتبادل معهم الحديث على شاطئ النيل، نتحاور في الطب والأدب والفلسفة، مع قضمات من الحمام المشوي ورشفات نبيذ عمر الخيام، نطل على مدينة القاهرة من فوق ربوة الأهرامات، نتسكع في المدينة بعد أن ينام الكون ... أعشق الشوارع الخالية من السيارات والبشر، يصفو عقلي وأتطلع إلى النجوم، يعود إلي السؤال الطفولي - كنت أسأله لأبي وأنا في السابعة من العمر: مين خلق النجوم دي كلها؟ ربنا يا ابنتي. ومين خلق ربنا يا بابا؟ ربنا خلق نفسه بنفسه يا ابنتي. لم يكن عقلي الطفولي يقبل هذه الفكرة، أن يخلق أحد نفسه بنفسه.
في العشرين من عمري نسيت الأسئلة الطفولية كلها، انشغلت بالدراسة في كلية الطب والنجاح في الامتحانات آخر العام. قبل الامتحان بأيام قليلة أواظب على الصلاة، لم أكن أرى أمي تصلي إلا وقت الأزمات، أسمع الشيخ في الراديو يقول النساء ناقصات عقل ودين. بدأت أتشبه بأبي، أواظب على الصلاة في غير أوقات الامتحان، بلغ بي الإيمان ذروته عام 1952، حين بلغت الواحدة والعشرين من العمر، أصبحت في الأوراق الرسمية مواطنة في سن الرشد، أحظى بحقوق الإنسان فيما عدا الحقوق التي منحها الله للرجال دون النساء، كان الدستور المصري ينص على المساواة بين الناس أمام القانون، لكن شريعة الله تنص على أن الرجال أعلى درجة من النساء، كان التناقض واضحا بين الدستور والشريعة، لم أكن أرى هذا التناقض وأنا في الواحدة والعشرين من عمري، الإيمان المطلق الأعمى يجعلني لا أرى التناقضات الواضحة للعيان.
كنت أمشي في طريقي من البيت إلى الكلية في خط مستقيم، لا أحرك رأسي هنا أو هناك، وأعود من الكلية إلى البيت مباشرة دون أن أتطلع إلى هذا أو ذاك، كل يوم أروح وأجيء في الطريق ذاته، كالبقرة العمياء معصوبة العينين تدور في الساقية، وفجأة التقيت بأحمد حلمي ... كنت أمشي في فناء الكلية حين استوقفني وناداني باسمي: نوال. توقفت عند سماع اسمي بهذا الصوت، كأنما لم ينادني أحد باسمي من قبل، أو كأنما كلمة نوال لم تكن اسمي، أصبحت اسم امرأة أخرى جديدة ولدت لتوها في هذه اللحظة.
ربما هما العينان وليس الصوت، عيناه وهو واقف أمامي في الفناء، عيناه فقط رأيتهما، ربما لم تكونا هما العينين، بل شيء آخر لم أره تماما؛ لأنني لم أملك القدرة على النظر إليه، فقدت شجاعتي قبل أن ترتفع عيناي إليه.
أتوقف عند هذه اللحظة بعد مرور خمسين عاما، أتذكرها، أستعيدها، تعود إلي كما حدثت، تعود معها التفاصيل الصغيرة الدقيقة، تصورت أنها ضاعت من الذاكرة خلال نصف قرن، تفاجئني أنها تعيش في الحاضر كما عاشت في الماضي، لحظة لم تتكرر في حياتي منذ خمسين عاما، أتكون هي لحظة الحب الكبير أو الوهم الأكبر؟!
كان أحمد واقفا في الفناء، بالضبط عند الباب الصغير بين فناء الكلية والمدخل إلى مستشفى قصر العيني القديم، كان يرتدي قميصا أبيض، وفي يده مجلة يناولها إلي ويقول: ده العدد الجديد من مجلة شعلة التحرير يا نوال. ينطق حروف اسمي كأنما يعرفها، كأنما يألفها، رغم أنها المرة الأولى التي أقابله وجها لوجه. أخذت المجلة وانشغلت بفتح حقيبتي وإدخال المجلة فيها بين كتب الطب وكشاكيل المحاضرات والمشرط وأدوات التشريح، حقيبتي كانت ثقيلة ممتلئة، وكان علي أن أفتحها وأضع المجلة فيها، حركة أنقذتني من النظر إلى عينيه، تظاهرت أني منهمكة في فتح الحقيبة، وإفساح مكان للمجلة بين الكتب والكشاكيل، بدت الحقيبة مكدسة بأشياء قديمة مهترئة لا قيمة لها إلى جوار المجلة الجديدة، يبرق اسمها فوق الغلاف بخط أحمر، يلمع تحت شعاع الشمس: «شعلة التحرير». - يا ريت يا نوال تقري قصة العدد وتقوليلي رأيك.
كنت في طريقي إلى مدرج علي باشا إبراهيم، أسرع الخطى قبل أن أتأخر عن موعد المحاضرة. كان الأستاذ هو «أنريب»، يدرس لنا علم الفسيولوجي، يلقي المحاضرة بلغة إنجليزية تشوبها لكنة روسية. جاء من روسيا إلى مصر ليصبح أستاذا في كلية الطب في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، قصير سمين مربع الجسم داخل معطف أبيض، له وجه مربع عريض يشبه الدب الأبيض، لحيته كثيفة تشبه لحية تشيكوف ودوستيوفسكي. كان يحكي لنا عن العالم الروسي «بافلوف» الذي اكتشف نظرية الارتباط الشرطي، أحدثت طفرة في علم الفسيولوجي، وفي نظرية المعرفة. خيالي الأدبي كان يسرح مع الدكتور «أنريب» وهو يحكي لنا قصة الكلب والجرس، إنها التجربة التي أجراها بافلوف في المعمل، كان يضع الطعام أمام الكلب كل يوم في ساعة معينة، يقبل الكلب على الطعام بشهية، كل يوم في الموعد نفسه يجد الكلب الطعام في المكان نفسه، يأكل بشهية، ويلحس الصحن، أصبح بافلوف يدق جرسا عدة دقات تصاحب اللحظة التي يأكل فيها الكلب الطعام، بدأ الكلب يسمع دقات الجرس مع قضمات أسنانه على الطعام، تكرر الحدث كل يوم، عدة أيام، ثم بدأ بافلوف يدق الجرس دون أن يقدم الطعام للكلب، أصبح لعاب الكلب يسيل لمجرد سماع صوت الجرس، وأصبحت معدة الكلب تفرز الأنزيم الخاص بالهضم كأنما هي تستقبل الطعام. لقد ارتبط صوت الجرس في خيال الكلب وعقله برائحة الأكل ومذاقه في فمه ومعدته. توصل بافلوف إلى الارتباط الشرطي بين المادي والخيالي في عملية التعليم والتدريب في حياة الكلاب، وحياة البشر على حد سواء. كانت العلاقة بين المادة والروح تشغلني أحيانا، أدرك أن الجسد لا ينفصل عن العقل، وأن الخيال جزء من الحقيقة.
كنت أستغرق بعقلي وجسدي فيما يقوله الدكتور أنريب. لم يكن يتلو علينا المحاضرة مثل الأساتذة الآخرين، كان يحكي لنا الحكايات، نفهم الفسيولوجي ونظرية المعرفة الجديدة عن طريق القصص، والربط بين الخيال والواقع، الربط بين الماديات والروحانيات.
يتخلخل الإيمان الأعمى بانفصال الروح عن الجسد، تدور في رأسي الأسئلة الطفولية القديمة، عيناي ترتفعان إلى السماء في رهبة، كلمة «الله» ترمز إلى الروح بدون جسد، عقلي الطفولي كان عاجزا عن الإيمان بوجود الروح دون جسد. بلغت سن الرشد، ونسيت البديهيات، سرت نحو النضوج والإيمان الأعمى بالأرواح المنفصلة عن الأجساد، بدأت أرى في الليل أشباح الجن، أومن بوجودها وبكل ما ورد في القرآن.
في غرفة الطالبات فتحت حقيبتي، الغلاف الجديد والعنوان بالخط الأحمر، شعلة التحرير، لمحت الصديقات البريق في عيني، رمقتني بطة بعين مجربة وهمست: حب جديد يا نوال؟! لم يكن للطالبات حديث في أوقات الفراغ إلا عن الحب. كثيرة هي قصص الحب بين الطلبة والطالبات، يدس الطالب رسالة حب في كشكول الطالبة، تقرأها علينا في غرفة الطالبات، تتورد خدود البنات وهن جالسات تحت شجرة الكافور الضخمة، يحفرن بمشرط التشريح فوق جذع الشجرة حروف الاسم داخل القلب، يرسمن القلب بدقة كما هو مرسوم في الكتاب، وكما يظهر في صدر الجثة فوق منضدة التشريح.
كنت واحدة من هؤلاء البنات المراهقات في كلية الطب، أومن بالحب الروحي المنفصل عن الجسد، كما أومن بالله، الروح العليا في السماء، المنفصلة عن الجسد الأدنى فوق الأرض، وكنت أجد رسالة الحب داخل الكشكول، كل يوم يدس أحد الطلبة الرسالة، كان الطلبة عددهم بالمئات ، والطالبات عددهن قليل يعد على أصابع اليد الواحدة، أو اليدين الاثنتين. كان نصيبي من رسائل الحب أكثر من زميلاتي، لم يكن للزميلات نشاط في الندوات الأدبية بالكلية، أو الاجتماعات السياسية أو المظاهرات الوطنية، ربما كنت الطالبة الوحيدة في ذلك الوقت التي تكتب القصص القصيرة والمقالات، وكان رؤساء تحرير المجلات من الطلبة الكبار يأتون إلي وأنا جالسة بين زميلاتي في المشرحة، تحمر وجوه البنات حين يأتي إلينا طلبة غرباء ليسوا زملاء لنا في المشرحة. كان الطلبة الغرباء أكبر سنا وأكثر جرأة في التطلع إلى البنات، يرفعون رءوسهم في كبرياء كأنهم زعماء، يتنافسون على الخطب في المظاهرات، ينقسمون إلى فرق متناحرة بعدد الأحزاب في مصر قبل سقوط الملك: الإخوان المسلمون يرفعون شعار السيف والقرآن، الشيوعيون شعارهم المطرقة والمنجل، والوفديون يحملون صورة النحاس باشا، الحزب الوطني يردد كلمات مصطفى باشا كامل، أحزاب الأقلية لكل منهم شعاره، الحكومة والسراي والإنجليز لكل منهم حزب داخل البلاد، المستقلون لهم أحزابهم، بعضهم يتبع عزيز المصري، بعضهم يؤمن بالألمان والنازية ، بعضهم يؤمن بالحلفاء والديموقراطية، كلهم توابع للقوى المتصارعة في الساحة السياسية.
بدا أحمد حلمي كأنما هو المستقل الوحيد، مجلة شعلة التحرير يصدرها مع مجموعة من زملائه، يدفعون نفقاتها من جيوبهم. كان هو رئيس التحرير، قرأت عددين أو ثلاثة، نشرت فيها بعض القصص القصيرة بأقلام طلبة الطب ذوي الميول الأدبية. قرأت قصة أحمد حلمي بعنوان «كلب وغلام»، لا أنسى القصة رغم مرور نصف قرن من الزمان، صورة الكلب الصغير الأعرج يأكل من صفيحة قمامة إلى جواره طفل أعرج. كان أحمد حلمي ينظم الندوات الأدبية، يربط بين الفقر والمرض، بين الطب والأدب. لم يكن يوسف إدريس يكتب القصة بعد، كان يكتب المقالات السياسية ويرأس مجلة أخرى اسمها «الجميع».
في إحدى الندوات الأدبية قال يوسف لأحمد: قرأت قصتك «كلب وغلام»، إزاي كتبتها يا أخي؟ شيء عجيب فعلا، تصور يا أحمد وأنا نايم في عز النوم أشوف الكلب الأعرج بياكل من الزبالة مع الطفل الأعرج، يا أخي القصة دي أحسن من ميت مقال سياسي!
لم يكتب أحمد حلمي شيئا بعد هذه القصة، سافر إلى القنال وعاد محطما، خانه الأصدقاء قبل الأعداء. تزوجنا ضد إرادة أبي، كان أبي يؤمن بالعمل الفدائي والموت من أجل الوطن، ملأ خيالي وعقلي منذ الطفولة بأناشيد الفداء، بلادي بلادي أفديك بروحي ودمي. عاش أبي المنفي في منوف عشر سنوات، كف فيها عن النشيد، أصبح ينوء بالحمل الثقيل، عائلة من تسعة عيال وأمهم، أصبح رهين المحبسين الوظيفة الحكومية والأسرة الأبوية.
كان أبي يؤمن بالله والوطن، ولكن أحمد حلمي كان يؤمن بالوطن فقط. في أول حديث لنا عن الدين سألني: أتؤمنين بالله يا نوال؟ قلت: طبعا ... مرت لحظة صمت طويلة، كنا نجلس في حديقة الشاي، مكان هادئ يطل على بحيرة صغيرة، يعوم فيها البط داخل حديقة الحيوان بالجيزة. كنت أرتدي بلوزة وردية جديدة، أرى وجهي منعكسا فوق مياه البحيرة، عيناي يكسوهما بريق، الدقات تحت ضلوعي محسوسة، أنفاسي تتعاقب بسرعة لم أتعودها، أحاول أن أتظاهر بالهدوء وأنشغل بمراقبة البط يفرد أجنحته في الماء ، يتطاير فوق ريشة الرذاذ مثل ذرات من اللؤلؤ تلمع تحت أشعة الشمس. - وأنت يا أحمد هل تؤمن بالله؟ - لأ يا نوال.
الصدمة الأولى في الحب، تجمدت الدقات تحت ضلوعي، توقفت الأنفاس وقدرتي على النطق، لم أعد أرى البحيرة ولا البط، غامت عيناي، مرت سحابة حجبت الشمس، تصورت أن الله سمع كلمة «لأ» وأراد أن يدمر الأرض والشمس وكل ما في الكون.
فتحت عيني ورأيت أحمد جالسا أمامي، كأنه كائن ميت لا أقوى على النظر إليه. - آسف يا نوال إذا كنت صدمتك، أنا دائم التفكير في فكرة نشوء الكون، أنا غير مقتنع بنظرية الخلق في الكتب السماوية، أنا شرحت جسم الإنسان في المشرحة، وقريت كتاب داروين «أصل الأنواع»، الكتاب ده بمثابة المسمار في عرش الإمبراطورية البريطانية؛ لأنه هدم أهم أركانها وهو الكتاب المقدس، أو أهم ما في الكتاب المقدس وهي نظرية الخلق ونشوء الكون.
صمت أحمد قليلا، أحسست الجفاف في حلقي، شيء يؤلمني تحت الضلوع، أنفاسي عادت بطيئة ودقات القلب لم تعد هناك، أحس الدم يمشي في صدري بطيئا بارد الملمس، كأنما جرح في صدري مفتوح منذ الطفولة، جرح لم يلتئم منذ ولدت ولم أسمع الزغاريد، لم أشهد في العيون إلا الحزن والصمت، أصابع غليظة سمراء كالمسامير الصدئة تحاول خنقي تحت الماء، وأنا أرفس بقدمي وذراعي وأطفو، صوت يخرق أذني مثل السيخ المحمي في النار، بنت وليست ولدا! العوض على الله! كلمة «الله» تنفذ إلى أذني مثل المسمار الحديدي الذائب في النار، الله يفضل الرجال على النساء، الله صاحب الجلالة مذكر وليس مؤنثا، في القرآن الله لا يلد ولا يولد، وفي التوراة - الكتاب الأول المقدس - الله لا يلد البنات، أبناء الله تزوجوا بنات الناس وأنجبوا البشرية. - قريتي أصل الأنواع يا نوال؟ - لأ. - لازم تقريه يا نوال، وكمان كتاب كارل ماركس «رأس المال»، في سنة 1882، السنة نفسها اللي احتلت فيها مصر مات داروين، عملوا له مقبرة عظيمة في وست مينيستر أبي، كان كارل ماركس في لندن من سنة 1849، مات في لندن بعد داروين بسنة واحدة، قبل ما يموت أهدى كتابه «رأس المال» لداروين، لكن داروين كان مؤمنا بالمسيح والإمبراطورية البريطانية، عشان كده رفض هدية كارل ماركس، رفض أن يستلم كتاب «رأس المال»، كان خايف من الكنيسة والحكومة في لندن، قريتي «رأس المال» يا نوال؟ - لأ. - ده كتاب مهم يا نوال، أنا مش ماركسي ولا شيوعي لكن الكتاب ده مهم لازم تقريه.
دار هذا الحوار بيني وبين أحمد قبل زواجنا وقبل سفره إلى الحرب مع الفدائيين، عدت إلى البيت سيرا من حديقة الحيوان إلى بيت أبي في أول شارع الهرم، قدماي تسيران وحدهما في الطريق وعقلي شارد. كادت سيارة تصدمني وأنا أجتاز الشارع لأهبط تحت نفق القطار، كأنما أسير في نفق مظلم لا أعرف الحقيقة من الخيال. بدا كل شيء من حولي يتخبط في الوهم، الحب والإيمان بالله، والكتاب المقدس ونظرية الخلق ونشوء الكون ... أتطلع إلى السماء كأنما أتوقع أحدا يرد، أتطلع إلى أبي في البيت أود أن أسأله لكن صوتي لا يخرج، لم تعد كلمة «الله» تخرج من فمي عادية، أصبحت مشحونة بالكهرباء أو الديناميت، أخشى لو نطقت بها أن ينفجر المكبوت في أعماقي منذ الطفولة، أن ينكشف السبب الحقيقي وراء إيماني، وهو الخوف من أبي أو الخوف من الله ونار جهنم الحمراء بعد الموت.
بعد أن سافر أحمد إلى الحرب في القنال بدا الكون خاويا بلا معنى، بلا إله ولا شيطان، ولا أي شيء، كلية الطب بدت بلا معنى وبلا هدف، الطلبة يهرولون إلى المشرحة والمستشفى كالأشباح في عالم من الوهم، الأرواح الخفية والجان وكل ما ورد في القرآن، أرى أبي راكعا يصلي فأشفق عليه من الوهم، أكاد أقول له لا توجد جنة بعد الموت ولا جدوى من الركوع والصلاة، أضع يدي فوق فمي أحبس الكلمات في حلقي.
حزمت حقيبتي وقررت السفر إلى القنال، تطوعت مع بعض الممرضات في المستشفى للسفر إلى الجبهة، تدربت على الإسعافات الأولية. كانت لي صديقة بين الممرضات اسمها وديدة، خطيبها سافر مع الفدائيين إلى القنال، أرادت أن تراه ثم تعود، أنا أيضا أردت أن أرى أحمد ثم أعود، لم يكن الطريق إلى الإسماعيلية طويلا، ساعتين بالسيارة، ويمكن أن أعود بالسيارة في اليوم نفسه، أو في اليوم التالي.
ركبت مع وديدة السيارة اللوري، جوار السائق، خلفنا جلس أحد الممرضين وسط زجاجات الدم والبلازما، أفقت على صوت السائق يقول: فاضل كيلو واحد على الإسماعيلية، قلبي يخفق تحت الضلوع، لم يعد إلا كيلو واحد وألتقي أحمد، أحوط صدري بذراعي، أكتم الخفقات عن السائق بجواري، أخشى أن يكتشف السبب الحقيقي وراء سفري إلى الإسماعيلية، لقد أعلنت له أنني متطوعة مع الممرضات من أجل الوطن.
خرجنا من القاهرة في الليل، وديدة ركنت رأسها فوق حافة النافذة، شردت عيناها في السماء، صوتها المبحوح يدندن بأغنية أم كلثوم «هو صحيح الهوى غلاب ماعرفش أنا»، يذكرني صوتها بزميلتي فاطمة في مدرسة حلوان الداخلية. فتحت حقيبتي وأخرجت الساندويتش، رغيف فينو طويل داخله جبن رومي وبيضة مسلوقة بالملح والفلفل، قسمت الرغيف ثلاثة أقسام ناولت السائق جزءا، وديدة جزءا، وأخذت الجزء الأخير.
كنت جائعة، رائحة الخبز والجبن والفلفل تصيبني بانتعاش مفاجئ، أعود طفلة تأكل بشهية، أتذكر أمي حين كانت تجهز الساندويتش لآخذه إلى المدرسة وأنا طفلة في السابعة من العمر.
رائحة الخبز والجبن والفلفل أعادت إلى خيالي صورة أمي في طفولتي، مثل صوت الجرس في تجربة بافلوف، يستحضر في خيال الكلب صورة الطعام، هناك تشابه بين خيال الكلب وخيال الإنسان. تعود إلى ذاكرتي قصة «كلب وغلام»، كان لأحمد أسلوب مميز في الكتابة، كلماته فوق السطر تتتابع بهدوء يشبه خطوته فوق الأرض، يشبه صوته حين يتكلم، الإيجاز في التعبير يبدو كالإعجاب، والتصوير الدقيق إلى حد التجسيد. يتراءى لي جسم الغلام الصغير النحيف، وجسم الكلاب يشبه الغلام صغيرا ونحيفا، يأكلان معا من صفيحة القمامة، عيونهما غائرة داخل عظام الجمجمة، المقلتان السوداوان بارزتان فوق البياض مشتعلتان بنار الجوع، كل منهما ينظر إلى الآخر في ألفة وصداقة، يتيمان وحيدان في مدينة القاهرة الراقدة تحت شبورة رمادية، وسماء ملبدة بالآلهة غير مبالية .
همست وديدة في أذني والعربة اللوري تدخل إلى مشارف الإسماعيلية: لازم أعرفك باليوزباشي رجب، ناويين نتجوز على طول أول ما يرجع من الحرب، وحشني موت يا نوال، حتبقى مفاجأة لما يشوفني، ما يعرفش إني تطوعت في كتيبة التمريض عشان أشوفه.
ثم أطبقت شفتيها في صمت، كأنما تخون الوطن، تفكر في الحب وقت الحرب، وتنتمي إلى عالم النسوة العاطلات الخاملات، لا شيء يشغلهن إلا الرجال.
سمعنا دوي الانفجارات من بعيد، أسرع السائق فوق الطريق المحاذي للسكة الحديد، لم أكن أعرف إلى أين نتجه، الظلمة كثيفة، الشفق الأحمر تراءى من بعيد، دوي الانفجار يشتد، السائق يدوس على البنزين، صوته يعلو على صوت الموتور: لازم نوصل المعسكر قبل الفجر ما يطلع. كأنما هو في سباق مع حركة الشمس حول الأرض أو الأصح حركة الأرض حول الشمس كما قال كوبيرنيكس، كوكب الشمس مركز الكون وليس الأرض، مسمار كبير في نعش الكنيسة عام 1543، قبل مسمار داروين بثلاثة قرون ونصف، وكم من مسامير أخرى تعاقبت حتى اليوم، وأصبحت الشمس مجرد كوكب ضمن أربعمائة بليون كوكب آخر في المجموعة الشمسية، تبعد عن الكوكب الأرض أربع سنوات ضوئية، أي بلايين البلايين من الكيلومترات، المسافة بين الشمس والأرض أكثر من مائة وخمسين مليون كيلو متر تجتازها أشعة الشمس في ثماني دقائق ضوئية، أي بسرعة نصف مليون كيلومتر في الثانية الواحدة.
المدافع تدوي في أذني، السيارة اللوري تتخبط فوق مطبات الطريق، الموتور يعلو فوق صوت السائق، زجاجات الدم والبلازما تتخبط وراءنا، التمورجي القابع في قاع السيارة يشير إلى السماء في فزع، فيه غارة جوية وفوق راسنا طيارة!
كان ذلك في نهاية عام 1951، كنت في العشرين من العمر، لا أعرف معنى الحرب، كنت أسمع عن المدافع والرشاشات، لم أعرف في حياتي حتى ذلك الوقت إلا رشاشة الفلت، أمسك مقبضها بيدي وأحركه كالمنفاخ، يتطاير رذاذ الفلت ويقتل الذباب. منذ سافر أحمد إلى القنال وأنا أرى حلما يتكرر في النوم، أمسك رشاشة الفلت وأحرك مقبضها، يتساقط الجنود الإنجليز إلى الأرض كالذباب الميت. في طفولتي كان يطربني سماع صفارة الإنذار تعلن عن الغارة الجوية، ينطلق الناس خارج بيوتهم إلى المخابئ تحت الأرض، تخرج النساء بقمصان النوم والرجال بلا أحذية ولا بدل ولا كرافتة. في المخبأ تذوب الفوارق بين الأغنياء والفقراء، يختلط النساء بالرجال والبنات بالأولاد، نلعب نحن الأطفال معا في الظلمة بقطع الطوب الصغيرة، نرسم فوق التراب المربعات ونلعب السيجة، حين تنطلق صفارة الأمان نشعر بالحزن، تعود كل عائلة مع أطفالها وراء جدران بيتها، تعود التقاليد تفصل البنات عن الأولاد، تبقى البنات داخل المطبخ ويخرج الأولاد يلعبون في الشارع. كانت جدتي تقول: إن الله فرق بين البنات والأولاد، وهو الذي خلق العائلات وخلق البيوت والجدران.
لم أكن أرى الكشافات في القرية، كنت أراها في بيت جدي في القاهرة، حين تدوي صفارة الإنذار أجري إلى الشرفة الواسعة المطلة على السماء، تتعلق عيناي بكشافات الضوء، تروح وتجيء في الكون اللانهائي، أذرعها بيضاء طويلة تمسح الظلمة من السماء، كأنما هي أذرع الله تكشف طائرات الأعداء ، وترن أصوات المدافع في أذني من بعيد مثل صواريخ العيد.
توقفت العربة اللوري عند المعسكر، خيام سوداء متفرقة تتخفى تحت الشجر، عربات جيب مصفحة مركونة على جانب الطريق، عربات كارو تجرها الخيول أو الحمير، أوعية للأكل وماء داخل قرب من جلد الماعز، شباب يرتدون بدل حرب العصابات، بدو الصحراء يجرون جمالهم من فوقها الأسلحة مختفية تحت عباءات من صوف الإبل.
بدأ الشباب ينقلون زجاجات الدم والبلازما، رأيت رئيس المعسكر واقفا أمام باب الخيمة، يتأمل الشباب ينصبون خيامهم، يحفرون خنادق تحت الأرض، الجو مشبع بالرمال والتراب. سألت أحد الشباب عن أحمد حلمي، لا أحد يعرف أحدا باسمه الحقيقي، الجميع يحملون أسماء تنكرية.
من بعيد وسط الضباب على شط القنال كتلة ضخمة من السواد تنتصب في الظلمة مثل قلعة ضخمة تحرس قناة السويس، يقولون عنها معسكرات الإنجليز، قناة السويس ترتبط في خيالي الطفولي بالخديوي عباس، وديليسبس، والفلاحين يحفرون القناة من أجل الله والوطن، كالعبيد بنوا الهرم الأكبر من أجل فرعون والوطن ... الكرابيج كالسياط تلسع أجسادهم، يسقطون من الإعياء ويموتون، يتطوع أبناؤهم الفقراء فداء الوطن، يتلقون الرصاص في صدورهم، يستشهدون في ساحة القتال وهم يهتفون: الملك، الله، الوطن!
سمعت الشباب يهتفون، كل فرقة تهتف بشعار مختلف: الإخوان المسلمون يرددون لا إله إلا الله محمد رسول الله، الشيوعيون يهتفون الكفاح المسلح الكفاح المسلح يحيا الشعب، شباب الوفد يهتفون النحاس النحاس. تختلط أصوات الشباب وتذوب في الصمت، يتعالى الغبار مع ضربات المعاول في الأرض. على الضفة الأخرى للقناة أرى تلال سيناء، رمالها تشوبها حمرة تحت أشعة الشمس كأنما هي غارقة في الدم. منذ التاريخ كانت سيناء هي البوابة الشمالية يدخل منها الغزاة، يركبون الخيول والحمير والدبابات أو الطائرات. فوق الخريطة تبدو مثلثة الشكل، شبه جزيرة سيناء، تلال من الرمال دفنت تحتها أجساد الشباب الفقراء، لم يكن أبناء الأثرياء يذهبون إلى الحرب، يدفع الأب الفدية، مبلغا من المال يشتري به حياة ابنه، يموت الشاب الفقير في سبيل الله والوطن.
في الليل، داخل الخيمة، همست وديدة في أذني: ما حدش عارف حد هنا، مش عارفة أنام يا نوال، خايفة موت نرجع من غير ما أشوفه. ثم أغمضت عينيها وراحت في النوم ... تشبه الطفلة، شعرها أسود غزير يغطي وجهها، ترتدي قميص نوم من الكستور الأبيض فيه زهور صغيرة حمراء. فتحت عينيها ورأتني شاخصة إلى سقف الخيمة، همست في أذني: صاحية ليه يا نوال؟! اللي واخد عقلك يتهنا بيه! لازم أرجع بكره يا وديدة، بابا ما يعرفش إني هنا، قلت لهم في البيت إني في مستشفى القصر العيني وعندي نوبتشية، لازم أرجع بكرة يا وديدة.
كانت المرة الأولى أكذب على أبي وأمي وأبيت خارج البيت، رتبت مع السائق أن أعود معه في العربة اللوري في الصباح. فقدت الأمل في العثور على أحمد. كل شيء هنا يبدو غريبا، مثل الحلم المفزع. رأيت الممرضات يغسلن الجروح من الدم والصديد، في إحدى الخيام رقد شباب ينزفون الدم، فوق رءوسهم زجاجات الدم والبلازما، والخراطيم السوداء الرفيعة يجري فيها الدم من الزجاج إلى الأذرع الممدودة فوق الأرض، أحد الشباب لفظ النفس الأخير، دفنوه في الأرض في مقبرة بجوار الخيمة.
لم يعرف أحد كم من الفدائيين ماتوا في هذه الحرب عام 1951، لكن الأرقام نشرت بعد ثلاثين عاما. في عام 1981، وأنا داخل الزنزانة في سجن النساء بالقناطر الخيرية، جاءت زوبة، من عنبر المومسات تحمل أرغفة الخبز لنا، لفت الأرغفة الثلاثة الخاصة بي داخل ورقة من أوراق الصحف، وهمست: بالهناء والشفاء يا دكتورة نوال. كانت زوبة تهرب لنا بعض أوراق الصحف. الصحيفة تحمل تاريخ 27 أكتوبر 1981؛ أتذكره لأنه تاريخ ميلادي. لم تكن إلا صفحة واحدة داخلية، فيها بعض الأخبار وخبر صغير في أسفل الصفحة يقول: في حرب 1951 قتل من الفدائيين ما يزيد عن مائتي فدائي. كشفت الحقائق بعد ثلاثين عاما عن أن هذه الحرب ضد الاحتلال البريطاني هي التي مهدت لثورة يوليو عام 1952، إلا أن أسماء هؤلاء الشهداء ضاعت في التاريخ، بعضهم حفر اسمه على عمود من الحجر بالقرب من شط القنال، سقط الحجر مع الزمن واندثر الاسم في العدم.
كنت أرمق هؤلاء الفدائيين بعين ملؤها الحسد، وهم يسيرون برءوس مرفوعة، سلاحهم فوق كتفهم، عيونهم تلمع بالكبرياء، إن سقطت قنبلة فوق الخيمة يموتون واقفين في كبرياء، وأنا أموت في فراشي راقدة مع النساء الممرضات. لم يكن للمرأة أن تنال شرف الموت وهي تقاتل، كانت تموت وهي راقدة في فراشها، أو وهي تحمل براز الفدائيين في الجردل، أو تغسل جروحهم من الدم والصديد.
من بعيد كنت أرمق معسكرات الإنجليز، ينتابني القلق أو الخوف من المجهول، هل أعيش حتى أرى هذه المعسكرات حطاما؟! إنها تبدو مثل القلعة المحصنة، مثل الأبراج العالية تسكنها كائنات غير بشرية، مفترسة ومخيفة، يتراقص من فوقها العلم البريطاني، مثل طائر خرافي من الطيور الجارحة، خطوطه حمراء بلون الدم تتقاطع مع خطوط سوداء بلون الموت.
بعد أربعة عشر عاما جئت إلى الإسماعيلية بعد حرب 1967، تغير شكل العلم فوق معسكرات الأعداء، أصبح يحمل نجمة داود، يرفرف في الظلمة، والعربة اللوري تشق الطريق ما بين الإسماعيلية وبورسعيد.
تحت ظلمة الليل كانت الصحراء تتلاشى والسماء، كل شيء في الكون يتساوى في الظلام، أعلام الدول ومعسكرات الأعداء، كلها تتساوى وتذوب في السواد، عيناي مفتوحتان لا أنام، وديدة راحت في النوم تحلم بعودة خطيبها من الحرب وليلة الزفاف. أخشى أن أسقط في النوم ولا أصحو في الصباح، أخشى أن تسقط قنبلة وأموت في الإسماعيلية، يكتشف أبي وأمي أنني كذبت عليهما وقضيت الليلة في الإسماعيلية وليس في نوبتشية القصر العيني، كان الموت أهون في نظري من انكشاف الكذب.
خرجت من الخيمة أتمشى في الصحراء، الشفق الأحمر يسري في صدري مع نسمة الفجر، أستشعر الحنين للحب، أمشي نحو عين الماء، أتصور أنني سوف ألتقي بأحمد هناك، ربما نهض من النوم ليشرب، ربما يدرك أنني هنا في الإسماعيلية، في الخيمة المجاورة له، وأنني أنهض وأمشي إلى عين الماء، كأن بيننا موعدا وأنا أمشي إليه، وهو يمشي إلي، نقطتان صغيرتان في الكون تمشيان نحو بعضهما، نجمان مؤرقان في سماء الليل والكون كله نائم. لم يكن أحد عند عين الماء، أحسست خيبة الأمل، كأنما أحمد خان العهد وتخلف عن الموعد. غسلت وجهي وذراعي بالماء البارد، ملأت كفي بالماء وشربت، ليس له طعم ماء النيل، له نكهة معدنية، كأنما أضيفت إليه مادة كيمائية، هل سمم الأعداء الماء؟! كنت أسمع من البدو أن الأعداء يسممون عيون الماء والآبار. من بعيد رأيت البدو يسيرون وهم يقودون الحمير أو الجمال، نصبوا خيامهم وانضموا إلى كتائب الفدائيين، الفلاحون أيضا جاءوا بفئوسهم، وقطاع الطرق جاءوا بالأسلحة. والفلاحات أيضا، منهن امرأة فارعة القامة تحمل بندقية فوق كتفها يسمونها أم الفدائيين، ترتدي جلبابا واسعا أسود، تربط رأسها بحزام من جلد الماعز، قدماها كبيرتان سمراوان، كعبان مشققان، تشبه جدتي الفلاحة أم أبي، خطوتها واسعة فوق الأرض، خفيفة الجسم، قفزاتها سريعة كوثبات الفهد.
هنا وهناك بركت الجمال والحمير، راحت في ما يشبه النعاس، والحصان الأبيض يركبه رئيس المعسكر، أهداه إليه أحد الأعراب من سيناء، تلال سيناء وصخورها منتصبة في غضب، كأنما تريد الانقضاض على معسكرات الأعداء. «الله أكبر ولله الحمد، هذه التلال يا إخواني خلقها الله لتحمي المسلمين من غزوات الكفرة!» هذا هو صوت أحد الفدائيين في كتيبة الإخوان المسلمين، صوته ينطلق مع أذان الفجر. وصاح شاب من كتيبة الوفد أو الشيوعيين «والحماية العسكرية هنا ليه يا أخ إذا كانت التلال دي حاميانا؟!» نشب حوار أشبه بالمعركة بين الشباب، كادت تستخدم فيه الأيدي والبنادق. لم يفضه إلا حضور رئيس المعسكر، عضلاته مشدودة، علامة القيادة، سلاحه يطل من جيبه، يرتدي كاسكيت يحجب نصف وجهه العلوي، ذقنه مربعة عريضة، راح يتمشى بعد أن فض العراك بخطوة الأسد الهادئ الواثق من نفسه، يرفع وجهه نحو السماء، عيناه تشردان في الأفق نحو معسكرات الأعداء، ربما كان يتخيلها حطاما، يتخيل نفسه بطل النصر، أينتصر حقا على الإنجليز؟! وإن انتصر وأصبح بطلا لمن يدين بهذه البطولة؟! لهؤلاء الشباب الفدائيين أم للإنجليز الأعداء؟!
أغمض عينيه كأنما نام وهو واقف، ثم أطرق إلى الأرض، ربما اجتاحه شعور بالإثم وتأنيب الضمير، سؤال يدور في عقله، أيمكن أن يكون بطلا دون وجود الإنجليز الأعداء؟! أحرجه السؤال فاستدار، لم أعد أرى إلا ظهره، وارتفع صوت الفدائي يمزق الصمت: يا إخواني، إن جبل سيناء معنا ضد الإنجليز؛ فقد ظهر الله فوق هذا الجبل لسيدنا موسى عليه السلام، اصطفاه الله من كل جبال العالم ليهبط فوقه، وهناك أيضا معبد سانت كاترين، والطريق الذي سارت فيه السيدة مريم مع سيدنا عيسى عليه السلام ويوسف النجار هاربين إلى مصر، هذا يا إخواني جبل مقدس، الرمال فيه مقدسة، التلال والصخور تتربص بأعدائنا الإنجليز، وإذا كان الجبل معنا فإن الله معنا والنصر معنا، وسوف تصبح هذه المعسكرات حطاما بإذن الله، نزيلها من الوجود، ونبني مكانها جامعا ومئذنة يرتفع من فوقها صوت الحق، الله أكبر الله أكبر!
دب الحماس في الشباب، هتف بعضهم: الله أكبر. فريق آخر راح يهتف: يحيا كفاح الشعب المسلح! وانطلقت أصوات أخرى تهتف: النحاس النحاس! وارتفع شعار الهلال والصليب في الجو، مع راية عليها سيفان يحملان المصحف الشريف، وراية أخرى مرسوم عليها المطرقة والمنجل، وعلم مصر يرفعه بعض الشباب.
كان رئيس المعسكر واقفا من بعيد يتطلع إليهم، نصف وجهه العلوي يختفي تحت الكاسكيت، عضلات فمه مشدودة، يمسك ذقنه المربعة بأصابع متوترة، ربما كان يفكر أن معركته الأولى هي إخضاع هذه الفرق المتناحرة، ثم بعد ذلك يأتي إخضاع الإنجليز، أيكون إخضاع الإنجليز أسهل؟! هؤلاء الشباب الفدائيون ليسوا جنودا من أبناء الفلاحين الفقراء الجهلة، إنهم طلبة في الجامعات، رءوسهم محشوة بالأفكار الجديدة: حرية الرأي، الاستقلال، الديموقراطية، العدالة الاجتماعية. هل تنفع هذه الأفكار في الحرب؟! الحرب ليس فيها إلا فكرة واحدة: الطاعة العمياء للأوامر وقتل العدو أينما كان!
كلما فرغت الدماغ من الأفكار أصبح الجندي أفضل.
كان واقفا من بعيد مطرق الرأس كأنما يفكر في هذه العبارة، الغبار الرمادي الأصفر يغطي الكون، العواصف الصحراوية تهب يعقبها نباح الكلاب، صوت طلقات الرصاص من بعيد، أهي بنادق صيد؟! هل خرج الإنجليز في رحلة للصيد في الصحراء أم خرجوا مع كلابهم في حملة استكشاف أوكار الفدائيين؟! كلابهم لديها جهاز عصبي حساس يعرف رائحة العدو، هذه الرياح الصحراوية قد تحمل رائحة الفدائيين إلى أنوف الكلاب، الرياح قادمة من ناحية الجبل، أينقلب الجبل ضد المسلمين ويصبح مع الإنجليز؟!
كان السؤال يدور في رأسي وأنا واقفة أنتظر سائق اللوري، أتلفت حولي في دهشة لا أكاد أعرف من أين جئت وإلى أين أمضي؟! الأرض مفروشة داخل الخيمة بقطع من فروة الخرفان، سرير من الصاج ترقد فوقه وديدة، فوقها كليم من الصوف، طشت نحاس وإبريق ماء، تحت وسادتها المصحف الكريم، آية منقوشة تتدلى عند باب الخيمة
إن ينصركم الله فلا غالب لكم ، مقعد من القش المجدول، كنبة من البامبوه أو عيدان البوص المشغولة بأيدي النساء من البدو، حصيرة فوق الأرض من القش أو الجريد.
كانت وديدة راقدة في سريرها تحملق في الظلمة، تنظر إلى أصابع يديها، أصابع شاحبة رفيعة تهتز في الضوء الشاحب، ترسم على الجدار ظلالا سوداء على شكل أصابع، عيناها شاخصتان مفتوحتان لا يطرف لهما جفن. سرت فوق جسدي قشعريرة، «وديدة!» ناديتها بصوت هامس، لم تتحرك شفتاها، تصورت أنها ماتت في هذا الوضع، يدها اليمنى فوق صدرها، صغيرة ناعمة كأصابع الطفلة، خاتم الخطوبة يلتف حول إصبعها، يشع في الظلمة ضوءا خافتا ذهبي اللون.
بعد عام واحد من هذا اليوم كنت أمشي في فناء مستشفى قصر العيني الجديد، رأيت وديدة تمشي منحنية الظهر ترتدي ملابس الحداد السوداء، تصورت أن خطيبها قتل في الحرب؛ لكنها أجهشت بالبكاء، وهمست في أذني: يا ريته كان مات في الحرب على الأقل كنت أفتكره بالخير ... مسحت دموعها وصمتت، تصورت أن خطيبها تعرض لخيبة الأمل مثل أحمد حلمي، يحقن نفسه بالسم لينسى الخيانة، الحرب مثل وابور الطحين يا وديدة، إن لم تقتل الجسد قتلت الروح، يصبح الإنسان ميتا وإن عاش.
أجهشت وديدة بالبكاء المكتوم، أنفاسها تتقطع مع كلماتها وهي واقفة في فناء المستشفى: موت الضمير أفظع شيء يا نوال، والرجل الخائن للحب يخون الوطن أيضا. كان خطيبها من البوليس السياسي، تنكر في زي الفدائيين، عاد من القنال سرا قبل حريق القاهرة 26 يناير 1952. اختفى عن خطيبته وديدة ستة شهور حتى قيام ثورة ضباط الجيش يوم 23 يوليو، ظهر اسمه في الصحف بعد بضعة شهور، فتحت وديدة الجريدة ذات صباح، رأت صورته وخبرا عن حفل زفافه إلى ابنة أحد رجال الثورة، كان الحفل ليلة عيد رأس السنة الجديدة أو يناير 1953. ارتدت وديدة ملابس الحداد السوداء، ابتلعت مائة قرص لونه أسود مع كوب من الماء، تمددت في سريرها داخل عنبر الممرضات، أنقذوها في المستشفى بغسيل سريع للمعدة. أجهشت بالبكاء حين عادت إلى الحياة، حاولت الانتحار مرة ثانية، أنقذها من الموت طبيب جديد في سنة الامتياز، وقعت في حبه وكفت عن الانتحار.
بعد عشرة أعوام وأنا أمشي داخل حديقة الحيوان التقيت أحمد حلمي وجها لوجه، كان ذلك في يوم حار من صيف عام 1963، كنت أهبط في الصباح الباكر من بيتي في شارع مراد، أمشي مسافة دقيقة أو دقيقتين لأصبح في شارع الجيزة، أمام باب حديقة الحيوان. لم أكن أدفع رسوم الدخول، أصدر الطبيب البيطري للحديقة أمرا بإعفائي من الرسوم، قلت له: إنني أكتب رواية طويلة جديدة، وأن الوحي لا يهبط علي إلا وأنا أتمشى في ممرات الحديقة. كان رسم الدخول خمسة قروش فقط، ليست لها قيمة الآن، كانت تبدو لي منذ سبعة وثلاثين عاما مبلغا كبيرا لا يمكنني دفعه كل صباح، وكان الطبيب البيطري يتابع ما أنشره من قصص ومقالات. - وإيه عنوان الرواية الجديدة يا دكتورة نوال؟ - الباحثة عن الحب يا دكتور.
لمعت عيناه الضيقتان لحظة ثم انطفأ البريق، كأنما عادت إلى ذاكرته صورة من الماضي البعيد، كان رجلا قصيرا ممتلئ الجسم في الخمسين، يبدو لي عجوزا وأنا في مرحلة الشباب. كنت أقف أمام جبلاية القرود، تلفت حوله في دهشة يتأمل وجوه الحيوانات، كان الشمبانزي جالسا مربعا فوق جذع شجرة يشبه الإنسان. تركته واقفا يتأمله وسرت إلى حديقة الشاي، هناك كانت المنضدة التي أجلس إليها كل يوم وأكتب الرواية، أتسلى بمراقبة البط في البحيرة الصغيرة، يسبح تحت أشعة الشمس الذهبية، يفرد أجنحته ويطير فوق سطح الماء، ينفض عن ريشه الرذاذ، تتناثر من حوله القطرات اللؤلؤية، تشع ضوءا مثل ذرات تتساقط من الشمس.
كنت أكتب الفصل الأخير من الرواية، كانت البطلة قد أعلنت لبطل القصة أن ما بينهما قد انتهى، وسألها بدهشة كيف ينتهي الحب؟! قالت: الحب ينتهي مثل زهرة تموت ولا تعود، مثل فراشة تطير فوق الزرع يقبض عليها الأطفال وتموت في أيديهم. سألها: هل في حياتك رجل آخر؟ قالت: ليس في حياتي رجل آخر، لكن في حياتي نساء ورجال كثيرون، بعد أن خرجت من خندق الحب إلى الحياة الواسعة.
رفعت وجهي من فوق الأوراق، كانت الشمس قد مالت نحو الغرب، أسراب البط عادت إلى بيوتها، رأيت إلى جواري شخصا واقفا، كان يرتدي قميصا أبيض، ونظارة سوداء تخفي عينيه، ابتسم قليلا، تذكرته على الفور. - أهلا يا أحمد. - إزيك يا نوال!
لم تعد كلمة نوال بصوته تهزني، لا شيء يدق تحت ضلوعي، لعب الزمن دوره في نسيان الألم والحزن والفرح والحب، قميصه الأبيض أصبح مثل أي قميص، نظارته السوداء مثل أي نظارة سوداء، واسمه أحمد حلمي أنطقه كأي اسم عادي.
جلس معي بعض الوقت قبل أن ينصرف، طلبت له كوب شاي، قال: أتذكرين حين جلسنا هنا في أول لقاء لنا منذ اثني عشر عاما؟!
كنت أذكر اللقاء الأول، لم تعد الذكرى تؤلمني أو تفرحني، جلست معه أشرب الشاي كما أجلس مع أي زميل أو صديق، أتكلم معه بحرية وسهولة، أصبحت العلاقة بيننا أكثر إنسانية.
لم تعد علاقة بين رجل وامرأة، تحررنا من ثقل التاريخ والإرث العبودي القديم، جلست معه ودار الحوار بيننا أجمل مما كان، نكهة الشاي أصبحت أحلى مما كانت، أصبح أحمد إنسانا بعد أن كف عن أن يكون زوجي.
إجهاض الثورة
صباح السبت 15 يوليو 2000.
جالسة إلى مكتبي أحاول الكتابة، أود أن أنهي هذا الجزء الأخير من قصة حياتي، القلم بين أصابعي لا يتحرك، شريف يقرأ الصحف في الصباح، ثم يجلس إلى مكتبه يواصل كتابة روايته الجديدة، لا أعرف كيف ينتقل بهذه السهولة من قراءة الأخبار إلى كتابة الرواية؛ إن قرأت الصحف أتوقف عن الكتابة يوما أو يومين حتى يزول التوتر والغضب، حتى أنسى حوادث القتل والحرب، أو أخبار المفاوضات من أجل السلام، كلاهما محكوم بقوة السلاح والمال والإعلام؛ الثالوث الذي يحكم العلاقات بين الدول أو الجماعات والأفراد.
أصبحت أقرأ الصحف بطريقتي الخاصة، أكتشف التناقض بين السطور المكتوبة وغير المكتوبة، والصور المرسومة في الصفحة الأولى، الابتسامات العريضة فوق الوجه واليد تختفي وراء الظهر ممسكة بآلة القتل. هذا الصباح كانت صورة الثالوث في كامب ديفيد الثانية، منذ واحد وعشرين عاما كانت كامب ديفيد الأولى، الوجوه الثلاثة في الصفحة الأولى، الرئيس الأمريكي والرئيس الإسرائيلي والرئيس المصري، يبتسمون للكاميرا ويتفاوضون من أجل السلام، كلمة السلام تعني الاستسلام أمام بطش السلاح والمال والإعلام. خرج الرئيس المصري صفر اليدين يبتسم للكاميرا يعلن الانتصار، وفي عيد النصر 6 أكتوبر 1981 انطلقت مائة وعشرون رصاصة في صدره، سقط قتيلا وهو يشهد موكب النصر المصنوع من البالونات والألعاب النارية الملونة، سار في جنازته الرؤساء الأميركيون والإسرائيليون وتخلف الشعب المصري عن الموكب. ذلك اليوم كنت في زنزانة داخل سجن النساء بالقناطر الخيرية، كان الرئيس المصري القتيل هو الذي أمر باعتقالي ضمن المعارضين لمعاهدة كامب ديفيد، كان يسميها معاهدة النصر والسلام، أصبح اسمها اليوم معاهدة الهزيمة والاستسلام، لا تتكشف الأوراق السرية للمفاوضات والمعاهدات إلا بعد عشرين أو ثلاثين عاما من حدوثها، لا تعرف الشعوب شيئا عما يدور في المداولات السرية، تنشر الصحف وأجهزة الإعلام أخبارا ملفقة، يعيش الناس في أوهام النصر، وأوهام الثراء بعد الموت، في قصور الجنة، يموتون والابتسامة على وجوههم وقلوبهم محروقة وفلذات أكبادهم مقتولة.
هكذا كانت صورة الرئيس الفلسطيني في كامب ديفيد الثانية، يبتسم للكاميرا، يداه وراء ظهره فارغتان، لا يملك شيئا، لا السلام ولا المال ولا الإعلام، ظهره عار لا يستند إلى أية قوة، جردوه من سلاحه ومن شعبه، جروه إلى مائدة المفاوضات في كامب ديفيد.
الرئيس الأمريكي يبتسم في وجه الرئيس الإسرائيلي، أياديهما تتشابك من وراء الظهر، يتبادلان السلاح والمال والإعلام، حصلت إسرائيل بالأمس فقط على 2,8 مليار دولار، وحصلت مصر على 2 مليار دولار، صدر قرار الكونجرس الأميركي والمفاوضات تجري في كامب ديفيد. قرأت الخبر في الصحف بالأمس، واليوم السبت 15 يوليو 2000 أرى صورة الرؤساء الثلاثة الأميركي والإسرائيلي والفلسطيني، تحت الصورة مانشيت كبير يتألق تحت أضواء النصر: تلعب مصر دورا قياديا في عملية السلام كامب ديفيد الثانية كما لعبت في كامب ديفيد الأولى.
شريف يناولني الصحيفة لأقرأ الأخبار، أختفي في غرفتي، أشعر بالعار! ما علاقة خبر المعونة الأمريكية لمصر ومعاهدة كامب ديفيد الأولى والثانية؟!
كلمة المعونة تجعل الدم يصعد إلى رأسي، كأنما شريان سينفجر حتما، ترن كلمة المعونة في أذني نابية، مثل البصقة أو الصفعة على الوجه. منذ عهد السادات أصبحت مصر تتلقى المعونة الأميركية؛ من أجل استمرار المعونة تحدث التنازلات. قلت لشريف: الدولة التي تعيش عالة على غيرها كالمرأة أو الطفل الذي يعيش عالة على غيره، منذ بلغت سن الرشد أصبحت أعول نفسي بنفسي، لكن كيف يكون الفرد مستقلا في وطن غير مستقل؟!
منذ الطفولة أهتف مع أبي، الاستقلال التام أو الموت الزؤام. لم أعرف ما هو الموت الزؤام، تصورت أنني لن أموت وإن سرت إلى الموت بقدمي، كنت أسمع أمي تقول: نرمي نوال في النار ترجع سليمة. أصبحت أمشي داخل النار دون أن أحترق، أسافر إلى جبهة القتال ثم أعود دون أن أموت.
كم مرة سافرت وعدت من دون أن أفقد ذراعا أو ساقا، بعد هزيمة 1967 تطوعت ضمن مجموعة من الأطباء، سافرنا إلى جبهة القتال في القنال، كان عددنا ستة أطباء متطوعين، انقسمنا إلى ثلاث فرق، كل فرقة تتكون من طبيبين، سافرت الفرقة الأولى إلى السويس، والثانية إلى الإسماعيلية، والثالثة إلى بورسعيد، كنت ضمن الفرقة التي سافرت الإسماعيلية مع زميل لي اسمه الدكتور طلعت حمودة.
كان صباحا مكفهرا ملبدا بالغيوم، تركت مكتبي في وزارة الصحة لأركب العربة اللوري إلى مدينة الإسماعيلية، جلست إلى جوار السائق في المقعد الأمامي، صعد طلعت حمودة من الخلف وجلس فوق دكة خشبية بين الصناديق المعبأة بزجاجات الدم والبلازما، كان شابا من عمري نحيف الجسم قصير القامة، يمكن أن يجلس بسهولة في أي مقعد، الطريق بين القاهرة والإسماعيلية يستغرق بالسيارة حوالي الساعتين، عجلات العربة اللوري ضخمة تضرب الأسفلت بقوة، أصابع السائق طويلة سمراء مشققة، تحوط عجلة القيادة كالأم تحتضن طفلها في صدرها، عيناه غائرتان تحت جبهة عريضة تتطلعان نحو جبهة القتال بشيء من القلق، يرتدي بدلة صفراء مهترئة، طاقية فوق رأسه لونها أصفر شاحب، شعر رأسه كثيف مجعد يتخلله الشيب، عمره خمسون عاما، بدا لي عجوزا وأنا في تلك المرحلة من الشباب، كنت أناديه عم محمد، يناديني باسم الضكطورة ... يذكرني بلهجة دادة أم إبراهيم وأقاربي في القرية، كان صامتا طوال الطريق، مستغرقا في التفكير، جسده القصير الممتلئ يهتز مع اهتزازات العربة اللوري، أصوات الزجاجات تتخبط داخل الصناديق، صوت الدكتور طلعت حمودة يأتينا من الخلف: فاضل كام كيلو يا عم محمد على الإسماعيلية؟ - أربعة كيلو يا ضكطور. - أنا سامع أصوات انفجارات. - أيوه يا ضكطور. - جايه منين دي يا عم محمد؟ - عساكر إسرائيل بيضربوا الإسماعيلية من البر التاني.
أتابع الحوار بين السائق والدكتور طلعت حمودة دون أن أدرك ماذا يحدث، لم أكن أعرف ما هي الحرب حتى ذلك اليوم في نهاية عام 1967، لم أكن أسمع صوت القنابل إلا في الأفلام، لم أكن شهدت القتلى والأشلاء الممزقة إلا في الصور.
سمعت صوتا غريبا، يشبه صوت الريح تعوي بصفارة حادة تكاد تخرق الأذن، يشبه صوت طائرة نفاثة أو جسم صلب مدبب يخترق الكون بسرعة تفوق سرعة الضوء. كانت العربة اللوري قد دخلت الإسماعيلية، ضغط السائق على دواسة البنزين، اختار الطرق الجانبية بعيدا عن شاطئ القنال، لم تكن إلا دقائق حتى وصلنا إلى المستشفى، في هذه الدقائق توقف عقلي عن التفكير، اختفى الدكتور طلعت حمودة تحت الصناديق، أخفيت رأسي بذراعي الاثنتين، سمعت عم محمود يقول: ربنا ستر يا ضكطورة، فيه دانة عدت من ورانا، ربنا ستر!
كانت المرة الأولى التي أسمع فيها كلمة «دانة» إنها مثل القذيفة التي تنطلق في الجو وتحدث ذلك الصوت الشبيه بصفارة الريح العاتية، يعقبها على الفور صوت الانفجارات. رأيت جدرانا تسقط ونيرانا تشتعل، أغمضت عيني كأنما في الحلم، كأنما العربة اللوري تمشي داخل النار، وصوت أمي يأتيني من تحت الأرض: نوال نرميها في النار ترجع سليمة.
فتحت عيني على مشهد عجيب، وجدت نفسي واقفة أمام باب المستشفى، العربة اللوري واقفة بجوار الرصيف داخلها الصناديق، مقعد السائق عم محمد خال ليس فيه أحد، فقط ذراعه اليمنى بأصابعه الخمسة السمراء المشققة قابضة على عجلة القيادة، أين ذهب جسد السائق عم محمد؟! رأيت بعض الوجوه من حولي، وصوتي يقول كأنما ليس صوتي: فين عم محمد؟! فين الدكتور طلعت حمودة؟!
كان الدكتور طلعت حمودة منبطحا تحت الصناديق فوق أرض العربة اللوري، أخرجوه من الباب الخلفي شاحب الوجه يهمس بصوت متحشرج: حصل إيه يا دكتورة نوال؟ - مش عارفة يا دكتور طلعت.
رأيت من حولنا بعض التمورجية بالمرايل البيضاء، أصواتهم تصرخ فينا: ادخلوا المخبأ بسرعة! أخذوني والدكتور طلعت حمودة إلى المخبأ تحت المستشفى ، كان هناك مدير المستشفى والأطباء والممرضات والتمورجية وعدد من الجرحى، سمعت أصواتا تقول: عم محمد راح، مسكين، ضربته الدانة، وفجأة اهتز المخبأ كأنما زلزال يرج الأرض، تساقط التراب فوق رأسي من السقف، تصورت أن السقف سوف يسقط، وسوف نموت كلنا تحت الأنقاض.
توالت القذائف والدانات فوق المكان الذي نحن فيه، انخلع قلبي وانبطح الجميع فوق الأرض، تصورت أنهم ماتوا جميعا وأنا الوحيدة على قيد الحياة، ثم سمعت صوت مدير المستشفى يقول: الضرب المرة دي جاد، يظهر عاوزين يهدوا المستشفى. وقال أحد الأطباء: أصلهم بقوا قريبين أوي مننا، بقوا على الناحية التانية من القنال قصادنا على طول، وجايز شايفينا.
كان الجنود الإسرائيليون قد وصلوا إلى الضفة الأخرى من قناة السويس، بعد احتلالهم لأرض سيناء كلها بعد خمسة أيام فقط من حرب يونيو 1967، وكان التراب يتساقط فوق رأسي وأنا جالسة فوق الأرض متكورة حول نفسي، أضع يدي فوق أذني حتى لا أسمع صوت الدانات التي تصفر وتعوي كالريح العاتية، يعم السكون لحظة ثم تدوي الصفارة في أذني، يعقبها صوت الانفجار ويتساقط مزيد من التراب فوق رأسي، اخترقت إحدى الدانات جدار المخبأ ورأيت مدير المستشفى راكعا يصلي يقرأ الشهادة بصوت مرتعش.
يوم من الأيام السوداء في حياتي، رأيت الموت دون أن أموت، دون أن أفقد الوعي لحظة واحدة.
غرقت تحت التراب المتساقط من السقف إلا أنني بقيت في مكاني أتنفس، وكان هناك في الناحية الأخرى جهاز تليفزيون فوق منضدة، كانت الصور تظهر على الشاشة رغم الدانات، لم ينقطع التيار الكهربي، ولم ينقطع الإرسال لحظة واحدة، لم أعرف ماذا كان يعرض فوق الشاشة، ربما أحد الأفلام القديمة لأني رأيت راقصة تشبه سامية جمال ترقص وفريد الأطرش يغني. كان مشهدا غريبا مذهلا، نحن في الإسماعيلية غارقين تحت التراب تنهال علينا الدانات من الجيش الإسرائيلي المرابط على ضفة القنال، ومدينة القاهرة ترقص وتغني.
بدا المشهد كأنما في مسرحية عبثية، وقد تطوعت للموت من أجل وطن يرقص ويغني بينما أنا أموت، إلا أنني نجوت وعدت إلى القاهرة بعد عدة أيام. مات زميلي الدكتور طلعت حمودة بعد أسبوع واحد بالسكتة القلبية وهو يقود سيارته في الشارع بجوار وزارة الصحة. وقلت لشريف: تصور يا شريف كان التلفزيون نازل رقص وغنا واحنا تحت الأرض بنموت! يظهر التلفزيون في بلد واحنا في بلد تانية! وكتبت قصة قصيرة بعنوان بلد غير بلد. ودق جرس الباب صباح يوم، رأيت أحد الرجال يناولني ورقة صغيرة: استدعاء الدكتورة نوال السعداوي للحضور إلى إدارة المخابرات العامة بسراي القبة. أخذني شريف بسيارته الفيات الصغيرة إلى مبنى المخابرات، انتظرني في الشارع ما يقرب من ست ساعات، تركوني في غرفة تشبه الزنزانة أربع ساعات، ثم جاء رجل بوليس، أخذ يحقق معي ساعتين، أول سؤال كان عجيبا: لماذا سافرت إلى الإسماعيلية؟ أدركت أننا نعيش في دولة المخابرات، وأن النظام في مصر لم يتغير منذ الملك فاروق، وكما طارد البوليس الفدائيين بعد أن عادوا من حرب 1951، وحرب 1956، فإنه يطارد الأطباء الذين تطوعوا لبناء الطوارئ الطبية في مدن القنال الثلاث بعد حرب 1967.
أما الدكتور طلعت حمودة فقد مات بالسكتة القلبية بعد أيام قليلة من عودتنا من الإسماعيلية، ترك وراءه زوجة شابة وطفلين صغيرين، أقاموا له في وزارة الصحة حفل تأبين، يشبه حفل تأبين زميلي أحمد المنيسي الذي استشهد على أرض القنال في نهاية عام 1951، حفروا اسمه على لوحة الشهداء في فناء الوزراء، سقطت اللوحة بعد سنوات قليلة، وراح اسم طلعت حمودة في العدم، بمثل ما راح اسم أحمد المنيسي وأحمد حلمي وغيرهما من الفدائيين. أما السائق عم محمد فقد اندثر اسمه مع جسمه في العدم، دون حفل تأبين، دون لوحة شرف يسقط فوقها اسمه.
في صيف عام 1968 أرسلت نقابة الأطباء إلى جبهة القتال في الأردن فريقا من الأطباء المتطوعين، كنت الطبيبة الوحيدة التي تطوعت للسفر ضمن مجموعة من خمسة أطباء، لماذا تطوعت؟! لا أعرف، كنت في حاجة إلى السفر بعيدا عن القاهرة، بعيدا عن الصحف وشاشة التلفزيون، لم أكن أطيق رؤية تلك الوجوه التي تظهر فوق الشاشة أو على الصفحة الأولى من الجرائد اليومية، لم أعد أطيق سماع الأكاذيب في الإذاعات، سجلت اسمي ضمن الأطباء المسافرين إلى جبهة القتال في الأردن.
وجدت نفسي أعيش في خيمة بمنطقة الأغوار بالقرب من السلط، أركب عربة الإسعاف مع امرأة يداها وقدماها محروقة بالشمس، تلف رأسها بالشال الفلسطيني، يسمونها أم الفدائيين. كانت عربة الإسعاف تنطلق بنا في الليل تقود العربة فتاة فلسطينية فدائية، عيناها مرفوعتان إلى أعلى، فيهما بريق خاطف، تتطلع نحو شاطئ نهر الأردن، إلى جوارها سلاحها، السيارة مصفحة من نوع الجيب، عجلة القيادة كبيرة تقبض عليها يد الفتاة، أصابعها طويلة، عظامها قوية تشع من تحت الجلد ما يشبه الضوء، وحركة خفيفة لها إرادتها الخاصة، أصابع كالحديد لا تلين، قابضة على عجلة القيادة الحديدية كأنما هي لعبة أطفال، أرمق يدي خلسة وأنا جالسة إلى جوارها، عظام أصابعي تبدو رقيقة هشة، يدي اليمنى معقودة مع يدي اليسرى فوق حجري، يدها اليمنى تقود السيارة وحدها دون الاستعانة بيدها اليسرى؛ مبتورة عند الكوع، تستعين بها حين تهتز فوق مطبات الطريق.
كانت صامتة شاخصة إلى الأمام، وجهها من الجانب من الفولاذ أو الماس، نوع من الأحجار الكريمة المشعة، لا أستطيع أن أحرك عيني بعيدا عن هذا الأنف المرفوع الشامخ، يشق الظلمة مثل نصل السيف، أيكون لأنفي مثل هذه الارتفاعة الشامخة، لم تحرك رأسها ناحيتي، وأنا لا أحرك رأسي بعيدا عنها.
في المقعد الخلفي جلست أم الفدائيين، عيناها غائرتان عميقتان تغطيهما طبقة شفافة من الدموع، تشبه اللمعة الخاطفة أو الابتسامة الدائمة، تشبه أم إبراهيم أو جدتي الفلاحة في قريتي على ضفاف النيل، ملامح وجهها مؤكدة في عتمة الليل، الجبهة البارزة القوية مثل النتوء الصخري يطل على النهر، يناديها الفدائيون «أمنا»، كما ينادون الأرض الضفة الأخرى من النهر، حيث الوطن والأهل، هي تناديهم أطفالي كما تنادي الأرض نبتها الأخضر. لم يكن لها بيت، لا رجل ولا أب ولا أم، البيوت كلها بيتها، الرجال كلهم رجالها، النساء نساؤها، في ذاكرتها منذ ثلاثين عاما قصة حب، وجنين في أحشائها لم تلده أبدا، أو ولدته ثم ضاع منها في الأغوار.
الظلام مكتمل والقمر والنجوم غابت، العربة المصفحة تشق الليل كالسهم المارق، الجنود الإسرائيليون يطلون علينا من أبراج المراقبة، الظلمة تحوطنا، تخفينا عن عيونهم، وصلنا إلى حطام مدينة اسمها الكرامة، وقعت معركة الكرامة من شهرين فقط، 21 مارس 1968، قتل كل سكانها. توقفت العربة بجوار جدار أسود مثقوب بالرصاص والدانات، مرسوم عليه وجه طفل يبتسم، عين الطفل اليمنى مثقوبة تحت الابتسامة وحروف متعرجة محفورة في الحجر: سنقاتل حتى الموت. البيوت كلها متهدمة، الشوارع والأزقة خالية من البشر. عثرت وأنا أمشي في شيء صغير، فردة حذاء طفل، انحنت الفتاة الفدائية بجسمها النحيف الممشوق، التقطت فردة الحذاء بأصابعها الطويلة القوية، ضمتها إلى صدرها كأنما تضم الطفل، عيناها مرفوعتان تشقان الظلمة، تتطلعان إلى الأرض وراء النهر، إلى البيت القديم الذي ولدت فيه، كانت في العاشرة من عمرها حين استولى الإسرائيليون على البيت، ذبحوا أباها أمامها، أربعة منهم اغتصبوا أمها واحدا وراء الآخر، ثم بقر أحدهم بطنها قبل أن يقطع ثدييها بخبطة واحدة. أخوها أخذوه إلى السجن الذي يسمونه سجن الأنصار، قطعوا أصابع يده اليمنى، لم يعد قادرا على حمل السلاح، يجلدونه كل يوم بالسياط، يدخلون في فتحة الشرج عمودا من الحديد، يطفئون السجائر في جسده، بتروا ساقيه وذراعيه، دون جدوى، لا يمكن أن يعترف، لا ينطق اسم أحد زملائه الفدائيين أو الفدائيات، نماذج من القوة الإنسانية يعجز عنها الخيال.
عادت الفتاة إلى العربة ومعها فردة الحذاء، وضعتها إلى جوار سلاحها، وانطلقت في الأغوار. عند حافة النهر توقفت، كان هناك الجريح راقدا داخل العشب، حوطته أم الفدائيين بذراعيها كالأم تعثر على ابنها، تناديه باسم طفلها الغائب، لم تعد الأسماء تهم، غسان أو يوسف أو فتحي أو زياد، كلهم هذا الجسد الجريح ينزف الدم، فقد ذراعيه وساقيه، يئن بصوت مكتوم، يناديها أمي، وهي تغرقه بدموعها وتناديه ابني.
حملنا الفدائي الجريح إلى الخيمة في معسكر السلط، شفي بعد ثلاثة شهور، أصبح يمشي داخل مقعد يتحرك فوق العجلات، جسد ورأس بلا أطراف، عيناه زرقاوان عميقتان تشعان ما يشبه اللهب الأزرق، ابتسامته عريضة، أسنانه بيضاء مثل فصوص من اللؤلؤ.
في المدرسة الابتدائية في منوف كانت لي زميلة اسمها حميدة مبتورة الساقين، داست عليهما عجلات كارو في يوم العيد، لم يكن في إمكاني النظر إلى جسمها المبتور، يرتعد جسدي لمنظر الأجساد المشوهة، كأنما التشويه مرض معد ينتقل لمجرد النظر.
في الخيمة كنت أنام تحت رأسي قطعة حجر ناعمة دافئة تشع حرارة الشمس في الليل، إلى جواري أم الفدائيين نائمة عيناها نصف مفتوحتين، شفتاها نصف منفرجتين، أنفاسها عميقة مسموعة في صمت الليل، ملايين الأصوات الخافتة الهامسة تصنع الصمت، تدوي في أذني بكلمة واحدة: «ابني».
تركت في القاهرة ابني عاطف عمره عامان ونصف، وابنتي منى عمرها عشرة أعوام، يرعاهما زوجي شريف، غبت عنهم ثلاثة شهور ونصف الشهر، الحنين إليهم يشدني إلى القاهرة، أود العودة وأود البقاء. بدأت رواية جديدة أعطيتها عنوان: عين الحياة، بطلتها امرأة تشبه أم الفدائيين، طويلة القامة فارعة مثل جدتي الفلاحة في القرية ، هذه المرأة ظلت تتراءى لي في النوم حتى جلست إلى مكتبي، تجسدت فوق الورق باسم عين الحياة. بعد عودتي إلى القاهرة كنت أتابع أخبارها حتى ماتت في مدينة عمان بالأردن في سبتمبر الأسود عام 1970، قبل موت جمال عبد الناصر بشهر واحد؛ لكنها بقيت حية في روايتي عين الحياة، يقرؤها الناس في بلادنا العربية، وفي بلاد أخرى بعد أن نشرت الترجمة فيما بعد. أستعيد صورتها وهي تمشي على حافة النهر تبحث، لم يكن بحثا عاديا تعرف فيه الشيء المفقود، أو تعرف أنها قد تجده وقد لا تجده، كان بحثا غريبا عن ابن لم تلده، أو ولدته ثم ضاع منها في زمان ومكان لا تدري عنهما شيئا. •••
الليلة الأخيرة في معسكر السلط قبل أن أعود إلى القاهرة، خرجت من الخيمة أتمشى في الأغوار، كنت أرتدي بدلة الفدائيين، من فوقها معطف الأطباء الأبيض، الليل ساكن إلا من حفيف الأشجار، صوت مياه النهر من بعيد، نسمة الصيف الناعمة تتسلل بين جبال الأردن، أمشي في الأغوار كأنما أمشي في حلم داخل حلم. أسمع وقع حذائي على الأرض الصخرية، لونها أحمر كالدم يغطيها عشب أخضر، ريح باردة خفيفة من الشمال لها رائحة الخيال، نسمة دافئة تهب من الناحية الأخرى، حيث يرقد الشاب قبل أن يفقد أطرافه، أغمض عينيه ويحلم أنه عاد إلى الضفة الغربية حيث ترقد أمه العجوز، تبحث في النوم عن ابنها الغائب في الضفة الشرقية، تصطك أسنانه قليلا كأنما من الرجفة، أو رعشة الخيال، الريح محملة برائحة الحلم، صوته يسري في أذني في سكون الليل: أراك في معطفك الأبيض تسيرين بين الخيام، أراك بالعين في جسدي، في مكان غير المكان الذي توجد فيه العيون، هل عندك وقت لأكشف لك عن هذه العين وأخبرك بسر قوة ذراعي وساقي؟! لا تخافي يا دكتورة هناك في الضفة الأخرى وراء النهر أعداء اعتقدوا أنني مت، لكني لم أمت، أنا فقط جريح، والجرح ليس في محجر العين، أنا أراك هنا والآن في ضوء القمر المختفي، أشهد ما بعد الموت ، لماذا أنت صامتة؟ هل أنت جريحة مثلي؟ لا تخافي إن فقدت ذراعيك وساقيك، ما دمت قادرة على الاستماع إلي، فأنت قهرت الموت، قهرت العدو داخلك قبل العدو هناك على الضفة الأخرى، وأنا مثلك قادر على الاستماع إليك، ليس لأمثالك إلا الاقتراب، أو التلامس جسدا لجسد، أعطيني يدك، ضعيها فوق صدري العاري لألمسها وتلمسين، انتظري لا تبتعدي عني، لا تخافي من شكلي المختلف، ربما فقدت أطرافي لكني لم أفقد قلبي، لست من الرجال الذي يغتصبون النساء في الظلمة، لم يعد لي جسد رجل أو امرأة، إنما هي الرغبة الأخرى يا دكتورة، أتعرفين الرغبة الأخرى؟!
كان راقدا فوق ظهره مبتور الذراعين والساقين، حول عينه اليسرى رباط من الشاش الغارق في الدم، بشرته بلون الطوب الأحمر، لم يكن وهما ولا خيالا، كان فدائيا فلسطينيا في لحظات الاحتضار الأخيرة، يفتح فمه ويغلقه في صمت، يحاول أن يكشف قبل أن يرحل عن سر خفي، اقتربت بأذني من فمه وقلت: تكلم ... أنا أسمعك يا غسان. - يا دكتورة أتعرفين الرغبة الأخرى؟! كل الأجسام الراقدة هنا في الخيام كانوا شبابا مثلي فقراء، لا يملكون شيئا في الحياة إلا أجسادهم، وهذه الأجساد أيضا لا يملكونها، تملكها القيادة العسكرية، وهي قيادة لها رائحة تشمينها من البعد، أتعرفين رائحة القيادة؟! هواء ثقيل بارد يهب من هذه الناحية، انظري، لم أكن أعرف أن السلطة لها رائحة، ولها صوت يصطك مثل قرقعة الحديد أو ارتطام الفولاذ بالمعادن الصلبة، يتحول الصدى إلى صوت أشبه بهذا الصوت الذي نسمعه، اسمعي!
حركت رأسي في الاتجاهات الأربعة أحاول التقاط صوت الريح فلم أسمع إلا صمت الليل، ملايين الأصوات الهامسة التي تصنع الصمت، قربت أذني من فمه. - لا أسمع شيئا يا غسان. - لأنك فقدت أذنيك يا دكتورة منذ زمن بعيد، منذ ولدت على هذه الأرض، وأردت أن تحمي نفسك من سماع الكلمات النابية؛ مثل كملة «مرة»، ألم تسمعي كلمة السباب الأولى فوق هذه الأرض؟ إذا أرادوا إهانة رجل يقولون له: «ابن المرة». إن أعدائي قادرون على تمزيق جسدي بالألم، لكنه أخف منذ هذه الإهانة، وفي يوم قال لي قائدنا أو زعيمنا كما يسمونه، قال لي: «ابن المره»، منذ ذلك اليوم فقدت أذني حتى لا أسمع الكلمة مرة أخرى. لم أكن فعلت شيئا سوى أنني لم أضع قليلا من السكر في فنجان قهوته، نسيت أنه يشرب القهوة ع الريحة كما تقولون في مصر، وكان يفقد مزاجه إن لم يشرب قهوته ع الريحة في الصباح، يصبح هائجا كالضبع، يكاد يعض من حوله بأسنانه، ومن فمه تنثال كلمات السباب، أولها هذه الكلمة يا ابن المره! وهربت من المعسكر بعد أن فقدت أذني، وكنت قد فقدت ذراعي اليمنى في عملية فدائية داخل الضفة الأخرى، في قلب أرض العدو، التي كانت أرض أمي، نجحت في تدمير معسكر العدو وبدأت أهرب لأعود إلى هنا، وأنا أزحف فوق بطني شممت رائحة أمي في الأرض، تمهلت قليلا، توقفت لحظة أملأ صدري بالرائحة، وانهمرت طلقات الرصاص من حولي مثل سرائب الحمام الأبيض في ظلمة الليل، لم أعرف أنها طلقات رصاص، كنت مستغرقا في اللذة الطفولية، عدت طفلا أدس أنفي داخل صدر أمي وأملأ صدري بالرائحة، أتذكرين رائحة أمك يا دكتورة؟! - رائحة أمي؟!
فاجأني السؤال، ماتت أمي منذ تسع سنوات، نسيت رائحة أمي، بدأ الهواء يتحرك حاملا لي الرائحة، أوشكت الإمساك بها قبل أن تتسرب من الذاكرة، لكن الهواء تحرك بفعل الريح؛ فهربت مني كما تهرب السمكة الصغيرة من بين أصابعي في البحر.
جلست فوق قطعة حجر بجوار الخيمة، وهو راقد كما كان فوق ظهره، قطعة مربعة من اللحم البشري بلا ذراعين ولا ساقين، عين مربوطة بالشاش، العين الأخرى ترمقني في الظلمة كالنجمة الوحيدة في سماء سوداء، صوته يدخل مسام جسدي مع نسمة الليل كالحلم. - هربت من المعسكر يا دكتورة أزحف فوق قطعة من الخشب لها أربع عجلات، أدفعها بكتفي، لم أعرف ماذا أفعل بجسمي بلا أطراف ولا آذان ولا عيون، ولا شيء إلا هذا الصدر المكشوف والضلوع تحتها قلبي يخفق ممتلئا بالحنين للحب، ورأيت عيون الأطفال ترمقني من بعيد في خوف، يتحسسون أذرعهم وسيقانهم، يطمئنون إلى وجودها، يخشون فقدانها، كأنما يرون مستقبلهم في، وعيون الكبار ترمقني من بعيد أيضا، يلقون إلي بقطعة من النقود من بعيد، لا يكاد يقترب مني أحدهم إلا وضاعت منه أطرافه وأذناه وعيناه، تسقط قطعة النقود فوق بطني، ألتقطها بلساني، الذي أصبح يدي ألتقط بها الأشياء، وصنعت لي القيادة ملفا صغيرا ضمن ملفات أصحاب العاهات أو الشحاذين، كنت ألتقط طعامي من فضلات الناس في الطريق، وإذا جاء المبعوث الأميركي يزور قائدنا تنتشر عربات الجيب المصفحة في الشوارع تلم الشحاذين، تكنس الشوارع من القمامة، تدهن سيقان الأشجار بالبويا البيضاء، ترفع الأعلام وأقواس النصر، تحولت من الفدائي وجه الوطن المشرف إلى الوجه المخزي المطلوب إخفاؤه كالعورة عن عيون الضيوف. - وكيف عدت إلى معسكر الفدائيين يا غسان؟ - آه يا دكتورة، هذا سؤال مهم، جاءني مندوب من القيادة وسألني؛ أيهما تفضل: أن تعيش شحاذا محتقرا أم تموت شهيدا مكرما؟ قلت على الفور: أموت! كنت أنشد الموت دون جدوى، أريد أن أمسك بيدي مسدسا أو موس حلاقة لأقتل نفسي، لم تكن لي يد أمسك بها آلة القتل، ربطوا حول صدري وبطني حزاما من القنابل الموقوتة، حملوني مثل طرد من الديناميت إلى معسكر الأعداء لسوء الحظ لم تنفجر القنابل، كانت كلها مغشوشة، صفقات الأسلحة الفاسدة تجارة دولية، تقتسم القيادات الربح فيما بينها. سقطت أسيرا بين أيدي الأعداء تشاءموا من منظري فأعادوني إلى قيادتي كنوع من العقاب لها، وضعوني في هذه الخيمة في معسكر السلط.
كلما أرادوا تفجير معسكر في الضفة الأخرى ربطوا حزام القنابل حول صدري وبطني، أنطلق في مهمتي سعيدا، وعندي أمل وحيد، ألا تكون القنابل مغشوشة لأموت شهيدا وأدخل الجنة مع الأنبياء، ويحصل أبي بعد موتي على المعاش، كان أبي ينشد موتي فهو رجل فقير يعول أسرة كبيرة. أحيانا أصدق أن هناك جنة بعد الموت، وأحيانا تبدو لي الجنة مجرد خدعة من اختراع القيادة، أتعرفين أحدا في هذه القيادة يا دكتورة؟ القيادة هي القيادة في أي بلد في العالم، هل وقعت في حب أحدهم؟ هل وقع أحدهم في حبك؟ - أنا يا غسان؟! - أيوه! إنت! كيف جئت إلى هنا يا دكتورة؟ لا أحد يأتي إلى هنا من دون أن يمر على القيادة، دون أن تفحصه القيادة، إنهم رغم قبح الملامح، فيهم شيء من الجاذبية، وتشتد الجاذبية بارتفاع المكانة؛ لهذا يحظى القائد بنصيب أكبر من النساء ... هل أغراك أحدهم بالتطوع والموت في سبيله؟! نعم في سبيله وليس في سبيل الله أو الوطن؛ فالمرأة أكثر ذكاء من الرجل، لا يمكن أن تموت المرأة من أجل كلمة مجردة، بل من أجل شيء ملموس حقيقي؛ مثل جسد رجل له ذراعان يضمانها في الليل، وأنا رجل بلا ذراعين ولا ساقين لم تعد هناك امرأة ترغب في الموت من أجلي.
الساعة تنقضي وراء الساعة وأنا جالسة فوق قطعة الحجر بجوار الخيمة، وهو راقد فوق ظهره، صدره يعلو ويهبط بأنفاس متقطعة، تعلوه طبقة من التراب والدم، عينه الوحيدة لا تزال مفتوحة ترمقني في الظلمة وتومض مثل ذؤابة ضوء توشك على الانطفاء، صوته ينخفض قليلا، يتقطع، أكاد لا أسمعه، أقرب أذني من فمه. - استمر ... أنا أسمعك يا غسان. - صوتك الحنن يكشف أنك عرفت في حياتك رجالا كثيرين، إن صدرك مثل صدر الأم رقدت فوقه رءوس كثيرة متعبة، لكنك كنت تطردين الرجال الأطفال الباحثين عن الأم، كنت تبحثين عن رجل مكتمل الرجولة يحمل السلاح ويقتل العدو، تريدين فدائيا شجاعا لا يخاف الموت، تضعين رأسك فوق صدره كأنما هو صدر أمك؛ ألهذا جئت إلى هنا يا دكتورة؟! - لا يا غسان، أنا لا أبحث عن صدر أضع عليه رأسي، لكني بعد الهزيمة لم أعد أطيق الحياة في مدينة القاهرة، الهواء هناك أصبح مشبعا بالدخان والهزيمة، العيون منكسرة حزينة، حتى جمال عبد الناصر نفسه تهدلت ملامحه وانكسرت عيناه مثل الأسد الجريح. - سمعت من الزملاء أنك كاتبة، هل جئت إلى هنا بحثا عن رواية جديدة؟ كنت في طفولتي أكتب الشعر وكانت هناك لها عينان سوداوان مملوءتان بالأمل والحلم مثل شعاع الشمس ، عيناها أراهما بعيني الواحدة تشبهان هذه الطفلة؟ - هل تراني يا غسان؟ - لا يا دكتورة، لا أراك؛ لأن العين الباقية لم تعد ترى، لكني أراك بقلبي، صوتك يذكرني بصوت أمي، أحلم كل ليلة أنني عدت إلى حضن الأم في الوطن القريب البعيد، أحلم بامرأة لها صدر الأم وجسد الأنثى، لكن الأمومة والأنوثة لا يجتمعان في امرأة واحدة، وأنت طبيبة وكاتبة لا يمكن لرجل أن يلمسك إلا إذا كان جريحا أو موضوع رواية جديدة، أتحلمين مثلي بالموت ودخول جنة عدن؟ لكن الجنة خلقت لنا نحن الذكور وليس فيها للإناث دور إلا الجواري الحوريات، أتعرفين هذه الحقيقة يا دكتورة؟ - نعم أعرفها يا غسان؛ لذلك لم أحلم أبدا بدخول الجنة. - أنت إنسانة ذكية، كشف زيف الذكورة والأنوثة، تجتازين المحيط الواسع بينهما بخطوة واحدة من قدمك، وأنا أريد منك طفلا يرث ذكاءك قبل أن أموت، أتحققين رغبة إنسان فقد كل شيء من أجل الوطن إلا القدرة على الإنجاب؟!
رأيته يضغط على أسنانه كأنما يكتم ألما عميقا في الجسد، يمر بلسانه على صدره المملوء بالجروح والكدمات، كان يتحرك فوق المقعد ذي العجلات بصعوبة، يريد أن يتبول، يخجل أن يتبول أمامي، تحت الشعر الأسود الكثيف أسفل بطنه كانت المثانة منتفخة ممتلئة حتى الحافة، يجز على أسنانه من شدة الألم، أسمع صوت اصطكاك الفكين القويين، وأقدام حديدية تصطك بالأرض، شباب فدائيون استيقظوا من النوم بدءوا يؤدون التدريبات، ينظفون بنادقهم يملأونها بالرصاص، يطلقونها في الجو، الفجر لم يطلع بعد، وأنا متكورة حول نفسي أمام باب الخيمة، أرتدي المعطف الأبيض فوق بدلة الحرب، في جيبي قلم رصاص جاف، في الجيب الآخر مفكرتي اليومية، قد أنزع منها ورقة غير مكتوبة لأكتب عليها اسم دواء، أو كلمة غسان، صوته أصبح ممزوجا بالعرق والدم. الآن لم يعد جسده يفزعني، لم أعد أراه مشوها، أحوطه بذراعي كأنما هو طفلي، حملت به وولدته في مكان وزمان لا أدري عنهما شيئا، إنه يموت بين ذراعي، أنا أحقق له رغبته الأخيرة قبل أن يموت.
مات غسان تلك الليلة قبل أن يطلع الفجر، وضعوه داخل حفرة في الأرض وأهالوا التراب فوقه، عدت إلى القاهرة صباح اليوم التالي، كان شريف ينتظرني بالمطار، رآني شاحبة الوجه معفرة الملابس، سألني: ماذا حدث في الأردن؟ قلت: مات غسان يا شريف. قال: من هو غسان يا نوال؟ قلت: شاعر مجهول ربما ينجب طفلا ذكيا في جنة عدن يرجم إبليس بالحجارة. ضحك شريف وقال: أهي رواية جديدة؟!
كان ذلك في نهاية صيف عام 1968، لم أكن أعرف أنه بعد عشرين عاما بالضبط سوف يتزايد عدد الأطفال في فلسطين، أطفال من الأولاد والبنات يشبهون غسان، ملامحهم فدائية منحوتة في الصخر، عيونهم يكسوها البريق، أصابعهم قوية، أعدادهم كثيرة أكثر من الأعداء، قلوبهم شجاعة لا تهاب النار ولا تطمع في الجنة، قلوب أطفال ولدوا بلا أب ولا أم، يمسك الواحد منهم أو الواحدة منهن حجرا. قامت ثورة الأطفال عام 1988، عرفت باسم ثورة الحجارة، انتصر الأطفال على الجنود المسلحين، أصبحت ثورتهم حديث العالم، كادت موازين القوى تنقلب ضد إسرائيل لولا عملية الإجهاض السرية، المؤامرة الجديدة تحت اسم المفاوضات في أوسلو ومدريد، وكامب ديڨيد الأولى والثانية، ولا نكاد نعرف متى تكون الثالثة والرابعة، ربما بعد الموت في يوم القيامة.
الطيران في الحلم
من نافذة الطائرة أطل على الغابة الصغيرة التي يسمونها غابة ديوك، عصفت بها رياح المحيط الأطلنطي والهوريكين، خلع عنها الشتاء أوراقها، أشجار البلوط تلمع عارية تحت الشمس، رءوسها حليقة منتظمة في صفوف، كرءوس الجنود في المحافل والمارشات العسكرية. أشجار الأرز مثلثة الرأس تومض أوراقها بدوائر الضوء، الثالوث المقدس في عيد المسيح، يسمونه الكريسماس، نحن في اليوم الأخير من الشهر الأخير من عام 1996، وأنا في طريق العودة إلى الوطن بعد سنوات المنفى، أشجار الصنوبر بسيقانها النحيفة الرشيقة تتمايل مع الهواء مثل راقصات الباليه. من وراء النافذة الصغيرة المستديرة، لوحت بيدي أودعهم، أربع من طالباتي واثنان من الطلبة، جاءوا نيابة عن الفصل إلى المطار، عيونهم تلمع فيها الابتسامات والدموع، ينادونني باسم دكتر ساداوي، كريس أصغرهم سنا، عمره عشرون عاما، عيناه زرقاوان بلون مياه المحيط، أكثرهم انتباها في فصل الإبداع والتمرد، طويل ممشوق، بشرته بيضاء ملوحة بالشمس، في حفل الوداع بالأمس عزف أغنية على الجيتار من تأليفه وتلحينه:
خذيني معك إلى الشاطئ الإفريقي
يا ابنة النيل عيناك ساحرتان
الليل أقضيه حبيس الإنترنت
وفي الغابة أجري كالحصان
أذناي مسدودتان بالسماعات
رأسي مشدود بالأسلاك
عيناي تنظران ولا تريان
آه يا أستاذة التمرد والإبداع
أريد أن أطير معك في الحلم
إلى حيث أعثر على نفسي من جديد.
إلى جوار كريس كانت تجلس كارولين، تتريض معي أحيانا في الغابة، تفضل الرسم على الكتابة، في طفولتها كانت مثلي تطير في الحلم، لم تحلم أختها بالطيران أبدا. سألتني كارولين: لماذا يعجز بعض الناس عن الطيران في النوم؟! أهدتني لوحة رسمت فيها نفسها محلقة في الجو، تحرك ذراعيها في الهواء وتطير كما كنت أفعل في أحلامي بدون أجنحة. وهي فتاة أميركية ولدت في مدينة نيويورك، عيناها زرقاوان، نفاذتان، بشرتها سمراء، ولدتها أمها في حي هارلم الفقير، أبوها أسود اللون جندوه في حرب فيتنام ولم يعد، حصلت على منحة تفوق وجاءت إلى جامعة ديوك تدرس الرسم والإبداع، تشتغل وأمها في هارلم، تشتغل عاملة في مصنع للبلاستيك، تنفق على البيت وأطفالها الأربعة.
قالت كارولين وهي تودعني: سأدخر ثمن التذكرة إلى القاهرة وأزورك يا نوال، أصبحت تناديني باسمي، رغم فارق العمر نتبادل الحديث كأنما من عمر واحد، في طفولتها تذهب مع أمها إلى الكنيسة، كانت في العاشرة من عمرها، سرقت من زميلة لها في المدرسة قلما ملونا، كانت تحب الرسم ولم تكن تملك ثمن القلم الملون. سمعت في الكنيسة أن السرقة حرام، وأن الاعتراف ضروري لمسح الذنوب، تسللت من وراء أمها وذهبت إلى القسيس، طلب منها أن تركع وتعترف، أغمضت عينها واعترفت بالسرقة، ربت القسيس بيده على كتفها وقال: غفر الله لك يا كارولين. ثم امتدت يده من كتفها إلى صدرها وبطنها، همس في أذنها: لا تخافي ولا تصرخي أنت فتاة مؤمنة يحبها الله. لكن كارولين صرخت من الألم، عرفت أمها ما حدث، تكتمت الخبر، خرجت كارولين من الحادثة سليمة، لم تحمل بالمسيح مثل العذراء مريم، وفقدت إيمانها بالله والكتاب المقدس.
أول يوم دخلت إلى الفصل سألت الطالبات والطلبة: لماذا اخترتم هذا الفصل بالذات؟ قال كريس: أنا أدرس الموسيقى، كنت متمردا منذ الطفولة، أريد أن أعرف العلاقة بين التمرد والإبداع. وقالت كارولين: أنا أدرس الرسم، في الطفولة كنت أحلم بالطيران، أختي لم تكن تطير في الحلم، أريد أن أعرف لماذا يعجز بعض الناس عن الطيران في الحلم. وقالت طالبة هندية اسمها مايا: قرأت روايتك «فردوس»، وتغيرت حياتي، فوجئت باسمك ضمن الأستاذات في جامعة ديوك، جئت إلى هنا لأكون طالبة من فصلك. بشرتها سمراء، عيناها سوداوان يكسوهما البريق، شعرها أسود غزير، في نهاية العام الدراسي بدأت تكتب رواية طويلة قبل أن تعود إلى الهند.
كان شريف قد سبقني في السفر إلى القاهرة، قال لي: يمكننا العودة إلى الوطن وقد زال الخطر إلى حد كبير، جاءتنا رسائل تقول إن قائمة الموت لم تعد هناك والأحوال في مصر أكثر هدوءا. سافر شريف، وبقيت في جامعة ديوك ثلاثة شهور أخرى حتى انتهى العام الدراسي.
الطائرة تحلق فوق المحيط الأطلسي متجهة شمالا نحو نيويورك، أول مرة ركبت الطائرة منذ سبعة وثلاثين عاما، منذ الطفولة كان هناك حلم يتكرر أنني أطير في الجو، أحرك ذراعي كالجناحين وأشعر بجسمي ينفصل عن الأرض ويحلق في السماء، كأنما أمتطي جوادا له جناحان، أخترق السحب، أجدني في عوالم أخرى وبلاد لا أعرفها، وأتلفت حولي في ذعر، أرى الأرض بعيدة راقدة في الظلمة، ومصباح صغير في نافذة وطفلة مؤرقة في الليل ترمق الطائرة في السماء، تلمع في الخضم الأسود كالنجمة.
تشهق جدتي حين أحكي لها الحلم. - هذه ليست أحلام البنات. - وماذا تحلم البنات يا جدتي؟ - يحلمن بالعريس وفستان الزفاف.
لكني لم أحلم بالعريس أو فستان الزفاف، وفي كل عيد يشتري لي أبي فستانا جديدا، ويشتري لأخي طائرة صغيرة لها زمبلك. كان أخي يلوي الزمبلك بأصابعه حتى يتكسر، يقذف الطائرة في الهواء، لكنها لا تطير، تسقط إلى الأرض، كنت أجلس إلى جوار حطام الطائرة ثقيلة القلب، أجمع أشلاءها وأعيد تركيبها لتصبح طائرة من جديد، أركب الزمبلك مكانه أسفل البطن، أحركه ناحية اليمين دورة واحدة أو دورتين، فجأة تتحرك الطائرة وتحلق في الغرفة، أصفق بيدي الاثنتين وأصرخ من الفرح، تسمعني جدتي أو إحدى النسوة من عائلة أمي أو أبي، أرى تكشيرة الغضب فوق وجهها، تشد الطائرة من يدي وتلقي بها على الأرض ثم تصرخ: تعالي المطبخ لا وقت للعب!
كنت أفضل اللعب بالطائرة على تقشير البصل والثوم، وأهمس لأمي بأحلامي، كانت أمي في طفولتي تحلم بالطيران مثلي، لكنهم أمسكوها كما تمسك الفرخة قبل الذبح، وساقوها إلى حفل زفاف تحت إيقاع الطبول.
منذ ركبت الطائرة لأول مرة عام 1963، لم أتوقف عن السفر، سبعة وثلاثون عاما رأيت فيها بلاد العالم، كتبت الجزء الأول من رحلاتي في كتاب صدر منذ خمسة عشر عاما، لم أنشر الجزء الثاني بعد، ربما أفعل ذلك بعد الانتهاء من هذا الكتاب الجديد.
الطائرة تحلق بي فوق المحيط الأطلسي متجهة نحو الجنوب بعد الهبوط في نيويورك جاءت المضيفة الأميركية تجر العربة عليها المشروبات، انحنت باسمة سألتني: ماذا تشربين يا سيدتي؟ قلت: جين تونيك. تذكرت صديقتي بطة منذ ثمانية وثلاثين عاما حين سمعت منها لأول مرة كلمة «جين تونيك»، كان ذلك بعد موت أبي في فبراير 1959، أصبح الجين تونيك مشروبي المفضل، يساعدني قليلا على الاسترخاء، أنسى قليلا مشاكل الحياة، أتحرر من مخاوفي الراقدة في قشرة المخ، مخاوف صغيرة مكبوتة منذ الطفولة. رغم عشقي للطيران كنت أخاف من ركوب الطائرة، أراها تسقط وتتحول إلى حطام. اهتزت الطائرة قليلا وأنا أقول «جين تونيك»، سمعت الصوت ينبعث من الميكروفون يقول: اربطوا الأحزمة، نمر ببعض المطبات الهوائية. كم مرة سمعت هذا النداء خلال رحلاتي في العالم على مدى سبعة وثلاثين عاما، مئات المرات! آلاف المرات! وفي كل مرة لا يحدث شيء، لا تسقط الطائرة؛ مع ذلك ما إن أسمع النداء حتى أتصور أن الطائرة سوف تسقط حتما هذه المرة.
أخذت كأسين من الجين تونيك، تبعتهما بزجاجة نبيذ أحمر بوردو، سرى الدفء في أوصالي، شعرت بالنشوة، شحنة من الحياة تدفقت في عقلي وجسدي، تلاشى الخوف من سقوط الطائرة، جاءت المضيفة الأمريكية مرة أخرى بالمشروبات، كانت ابتسامتها مشرقة كالشمس، بدت أجمل امرأة رأيتها في حياتي، قالت بصوت رقيق: ماذا تشربين قبل العشاء يا سيدتي الجميلة؟ رنت كلمة «جميلة» في أذني كالموسيقى، منذ الطفولة لم يكن أحد من عائلة أمي أو أبي يقول عني «جميلة»، كنت أسمع أحيانا كلمة «ذكية»، لكن كلمة «جميلة» لم يكن ينطقها أحد، إلا في وصف واحدة من أخواتي اللاتي ورثن بشرة أمي البيضاء، وأصابعها الناعمة البضة، واستدارات جسمها الممتلئ وعينيها العسليتين الوادعتين، وصوتها الرقيق. كانت هذه هي مقاييس الجمال الأنثوي، أما أنا فقد ورثت بشرة أبي السمراء، والقامة الطويلة النحيفة، العينين السوداوين المرفوعتين لا يطرف لهما جفن، «تندب فيهما رصاصة» بلغة جدتي والدة أمي.
في المقعد المجاور لي بالطائرة كان هناك رجل، صعد من نيويورك لم أنتبه إليه إلا بعد الجين تونيك والنبيذ الأحمر، كنا يرشف النبيذ على مهل مع حبات من الفستق، يقرأ في جريدة الجارديان، ملامحه من الجانب تبدو مألوفة، هذا الأنف المرتفع في كبرياء يشبه أنف أبي، هذه الجبهة العريضة تشبه جبهة شريف، هذا الشعر الأبيض الغزير أراه في المرآة كل يوم، بشرته مزيج من السمرة والحمرة، رغم الخطوط الغائرة قليلا حول الفم والأنف تبدو بشرته مشدودة بلا تجاعيد، هذا الوجه رأيته من قبل، ربما فوق الشاشة، يكاد يشبه جريجوري بيك، هذه الوسامة الطبيعية غير الذكورية، هذا المزيج من الشباب والكهولة والطفولة، الجسم القوي الممشوق مع بياض الشعر واستقرار الملامح، عيناه يكسوهما بريق أشبه بالجنون وهدوء مثل العقلاء والحكماء من الفلاسفة في التاريخ، مزيج عجيب! لا أدري أهي ملامحه الحقيقية، أم هو خيالي الجامح وأنا أطير في السماء أرشف الجين تونك والنبيذ الأحمر؟!
رأيته يرمقني بطرف عينه، تظاهرت أنني لا أراه، ربما كان يتأمل شعري الأبيض الغزير مع بشرتي السمراء الملوحة بالشمس، ربما لمح البريق الأسود في عيني وأنا أبتسم للمضيفة وأقول: زجاجة أخرى من النبيذ وقليل من الفستق يا سيدتي. ابتسمت المضيفة ووضعت أمامي زجاجة البوردو وصحنا مليئا بالفستق والبندق، سمعت صوت أسناني تقرقش بشهية الطفلة، كنت جائعة، أتشمم رائحة العشاء من غرفة الأكل والمضيفة ترص الصواني فوق العربة، جاءني صوته بعد قليل، سمعته بوضوح رغم أزيز الطائرة: إلى أين أنت ذاهبة؟ - إلى القاهرة، وأنت؟ - إلى لندن. - هل أنت إحدى نجمات السينما، ملامحك مألوفة تماما، كأنما رأيتك فوق الشاشة، لا أذكر اسم الفيلم ولا المخرج، أهو فيليني أو ستانلي كوبريك؟
ضحكت بصوت لم أسمعه بأذني منذ تسعة وثلاثين عاما كان ذلك في صيف عام 1959، بعد موت أبي بخمسة شهور، قرأ المخرج صلاح أبو سيف روايتي «مذكرات طبيبة»، جاءني في زيارة إلى البيت، كان يريد إخراج الرواية كفيلم سينمائي، ثم قال لي قبل أن ينصرف: إيه رأيك تمثلي إنت دور الدكتورة في الفيلم؟!
ضحكت يومها وقلت: لا يمكن يا أستاذ صلاح. ليه يا دكتورة نوال؟ عندك وجه فوتوجينيك وعندك موهبة كمان ... قلت: موهبة في الكتابة وليس في التمثيل. قال صلاح أبو سيف: الموهبة الفنية هي الموهبة، في الكتابة، في الموسيقى، في التمثيل، على العموم فكري في الموضوع، حاتصل بيكي بالتليفون بعد أسبوع.
كانت مواعيد صلاح أبو سيف دقيقة، جاءني صوته بعد أسبوع بالضبط يسألني عبر الأسلاك: رأيك إيه يا دكتورة نوال؟ - رأيي إن الرقابة حترفض الفيلم. - أيوه، لكن ممكن نغير بعض المشاهد في السيناريو، كل المخرجين بيعملوا كده. - لكن، إذا غيرنا حاجة في الرواية حتبقى رواية تانية وليست مذكرات طبيبة. - يمكن أقدر أفوت الرواية من الرقابة، لكن قررت إيه بخصوص التمثيل؟
خلال ذلك الأسبوع أخذت رأي الصديقات بطة وسامية وصفية، ضحكت بطة وقالت: خذيني معك يا نوال طول عمري أحلم إني أكون نجمة سينمائية. ومطت سامية بوزها في وجهي وقالت: تمثيل إيه وكلام فارغ إيه يا نوال ... دي حاجات غير محترمة في بلادنا. وقالت صفية: أنا متأكدة إن الرقابة حترفض الرواية، وتبقى المشكلة محلولة.
كان ذلك في يوليو 1959، مصر تتأرجح بين اليسار واليمين والوسط والإخوان المسلمين، أعوان عبد الناصر يضربون أي رأي لا يدين بالولاء والطاعة، والرقابة على الكتب والأفلام والصحف وكل شيء. رفضت الرقابة رواية مذكرات طبيبة. حاول صلاح أبو سيف مرة أخرى بعد عامين، لم ينجح في الحصول على الموافقة. حاول مرة ثالثة عام 1966، ومرة رابعة عام 1972، ثم سمعت صوته اليائس عبر الأسلاك يقول: المشكلة ليست في الرواية يا دكتورة، المشكلة في اسم نوال السعداوي. - ما له الاسم يا أستاذ صلاح؟! - بيقولوا عليكي شيوعية.
كانت المضيفة قد جاءت بالعربة عليها صواني الطعام، سألتني: سمك أم لحم البقر أم فراخ؟ تحيرت لحظة وقلت: ما رأيك أنت؟ ابتسمت وقالت: كله لذيذ يا سيدتي. ضحكت وقلت: هاتي كله! ضحك الشاب الكهل الشبيه بجريجوري بيك الجالس إلى جواري وقال للمضيفة: أظن أن لحم البقر الأكثر لذة يا سيدتي. - لماذا يا سيدي؟ - لأنه مريض بالجنون.
أطلقت المضيفة ضحكة عالية متحررة من قيود الأرض، ووضعت أمامه طاجنا ملتهبا خارجا لتوه من الفرن، تفوح منه رائحة اللحم المشوي والبازلاء الخضراء، لم أكن بهذه الجرأة لأمرض بجنون البقر، رغم الجين تونيك والنبيذ الأحمر كانت خلية في عقلي لا تزال واعية تماما، خاضعة لقيود الأرض والمنطق، تؤكد لي أن السمك المشوي أو الفراخ المشوية أفضل للصحة من اللحوم الحمراء. توقفت عن أكل اللحم الأحمر منذ عامين؛ بسبب ارتفاع الكوليسترول في الدم، وبسبب ما أقرأه في الصحف الأمريكية عن مرض جنون البقر في بريطانيا. كان جريجوري بيك يلتهم طاحن اللحم بشهية الأطفال، أسنانه بيضاء حادة مثل أسنان الذئب، عيناه تلمعان بلون السماء الأزرق تشوبه خضرة الزرع. - هل قال لك أحد من قبل أنك تشبهين صوفيا لورين؟! - وهل قال لك أحد من قبل أنك تشبه جريجوري بيك؟!
ضحكنا طويلا وجاءت المضيفة تجر العربة عليها زجاجات الليكور الصغيرة، أنواع من المشروبات المركزة التي يشربها الأثرياء بعد وجبات الطعام كنوع من مسك الختام، أخذ زجاجة صغيرة من الكونياك «ديمي مارتن»، وأخذت أنا زجاجة من الليكور، له نكهة البرتقال، اسمه «كوانترو».
دار بيننا حوار طويل، طوال المسافة ما بين نيويورك ولندن، سبع ساعات ونصف ساعة نتحاور معا دون انقطاع، نام الركاب جميعا في الطائرة، إلا هو وأنا، شحنة من الحياة والسعادة تغمرني من قمة الرأس حتى بطن القدمين، حالة من الحالات لم أعشها منذ كنت في العاشرة من العمر، تشبه الطيران في الحلم، أرمق جناح الطائرة الفولاذي الأسود يشق السحب البيضاء كأنما هو خيال، أو مشهد في فيلم سينمائي، وأنا ألعب دور صوفيا لورين، ولماذا صوفيا لورين بالذات؟ في أول الشباب حين كنت طالبة بالسنة الأولى بالجامعة كان بعض الطلبة ينتظرونني أمام مدخل الكلية، أسمع أحدهم يقول: سامية جمال جت أهه! صديقتي بطة كانت تقول إنني أشبه إستر ويليامز، لكن صفية تقول إنني أشبه صوفيا لورين، أما سامية فكانت تراني عاطلة من الجمال، إلا العينين. فقط عيناك يا نوال، والباقي كله لا شيء، صحراء جرداء. تمط بوزها إلى الأمام وهي تنطق الكلمتين: صحراء جرداء.
تكلمنا سبع ساعات ونصفا دون أن أسأله أو يسألني عن اسم أبي أو جدي، أو جنسيتي أو ديني أو قبيلتي أو عائلتي أو أي شيء آخر من هذا القبيل. بدت كل هذه الأشياء غير ضرورية، المكتوبة في جواز السفر، وما يسمونها عناصر الهوية أو الشخصية، بدت في تلك اللحظة كأنما هي أغطية، مجرد أغطية، تخفي حقيقة الإنسان أكثر مما تظهرها.
وكأنما جزء من الحقيقة بدأ يظهر فوق السطح، مثل جبل الثلج تحت الماء، يظهر بالتدريج مع يقظة ما يسمونه اللاوعي، أو على الأصح غياب الوعي، ربما بسبب الارتفاع الشاهق فوق كوكب الأرض واكتشاف الكواكب الأخرى، أو ربما التغيير الكيميائي داخل خلايا المخ إثر النبيذ والجين تونيك والكوانترو. - يبدو أنك سافرت كثيرا في بلاد العالم. - وأنت أيضا؟ - سافرت إلى كل بلاد العالم ما عدا البلاد العربية وإسرائيل. - لماذا؟ - لأني غاضب من حكومة إسرائيل ومن الحكومات العربية، كنت أحد المسئولين في الأمم المتحدة عما يسمونه مشكلة الشرق الأوسط، ثم قدمت استقالتي. - قدمت استقالتك من الأمم المتحدة؟! - منذ ثلاثة أيام فقط في اجتماع نيويورك الأخير.
فرد ذراعيه عن آخرهما وملأ صدره بشهيق عميق أعقبه بزفير طويل، وقال: أخيرا تحررت من سجن الوظيفة بالأمم المتحدة بعد ثلاثين عاما، عشت ثلاثين عاما كالسجين، أسيرا للقوى الدولية ومحكمة العدل ومجلس الأمن، كنت أفكر كل يوم في الاستقالة، لكني لم أكن أملك حريتي، كنت أسيرا لمؤسسة أخرى داخل البيت.
حركته وهو يفرد ذراعيه عن آخرهما ويقول «أخيرا تحررت من سجن الوظيفة» يكاد يشبه أبي حين فرد ذراعيه عن آخرهما بعد أن أحالوه إلى المعاش وصاح بعد أن أخذ شهيقا عميقا أعقبه بزفير طويل: أخيرا تحررت بعد ثلاث وثلاثين سنة، كنت رهين المحبسين الوظيفة الحكومية وسرير الزوجية. - هل أنت متزوجة؟ - نعم. - وعندك أولاد وبنات؟ - ابنة واحدة وابن واحد، وأنت؟ - عندي ثلاث بنات، تخرجت الكبرى من كلية الصيدلة؛ لكنها لم تحب رائحة الأدوية فالتحقت بفرقة موسيقية في سويسرا، الابنة الوسطى درست الأدب المقارن ثم سافرت إلى باريس، حيث تزوجت زميلا لها من جنوب إفريقيا، الابنة الصغرى في لوس أنجلوس ضمن حركة نسائية جديدة يسمونها ما بعد الفيمينيست. ضحك بصوت طفولي وقال: أنا مع تحرير المرأة، لكن ابنتي تعيش مع زميلة لها أمريكية، تفخر بأنها «ليزبيان»، أنا لست ضد الحرية الجنسية؛ لكني لا أنجذب للذكور، ربما أكون رجلا تقليديا عجوزا، وأنت؟ ماذا عن ابنتك وابنك؟ - ابنتي تخرجت من كلية الاقتصاد وحصلت على درجة الماجستير والدكتوراه، لكنها تركت كل ذلك وتفرغت للأدب وكتابة القصص والمقالات، وابني تخرج من كلية الهندسة واشتغل مهندسا لمدة أسبوع واحد فقط ثم تفرغ للإخراج السينمائي. - فانتاستيك! هذا جنون رائع! وأنت؟ - أنا تخرجت من كلية الطب وكذلك زوجي شريف، لكنه ترك الطب وتفرغ للأدب وكتابة الروايات، وأنا أيضا كاتبة روائية. - أنتم أسرة عجيبة مجنونة، وكلكم تعيشون في القاهرة. - نعم.
لم يكن سألني عن اسمي حتى ذلك الوقت، ولم أكن سألته عن اسمه، لكني تذكرت أنني قرأت عن استقالة أحد المسئولين بالأمم المتحدة في إحدى الصحف قبل هبوط الطائرة في نيويورك، كان هو قد غادر مقعده واختفى قليلا ربما في دورة المياه. رأيت جريدة الجارديان تطل من الجراب أمام مقعده، بدأت أتصفحها حتى رأيت صورته في إحدى الصفحات، وحوارا قصيرا معه عن أسباب استقالته. أعدت الجارديان إلى مكانها في الجراب، عاد إلى مقعده يحمل لفة صغيرة مربوطة بشريط أخضر رفيع، وضعها في حقيبته الصغيرة تحت مقعده، ضحك وقال: لا بد من هدية صغيرة لزوجتي أكفر بها عن ذنوبي الكبيرة. - قرأت الحوار معك في الجارديان. - ما رأيك؟ - أتفق معك في كل شيء إلا شيئا واحد! - ما هو؟ - كان يجب أن تستمر في موقعك ولا تستقيل؛ لأن شخصا آخر سوف يحتل مكانك وينفذ ما يريدون. - أنا معك، لكني تعبت، ثلاثون سنة وأنا أعيش هذه المأساة، أشارك في هذه اللعبة السياسية التي يسمونها اجتماعات الأمم المتحدة، وقرارات مجلس الأمن، وكلها مجرد لعبة للتغطية على جرائم إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، لم تنفذ إسرائيل قرارات مجلس الأمن، بينما تقوم الأمم المتحدة بنزع أسلحة الدمار الشامل في العراق والبلاد العربية والإفريقية والآسيوية. لم تتحرك لنزع السلاح النووي في إسرائيل؛ لأن الولايات المتحدة ومعها بريطانيا، تريدان أن تكون إسرائيل القوة العسكرية النووية الوحيدة في المنطقة. تملك إسرائيل أكثر من مائتين وخمسين صاروخا محملا برءوس نووية، أين ستوجه هذه الرءوس؟ إلى بغداد ودمشق والقاهرة وطهران وأنقرة وأي بلد في المنطقة لا يدين بالولاء والطاعة! وهذه اللعبة السياسية التي يسمونها مفاوضات السلام في الشرق الأوسط! أيمكن أن يكون هناك سلام وشعب العراق يموت منه الآلاف يوميا من الجوع تحت الحصار لأكثر من ثمانية أعوام؟! وهذه الأكذوبة عما يسمونه برنامج النفط مقابل الغذاء؟ هل يعقل أن فريق التفتيش على أسلحة الدمار الشامل في العراق الذي يضم موظفين في المخابرات الأميركية يعيدون صياغة التقارير كما يشاءون؟! هل يعقل أن يتم تحميض الأفلام في إسرائيل، هذه الأفلام التي تم تصويرها في العراق بواسطة فريق التفتيش؟ هل يعقل أن المخابرات الإسرائيلية الموساد كانت تزود فريق التفتيش بالمعلومات عن المواقع الهامة كي يتم تدميرها بالكامل، ولإسرائيل خبرة في هذا منذ ضربت المفاعل النووي في العراق. وهذه المهزلة التي يسمونها تحريك عملية السلام، والمفاوضات المسدودة لتحقيق بعض حقوق الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي لا تتنازل إسرائيل عن شيء، بل يزداد عدد المستوطنات ويزداد عدد القتلى من الفلسطينيين! وبكل أسف فإن بعض الحكومات العربية تشارك في هذه اللعبة كما شاركت في حرب الخليج عام 1991.
توقف عن الكلام حين سمعنا الصوت ينبعث في الميكرفون يقول: اربطوا الأحزمة ستهبط الطائرة في مطار لندن، هيثرو. - أنا أعيش في لندن منذ ثلاثين عاما، زوجتي إنجليزية وهي أستاذة في الجامعة تدرس الفيزياء، شعرها أبيض مثلك وهي في جنيف الآن تحضر مؤتمرا نسائيا، إنها فيمينيست من الموجة الأولى، وهي تحب النساء أيضا، حب بريء، وليس مثل ابنتنا الصغرى في لوس أنجلوس، ثم ضحك، وسألني، هل أنت فيمينست؟! - هذه كلمة إنجليزية، وفي لغتنا العربية نستخدم كلمات مختلفة، وإن كان المعنى هو تحرير النساء، بالطبع أنا مع تحرير النساء وتحرير الرجال أيضا؛ فالمشكلة تتعلق بالنظام الأبوي منذ نشوء العبودية وحتى اليوم.
هبطنا من الطائرة، كانت الساعة في لندن السابعة صباحا، أخرجت ساعتي الصغيرة من حقيبة يدي، كانت لا تزال حسب التوقيت في «ديرهم» متأخرة عن لندن سبع ساعات. حركت الوقت إلى الأمام بإصبعين اثنين سبع دورات، رأسي يدور دائما في تلك اللحظة حين أهبط من الطائرة وأحرك الوقت إلى الوراء أو إلى الأمام، يبدو الوقت لعبة أو أكذوبة دولية أو كونية مثل قرارات الأمم المتحدة. أترنح قليلا في مشيتي مع الدوران في رأسي أو في الأرض تحت قدمي، ربما بسبب الساعات الطويلة في الجو داخل الطائرة النفاثة، لكن ما هي إلا لحظة ويعود رأسي ثابتا في مكانه، والأرض ثابتة تحت قدمي. أدب بقوة على بلاط الممر اللامع الذي يشبه الرخام الأبيض، كعب حذائي مربع متين يشبه كعوب أحذية الرجال، لا ألبس الكعب الأنثوي الرفيع العالي، خطواتي واسعة سريعة، في يدي حقيبة جلدية صغيرة، وهو يمشي إلى جواري بالخطوة الواسعة السريعة، جسمه ممشوق وشعره أبيض غزير، عيناه يكسوهما بريق طفولي، يتلفت حوله في دهشة كأنما يرى مطار هيثرو للمرة الأولى، توقف أمام بوتيك صغير يبيع البطاقات والهدايا التذكارية. - ما رأيك بأن أشتري لك هدية صغيرة من لندن؟ - أشكرك، ليس عندي وقت. - متى تقلع طائرتك إلى القاهرة؟ - الساعة الرابعة مساء. - أوهوه! الساعة الآن السابعة صباحا، أمامك أكثر من ثماني ساعات انتظار، أنا لا أطيق الانتظار في المطارات، وأنت؟ - أنا لا أطيق الانتظار أيضا، لكن معي رواية جديدة كنت أنوي قراءتها في الطائرة. - ضيعت وقتك في الكلام؟! - أبدا، لقد استمتعت بالحديث معك. - فاتت سبع ساعات مثل سبع دقائق، لم أشعر بالوقت. - الوقت أكذوبة كونية مثل قرارات مجلس الأمن.
أطلق ضحكة طفولية، مددت يدي لأودعه لكنه تراجع خطوة إلى الوراء وقال: ولماذا تودعيني الآن وأمامك ثماني ساعات؟! ما رأيك في فنجان قهوة كابيتشينو وقطعة كرواسان؟ لا أحد ينتظرني في البيت وليس عندي عمل بعد الاستقالة، ويمكن أن أبقى معك قليلا إن شئت.
دخلنا إلى الكافيتيريا، نكهة القهوة تملأني بالانتعاش، أتشمم النكهة، أملأ بها صدري في شهيق عميق، ألامس بطرق لساني رغوة اللبن المغلي الممزوج بالبن، يحترق طرف اللسان من شدة السخونة، مع ذلك لا أغتاظ ولا أتوقف عن تكرار ارتشاف السطح الملتهب، كما كنت أفعل في طفولتي، أرشف الشاي واللبن المغلي، يتصاعد البخار إلى أنفي، أتلقاه فوق وجهي، تمتصه مسام بشرتي، أضم قطعة الكرواسان كأنما هي الفطيرة التي كانت أمي تخرجها من الفرن، وهو يرمقني بعينين يكسوهما البريق، كأنما رأيت هذا البريق وهاتين العينين في مكان وزمان لا أدري عنهما شيئا، كأنما أنا أجلس في هذه الكافيتريا في مطار هيثرو منذ زمن بعيد، منذ وعيت الحياة وأصبح عندي ما يسمى الوعي، كأنما سأبقى جالسة هكذا في مكاني إلى آخر الزمن، حتى يتسرب مني الوعي وأموت.
بعد لحظة واحدة أفيق إلى أنني أجلس إلى رجل غريب، تصادف أن جلس إلى جواري في الطائرة من نيويورك إلى لندن، إنني أجلس معه في الكافيتيريا داخل صالة الترانزيت، أقرأ كلمة «الترانزيت » باللغة الإنجليزية، أعرف أنها تعني الانتظار المؤقت الذي سوف ينتهي عاجلا بعد دقائق أو ساعات قليلة. - أنت شاردة تماما، فيم تفكرين؟! - هذه الحياة غريبة جدا، تصور أن ... - نعم أتصور أن الصدفة أغرب من الخيال. - عندنا مثل عربي يقول: رب صدفة خير من ألف ميعاد. - هي تبدو لنا صدفة، لكنها ليست صدفة، وقد ركبت آلاف الطائرات وجلس إلى جواري آلاف الرجال والنساء ... ومع ذلك لم أتبادل كلمة واحدة مع أي منهم، إنها ليست صدفة يا ... فجأة توقف عن الحديث، اتسعت عيناه بدهشة، تصوري لم أعرف اسمك حتى الآن! أنت عرفت اسمي من الجارديان، لكن أصدقائي ينادونني باسم «بيل». - اسمي نوال يا بيل. - نافال؟! - نوال، بالواو. - ناوال. - لا توجد ألف بعد النون، نوال. - نوال؟ - أيوه هذا صح! - يا له من اسم عجيب، نوال!
أصبح ينطق الاسم على نحو صحيح، لم تكن كلمة «نوال» سهلة النطق لمن لا يتكلمون اللغة العربية، أغلب أصدقائي الأجانب وصديقاتي ينطقون اسمي «نافال» أو ناوال، دائما بالألف بعد النون، لكنه أصبح يناديني نوال كأنما يعرف اللغة العربية. - هل تعرف بعض كلمات عربية يا بيل؟ - كلمات قليلة جدا مثل شوكرن. - شكرا وليس شوكرن. - شوكرا. - شكرا، بدون الواو بعد الشين. - شكرا. - أيوه هذا صح. - شكرا نوال. - الاسم يأتي أولا، نقول: نوال، شكرا، وليس شكرا نوال. - نوال، شكرا.
أطلق ضحكته الطفولية المعدية، ضحكت وأنا أعلمه النطق الصحيح، وهو ينطق الحروف بدقة كأنما سيتكلم اللغة العربية حتى الموت، وأنا أضحك كما كنت أضحك في المدرسة الابتدائية في منوف. - سأقول لك سرا يا نوال، لو قلت تعال معي إلى القاهرة سأشتري تذكرة وأركب معك الطائرة الساعة الرابعة، لكني أعرف أنك لن تقولي هذا؛ لأنك إنسانة عاقلة، وأنا أيضا عاقل ... لكن هذا العقل جعلني سجين الوظيفة ثلاثين عاما، هذا العقل قضى على سعادتي في الحياة، ولقد جاءتني بعض الفرص القليلة لأخرج من السجن لكني كنت أخاف، منذ عشرة أعوام تقريبا، قابلت إنسانة مثلك في مؤتمر الأمم المتحدة في جنيف عام 1986، كدت أترك كل شيء وأسافر معها إلى ريو دي جانيرو، لكني تراجعت وعدت إلى السجن، مثل المحكوم عليه بقرار مؤبد من قوة عليا مجهولة. - ربما هي مارجريت تاتشر. أطلق ضحكة ثم واصل الحديث: تقريبا كل عشر سنوات ألتقي بهذا النوع من الناس، نساء أو رجالا، هذا النوع من الصداقة النادرة التي لا تعرف الفروق المصنوعة بين البشر، لا الجنس ولا الجنسية ولا اللون ولا العرق ولا اسم العائلة، فقط الاسم الأول: نوال.
حين نظرت إلى الساعة وجدتها الواحدة والنصف، مضت ست ساعات ونصف ونحن نتكلم دون أن نشعر، كانت الكافيتيريا قد ازدحمت بالمسافرين، ناس يجيئون يجرون حقائبهم ثم يروحون، ويأتي غيرهم بحقائبهم ثم يمضون في حياتهم دون أن يتركوا وراءهم أثرا. أتأمل وجوه المسافرين، رجالا ونساء وأطفالا، كأنما رأيت هذه الوجوه من قبل في كل المطارات، وهذه الحقائب يجرونها فوق العجلات، وهذه الفتاة الجرسونة التي تحمل الصينية فوقها الصحون والأكواب وتجري بين الموائد، وصوت الملاعق، وفرقعات سدادات الزجاجات، وصوت الثلج داخل الكئوس، ورائحة الشواء والطواجن الخارجة من الفرن. - لا بد أنك جائعة وقد أتى موعد الغداء، أنا شخصيا أشعر بجوع غريب، ماذا تشربين قبل الغداء، جين تونيك؟!
حكيت له عن صديقتي بطة وأول مرة أسمع كلمة الجين تونيك منذ سبعة وثلاثين عاما في عيادتي الطبية، بميدان الجيزة عام 1959، بعد وفاة أبي. - أنت طبيبة يا نوال؟ - نعم، ولكني كرهت المهنة، أغلقت عيادتي منذ سنين طويلة. - وماذا تعملين الآن؟ - أكتب روايات وقصصا! - فانتاستيك! أنت مجنونة يا نوال، وأنا أحب هذا الجنون، أنجذب إليه لأني أفتقده، لقد فقدت جنوني ثلاثين عاما داخل السجن، أصبحت موظفا بالأمم المتحدة أشارك في مهنة السياسة الدولية دون أن أومن بها، وأخيرا بعد ثلاثين سنة أحرر نفسي، لكن بعد فوات الأوان يا نوال، كان حلم حياتي أن أكون موسيقيا مثل شوبان أو موتسارت. - ليس هناك شيء اسمه فوات الأوان، أنت لا زلت في ريعان الشباب يا بيل. - لكني أرى نفسي في المرآة كهلا عجوزا. - المرآة خادعة وكاذبة مثل قرارات الأمم المتحدة! ضحكنا ونحن نرشف الجين تونيك، ثم طلبنا زجاجة النبيذ الأحمر، مع السمك المشوي وطاجن أرز في الفرن، وسلاطة خضراء من الخيار والطماطم والخس.
ثم سمعنا الصوت يعلن في الميكرفون عن توجه المسافرين للقاهرة إلى باب الخروج رقم أربعة، سار معي حتى باب الخروج، توقف لحظة يصافحني، تظاهرت أنني لا أرى عينيه، ابتسمت وأنا أشد على يده وأقول: سنلتقي مرة أخرى يا بيل. - هذا أكيد يا نوال، سأكتب إليك، ومن يدري ربما ترينني في القاهرة قريبا جدا. •••
استدرت قبل أن أختفي وراء باب الخروج، رأيته واقفا يلوح لي بيده، عيناه فيهما حزن عميق. سرت نحو باب الطائرة بخطوات بطيئة ثقيلة، جلست في مقعدي بجوار النافذة، دخل رجل وجلس في المقعد المجاور لي، وجهه أبيض منتفخ باللحم، كتفاه عريضان مثل مروضي الثيران في إسبانيا. خلع الجاكيت وناوله للمضيفة بحركة ذوي السلطة والنفوذ، جلس وملأ المقعد بجسده الضخم، فتح حقيبة سوداء سامسونايت وأخرج منها بعض الأوراق، راح يبحلق فيها بعينين جاحظتين قليلا، أسند رأسه إلى الوراء، ثم راح في سبات عميق. •••
في مطار القاهرة، كان ينتظرني شريف، ومنى وعاطف، الوجوه الثلاثة الحميمة رأيتها تطل علي وأنا أخرج من الباب أجر العربة فوقها الحقائب، تعانقنا بحرارة الشوق والحب. سرت بينهم أملأ صدري بنسمة الوطن الدافئة. في الليل قبل أن يحوطني شريف بذراعيه حكيت له ما حدث في مطار هيثرو، ابتسم شريف بهدوئه المعتاد وقال: أول ما شفتك في المطار قلت نوال راجعة من مغامرة مثيرة، مشكلتك يا نوال إن كل حاجة بتبان في عينيك. وضحكنا كما كنا نضحك منذ ثلاثين عاما، حين كنا نحكي عن المغامرات قبل الزواج.
Неизвестная страница