1
هذه رسالة أحسبها قد برئت في معناها من السلوة والحب جميعا، وخرجت بموضعها عن الرضا والغيظ معا، ولم تجئ من برد على الكبد، ولا من حرة في الصدر، فلا يخيل إلي فيها أني أنسكب في تعبيري كما كان يعتصرني هذا القلم في غيرها حنينا وغراما أو سخطا وموجدة.
أكتبها وقد تكافأ جانبا الحب في نفسي هونا هونا، واعتدلت مقاديرها شيئا شيئا، فلا أعتد بسبب تصغر به الحقيقة الكبيرة، أو تكبر الصغيرة، أو يجاوز بمعنى حده، أو يقصر بمعنى آخر عن حقه، ولا أحجر فيها على كلام صحيح أن يتصرف بقدر أدلته وبراهينه؛ لما أخشى من سوء موقعه في الحب، ولا أطلق فيها لكلام مزور أن يتزايد في مغالطته وكذبه؛ لما أرجو من حسن أثره عند الحبيب.
وأكتبها وقد أصبحت أرى وجهها الذي تحمله كالصورة، يحملها الحائط
2 ... وعدت أراها هي وأمثالها من الحبيبات كفقاقيع الرغوة في ألوانها وجمالها وانتفاخها ... وفراغها ... وصرت أعتقد أن الهول الهائل من النساء الجميلات إن هو إلا كذلك الرعب المخيف من جبال الثلج، في القطب: لا يمسك الجبل الشامخ بما حوله إلا خيوط واهنة من غزل الماء لو قطعتها نسمة؛ لانهار وانكفأ.
3
وأكتبها وقد خرجت إلى دنيا الناس، وكنت في الحب وإياها كالمنقطع في صحراء ضل فيها ضلال القفر، واختبل من خبال الوحشة، فهو يرى اجتماع اثنين في ذلك التيه وقيامهما معا كأنه تكوين دولة من الدول العظمى ... •••
إن البلاغة التي كتبت بها رسائلي من قبل، وما احتلت لها به، وما صورت من فنونها - هي بعينها التي تنتهي في هذه الرسالة إلى أن جمال المرأة الجميلة، ليس في ذات نفسه إلا أسلوبا من الخداع، كالذي يكون في تزويق الكلام وتمويه الحقيقة ببلاغة التركيب، غير أنه أسلوب حي في لحم ودم، ثم تزيده المرأة بفنونها وتعمية؛ لأن جمالها في صورة أخرى من صوره الكثيرة هو نفسه الرقق والاستعباد محببا في خلقة جميلة؛ ليطلب ويعشق. استعباد حي متى بدأ استمر يقوى ولا يضعف، وينمو ولا ينقص، ومن هذا كان قيد الجمال لا يفك أبدا إذا غل به أسيره من العشاق، بل يكسر كسرا، ويصبح فيه أمر العاشق من حبيبه كالاستقلال في الأمم المستعبدة: لا يعطى بل يأخذ، ولا بد فيه من الجرأة والمصابرة والاقتحام وسلاح من الأسلحة أيها كان، إما حاطما أو مفزعا أو متهددا أو محتالا أو سلاح الرضا أو سلاح الثمن ... وما إليها لا بد من سطوة ينقلب بها الأسير المستعبد إلا أن يكون مالكا بوجه من وجوه التملك في تلك المنطقة الإنسانية السحرية المسماة في لغات الناس بالحبيب ... •••
فكأن الجمال في حقيقته وسيلة طبيعية لخداع صورة بشرية بصورة بشرية مثلها؛ ومتى كان كذلك فلا حقيقة له في الوجود، ولم يعد صورة في الطبيعة، بل عملا أداته الصورة، ومن ثم فلن يكون الحب إلا إسرافا لا قصد فيه، وخيالا لا عقل له، ولن يكون في حقيقة بل في وهم، ومن ذلك ظن فلن يكون أبدا إلا تغييرا في معاني الصورة الجميلة! فإن الإسراف لا يثبت على حد محدود، والخيال لا يقف عند شيء حقيقي، والوهم لا ينحصر في معنى صحيح.
وفكر المحب كالسائل الذي يغلي. فما دامت ناره من تحته فهو كله لا مقر له بين أعلاه وأسفله، وما دام يهدر على فورته
Неизвестная страница