تساءل جبل وهو يفترش الأرض أسفل الصخرة التي تقول الحكايات إن عندها كان قدري يخلو إلى هند، وإن عندها قتل همام. ونظر إلى الشفق بعين لم تعد ترى إلا ما يكدر الصفو. لم يكن ممن يركنون إلى الخلوات؛ لكثرة مشاغله لكنه شعر أخيرا برغبة قاهرة في الخلو بنفسه التي زلزلها ما حاق بآل حمدان. لعل في الخلاء أن تسكت الأصوات التي تعيره والتي تعذبه؛ أصوات تهتف به من النوافذ وهو مار: «يا خائن آل حمدان يا لئيم»، وأصوات تهتف به من أعماق نفسه: «لن تطيب الحياة على حساب الغير». وآل حمدان أهله، ففيهم ولدت أمه وأبوه، وفي مقابرهم دفنا. وهم مظلومون وما أقبح الظلم! اغتصبت أموالهم، ولكن من الظالم؟ إنه ولي نعمته، الرجل الذي انتشلته زوجه من الطين فرفعته إلى مصاف آل البيت الكبير. وجميع الأمور تجري في الحارة على سنة الإرهاب، فليس عجيبا أن يسجن سادتها في بيوتهم. وحارتنا لم تعرف يوما العدالة أو السلام. هذا ما قضي به عليها منذ طرد أدهم وأميمة من البيت الكبير، ألا تعلم بذلك يا جبلاوي؟ ويبدو أن الظلم ستشتد كثافة ظلماته كلما طال بك السكوت، فحتى متى تسكت يا جبلاوي؟ الرجال سجناء في البيوت والنساء يتعرضن في الحارة لكل سخرية، وأنا أمضغ المهانة في صمت.
ومن عجب أن أهل حارتنا يضحكون! علام يضحكون؟ إنهم يهتفون للمنتصر أيا كان المنتصر، ويهللون للقوي أيا كان القوي، ويسجدون أمام النبابيت، يداوون بذلك كله الرعب الكامن في أعماقهم. غموس اللقمة في حارتنا الهوان. لا يدري أحد متى يجيء دوره ليهوي النبوت على هامته.
ورفع رأسه إلى السماء فوجدها صامتة هادئة ناعسة، يوشي أطرافها الغمام، وتودعها آخر حدأة. وانقطع المارة وآن للحشرات أن تزحف.
وفجأة سمع جبل صوتا غليظا يصيح من قريب: «قف يا ابن الزانية!» استيقظ من أفكاره فنهض قائما وهو يحاول أن يتذكر أين سمع هذا الصوت، ثم اتجه حول صخرة هند إلى الجنوب فرأى رجلا يركض في رعب وآخر وراءه يطارده ويوشك أن يلحق به. وأمعن النظر فعرف في الهارب دعبس وفي المطارد قدرة فتوة حي حمدان، وفي الحال أدرك حقيقة الموقف. ومضى يراقب المطاردة التي تقترب منه بفؤاد قلق. وما لبث قدرة أن أدرك دعبس؛ فقبض بيده على منكبه وتوقف الاثنان عن العدو وهما يلهثان من الجهد. وصاح قدرة بصوت متقطع من البهر: كيف تجرؤ على مغادرة جحرك يا ابن الأفعى؟ لن تعود سالما.
فهتف دعبس وهو يحمى رأسه بذراعه: دعني يا قدرة، أنت فتوة حينا وعليك أن تدافع عنا.
فهزه قدرة هزة أطارت اللاسة عن رأسه وصاح به: أنت تعرف يا ابن اللئيمة أني أدافع عنكم ضد أي مخلوق إلا زقلط.
وحانت من دعبس نظرة نحو موقف جبل فرآه وعرفه فناداه قائلا: أغثني يا جبل، أغثني فأنت منا قبل أن تكون منهم.
فقال قدرة بغلظة وتحد: لا مغيث لك مني يا ابن الدايخة.
ووجد جبل نفسه يتقدم منهما حتى وقف عندهما وهو يقول بهدوء: ترفق بالرجل يا معلم قدرة.
فحدجه قدرة بنظرة باردة وهو يقول: إني أعرف ما ينبغي أن أفعله. - لعل أمرا ضروريا دفعه إلى مغادرة بيته. - ما دفعه إلا قضاؤه المحتوم.
Неизвестная страница