فجأة غمر أوليفيا، التي كانت تراقب الصراع في عدم اكتراث، شعور بالشفقة تجاه السيدة المسنة. وكسرت حاجز الصمت الأليم بدعوتهما للبقاء لتناول الغداء، ولكن هذه المرة رفضت العمة كاسي، بكل صدق، ولم تلح عليها أوليفيا؛ إذ أدركت أنها لن تحتمل مواجهة ابتسامة سابين الساخرة إلا بعد أن تكون قد هدأت واستعادت رباطة جأشها. بدت العمة كاسي فجأة مرهقة وطاعنة في السن هذا الصباح. بدا أن الروح المتطفلة التي لا تكل ولا تمل قد ذبلت، ولم يعد في مقدورها أن تحلق في شموخ في عكس اتجاه الريح.
فجأة ظهرت السيارة الغريبة المكدسة في ممر السيارات، واحتلت الآنسة بيفي المقعد الخلفي بجسمها الممتلئ البدين وأحاطت بها أربعة كلاب بيكنواه تنبح في صخب. وتطايرت خلفها الأوشحة المتشابكة التي كانت ترتديها عند ركوب سيارة. نهضت العمة كاسي، وقبلت أوليفيا بتفاخر، ثم التفتت إلى سابين وعادت مرة أخرى إلى صلب الموضوع. وكررت قولها: «كثيرا ما كنت أقول لأخي العزيز إن مائتين وخمسين دولارا سنويا هو مبلغ أكبر بكثير مما كان يحتاجه هوراس بينتلاند.»
ابتعدت السيارة وهي تقعقع، وقالت سابين وهي تضع الخطاب على الطاولة بجوارها: «بالطبع، لا أريد كل هذه الأشياء الخاصة بابن العم هوراس، ولكني مصممة على ألا تئول إليها. فلو حصلت عليها، لن يرتاح المسن المسكين في قبره. علاوة على أنها لن تعرف ماذا تفعل بها في منزل يزخر بالشراريب وأغطية الكراسي وتذكارات العم نيد. فلن تفعل بها شيئا سوى بيعها واستثمار المال في سندات مالية مضمونة.»
قالت أوليفيا: «هي ليست على ما يرام ... تلك العجوز المسكينة. ما كانت ستطلب أن تأتي السيارة لتقلها لو كانت على ما يرام. إنها تتظاهر طوال حياتها، ولكنها الآن هي مريضة فعلا، وتهاب فكرة الموت. لا تستطيع تحملها.»
أضاءت الابتسامة القاسية والعنيدة المعهودة وجه سابين. وقالت: «أجل، بعدما حانت ساعتها ليس لديها يقين في ملكوت السماوات الذي ظلت تعظ به طوال حياتها.» ساد الصمت لبرهة قصيرة ثم أضافت سابين بتجهم: «قطعا ستثير ضيق القديس بطرس.»
لم يكن في عيني أوليفيا الداكنتين سوى الحزن؛ لأنها ظلت تفكر في أن حياة العمة كاسي كانت سطحية وعبثية للغاية. لقد أدارت ظهرها للحياة منذ البداية، حتى مع زوجها الذي تزوجته زواج مصلحة. وظلت تفكر في تلك الحياة كانت بائسة ومجدبة جدا؛ وفي مدى قلة رغدها، والذكريات فيها، وهي تكاد تصل إلى نهايتها.
عادت سابين تتحدث مجددا. فقالت: «أعرف أنك تظنين أنني عديمة الرحمة، ولكنك لا تعرفين إلى أي مدى كانت قاسية معي ... وما فعلته معي في طفولتي.» رق صوتها قليلا، ولكن شفقة على نفسها، لا على العمة كاسي. بدا كما لو أن شبح الفتاة الصغيرة الغريبة الأطوار التعيسة الصهباء التي كانت عليها في مرحلة طفولتها جاء فجأة ليقف هناك إلى جوارهما حيث كان يقف شبح هوراس بينتلاند قبل قليل. كانت الأشباح القديمة تتجمع مرة أخرى، حتى في الفناء الأمامي تحت أشعة شمس أغسطس الحامية في ظل حديقة أوليفيا المزهرة الجميلة.
تابعت سابين حديثها بنبرة حادة قائلة: «أخرجتني إلى الدنيا لا أفقه شيئا فيها سوى ما هو زائف، مؤمنة - وكم كان قليلا ما كنت أؤمن به - بآلهة باطلة، معتقدة أن الزواج ليس إلا عقد شراكة تجارية بين شاب وفتاة يمتلكان ثروة. كانت تسمي الجهالة براءة وتستشهد بالكتاب المقدس والفيلسوف إيمرسون السخيف ... «السيد إيمرسون العزيز» ... في كل مرة أسألها سؤالا مباشرا ومنطقيا ... والإنجاز الوحيد الذي حققته كان أنها جعلتني متعطشة للحقائق - الحقائق القاسية الصريحة - السائغة أو البغيضة.»
اختلطت عاطفة محمومة نوعا ما بنبرة الصوت الرنانة، مما أكسبها حرارة وجمالا غير مألوف. وأردفت قائلة: «أنت لا تعرفين قدر المسئولية التي تتحملها تجاه ما حدث في حياتي. فهي ... ومن على شاكلتها جميعا ... اغتالوا حظي في السعادة والشعور بالرضا. جعلتني أخسر زوجي ... ما الفرصة التي كنت أملكها مع رجل أتى من عالم أقدم وأحكم ... عالم ينظر فيه إلى الأمور بإنصاف وأمانة باعتبارها حقيقة ... رجل كان يتوقع من النساء أن يكن نساء لا ألواح ثلج خجولة؟ كلا، لا أظن أنني سأسامحها يوما ما.» توقفت عن الكلام للحظة، متأملة، ثم أضافت قائلة: «وأيا كان ما فعلته، وأيا ما كانت الفظائع التي ارتكبتها، وأيا ما كان الهراء الذي كانت تعظ به، دائما ما كان باسم الواجب ودائما ما كان «من أجل مصلحتك يا عزيزتي».»
ثم فجأة، بابتسامة مرارة، تبدل أسلوبها بالكامل واتخذ مرة أخرى مسحة معهودة من الضجر المشوب باليأس. وأردفت تقول: «لا يسعني أن أخبرك بكل شيء يا عزيزتي ... فللقصة جذور عميقة جدا. نحن جميعا فاسدون هنا ... ليس فسادا بقدر ما هو تيبس؛ لأنه لم يكن يوجد ما يكفي من الدماء بداخلنا لنفسد ... الجذور متوغلة بعمق ... ولكن لن أزعجك مرة أخرى بكل هذا، أعدك بذلك.»
Неизвестная страница