كانت السعادة تغمرها الآن لأنها تجرأت أخيرا وواجهت آنسون وكل أولئك الذين كانوا يقفون خلفه في غرفة الجلوس، الأحياء منهم والأموات، يحدقون من فوق كتفه، ويشجعونه. كان النقاش البغيض قد أدى إلى تنقية الأجواء قليلا، رغم أنه جرحها. كان قد كشف النقاب لثانية عن الحقيقة التي كانت تسعى إليها لزمن طويل جدا. كان آنسون محقا بشأن سابين؛ ففي الهواء الطلق الصافي لصباح ذلك اليوم في نيو إنجلاند أدركت أن شعورها بالقرب من سابين هو ما منحها القوة لتكون بغيضة. لقد عرفت سابين العالم الكبير، مثلما عرفته هي؛ ومن ثم كان بوسعها أن ترى عالمهم هنا في دورهام بوضوح لم يحققه الآخرون مطلقا. كانت قوية أيضا بمعرفتها أنه مهما حدث، كانت هي (أوليفيا) الشخص الوحيد الذي لم يكن بوسعهم تحمل خسارته؛ لأنهم صاروا يعتمدون عليها منذ فترة طويلة جدا.
ولكنها كانت مجروحة. ظلت تفكر مرارا وتكرارا فيما قاله آنسون ... «على أي حال، لن أسمح بزواج ابنتي من أيرلندي من طبقة متدنية. فالعائلة بها ما يكفي من أمثاله.»
كانت تعرف أن آنسون سيشعر بالخجل مما قاله، ولكنها كانت تعرف، أيضا، أنه سيتظاهر بأن شيئا لم يحدث، وبأنه لم يقل هذا الكلام مطلقا؛ لأنه كان تصرفا غير لائق برجل نبيل ينتمي إلى عائلة بينتلاند. سيتظاهر، كما كان يفعل دوما، بأن الواقعة لم تحدث مطلقا.
وعندما تحدث بهذه الطريقة، كان يقصد أنه حري بها أن تكون ممتنة لأنهم سمحوا لها بالزواج من فرد من عائلة بينتلاند. كان شيء ما دفينا داخلهم جميعا، قناعة كانت جزءا من تكوينهم ذاته ، جعلتهم واثقين من هذه المزية. ولامرأة مثلها عرفت أكثر مما عرف العالم من حولها، ورأت من الحقيقة أكثر مما رأى أي منهم، كان رد واحد فقط، سينتزع منها بحدة مأساوية ... «أوه، يا إلهي! ...»
3
كانت غرفة الطعام فسيحة ومربعة الشكل، وإذ كانت قد جددت في فترة لاحقة على بقية المنزل، كانت مصنوعة من خشب الماهوجني الثقيل، ووضعت في المنتصف طاولة كبيرة لامعة كان الجالسون عليها يظلون محافظين على تباعدهم بعضهم عن بعض حفاظا على الرسميات، حتى مع تصغير محيطها لأقصى قدر ممكن.
كانت تلك الطاولة تستخدم كثيرا؛ لأنه منذ أعاقت الظروف جون بينتلاند عن الخروج إلى العالم الخارجي، كان يأتي بجزء منه إلى بيته بحفاوة ومودة أزعجتا أخته كاسي إلى حد ما. كانت، مثل أغلب أفراد الأسرة، لا تهتم بالطعام اهتماما كبيرا، وتنظر إليه باعتباره ضرورة فحسب. وفيما يخص ذوقها في الطعام، كانت ترى البرقوق المجفف بنفس أهمية طعام فاخر مثل الكمأة. وسرا في منزلها، يدفعها ولعها بالادخار، كثيرا ما كانت تسد رمقها بلقيمات من صوان الطعام، ولكن في أوقات كهذه كانت الآنسة بيفي، التي كانت مع بساطتها نبيلة المحتد، تعاني بشدة. كانت عبارة «الوجبة السريعة» قولا متكررا على لسان العمة كاسي؛ ومن ثم كانت تمتعض من الطعام الغني المذاق الذي كان يتناوله العجوز جون بينتلاند وكنته، أوليفيا.
ومع ذلك، تناولت الكثير من الوجبات الرائعة على المائدة المصنوعة من خشب الماهوجني، بل واستطاعت أن تجلس عليها الآنسة بيفي، بجسدها الممتلئ، التي كان جون العجوز يكره ضحكتها السخيفة وتكرارها بخنوع لآراء أخته.
لم يتناول آنسون الغداء في المنزل قط؛ لأنه كان يذهب إلى بوسطن كل يوم في التاسعة صباحا، مثل رجل أعمال، لديه الكثير من الشئون التي عليه أن يتولاها. كان لديه مكتب في شارع ووتر ستريت وكان يذهب إليه بانتظام حماسي، ويقضي النهار في توافه الأمور الخاصة بلجان وجمعيات النادي لتحسين هذا الشأن أو ذاك؛ إذ كان رجلا يحصن روحه بترتيب حياة الآخرين. كان رئيس لجنة «تنقذ» الشابات اللاتي يقعن في مشكلات، ويساهم بقدر ما يمكنه أن يخرجه من دخله الضئيل جدا في أنشطة جمعية الرقابة على الكتب والفنون. وكان يقضي جل يومه في مراسلة علماء الأنساب بخصوص موضوع كتابه «عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس». ولم يجن في سنة كاملة ما يكفي لدفع إيجار المكتب لشهر واحد، ومع ذلك كان لا يطيق حالات الفقر والإملاق الكثيرة التي تبلغ إلى علمه. وقد كانت أسهم وسندات ملكية آل بينتلاند محفوظة بعناية بعيدا عن متناول يده، وكان من فعل ذلك هو أبوه الذي كان يرتاب في تلك الأنشطة التي كان آنسون يمارسها، والآن وقد شارف آنسون على الخمسين من عمره، لم يكن لديه سوى دخل ضئيل تركه له جده ومصروف شخصي، يدفعه له والده شهريا، كما لو كان لا يزال شابا يدرس في الكلية.
وهكذا عندما نزلت أوليفيا لتناول الغداء في اليوم التالي للحفل الراقص، لم تكن مضطرة إلى مواجهة آنسون وشعوره بالخجل من مشهد المواجهة في الليلة السابقة. لم يكن موجودا أحد سوى الجد وسيبيل وجاك، الذي كان في حالة صحية تسمح بنزوله.
Неизвестная страница