لقد كان أذان الشام تصديق أذان المدينة، أجل أجل، لقد صدق الله وعده ففتحت الجماعة الصغيرة الممالك، ودوى أذان المدينة في الآفاق.
ولكن انظر إلى عمر، ألا تراه ينشج؟ ألا ترى دموعه تبل لحيته؟ ألا ترى القوم في بكاء ونحيب؟ فما أبكاهم؟ لقد نصرهم الله، ومكن لهم في الأرض وأغناهم وأعزهم، فما دهاهم؟ وما أبكاهم؟
يبكون إذ رأوا المؤذن ولم يروا الإمام، يبكون إذا سمعوا مؤذن رسول الله، ثم نظروا فلم يجدوا رسول الله.
الكعبة
هذه البنية المكرمة، هذا البيت المعظم، هذه الكعبة المشرفة لا يعرف لها تاريخ البشر مثيلا، بيت فيه أمارة التوحيد الخالص والحنيفية السمحة، خلا من الأوثان والأصنام والصور والزخارف والنقوش، وقام رمزا لتوحيد الله، ولاتحاد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. تهفو إليه أفئدة المؤمنين حيثما كانوا، وتخفق له قلوبهم أينما حلوا، وتتوجه إليه قلوبهم أنى توجهوا، فلو أن بيتا صور من سواد العيون أو سويداوات القلوب لكان هذا البيت الكريم. لا تمر ساعة من ليل أو نهار إلا وآلاف الآلاف من الوجوه والقلوب متوجهة إلى هذا البيت، مرتفعة إلى ربه قراءتهم وتسبيحهم، مرسلة إليه آمالهم وآلامهم، كذلك هو منذ أوحى الله إلى نبيه دينه، ودعا النبي إلى هذا الدين، واستجاب المسلمون لهذه الدعوة، فهل يعرف بيت آخر على هذه الأرض، وعلى طول التاريخ، تطمح إليه الأبصار، وتوجه إليه الأفئدة بضراعتها ودعائها واستغفارها، وبرجائها وأملها في كل زمان وفي كل مكان؟
إن كل مغناطيس على الأرض يتجه إلى القطب أبدا، إن أدرته عنه دار إليه، وإن صرفته جهد طاقتك لم ينصرف عنه، وإن أحطته بآلاف الحجب فهو موصول به نازع إليه، فما أشبه قلوب المسلمين في توجهها إلى الكعبة بالإبر المغناطيسية التي تتجه إلى قطبها ليل نهار على بعد الأقطار، واختلاف الأمصار، وشتان بين القلوب النابضة والإبر الجامدة. •••
وقد جعل الله هذا البيت مثابة للناس وأمنا، حرمه وحرم البلد الذي هو فيه، وحرم أرضا حول هذا البلد، جعلها أمنا للإنسان والحيوان الأعجم والنبات، فزائر هذا البيت في حرمات مضاعفة، وقدسية موكدة، وأمن مظاهر. وقد جعل حول الأرض المحرمة مواقيت يحرم منها القاصد إليها، فيتحرر من اللباس والزينة حتى لا يمتاز قوم من قوم، ولا غني من فقير؛ ليدخل الناس إلى هذا الحرم ثم إلى هذا البيت أمة واحدة تعبد إلها واحدا، اتحدت ظواهرها وبواطنها، وعقائدها وعواطفها، واجتمعت على البر أيديها وألسنتها وقلوبها وأعمالها، وإن في ذلك لآيات.
وتؤم وفود المسلمين هذا البيت الذي اتجهوا إليه على بعد الديار، فيرون قبلتهم عيانا، وبيتهم جهرة، يصلون حوله في كل جهة، قد امحت المسافات والجهات، فهم عند هذا البيت كإبر المغناطيس إذا بلغت قطبها، تدور في كل جهة، لا شمال ولا جنوب ولا شرق ولا غرب. ومن دخل البيت صلى في مكانه إلى كل الجهات؛ إذ بلغ المركز الذي تتجه إليه وجوه المسلمين وقلوبهم في الأقطار كلها، مركز الدائرة التي تجمع المسلمين على العقائد الحقة، والعمل الصالح، والخلق البر، والجهاد لخير الدنيا والآخرة، والأخوة والمودة. إنها الوحدة المحسة، والأخوة المجسمة، والمحبة الممثلة، لا يعرف لها حاضر البشر مثيلا، ولا يذكر لها ماضيهم نظيرا.
ما أبصرت هذه الكعبة الكريمة إلا تخيلت بناء من العقيدة المحكمة، والتوحيد الخالص، وإلا تمثلت أدعية الداعين في المشرق والمغرب، وآهات الضارعين بالليل والنهار تهوي عليها، وتطيف بها في الغدو والآصال والبكر والأسحار، مع أنفاس الطائفين، ومع أشعة الشمس والقمر ونسمات الهواء.
وما طفت حولها إلا تمثلت هذه الدائرة الإسلامية الجامعة تدور حول هذا المركز الحق الذي لا يتبدل ولا يتغير.
Неизвестная страница