وعلم رسول الله أن التوحيد الذي جاء به الإسلام كفيل بتوحيد الله على مر الدهور، وأن الكتاب الذي بلغه ضمين أن لا تعبد الأوثان من بعد، وأن العقول التي حررها تستنكف أن ترتكس في أباطيل الجاهلية، فليس يخشى على أمته الشرك، ولكن يخشى أن يستجيبوا للشيطان فيما عدا التوحيد في أمور يحسبونها هينة، وهي عظيمة الأثر في نظام الجماعة وأخلاقها، حرية أن توهي القوة، وتفرق الكلمة، وتحل العقدة الصالحة، وتلكم كل كلمة تؤدي إلى فرقة، وكل فعلة من الظلم والعدوان، أو الرذيلة والمنكر. عرف هذا خاتم النبيين فقال: «إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرونه من أعمالكم.»
ثم وكد الرسول ما بلغه وعلمه ثلاثا وعشرين سنة من حرمة الدماء والأموال والأعراض. وكد ما أبطل به الحروب المتمادية، والغزوات المستمرة، والثارات المستعرة، وما هدم به جاهلية العرب هدما، وردها شرعا من السلام والوئام، وسلطان القانون العام، فقال: «أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وحرمة شهركم هذا ... وإن كل دم في الجاهلية موضوع، وإن أول دم أضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب؛ فهو أول من أبدأ به من دماء الجاهلية.»
ثم عمد الرسول الذي علم البر بالفقير، وجعل له حقا في مال الغني، وعطف القلوب بعضها على بعض وأشعرها البر والمواساة. عمد إلى هذا الإثم الآثم والجرم المنكر الذي تتبرأ منه الأخلاق والمروءة، هذه الشرعة الدنيئة التي تحكم الغني في رقبة الفقير بدراهم معدودات، وتتغلغل في الأخلاق والأموال تغلغل السوس، فأعاد ما وكده الكتاب والسنة من إبطال الربا، وأعلن أنه سواء منه ما تقدم وما تأخر، قد محقه الله ومحق آثاره، فقال: «وإن كل ربا موضوع، ولكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. قضى الله أنه لا ربا. وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله.»
ولم ينس النساء وقد أنقذهن من الوأد، وأشركهن في الإرث، وجعل لهن مثل الذي عليهن بالمعروف ، وشرع لهن الشريعة الكافلة سعادتهن وسعادة الأمة. لم ينس النساء في هذا الموقف العظيم الذي يوصي فيه بأصول شريعته، قال:
أما بعد، أيها الناس؛ فإن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقا ... واستوصوا بالنساء خيرا؛ فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ... فاعقلوا أيها الناس.
ليت النساء أخذن الحقوق وأدين الواجبات! ليت ثم ليت!
ثم وكد نبي التوحيد والأخوة ما بني عليه شرعه من التراحم والتآخي والمساواة والمواساة، وأن الناس سواسية كأسنان المشط، سواء فيهم الأسود والأبيض، كلهم لآدم، وكلهم عباد الله، وكلهم إخوة في الله، قال الرسول الأكرم: اعقلوا أيها الناس واسمعوا قولي، فإني قد بلغت وتركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا: كتاب الله وسنة نبيه ... أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني قد بلغت، واعقلوا. تعلمن أن كل مسلم أخو المسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس؛ فلا تظلموا أنفسكم. اللهم هل بلغت؟
قال الحاضرون: نعم، قال الرسول: اللهم اشهد.
ذلكم ما أوصى به الرسول يوم الحج الأكبر في حجة وداعه، وتلكم حقوق الإنسان دوت بها أرجاء العالم قبل ألف وثلاثمائة وخمسين سنة. تلكم وصايا الرسول لأمته تدوي بها الأجيال، وتسمعها الآذان، فأين منها الأعمال؟
إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين .
Неизвестная страница