فالذي يقرأ شيئا لهارولد منرو أو همبرت وولف يذكر في الحال حسن الصيرفي والشاعر رامي، في الذكريات البعيدة، والتنويح الملازم لروح ظامئة تنتعش بما تشربه من العذاب.
ومن أي صنف أبو شادي؟
الحق أنه شيء قائم بذاته، وإن كان بلا شك من مدرسة الصوريين الذين تتألف مواد فنهم من حقائق الحياة، من صور مجتمعة، وكتل متماسكة، من الخوالج العقلية والعاطفية، ووظيفتهم أن يبرزوها لنا بدون أن تشوه، يبدونها بكل نضارتها وقوتها؛ فنحسها كما هي مباشرة قبل أن تعبث بها يد الحياة العملية الجبارة؛ ولذلك يقتصد الشاعر في لفظه فلا يزخرف ولا يبني.
ولكنه في كثير من الأحيان يجعلني أتذكر الشاعر والتر دلامار، وخصوصا عندما قرأت للصديق أبي شادي قصيدته «الأصداء»، فإن للشاعر أبي شادي كما للشاعر دلامار نظرة إلى الدنيا كنظرة الطفل الحائر، ولهما كذلك غرام باستثارة الأشباح على طريقة رمزية.
وعلى ذكر الشعر الرمزي أقول إن الشاعر الموهوب عبد الرحمن شكري هو رافع علم هذا النوع من الشعر، وإني أوجه نظر الذين يحبونه إلى أن د. ه. لورنس الشاعر والروائي المعروف، هو الذي حول الشعر الرمزي إلى عاطفة مركزة، بحيث تصير الكلمات العادية «حمما سائلة، مما قالته، ومما تركته بدون أن تقوله»، ومن البديهي أن المدرسة الحديثة التي يرفع علمها أبو شادي في مصر ويتزعمها بحق متأثرة بالثقافة الإنجليزية، أما في البلاد الأخرى كسوريا وشمال أفريقيا فالثقافة الفرنسية هي الغالبة، وإذا ذكر الشعر الفرنسي الحديث فأكيد ما قاله رينيه لالو من أن أثر بودلير وموسيه ولامارتين لا يزال حيا، وهو الذي يلون شعر شبان فرنسا، والبلاد المتأثرة بثقافة فرنسا؛ فعندما تقرأ شعرا لأندريه دوما وهنري دي رينييه في فرنسا يطالعك من ورائهما خيال موسيه وبودلير وفرلين، وعندما تطالع شعر الشابي بالعربية تقسم أنه متأثر كذلك بهؤلاء الشعراء، وعندما تقرأ لشعراء سوريا أو تعلم ما يطلقونه عليهم من الألقاب تؤكد في الحال أثر الثقافة الفرنسية في آدابهم.
ومهما يكن من أثر الثقافة الفرنسية؛ فإن شعراء الشباب في سوريا كعمر أبي ريشة وعلي الناصر (بودلير سوريا) والشابي في تونس، ينطبق عليهم من الوصف ما ينطبق على شعراء الشباب الإنجليز، وعلى شعراء الشباب في مصر، وهو الوصف الذي أطلقه ليجوي عليهم وسبق أن ذكرته.
وصفتان أخريان لاحظتهما في شعر الشباب على الإطلاق: الأولى القلق العميق وعدم الاستقرار، وديوان أبي شادي الجديد «أطياف الربيع» ناطق بذلك، زاخر بما فيه من آيات الخوف وقلة الأمان؛ فهو غير آمن على حبه، غير آمن على حياته، غير آمن على مستقبله، غير آمن على حاضره. هذا القلق الممزوج بالتشاؤم تارة وبالتفاؤل أخرى، هو ما عابه وسيعيبه عليه نقاد كثيرون، ولكنه في الحقيقة نتيجة لازمة لما يصطدم به من الحوائل ويعترضه من التثبيط، وما تقابل به جهوده من المعاول التي لا ترحم.
أما الصفة الثانية فهي الجرأة النادرة في إبداء الأفكار، وفي طرق المواضيع التي لم تطرق من قبل، وأمامنا من الأمثلة قصيدة للشاعر صالح جودت في أبولو يصف فيها نفسية امرأة عاهرة؛ فقد أخبرني أنه انتقد لطرق موضوع كهذا، فقيل له: كيف تطرق موضوعا كهذا وشعرك أجدر بشيء غيره؟ فأجاب مندهشا: وهل هذه المرأة خارجة عن الإنسانية؟ هل هي من الألى نبذهم الدهر:
وخلفهم وصد الباب عنهم
فناموا خلف أسوار الحياة
Неизвестная страница