وابتسمت الآنسة «مي» ابتسامة لطيفة، ونظرت إلى أعلى ولمعت نظراتها كعادتها حينما كانت تستعيد الذكريات، ثم قالت: «لا تظن أن المرحوم سركيس كان أسود الوجه، وكان في حاجة لأن أبيضه، ولكني تصورت أنني إذا فشلت في مهمتي فسوف أسود وجهي ووجهه بظلمة الخجل والفشل؛ ولهذا أخذتني العزة وقبلت هذه المهمة، وتناولت كلمة جبران فقرأتها مرارا، ثم بدا لي أن أعلق عليها بكلمة مني لتكون لي شخصية في الحفلة.
واعتمدت على الله، وجاءت ساعة الخطابة، وجلست بين الخطباء أمام المنصة، وافتتح الحفلة الأمير محمد علي بكلمة، ثم تلاه أحمد زكي باشا شيخ العروبة، ثم تلاه الخطباء والشعراء، وفيهم حافظ إبراهيم وحفني ناصف. وأذكر من قصيدة ناصف بك هذا البيت الطريف:
ما أنت في الآداب مط
ران، ولكن أنت بطرق
وبطرق بالقاف يا أستاذ! وحان دوري، فشعرت بقشعريرة تنساب في عظامي، وبالخوف يدب إلى نفسي، وكان بجانبي زكي باشا، فلمح الوهم على وجهي ، فأسر إلي بكلمات لطيفة مشجعة، واقترب مني الأستاذ سركيس، وقال: «إياك أن تسودي وجهي.» فابتسمت وقلت: «بل سأبيض وجهك إن شاء الله.»
وكان قبل دوري فاصل موسيقي، فأثرت في نفسي الموسيقى، وساعدتني أنغامها على السيطرة على أعصابي. ثم ألقيت كلمة جبران بحماسة، وأتبعتها بكلمتي. ويظهر أن الإلقاء كان ناجحا، فقام الأمير محمد علي رئيس الحفلة فصافحني وهنأني، فكان ذلك أكبر مشجع لي فيما بعد على ارتقاء منصة الخطابة!»
وبينما كانت «مي» - رحمها الله - تحدثني هذا الحديث، كانت تقلب في يدها صورة تحتفظ بها على مكتبها، وقد رأيت هذه الصورة في مكانها عندما دخلت منزلها بعد وفاتها بأيام، وهي صورة الشاعر المصري المرحوم ولي الدين يكن، فقد كان من رواد مجالسها، وكان من مريديها، بل كان كلفا بها، وقد أهداها هذه الصورة، وكتب عليها هذا البيت:
كل شيء يا «مي» عندك غال
غير أني وحدي لديك رخيص
فلما أطلعتني على الصورة قلت لها: إن البيت رقيق لولا قافيته. وهنا حدثتني عن إعجاب المرحوم ولي الدين بها، وكيف كان يبعث إليها بأشعار لطيفة، وكيف كان يزورها وهو مريض على الرغم من مرضه العضال الذي ألم به في أخرياته، وكانت هي على خطر المرض لا تجد غضاضة في مجالسته إشفاقا عليه وبرا بأدبه وصداقته، ومن كتبه الرقيقة العاطفية التي بعث بها إليها هذا الكتاب:
Неизвестная страница