ولما عدت إلى المنزل أخذت أذرع حجرتي الصغيرة وأنا في أشد حالات الاضطراب واليأس، وكنت قد فكرت من قبل في أن أحتج للجنة الحزب في المركز على أعمال أرشينوف، ولكن ها هم أولاء ممثلو اللجنة ورجال القسم السياسي يشهدون هذه المأساة، ويشتركون في تلك الأعمال الوحشية، وأي أمل لي في أن أصيب خيرا من اللجنة الإقليمية .
وكان الظن قد بدأ يساورني في أن هذه الجرائم الشنيعة لم ترتكب عفو الساعة، بل دبرها ووافق عليها كبار ولاة الأمور، أما في هذه الليلة فقد استحال هذا الظن يقينا، لم يترك في نفسي بارقة أمل في الإصلاح، وكان في مقدوري أن أتحمل من قبل ذلك العار، ما دمت أعتقد أن أرشينوف ومن على شاكلته من الأفراد هم الملومون على هذه الأعمال.
وغلبني النعاس من فرط التعب دون أن أخلع ملابسي، ولما فتحت عيني بعد بضع ساعات راعني ألا أجد سريزها في فراشه، فانطلقت إلى الفناء ثم إلى الحديقة.
فسمعت صوت سريزها يقول: «من القادم؟» ولاح لي بريق مسدس، ثم أبصرته جالسا على دكة تحت شجرة من كراز.
وما هي إلا قفزة واحدة حتى كنت إلى جانبه، واختطفت المسدس من يده، فغطى وجهه بيديه وأخذ ينتحب ويرتجف.
وقلت له: «إنك إنسان أبله خائر العزيمة، ولست ممن أفخر بصحبتهم، ومن ذا الذي يفيد من انتحارك؟ إن هذا غباء وبلاهة، وليس ما تريد أن تفعله هو الذي ترد به على ما رأيت اليوم، بل يجب أن نظل أحياء ونبذل كل ما نستطيع لنخفف أعباء الشعب الروسي، أما إذا قتلنا أنفسنا فلن يبقى إلا أمثال أرشينوف.»
فهدأ روعه قليلا وأخذ يحدق في عيني. - «يا فكتور أندريفتش، لقد شاهدت بعيني كل شيء وفهمت كل شيء، وثق أن عقلي من الوجهة السياسية أكبر من سني قليلا، ولن يفيدنا التعامي عن الحقائق أقل فائدة، إن الحزب نفسه مسئول عن جرائم العنف والقسوة والتقتيل، وليست الألفاظ الجميلة التي ينطق بها المسئولون إلا ستارا لإخفاء الحقائق البشعة، أهذا هو الذي جاهد من أجله أبي الصالح طول حياته؟ أهذا هو الذي كنت أنا نفسي أعتقده منذ انضممت إلى الحزب؟»
وما زلت به حتى آوى إلى فراشه، ولكننا لم نغمض أجفاننا، بل أخذنا نتحدث عما رأينا، وكان ما رأيناه يتفق كل الاتفاق مع ما كنا نسمعه، فلم يخالجنا بعدئذ شك في صدق «الشائعات المعادية للحزب»، وكان سرورنا عظيما حين دق الشيخ صاحب البيت الباب وقال: «قد آن أن تصحوا أيها الرفيقان.»
وأقيمت حفلة العشاء في ذلك اليوم حسب النظام الموضوع، ولكنها خلت من السرور والبهجة، فقد كانت ذكرى جمع «كبار الملاك» تثقل صدورنا جميعا.
وظلت علاقتي بأرشينوف علاقة رسمية محضة، وأعددت تقريرا مطولا مفصلا عن مسلكه وأرسلته إلى اللجنة الإقليمية، وكان العدد القليل الباقي من المعاندين قد انضموا «باختيارهم» إلى المزرعة الجماعية بعد الاعتقالات الكثيرة التي وقعت في الأيام الماضية، وقدم الفلاحون كل ما لديهم من الحبوب «باختيارهم» أيضا، ويظهر أن أولئك القوم قد فضلوا أن يموتوا في منازلهم جوعا على النفي إلى أقاليم لا يعرفونها، وطلب كثيرون منهم أن يؤذن لهم ببيع ما بقي لديهم من الماشية وأثاث بيوتهم نفسه ليشتروا بأثمانها حبوبا من المدن ليوفوا بها بمطالب الحكومة.
Неизвестная страница