ولكن نصيحتي لك يا فيتيا أن تبقى قريبا من الشعب ولا تقدر فائدتك له بما تناله من المناصب بل بنوع الحياة التي يحياها الشعب، وهل هو أكثر رخاء مما كان وأسعد حالا وأوسع حرية، وإذا اقتربت منه بحق وفهمته على حقيقته، وأعنته في أموره، فإني سأظل أبد الدهر شاكرا لك فضلك، لا تعش بالألفاظ تتخذها لك شعارا، واحكم على الساسة بأعمالهم لا بأقوالهم، واعلم أن الذين يقيمون في الكرملن يجيدون وضع النظريات، فلننظر نحن مقدار نجاحهم في تطبيقها، وأرجو ألا تجد قط ما يزعزع إيمانك!»
وسكت هنيهة ثم واصل حديثه مسلما ببعض آرائي: «ومن يدري لعل جمهور الشعب ينال على أيدي أبنائنا حرية حقة وحياة أسعد من حياته السابقة.» - «لست أشك يا أبت في أنه سينالهما على أيدينا.»
وظل هذا الحديث منقوشا في ذاكرتي في السنين التي أعقبت تلك الأيام، حين كنت أكدح في الحزب وفي سبيل الحزب، وكنت أحس كأن أبي يراقبني ويحكم على أعمالي، وينظر إلى الحقائق وإلى الأعمال من وراء الألفاظ.
وقبلت عضوا في الحزب في عام 1929م، وخيل إلي أن هذا الحادث أعظم أحداث حياتي وأجلها شأنا، فقد أصبحت به أحد الطائفة «المختارة» في روسيا الجديدة، فلم أكن بعد فردا عاديا يختار لنفسه بملء حريته من يشاء من الأصدقاء، ويعمل لما يشاء من المصالح، ويعتنق ما يشاء من الآراء، بل وهبت نفسي أبد الدهر إلى فكرة وقضية، وأضحيت جنديا في جيش منظم أحكم تنظيم، طاعة المركز الرئيسي فيه أولى الفضائل في نظري أو قل: إنها تكاد تكون الفضيلة الوحيدة، جيش لا يسمح لمن ينضم إليه من الجنود أن يجتمعوا بغير المرغوب فيهم من الأفراد، أو أن يستمعوا لغير المرغوب فيه من الألفاظ.
واستدعيت أنا ومدير قسمي في يوم من الأيام بعد انضمامي إلى الحزب إلى مكتب مدير المصنع الذي كنت أعمل فيه، فلما قابلناه قال لنا: إن نوع المواد التي كانت تورد من عندنا إلى مصنع درزكسفكي في الدنباص أخذت تسوء، وإن علينا أن ننتقل إلى هذا المصنع لساعتنا، وأن نبحث عن علة فساد موادنا وعدم وفائها بأغراضه، وأن نقدم له تقريرا بنتيجة هذا البحث.
ودامت هذه الرحلة أسبوعا، عدت بعده إلى المدير وقدمت له تقريرا شاملا، وظننت أني وضعت إصبعي على مواضع الداء فيه، وعرضت عليه عدة اقتراحات لعلاجه، وسر المدير من هذا التقرير، وقال إنه سيوصي بمنحي مكافأة مالية قيمة جزاء لي على خدماتي الطيبة، وسألني هل يرضيني هذا؟
فأجبته: «لست في حاجة إلى المال، ولكني في حاجة إلى مسكن، فإن أبي وأحد أخوي يعملان في هذا المصنع كما لا يخفى عليك، ولكنا ظللنا عدة سنين لا نحيا حياة الأسرة الحقة لحاجتنا إلى المسكن الصالح، بل إننا في هذا الوقت لا نعيش معا، وفضلا عن هذا فإن أمي مضطرة إلى البقاء في الريف.»
ووعدني المدير بتحقيق رغبتي وقال لي: «سأرى ماذا أستطيع أن أفعله لك.» ولم تمض إلا بضعة أيام حتى كان آل كرافتشنكو يعيشون جميعا في شقة مريحة من أملاك المصنع مبنية على الطراز الحديث، وبذلك استطاعت والدتي آخر الأمر أن تغادر بيتنا في مزرعة دق الأجراس التعاونية التي كانت تعيش فيها من قبل.
فاضت أنهر الصحف في بلادنا وتحدثت صحف البلاد الأجنبية نفسها في عام 1928م بما سمته حادث شختى، وتفصيل ذلك الحادث أن جماعة من كبار المهندسين الذين يعملون في صناعة الفحم قدموا للمحاكمة في موسكو على مشهد من مراسلي الصحف الأجنبية والسوفيتية، ورسمت آلات التصوير مناظر المحاكمة، ونقلت إجراءاتها على أمواج الأثير إلى جميع أنحاء البلاد الروسية.
وكأن أرباب الكرملن كانوا بعملهم هذا يقولون للشعب: «ذلك هو سبب ما لدينا من عيوب كثيرة على جانب عظيم من الخطورة، إن عمال الرأسمالية وبقايا العهد القديم يعملون عن قصد لوقوع الحوادث في المصانع ولنقص الإنتاج وتعطيله.»
Неизвестная страница