وأدخلت أنا وقنسطنطين في مدرسة إرستفكا الزراعية في كمسرفكا في أواخر فصل الحصاد الثاني، أي في خريف عام 1920م.
وكان هذا المعهد قد أنشأه في الجيل الذي قبل الثورة رجل من كبار الملاك في ذلك الإقليم يدعى إرستس برودسكي، كما كان ينفق عليه بكرم وسخاء، واقتطع الأرض اللازمة له من ضيعته الخاصة، وأقام له أبنية فخمة على ربوة تشرف على بحيرة جميلة، وبنيت بعض ردهاته على طراز القصور الأوكرانية القديمة، وغطيت الجدران بصور من رسم كبار الفنانين الذائعي الصيت، ونقوش من الفسيفساء تصور موضوعات شعبية، وكان بالمعهد بطبيعة الحال أحدث ما اخترع من الآلات الزراعية.
وامتدت أيدي السالبين أكثر من مرة إلى المدرسة، فدمرت بعض مبانيها ومناماتها حتى أصبحت غير صالحة للانتفاع بها، ونهب أثاثها، وانتزعت بعض الكتل الخشبية من جدرانها وسقوفها لتتخذ وقودا، وتلفت الآلات الزراعية ولم تجد من يصلحها، وتشتتت معظم الماشية التي كانت في إرستفكا، وهي ماشية ذائعة الصيت نالت الجوائز في معارض ويانه وبراج.
لكن كثيرا من قدماء المدرسين ظلوا في أماكنهم، وانضم إليهم مدرسون جدد، ومن أجل ذلك تجمع في المعهد نحو ستمائة طالب وطالبة قدموا من جميع أنحاء الروسيا ليدرسوا فيه العلوم الزراعية الحديثة، ويدربوا على أعمالها، على الرغم من القحط الشامل ونقص الأدوات، وكانوا يستعينون على العيش بما تخرجه أراضي المعهد من الحاصلات، وألفت الصعاب المشتركة بين المدرسين والطلبة، وكانت المدرسة تحت إشراف السوفيت، ولكن السياسة لم يكن لها إلا شأن قليل في سير الدراسة، وكان المشرفون علينا يسلمون بأننا حين نهيئ أنفسنا لأن نستخرج من التربة الروسية أكبر ما يمكن استخراجه من الطعام وأحسنه لنطعم به الشعب الروسي، إنما نعمل كل ما تنتظره «الثورة» منا.
وكنت أنا وأخي وطالب ثالث يدعى فيودور من أهل توابسي نسكن معا في كوخ يمتلكه أحد الفلاحين في هذا الإقليم، وولى الشتاء مسرعا وأقبل الربيع، واستبدلت بالدروس في حجر الدراسة الزراعة العملية في أملاك المدرسة، وكانت هذه الفترة عظيمة الفائدة لي، وتبينت فيما بعد أنني أخذت منها أكثر مما كنت أتوقع وقتئذ، فقد كان القليل الذي تعلمته من العلوم الزراعية عظيم النفع لي في أيام الزراعة الجماعية.
وعز الطعام وأخذ الحصول عليه يزداد صعوبة يوما بعد يوم، وفقدت النقود قيمتها، وكان ما بقي من التجارة يجري بطريقة المقايضة البدائية، ولم يكن في وسعنا أن نحصل على شيء من المعونة من المزرعة التعاونية، بعد أن انقلبت فكرة المشروعات التعاونية الخلابة إلى تخاصم وتطاحن وأحقاد توغر الصدور، وشرع المقيمون فيها يهجرونها أفواجا أفواجا، وأخذ المدخر من الخبز ينقص تدريجا، حتى استلزم الأمر فرض أشد القيود على توزيعه، ولم يكن الفقر كما يبدو بشيرا صالحا بالعالم الجديد، ولو كان هذا العالم بقعة صغيرة كأرض المزرعة التعاونية، أرض قرع الأجراس.
لكن المتاعب لم تكن لتوهن عزيمة غلمان في أوائل العقد الثاني من عمرهم، أو تدخل الرعب في قلوبهم، فقد تعودنا أن نعيش على الكفاف، وأن نخرج للبحث عن الوجبة الثانية، ولم يكن ذلك ليكلفنا كبير مشقة، فقد كانت قطر السكك الحديدية بكمسرفكا في هذا الربيع غاصة بالجند الذاهبين إلى ميدان القتال، حيث كانت رحى الحرب تدور مع البولنديين.
ولم يكن علينا إلا أن نأخذ من الجند بعض طعامهم، وكان في وسع الرفاق الثلاثة الذين يسكنون معا في إرستفسكا أن يقوموا بهذا العمل على خير وجه.
فقد كنا في أيام العطلات، وفي أيام الدراسة إذا استطعنا أن نسترق منها بضع ساعات، كنا في هذه وتلك نقيم عند محطة السكك الحديدية «حانوت حلاقة متنقل للطلاب»، وكان هذا هو العنوان الذي كتبه كوتيا على لافتة كبيرة بخطه الجميل، ومن تحتها كتبت العبارات التي تكتب على أمثال هذا الحانوت: «حلاقة اللحى وقص الشعر، خدمة طيبة ممتازة، يدفع الأجر سلعا»، وتحت هذه العبارات كلها كان التوقيع الذي لم يخل من فكاهة ساذجة: «جماعة العمل الذي لا خير فيه».
وكان فيودور قد تعلم شيئا من هذه الصناعة في بعض أسفاره، فتولى هو حلاقة اللحى، وتوليت أنا وأخي قص الشعر، وكان من نصائح فيودور لنا: «لا يهمكم هذا العمل، فهو كحصاد الكلأ في المراعي، ضربات طويلة هينة ثم تسوية أعقاب الشعر بعدئذ.»
Неизвестная страница