175

Я выбрал свободу

آثرت الحرية

Жанры

وعدنا في صمت إلى القارب البخاري حيث أخذنا سمتنا نحو الدار، فقد شعرنا بأن استئناف الرحلة بعد الذي رأيناه ضرب من النذالة الخلقية، وكنا قد أنفقنا الصباح كله نتحدث في الدستور وفي إمكان تحقيق ما وعدنا به، أما بعد هذا الذي رأيناه فلم نستأنف ما كنا قطعناه من حديث.

كان قد حدث بيني وبين والدي شيء من القطيعة أخذ يزداد على مر الأيام منذ التحقت بالحزب، فكنت إذا ما تحدثت في حضرته أحس كأنما يلزمني الواجب أن ألتمس المعاذير لضروب السياسة التي لم أضمر لها في نفسي إلا مقتا وكراهية، فقد كان مما يضيق له صدري على صورة لا أستطيع أن أتبين تعليلها على وجه الدقة أن أسمع والدي يضرب المثل العليا التي يجب أن تحتذى، ويعيد ويكرر المبادئ الإنسانية، وأن أراه عاجزا عن مسايرة الضرورات العملية بحيث ينزل عن شيء من تلك المعايير، وها أنا ذا أعود بذاكرتي إلى الوراء فأعلم علم اليقين الآن ما كنت حينئذ لا أجاوز فيه حدود الارتياب، وذلك هو أن أبي إنما كان أمامي بمثابة الضمير قد تجسد في إنسان، وأن ما كان بيني وبينه من خلاف إنما هو خلاف بيني وبين ما يمليه ضميري علي إذا ما أردت أن أصف الواقع وصفا أدنى إلى الصواب، فبدل أن ألزم نفسي إلزاما أن أسوي ما بيني وبين ضميري من خلاف، رحت أحاول التوفيق بيني وبين والدي في وجهة النظر.

وكان أبي ينبئني أحيانا أثناء زياراتي لهم عمن قبض عليه و«اختفى» من بين الرجال الذين عرفناهم معا أعواما طوالا في مصنع «دنيبروبتروفسك»، وأحسست كأنما يعدني أبي مسئولا شخصيا - باعتباري عضوا في الحزب - عن كل ما يقع من إجحاف، وأمسكت عن تبليغه ما يحدث شبيها بذلك من حوادث القبض في «نيقوبول»، وما أراه من جماعات المسخرين من المسجونين، وما أعانيه من فعل الجواسيس.

وكلما أحسست في نفسي هذا الحافز على إخفاء ما أعلمه عن أبي دون سائر الناس جميعا، وهو حافز لا يبرره سند من العقل، ثارت نفسي على نفسي غضبا وخجلا؛ لأن ذلك في حقيقة الأمر إن هو إلا بمثابة إخفاء ما أعلمه عن نفسي.

لم أكن شديد الرغبة في أن يزورني أبي في «نيقوبول»، ولم أشأ أن أصف له فخامة العيش الذي كنت أعيشه هناك، حتى لا أعرض أمام عينيه الفاحصتين صورة قد لا يرضاها، ومع ذلك فقد ألححت في رجائي إياه أن ينفق معي بضعة أيام، فوافق على زيارتي بعد إلحاح، ولما كان يجوب أنحاء منزلي الفسيح بما أمامه من حديقة للزهور وما خلفه من حديقة أخرى للفاكهة، وما له من حظيرة لسيارتي، أخذ يزداد في نفسي شعور القلق والحيرة ، وكان كل ما قاله أبي: «إنك تعيش عيش السادة النبلاء.»

واعترتني الحيرة نفسها التي لا يبررها سند من العقل، حين طلب إلي جوازا يدخل به المصنع، فقد كرهت أن يتناول أبي بمعاييره الخلقية القاسية ما لا بد أن يراه من ظروف العمل في المصنع، ومع ذلك فقد اضطرني واجب البنوة أن أوقع له على عدد من جوازات الدخول، ولم أعد أراه إلا قليلا خلال بضعة الأيام التي تلت، ولقد توثقت عرى الود بينه وبين كل من صادفه أثناء تجواله، إذ كان هذا الرجل الرشيق المكتهل بملامحه الدقيقة الواضحة المعالم، وعينيه الشابتين الجادتين، على أتم ما يكون الإنسان ارتياحا، كلما وجد نفسه بين طوائف العمال، وقد كان العمال يقبلونه واحدا منهم في غير تكلف ولا عناء، حتى لقد لبث العمال رجالا ونساء عدة شهور بعد زيارة أبي يسألونني عنه بلهجة تنم عن عاطفة ساذجة صادرة من قلوبهم. -قال لي «دوبنسكي» الكهل يوم أن رأى أبي: «أي رفيقي «كرافتشنكو»، إن أباك رجل لطيف، لطيف حقا، إنه يوحي إلى الإنسان أن يزهى بكونه عاملا يشتغل بساعديه، وفي رأيي أنه يعلم من أمر الآلات ما لا يعلمه معظم مهندسينا.»

فوافقته قائلا في شيء من التكلف: «نعم، فقد كان أول من علمني الصناعة.»

وفي نهاية ذلك اليوم كنت في مكتبي أراجع تصميما مع بعض زملائي، فإذا أنا أسمع ضجة في حجرة استقبالي، ورفعت أمينة سري صوتها: «أنا أسألك أيها المواطن لماذا تريد أن تقابل الرفيق كرافتشنكو؟»

وسمعت صوت أبي يرتفع على صوتها: «أمن شأنك أن تعلمي ذلك؟ أهو حاكم مستبد أم رفيق حتى ليضطر الإنسان أن يتوسل توسلا ليؤذن له برؤيته؟ أليس لديكم ها هنا إلا جوازات للدخول واستئذان قبل المقابلة!» - «إذن فلن آذن لك بالدخول أيها المواطن، فلا بد من طاعة القانون.» - «الله الله على قانونكم!» صاح أبي بهذه العبارة ثم دفع الباب دفعا ودخل مكتبي، أخجله أن يرى معي ناسا آخرين، لكنه لم يستطع كظم غيظه: «أي نوع من القانون هذا يا فيتيا ؟ ما هذا؟ إن الرجل في أيام القياصرة من أسرة «رومانوف» نفسها لم يكن ليتعذر عليه لقاء الرئيس، لكني ألتمس المعذرة، فقد ظننتك وحيدا هنا.»

وقدمت أبي للحاضرين، ثم طلبت إليه الخروج، وكان أبي ممن لا يخطئون بغير التماس المعذرة. - «لقد أبديت شيئا من القحة فألتمس منك العفو عما بدر مني، والحق أن هذه الرسميات كلها وهذه الفوارق كلها التي تباعد بين غمار الناس وبين الموظفين لمما يضيق له صدري ضيقا شديدا.»

Неизвестная страница