ولم يمض على خطبة ستالين إلا ثلاثة عشر يوما بالضبط حتى قبض هتلر على زمام السلطة في ألمانيا! وانفجرت في وجوهنا تلك الفقاعة التي كانت سلوتنا الوحيدة.
لقد ظلت الدعاوة الروسية عدة سنين تعلن على رءوس الملأ أن ألمانيا هي أولى الدول الرأسمالية التي ستحذو حذو روسيا السوفيتية، وكان هذا الحلم هو القوة المعنوية التي تتراءى لأعضاء الحزب ليلا ونهارا، لتشد من عزائمهم وتحيي آمالهم.
وكان يقال لهؤلاء الأعضاء: إن الاشتراكيين الديمقراطيين «صنائع طبقة الملاك» قد أفلسوا، على حين أن الحزب الشيوعي ينال ملايين الأصوات في الانتخاب.
فلا عجب والحالة هذه إذا روعتنا تلك الأنباء وصعقنا عند سماعها، وقضينا جميعا عدة أيام عاجزين عن التفكير، ثم شمرت الدعاوة عن ساعد الجد، فلم تكد الدوائر العليا في موسكو تستقر على تفسير رسمي لهذا الحادث الجلل حتى أخذت تدفعه دفعا في عقول جمهرة أعضاء الحزب، فقام كبار الموظفين يخطبون في المجتمعات الإقليمية، وصغارهم ينشرون الرسالة في مجتمعات الأقاليم، والدعاة المتنقلون يحملونها إلى خلايا الحزب الصغيرة.
وخلاصة ما كان يقال لنا أن ما نالته الفاشية من انتصار في ألمانيا ليس في حقيقة أمره إلا نصرا مقنعا للثورة العالمية، فهو آخر جهد تبذله الرأسمالية، وآخر أنفاسها تلفظها قبل موتها، لقد انقضى عهد البرلمانات المهرجة في الديمقراطيات الزائفة، ولم يعد في وسعها أن تصعر للناس خدها، وليس في مقدور الرأسماليين أن يسيطروا على الجماهير الغاضبة ولو استعانوا عليها بالأتباع الأذلاء من الاشتراكيين الأحرار، ورأوا ألا بد لهم من أن يستعينوا على هذه الجماهير بالإرهاب السافر وأن يتخذوا الفاشية أداة لهم في هذا الإرهاب.
وقال لنا خطيب في المعهد: «إن الفاشية الألمانية هي رأس الحربة تسددها الرأسمالية العالمية إلى الصدور، لقد أسفرت الرأسمالية آخر الأمر عن وجهها، ولم يبق أمام عمال العالم في هذه الأيام إلا أن يختاروا بين الفاشية والشيوعية، وهل ثمة إنسان يشك فيما سيختارون؟ والاتحاد السوفيتي وحده هو الذي يقف في وجه الفاشية، تؤيده في ذلك الكتلة العاملة في جميع بلاد العالم، أيها الرفاق إن موسوليني في إيطاليا، وهتلر في ألمانيا ليسا إلا نذيرين من نذر ثورتنا العالمية، وهم بعد أن أماطوا اللثام عن حقيقة الرأسمالية الفاشية سيدفعون الجماهير دفعا لأن تدرك الأمور على حقيقتها، وما أصدق القول المأثور: اشتدي أزمة تنفرجي.»
وهكذا أصبحت هزيمة الروسيا في ألمانيا نصرا لمشروع السنوات الخمس، وكنا فإذا خلا بعضنا إلى بعض، أو اجتمعنا في حجراتنا، كنا أبعد الناس عن تصديق هذه الأقوال، فقد كانت الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية وأحزاب الأحرار ونقابات العمال الرجعية نفسها، كانت هذه كلها هي والأحزاب الشيوعية تحل وتصفى في ألمانيا، ألم يكن في أقوال الزعماء السوفيت خطأ وتناقض بين؟ وهل كانت الضرورة تقتضينا أن نبدد قوانا كلها في محاربة الاشتراكيين والديمقراطيين، وقد كان في وسعنا إذا ضممناهم إلى جانبنا أن نصد تيار النازية؟ وهل كان حتما مقضيا أن تنضم البلاد الرأسمالية وبخاصة إنجلترا إلى ألمانيا الهتلرية ضد روسيا السوفيتية في الحرب المقبلة؟
الحق أنه لم يكن في مقدورنا أن نجيب عن هذه الأسئلة إلا بالرجوع إلى المعلومات الضئيلة التي كانت تبيحها لنا الحكومة، فقد كانت الصحف والمجلات الأجنبية ممنوعة عنا. نعم إن رجال الحزب كان يباح لهم أن يطلعوا على ما لا يطلع عليه جمهور الشعب، وذلك من نشرات خاصة يصدرها هو، ولكن غذاءنا العقلي كان مع ذلك يختار وينسق، ولم يكن أحد يشك في أن الأخبار السرية نفسها التي تذاع من المصادر العليا كانت في الأعم الأغلب تصنع وتنظم تنظيما دقيقا ثم تجري علينا كما يجري الطعام على الجنود.
غير أن التفسير الرسمي لهذه الضربة الهتلرية لم يرق في أعين معظم الشيوعيين، بل كان الأثر الذي تركته في صفوف المؤمنين، وقد جاءت في أحرج ساعات الحياة السوفيتية، كان هذا الأثر هو ازدياد روح الكآبة التي أخذت تنتشر انتشارا سريعا في صفوف الشيوعيين الصادقين، وشرعت صحف الحزب تندد بروح التردد والهزيمة، وتدعو إلى استئصال شأفتها، وكانت الأسس توضع لإجراء تطهير عظيم في الحزب يخرج من صفوفه كل المتشككين المتحذلقين الذين أتخمت حياتهم بتعذيب الناس وسفك دمائهم، حتى لم يعودوا يطيقون منها مزيدا.
الفصل التاسع
Неизвестная страница